هيفاء بيطار
(سوريا)

أدونيسلا يستطيع أدونيس أن يخرج من ألقه وتميزه، ان اسمه أشبه بدليل الرقي والجودة والإبداع بأعلى درجاته، لم أتوقع أن تكون مجلة الآخر على هذه الدرجة من الإبهار، خاصة أنها صدرت في ظروف يبدو فيها العالم العربي منشغلاً بشيء واحد فقط هو مواجهة الموت، فتأيتك مجلة متكاملة في طرحها لواقعنا العربي الذي مهما تباينت تفاصيل ما يحدث فيه، فمن المؤكد ان القاسم المشترك هو انتفاضة الكرامة والحرية لشعوب صبرت حتى كادت روحها تهترئ من الظلم والكبت والذل والفقر. ومن يرقى لتحليل مصطفى حجازي، مبدع الكتابين الرائعين، سيكولوجية الإنسان المقهور، ثم سيكولوجية الإنسان المهدور، أن يحلل بمقال طويل ثورة الشباب وتحولاتها الثقافية وأن يقسّم الشباب إلى أنواع، لافتاً النظر الى أننا بصدد جيل يعرف أكثر من آبائه ومعلميه، ويكاد يشكل المرجعية لهم على صعيد تقنيات المعلومات وآفاقها اللامحدودة، ويؤكد حجازي أنه لا السلطة مهما استفحل بطشها وقمعها، ولا الشعب مهما عظمت تضحياته، سيعودان إلى ميزان القوى السابق.
يبدع حجازي في تحليل شريحة من الشباب الذين سماهم شباب الظل، وهم المقهورون والمهدورون من الشرائح الشعبية الأكثر فقراً، وهؤلاء هم وقود العنف في الانتفاضات الشعبية.
أي مقال هذا الذي يلقي ضوءا كاشفا على حقيقة ما يجري من ثورات في عالمنا العربي، متبعاً النزاهة والتحليل الموضوعي العميق، المستند لفهم تاريخي وثقافي يميز شعوبنا العربية، يحرضنا حجازي على التساؤل: من كان يعتقد بتعاظم ظاهرة الذكاء الاجتماعي التي وفرتها شبكات الاتصال والإعلام كالفيس بوك والتويتر وغيرهما. فنحن امام ثورة اجتماعية وثقافية وفكرية زلزلت قلاعاً فكرية متكلسة كان كل منا ينصب نفسه أميراً على واحدة منها، متمرساً وراء أسوارها.
أي تحليل قدمه مصطفى حجازي لإحراق البو عزيزي نفسه، ودلالات هذا الاحتراق. ان فعل الاحتراق بالنار باعتبارها جهنم في الثقافة والدين والتراث، أي ان البو عزيزي قصد بحرق نفسه ان حياته جهنم، وأنه مثّل كل الفقراء والمقهورين والمهدورين من أمثاله الذين تحول عيشهم إلى جحيم. البو عزيزي وأمثاله مطرودون من الوجود، لأنهم مطرودون من استحقاق التواجد في المجال العام. ان شباب الربيع العربي الذين انتفضوا وثاروا، لم يكن لهم قائد حزب، او زعيم مُلهم، ولا برنامج سياسي مرجعي، بل هي العفوية الخلاقة النابعة من انطلاق طاقات الحياة...
إن السلطات العميقة صادرت حق القول والتجمع والفعل وفرضت تلقائياً الموت الوجودي على جماهير المواطنين، وحولت الحياة إلى معادلة: الكلام أو الموت.
لا مجال للغوص في مقال مصطفى حجازي الرائع، الكثيف والعميق، والذي يزيد على 25 صفحة من القطع الكبير، لكنه يقدم صورة تحليلية عميقة ورائدة وموجهة لجيل الثورات العربية الطامح ان ينتقل من التهميش الوجودي إلى صناعة القرار واستلام زمام الحكم ومؤسسات الدولة.

حوار كمال الصليبي

أما الحوار الساحر مع المؤرخ كمال الصليبي، الذي يقع في 80 صفحة من المجلة، وقد حاوره على مدى أسبوع الاستاذ صقر أبو فخر، فهو حوار يُغني العقل، ويقدم لنا خلاصة فكر كمال صليبي المبدع، ويعرفنا بشخصه المتفائل المُحب والمؤمن حيث كانت علاقته مع الله متينة وخاصة، رغم ان البعض وجد نوعاً من التناقض بين أن يكون مؤمناً، وبعض كتاباته...
جرعة عالية من الفلسفة والثقافة نتلقفها بانبهار ونحن نقرأ أفكار كمال الصليبي... إنه يعطينا متانة نفسية ومعنويات عالية لفهم التاريخ والاستفادة من الأزمات التاريخية الماضية، وهو يصر على أن ينبهنا ألا نعتمد الغرب معياراً للتقدم والتحضر، ويقول عن أميركا أنها الشر المطلق، ويؤسفه ان الجماعات الدينية لها سطوة كبرى على عقول الناس، فهم يفتون بهذا الاتجاه تارة، وبالاتجاه المعاكس تارة أخرى، والناس تائهون. وثقافة الناس تدور على ثلاثة مصادر: خطبة الجمعة والتلفزيون ومناقشات المقهى. لهذا فإن فصل الدين عن السياسة أمر مهم في مجتمعنا.
وأكثر ما استوقفني في فكر صليبي ملاحظته ان الأجيال التي درّسها بعد الحرب الأهلية اللبنانية أحسن بكثير من الأجيال السابقة، صار هناك ما سماه الجودة في الإنسان التي لم تكن موجودة سابقا، وأن هؤلاء الذين عاشوا الحرب الأهلية خرجوا بميزة وهي قدرتهم على العيش في أصعب الظروف، وحبهم العميق للحياة.
ولست ناقدة للشعر، لكنني لأول مرة أشعر بذلك الانخطاف الذي يجب ان نحسه ليكون الشعر شعراً، القصائد المختارة رائعة وفيها روح التجديد، وفيها الكثير من الصوفية والتأمل، وبقيت طوال يوم أكرر تلك العبارة الشعرية:

«لا ينبغي أن تمنح الأشياء مكاناً
بل غياباً
معبراً حيث تمضي».

لا يمكنني الإحاطة بمجلة من القطع الكبير، تزيد عن 350 صفحة، كتب فيها نخبة من المفكرين والشعراء، وطرحوا مواضيع بعمق وتحليل دقيق لما يجري في عالمنا العربي، وربطه بالخلفية السياسية والدينية والثقافية والفكرية...
انها مجلة تحمل قدرة كبيرة على النبوءة كما لو انها توجه قراءها إلى طريق الخلاص... الخلاص المؤكد والوحيد لواقعنا الدامي والمؤلم، والموغل في القتل والإجرام، ورفض الآخر، حيث كل منا تشبث برأيه كما لو انه يملك الحقيقة، بينما الحقيقة الوحيدة قائمة في الآخر، الآخر الذي هو شريكي في الحياة، والذي لا يمكنني أنا وحدي ان انشئ حياة من دون آخر...
الآخر الذي لا يمكن لأحد ان يقدمه بكل بهائه واختلافه وجماله واستفزازه. إلا أدونيس الذي كان ولا يزال مثيرا للجدل، واشكاليا، وخالقاً، ومبدعاً... أثر في اجيال من المبدعين والناس...
مجلة الآخر أنستني معاناتي مع انقـطاع الكهرباء لأكثر من ست ساعات في اليوم، وأنستني غضبي وتعب أعصابي من جعير مولدات الكهرباء...
لم يعد من شيء يهمني سوى ان ألتهم صفحات هذه المجلة العظيمة التي تحترم المواطن العربي، وتتعهده وتتبناه لتقوده إلى طريق السلامة والحقيقة.
و«الآخر» هي صفعة لكثير من المجلات الاستفزازية المدعية، والمغرقة في الفحش الجنسي المقزز، تحت ستار كسر تابو الجنس وتحرير المواطن(ـة) العربي المكبوت، مجلات اشبه بأضواء زائفة، او فقاعات صابون سرعان ما تتفجر لانها تقدم ثقافة هزلية سطحية لا تمت للثقافة الحقيقية بصلة. مجلات أنيقة، كل غايتها الربح والاستفزاز على مبدأ المثل المصري: ارفعني ولو على خازوق...
كم تبــدو هذه المجــلات قزمة امــام «الآخر» التي هي عصارة وخبرة مفكر وشاعر مثل أدونــيس، قدم لنا رحيق إبداعـه وفكره، والأهم حبه العميق الكبــير الذي يمـلك عليه قلبه، قلب أدونيس الاشبه بحديقة منزله في قرية قصابين قرب جبلة، حيث تتناثر عدة شجيرات من العناب... حبات العناب المكتنزة هي زهور قلب أدونيس... قلبه الشاب دوماً... لأن قلب المبدع لا يشيخ.

السفير
18-2012