هل ستؤدي شبكة الإنترنت إلى موت الأدب؟

أمبرتو ايكو
(ايطاليا)

أمبرتو ايكوكان هذا المكان في الماضي، كما هو في الحاضر، وكما سيكون في المستقبل، مكرسا للحفاظ على الكتب، وبالتالي فإنه يعتبر، وسيعتبر كذلك في المستقبل، معبدا للذاكرة النباتية. فالمكتبات كانت عبر القرون وسيلة مهمة للحفاظ على الحكمة الجماعية. وكانت ومازالت نوعا من العقل الكوني الذي يمكننا من خلاله استعادة ما نسيناه أو معرفة ما نجهل من الأمور أو المعلومات. ولو سمحتم لي أن استخدم هذه الاستعارة، فإن المكتبة هي أفضل ما صممه العقل البشري، حيث تري فيها الكون بأكمله وتفهمه في ذات الوقت، فالإنسان الذي سيستطيع أن يخزن في عقله كل المعلومات التي تقدمها له مكتبة عظيمة يمكنه بصورة ما أن يفهم الكون. أي إننا قد اخترعنا المكتبات لأننا نعرف أننا لا نتمتع بقدرات إلهية ولكننا نحاول بكل ما أوتينا من قوة أن نحصد المعرفة.

وان عملية بناء، أو لنقل إعادة بناء، واحدة من أعظم المكتبات في العالم قد تبدو تحديا كبيرا، فالمقالات التي تنشرها الصحف والأبحاث التي يقدمها بعض الباحثين الأكاديميين تتحدث كثيرا عن احتمال موت الكتاب وذلك في مواجهة عصر الكمبيوتر والإنترنت.
فلو كان لزاما علي الكتب أن تختفي، مثلما حدث لألواح الطين والمسلات التي تنتمي لحضارات عصور سحيقة لكان هذا سببا وجيها لإلغاء المكتبات. ولكن العكس صحيح فالكتب يجب ان تحيا كمتاحف تحفظ انتاج الماضي، تماما مثلما نحتفظ الآن في أحد المتاحف بحجر رشيد فقط لأننا لم نعد نحفر وثائقنا ونصوصنا على أسطح معدنية، كما أن الإعجاب الذي أكنه للمكتبات سيحمل قدرا كبيرا من التفاؤل، وذلك لأنني أنتمي إلى تلك الحفنة من الناس التي مازالت تعتقد أن للكتاب المطبوع مستقبلا، وأن جميع المخاوف المتعلقة باختفائه ما هي إلا مثال آخر لبعض المخاوف المرعبة المتعلقة بانتهاء شيء ما، بما في ذلك انتهاء العالم.

ولقد كان لزاما علي في العديد من المقابلات أن أجيب عن أسئلة مثل: هل ستؤدي الوسائط الإلكترونية الجديدة الى موت الكتاب أو انقراضه؟ هل ستؤدي شبكة الإنترنت إلي موت الأدب؟ هل ستقضي حضارة النصوص ذات الروابط التي نجدها علي شبكة الإنترنت (hypertexts) على فكرة (التأليف)؟ وكما ترون حضراتكم، لو كنتم تتمتعون بعقل طبيعي متزن فإن هذه أسئلة مختلفة، واذا أخذتم في المرء يشعر أن المحاورين في هذه المقابلات أو اللقاءات يشعرون بالطمأنينة إذا كانت الإجابة صلا، اطمئنوا، الأمور علي ما يرام’. ولكن هذا خطأ، فلو أخبرتهم أن الكتب والأدب ومفهوم التأليف’ لن تختفي، فسيبدو عليهم القلق. أين إذن السبق الصحفي والإثارة الصحفية؟ والواقع إنك إذا نشرت أن أحد الحاصلين علي جائزة نوبل قد توفي فإنك تصنع خبرا. أما إذا قلت إنه بخير ومازال علي قيد الحياة، فهذا الخبر لأيهم أحدا إلا الشخص ذاته فيما أعتقد.

ودعونا نبدأ بقصة مصرية علي الرغم من أن من يرويها أحد اليونانيين، فكما قال أفلاطون في Phaedrus عندما قدم هرميس الذي يقال انه قد اخترع الكتابة، هذا الاختراع إلى الفرعون أثنى الفرعون على هذا الأسلوب غير المسبوق الذي من المفترض أنه يسمح للإنسان أن يتذكر ما قد ينساه إذا لم يتم تسجيله كتابة. ولكن الفرعون لم يكن سعيدا للغاية وقال صيا هرمس الماهر، إن الذاكرة هبة عظيمة يجب ان نحافظ عليها عن طريق التدريب المستمر، أما طبقا لاختراعك فان الناس لن يضطروا إلى تدريب ذاكرتهم بعد الآن، لأنهم سيتذكرون الأشياء بسبب مساعدة أداة خارجية لا بسبب جهد داخلي يقومون به.

ويمكننا أن نفهم قلق الفرعون هذا، فالكتابة، مثلها في ذلك مثل أي اختراع تكنولوجي جديد، يمكن أن تؤدي إلي تقليص القدرة البشرية التي تتظاهر أنها تحل محلها أو تدعمها. فلقد كانت الكتابة تمثل خطرا ما لأنها قلصت قدرة العقل البشري عن طريق تقديمه للإنسان كروح مجمدة في صورة كاريكاتير، أو على شكل ذاكرة معدنية.
وبالطبع فإن نص أفلاطون نص ساخر، فلقد كان أفلاطون يعبر عن رفضه للكتابة، ولكنه كان يتظاهر بأن هذه الرؤية قد قدمها سقراط الذي لم يكتب (وذلك لأنه لم ينشر أعماله حيث انه لقي حتفه في أثناء معركته الأكاديمية.

ولا يحمل أحد اليوم الهم الذي أرق الفرعون وذلك لسببين بسيطين. أولا، إننا نعرف أن الكتب ليست وسيلة تجعل الآخرين يفكرون نيابة عنا، فالعكس هو الصحيح لأن الكتب عبارة عن آليات تؤدي إلي إثارة المزيد من الأفكار. فإنه فقط بعد هذا الاختراع الذي يسمي الكتابة’ لا اعتبار للشعور بالخوف الذي نتجت عنه مثل هذه الأسئلة، فإنه أصبح من الممكن أن تتم كتابة عمل رائع يصور الذاكرة العفوية مثل رائعة بروست (البحث عن الزمن الضائع(.

أما السبب الثاني فيتمثل فيما يلي، لو كان الناس قد احتاجوا في توقيت ما أن يدربوا ذاكرتهم علي تذكر الكتب، فالكتب تتحدي الذاكرة وتزيد من حدتها ولا تدمرها.

ولكن الفرعون في تلك القصة كان يعبر عن خوف أبدي: الخوف من أن يؤدي أي نجاح تكنولوجي جديد إلي قتل شيء كنا نعتبره في الماضي غاليا ومثمرا.

ولقد استخدمت الفعل (يقتل) هنا عمدا، وذلك لأنه منذ أربعة عشر قرنا قدم لنا فيكتور هوجو في روايته (أحدب نوتردام) قسا يدعى كلود فرولو وهو ينظر بحزن إلى أبراج كاتدرائيته، وتدور أحداث هذه الرواية في القرن الخامس عشر بعد اختراع الطباعة. وقبل هذا التاريخ كانت المخطوطات تحفظ لتستخدمها الصفوة من المتعلمين، وكانت الوسيلة الوحيدة لتعليم العامة قصص الكتاب المقدس وحياة المسيح والقديسين والمبادئ الأخلاقية بل وأحداث التاريخ القومي وبعض المفاهيم الأساسية في الجغرافيا والعلوم الطبيعية (مثل طبيعة الشعوب المجهولة بالنسبة لهم أو خصائص الأعشاب والصخور) تتمثل في صور الكاتدرائية، فلقد كانت الكاتدرائية في العصور الوسطي بمثابة برنامج تليفزيوني ثابت منوط به تعريف الناس بكل الأمور التي لاغني عنها في حياتهم اليومية وكذلك في سعيهم نحو الخلاص الأبدي.

وفرولو لديه الآن كتاب مطبوع أمامه علي الطاولة ويردد هامسا: سيقتل هذا ذاك (أي سيقتل الكتاب الكاتدرائية، ستقتل الأبجدية الصور) فالكتاب سيصرف أنظار الناس واهتمامهم عن القيم المهمة كما أنه سيشجع وجود المعلومات غير الضرورية والتفاسير الحرة للكتاب المقدس وكذلك الفضول المجنون.

وفي الستينات كتب جالكسي مارشان (مجرة جوتنبرج) الذي أعلن فيه أن التفكير الأفقي الذي كان قد دعم وجوده اختراع الطباعة قد أصبح مهددا بالاستبدال بوسيلة أخرى للإدراك والفهم أكثر عالمية تقدمها الصور في التليفزيون والآلات والأجهزة الإلكترونية الأخرى. واذا كان ل (ماكلهان) لم يشر بإصبعه إلى جهاز التليفزيون ثم إلى كتاب مطبوع ولم يقل: (هذا سيقتل ذاك) فإن الكثيرين من قرائه قد فعلوا ذلك.

ولو كان ل (ماكلهان) أن يبقي معنا وقتا أطول لكان أول من يكتب عملا يحمل عنوانا مثل
: Gutenberg Strikes Back)  جوتنبرج يرد). حقا ان الحاسب الآلي (الكمبيوتر) هو جهاز يستخدم لإنتاج صور ثم تعديلها، وحقا يقدم هذا الجهاز التعليمات عن طريق أيقونات، ولكن هذا الجهاز قد أصبح كذلك أداة أبجدية، أكثر من كونه أي شيء آخر. فعلى شاشته تجد الكلمات والسطور، كما أنك يجب أن تكون على دراية بالقراءة والكتابة حتى تستطيع أن تستخدم جهاز الحاسب الآلي.

فهل هناك فرق بين مجرة جوتنبرج الأولي ومجرته الثانية؟ نعم، هناك العديد من الفروق. أولا، لقد كانت مجرة جوتنبرج أول معالج كلمات أثري ينتمي إلى الثمانينات من القرن التاسع عشر ويقدم نوعا من التواصل المكتوب الأفقي. ولكن أجهزة الحاسب الآلي التي نراها اليوم تقدم ما هو أكثر من التواصل الأفقي، وذلك لأنها تقدم تركيبا لنصوص ذات روابط.
ومن الأمور الجديرة بالذكر هنا أن الحاسب الآلي عندما ظهر في الوجود لأول مرة كان عبارة عن آلة تستطيع فقط أن تقوم بخطوة واحدة تلو الأخرى. وفي واقع الأمر فان هذا الجهاز مازال يعمل بنفس الطريقة على مستوى لغاته الأساسية، أي يعمل على أسس ثنائية، عبارة عن صفر واحد ثم صفر واحد وهكذا. ولكن مخرجات هذا الجهاز ليست مخرجات أفقية، فهي عبارة عن انفجار ألعاب نارية سميوطيقية، ونموذج هذه المخرجات ليس نموذجا أفقيا ولكنه عبارة عن نموذج مجرة حقيقية يمكن لكل فرد أن يصنع روابط غير متوقعة بين نجومها لتكوين صور سماوية جديدة مع كل بحث جديد.

وعند هذه النقطة بالضبط يجب أن تبدأ عملية الكشف التي نهتم بها هنا، وذلك لأننا نعني ظاهرتين مختلفتين تماما عندما نتحدث عن تركيب النصوص ذات الروابط الإلكترونية.

استخدام الروابط في داخل النص التقليدي ففي كتاب تقليدي على المرء أن يقوم بالقراءة من اليسار إلى اليمين (أو من اليمين إلى اليسار أو من أعلى إلى أسفل وذلك طبقا للثقافات المختلفة) في شكل أفقي. ويمكن للمرء بالطبع أن يقفز عبر الصفحات فبعد أن يصل إلي الصفحة رقم 300 يمكنه أن يعود لقراءة شيء ما أو للتحقق من أمر ما في الصفحة رقم 10 ولكن مثل هذا العمل يتضمن مجهودا بدنيا. أما النص الذي يحتوي علي روابط إلكترونية فهو عبارة عن شبكة متعددة الأبعاد أو متاهة يمكن لكل نقطة فيها أو لأي طرف أن يلتقيا مع أي نقطة أخرى أو طرف آخر.

النصوص ذات الروابط التي توجد في إطار ما: وتعد شبكة الإنترنت العالمية (www) أم جميع النصوص ذات الروابط الإلكترونية، فهذه الشبكة عبارة عن مكتبة تغطي العالم وتنتشر فيه بأسره، ويمكنك عن طريقها وفي وقت قصير أن تحصل علي كل الكتب التي ترغب في الحصول عليها. فشبكة الإنترنت هي النظام العام الذي يحوي في إطاره جميع النصوص ذات الروابط الإلكترونية الموجودة في العالم.

وإن هذا الفرق بين (النص) و(النظام) هو فرق مهم للغاية، وسنعود للحديث عنه بعد لحظات، أما الآن فدعوني أتعامل مع أكثر الأسئلة التي تطرح في هذا الصدد سذاجة حيث ان هذا الفرق غير واضح بعد في هذا السؤال، ولكن الإجابة عن هذا السؤال الأول ستمكننا من توضيح النقطة التالية التي نعنى بها.

ولكن حتى هذا السؤال قد يؤدي إلى شيء من الخلط. حيث إنه يمكن صياغته علي نحوين مختلفين: أ) هل الكتب كأشياء مادية ستختفي؟ ب) هل الكتب كأشياء افتراضية ستختفي؟

ودعوني أولا أجيب عن السؤال الأول.

إنه حتي بعد اختراع الكتابة لم تكن هي الوسيلة الوحيدة التي نحصل منها على المعلومات.. فلقد كان هناك كذلك اللوحات والصور المطبوعة المنتشرة والتعليم الشفهي وغيرها، ولكن الكتب قد أثبتت أنها أكثر المصادر ملاءمة لنقل المعلومات.

وهناك نوعان من الكتب: تلك التي نقرأها وتلك التي نرجع إليها، وبخصوص تلك الكتب التي نقرأها فإن الأسلوب الذي نتبعه معها يمكنني أن أصفه على أنه يشبه قصة بوليسية، فإنك تبدأ قراءة الصفحة رقم 1 التي يخبرك فيها الكاتب أنه قد تم ارتكاب جريمة، ثم تتتبع جميع مسارات البحث حتي النهاية، وفي النهاية تكتشف أن المجرم هو كبير الخدم، وهذه هي نهاية الكتاب كما أنها نهاية عملية القراءة . ولتلاحظوا هنا أن مثل هذه العملية تحدث حتي عندما تقرأ مقالا فلسفيا، فالكاتب يريد منك أن تفتح الكتاب على صفحته الاولى وأن تتتبع سلسلة من الأسئلة التي يطرحها لترى ما إذا كان قد خلص إلى إجابات محددة عنها، وبالطبع فإن الباحثين يمكنهم أن يعيدوا قراءة هذا المقال عن طريق القفز من صفحة إلى أخري في محاولة لتحديد العلاقة بين مقولة طرحت في الفصل الأول وأخرى قدمت في الفصل الأخير. كما يمكنهم أيضا أن يحددوا جميع الأماكن التي ورد بها ذكر كلمة (أفكار) مثلا في عمل ما، وبالتالي فإنهم بذلك يقفزون عبر مائة صفحة من أجل أن يركزوا فقط على الأجزاء أو الفقرات التي تتناول هذا المفهوم، ولكن أسلوب القراءة هذا أسلوب قد يعتبره العامة أسلوبا غير مألوف أو مفتعل.

ثم هناك الكتب التي نرجع إليها، مثل المراجع والموسوعات، فالموسوعات قد تم إعدادها لنرجع إليها دائما لا لنقرأها بأكملها. فالشخص الذي يقرأ الموسوعة البريطانية قبل أن يذهب إلي النوم مثلا يعد بالقطع شخصية كوميدية، فعادة ما يختار المرء أحد مجلدات الموسوعة ليعرف أو ليتذكر تاريخ وفاة نابليون أو كيفية تركيب حمض الكبريتيك، أما الباحثون فيستخدمون الموسوعات بطريقة أكثر تعقيدا، فمثلا لو كنت أريد أن أعرف ما إذا كان ممكنا لنابليون أن يكون قد إلتقى بكانط، يكون علي أن أذهب إلي المجلد (كاف) والمجلد (نون) من مجلدات الموسوعة، وعندئذ سأكتشف أن نابليون قد ولد في 1769 وتوفي في 1821، أما كانط فقد ولد في 1724 وتوفي في 1804 أي عندما كان نابليون إمبراطورا بالفعل.. وبالتالي فإنه ليس من المستحيل ان يكونا قد التقيا، وربما يكون علي ان أراجع سيرة حياة كانط أو نابليون ولكن في سيرة مختصرة لحياة نابليون الذي التقى بالعديد من الشخصيات ربما لا يأتي ذكر للقاء يكون قد تم بينه وبين كانط، أما في سيرة لحياة كانط فيجب ذكر لقائه بنابليون، لو ان هذا اللقاء كان قد تم بالفعل. وفي هذه الحالة يجب علي ان أتصفح كتبا كثيرة فوق أرفف عديدة في مكتبتي، ويجب ان أقوم بكتابة بعض النقاط لأقارن لاحقا بين جميع البيانات التي قد جمعتها، وبالتالي فإن مثل هذا العمل سيكلفني مجهودا بدنيا مؤلما.

إما لو كان لدي نص ذو روابط الكترونية فإنني أستطيع أن أبحث وأتجول في جميع أنحاء الموسوعة، ويمكنني أن أربط بين حدث يأتي ذكره في البداية وأحداث أخرى مشابهة له يأتي ذكرها عبر النص، ويمكنني ان أقارن بين البداية والنهاية، كما يمكنني أن أعطي أمرا بتكوين قائمة بجميع الكلمات التي تبدأ بحرف (ألف) أو بجميع المواقف والأحداث التي يأتي فيها ذكر اسم نابليون مرتبطا باسم كانط، ويمكنني أن أقارن بين تاريخ ميلاد كل منهما وتاريخ وفاته، أي انه يمكنني القيام بمهمتي في غضون ثوان أو دقائق معدودة. وإن النصوص ذات الروابط الإلكترونية ستؤدي حتما الى اختفاء الموسوعات والمراجع، فبالأمس كان من الممكن الحصول على موسوعة كاملة في قرص مضغوط، أما اليوم فقد أصبح من الممكن الحصول على هذه الموسوعة على شبكة الانترنت عند الاتصال بها، مع ميزة أنها تسمح لنا بالقيام بالربط بين أجزاء في داخل النص وباستعادة المعلومات في صورة غير أفقية، وان جميع الأقراص المضغوطة إلى جانب جهاز الحاسب الآلي ستحتل مساحة تصل الى 5 /1 المساحة التي تحتلها الموسوعة المطبوعة، كما انه لا يمكنك ان تنقل الموسوعة المطبوعة من مكان الى آخر بسهولة مثلما تنقل قرصا مضغوطا، هذا الى جانب انه لا يمكن تحديث الموسوعة المكتوبة بسهولة. وان الأرفف الموجودة في بيتي وكذلك تلك التي تجدها في المكتبات العامة تحتلها أمتار وأمتار من مجلدات الموسوعات التي يمكن الاستغناء عنها في المستقبل، ولن يكون هناك سبب يجعلنا ننعي اختفاءها ودعونا نتذكر هنا ان امتلاك موسوعة متعددة المجلدات يعد حلما صعب المنال بالنسبة لكثير من الناس ليس فقط لارتفاع ثمنها ولكن ايضا لتكلفة المكان المطلوب لإقامة الأرفف التي ستستقر عليها هذه المجلدات فانا شخصيا أتمني ان يكون لدي في منزلي المجلدات التي يصل عددها الى 221 مجلدا من عمل الموسوعي الذي يحمل عنوان petrologic latino وذلك بما أنني بدأت كمتخصص في دراسات العصور الوسطي. وبالرغم من تكلفة ذلك فإنني استطيع ان ادفع ثمنها، ولكنني لا استطيع ان أقوم بشراء شقة جديدة لأخزن فيها 221 مجلدا ضخما بدون ان اضطر إلى التخلص مما يقرب من 500 كتاب آخر.

فهل يمكن لقرص يحمل نصا ذا روابط الكترونية أو لشبكة الانترنت العالمية ان يحلا محل الكتب التي نقرأها؟ مرة أخرى يجب ان نحدد ما إذا كان السؤال يعني بالكتاب كشيء مادي أو كشيء افتراضي. ومرة أخرى دعونا نناقش الجانب المادي أولا.

الخبر السار هو ان الكتب ستبقي ولن نستغني عنها، ليس في الأدب فقط بل في جميع الحالات التي يحتاج فيها المرء للقيام بقراءة دقيقة لنص ما، ليس فقط ليحصل منه على معلومات ولكن ليفكر في المعلومات التي يقدمها له الكتاب ويتأملها. وان قراءة شاشة جهاز الحاسب الآلي تختلف عن قراءة كتاب. ولننظر مثلا الى عملية تعلم برنامج جديد للحاسب الآلي (كمبيوتر)، وعادة ما يكون البرنامج قادرا على ان يعرض على الشاشة كل التعليمات التي تحتاجها. ولكن المستخدمين للجهاز الذين يودون تعلم البرنامج عادة يطبعون التعليمات ويقرؤونها كما يقرؤون أي كتاب مطبوع أو يشترون دليل استخدام هذا البرنامج ومن الممكن ان نتخيل برنامجا مرئيا يشرح جيدا كيفية طباعة كتاب وتغليفه، ولكن للحصول على تعليمات بخصوص كيفية كتابة برنامج كمبيوتر أو تعلمه نحتاج إلى كتاب إرشادات مطبوع.

وبعد قضاء 12 ساعة امام جهاز الكمبيوتر (الحاسب الآلي) تتحول عيناي إلى كرتي تنس واشعر أنني في حاجة الى ان اجلس مسترخيا في مقعد وثير لأقرأ جريدة أو ربما قصيدة جيدة وأنني اعتقد ان أجهزة الحاسب الآلي تنشر نوعا جديدا من التعلم ولكنها لا تستطيع ان ترضي الاحتياجات الفكرية التي تثيرها لدى الانسان.وأرجو ان تتذكروا ان الحضارة العربية الاولى كانت تقوم على كتاب، وهذا لا ينفصل عن الطبيعة البدوية ولكن المصريين القدماء استطاعوا ان يحفروا نصوصهم وسجلاتهم على مسلات من الحجر في حين ان موسي ومحمد عليهما الصلاة والسلام لم يكن في استطاعتهما ذلك. كما انك إذا أردت ان تعبر البحر الأحمر أو تهرب من شبه الجزيرة العربية إلى اسبانيا أو تتجه شرقا، فان اللفائف تعد بالقطع طريقة أفضل من المسلة أو الأحجار لنقل كتاب. ولذلك فإن هاتين الحضارتين اللتين قامتا علي كتاب مكتوب فضلتا الكتابة على الصور. وللكتب ميزة أخرى عن أجهزة الحاسب الآلي، فحتى لو كانت هذه الكتب مطبوعة على الأوراق الحمضية الحديثة التي تعيش لمدة سبعين عاما فقط أو ما يقرب من ذلك، فان هذه الكتب تفوق عمرها الافتراضي كثيرا العمر الافتراضي للأدوات الممغنطة كما أنها أي الكتب المطبوعة لا تتأثر بنقص التيار الكهربائي أو انقطاعه، وتقاوم الصدمات بشكل أفضل، والى الآن مازالت الكتب أكثر وسائل نقل المعلومات مرونة ومتانة كما أنها اقلها تكلفة.وان المعلومات التي تنتقل عن طريق أجهزة الحاسب الآلي تسبقك، أما الكتب فتسافر معك وفقا لسرعتك، ولو حدث ان تحطمت بك السفينة في جزيرة منعزلة، لا تستطيع فيها ان تجد مصدرا للتيار الكهربائي لتشغيل جهاز الحاسب الآلي، فإن الكتاب يعد أداة لا تقدر بثمن فحتى لو كان جهاز الحاسب الآلي الخاص بك به بطاريات تشحن بالطاقة الشمسية فإنك لا تستطيع ان تقرأ بسهولة وأنت تتمدد فوق شبكة معلقة بين شجرتين، فالكتب مازالت أفضل رفيق إذا تحطمت سفينتك على شاطئ جزيرة منعزلة أو في اليوم التالي. فالكتب تنتمي الى مجموعة الأشياء التي لم تتعرض للمزيد من التطوير بعد اختراعها وذلك لأنها في أحسن حال على ما هي عليه منذ اختراعها مثلها مثل المطرقة، السكين والمعلقة والمقص.

ولكن حتي هذه اللحظة لم يثبت الكتاب الالكتروني نجاحه بصورة تجارية كما تخيل من اخترعوه، كما انه قد نمى الى علمي ان بعض قراصنة الحاسب الآلي (الكمبيوتر)، هؤلاء الذين نموا وترعرعوا في عصر الحاسب الآلي (الكمبيوتر)، والذين لم يعتادوا تصفح الكتب، قد قرؤوا أمهات الأعمال الأدبية في صورة كتب الكترونية، ولكن في ظني مازالت هذه الظاهرة محدودة للغاية، فيبدو ان الناس يفضلون قراءة قصيدة أو راوية مطبوعة بالصورة التقليدية. وربما تحقق الكتب الالكترونية نجاحا كمصادر للبحث عن معلومات ما، شأنها في ذلك شأن المعاجم أو الوثائق المميزة، وربما تعين الطلاب الذين يكون لزاما عليهم ان يحملوا عشرات الكتب عندما يذهبون الى المدرسة، ولكن الكتب الالكترونية لن تصلح كبديل للكتب التي نحب ان نصطحبها معنا الى الفراش عند النوم. كما ان هناك العديد من الاختراعات التكنولوجية التي لم تؤد الى انقراض ما سبقها من اختراعات، فالسيارة مثلا أسرع من الدراجة ولكنها لم تتسبب في انقراض الدراجة، كما انه ليست هناك تكنولوجيا لتطوير الدراجة عما كانت عليه من قبل. وان هذه الفكرة القائلة بأن التكنولوجيا الجديدة تمحي من الوجود كل ماسبقها فكرة بسيطة وساذجة. فبعد اختراع التصوير الفوتوغرافي مثلا، لم يشعر الرسامون ان عليهم تقديم تصوير دقيق للواقع، ولكن هذا لبايعني ان اختراع شجع الرسم المجرد فقط، فهناك اتجاه فني حديث بأكمله لا يمكن له ان يوجد بدون النموذج الفوتوغرافي، ولنتذكر هنا مثلا hyper-realism حيث تري عين الفنان الواقع من خلال عين فوتوغرافية.
وهذا يعني انه في تاريخ الثقافة لم يحدث ان قام شيء ما بقتل شيء آخر، ولكن كان هناك شيء يغير بصورة جذرية شيئا آخر.