الرباط ـ القدس العربي
من الطاهر الطويل: إن ولوج المستقبل القريب يقتضي امتلاك معرفة كونية ومتابعة التحولات الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أضحي العصر يشهدها، مع التعامل معها بمنظور نقدي بناء، يؤمن بالحق في الاختلاف وبمبادئ الحوار والديمقراطية، عوض الانكماش والتقوقع والانسحاب... خصوصا في زمن أصبح مبنيا علي المواجهة والتحدي والمنافسة، وهو الزمن الذي اقترن بطوفان الحداثة وما بعدها، أي العولمة.
تلك بعض الخلاصات الأساسية التي يتضمنها العدد الجديد من المجلة المغربية المحكمة علوم التربية ، وهو عدد مخصص للاحتفاء بعالم المستقبليات والمفكر المغربي الدكتور المهدي المنجرة، صاحب العديد من المؤلفات القيمة، من بينها: حوار التواصل ، الحرب الحضارية الأولي ، الإهانة في عهد الميغا إمبريالية ، قيمة القيم ...
في كلمة تمهيدية، يقول الباحث الأستاذ عبد الكريم غريب مدير المجلة: إن المطلع علي الفكر التنويري للمهدي المنجرة قد يلاحظ مستوي الممارسة الواقعية، مفارقة كبيرة بين أشكال المنع التي يتعرض لها هذا المفكر خلال تنقله لأداء وظيفته التنويرية، وبين الأفكار التي يدافع عنها ضمن مختلف مؤلفاته وحواراته. وهي أفكار موجهة للإنسانية جمعاء: موجهة لشعوب ومجتمعات العالم الثالث، ليتشكل لديها وعي بعوامل تخلفها وتقهقرها؛ وموجهة كذلك لشعوب ومجتمعات العالم الغربي، حتي تعي بدورها حقيقة هذه الشعوب المغلوبة علي أمرها، ولتعي كذلك بأن النهج المتبع من طرف حكامها لا يساهم في تيسير التواصل الصحيح بين مختلف الحضارات والثقافات، لأن الاحترام والتقدير لمبادئ وقيم كل حضارة يشكل مركز الثقل داخل الحوار والتواصل الحقيقيين بين مختلف الشعوب والأمم.
ويضيف مدير مجلة عالم التربية : باعتبار المهدي المنجرة عالما للمستقبليات، فإنه يساهم بأفكاره التنويرية ليس للدفاع ـ كما قد يُعتقد ـ عن الإسلام لنشره من باب التعصب والأنوية، بل هو ـ علي خلاف ذلك ـ يسعي إلي إظهاره كأخلاق وقيم وفلسفة منفتحة ومتفتحة وتحررية وتحريرية، تشكل رؤية للمجتمعات العربية الإسلامية، كما تشكل المسيحية واليهودية رؤية لمعتنقيها؛ وأن الأمر لا ينبغي أن يدخل في متاهة فرض الرأي والهيمنة عن طريق القوة والعنف، بل إن الأجدي والأنفع هو احترام الإنسان كإنسان يؤمن بقيمه ومبادئه الخاصة.
وتقدم المجلة قراءة مستفيضة في أفكار ومؤلفات المهدي المنجرة. فبخصوص علم المستقبليات، يتضح أنه بالانطلاق من التجربة الطويلة لهذا العالم في مجال الدراسات المستقبلية فهو يري أن التخلف هو قبل كل شيء نوع من الهوة بين الوقائع وتوقعها، فإذا كنا نستغرب حين تقع الواقعة، فهذا تخلف وبرهان علي عدم توقع وانعدام نظرة علي المدي المتوسط وعلي المدي الطويل؛ وهذا برهان علي عدم وجود رؤية، وعلي أنك تعيش من يوم لآخر برؤية الآخر وباستراتيجية الآخر؛ وأنه لا يصدر دائما عن المتخلف إلا رد الفعل، وليس المبادرة الأولي... ذلك أن أبرز ما في علم المستقبليات هو إذكاء روح الأمل علي المدي المستقبلي، بالرغم من نتائج الحاضر التشاؤمية .
وبخصوص حوار الحضارات، يقول المنجرة إن الحوار يبدأ بالتواصل، إلا أنه كلما حدث نزاع فإن ذلك يعني أن حبل التواصل انقطع، وكلما انقطع هذا الحبل تكون العواقب وخيمة. ويوضح أن التواصل الثقافي بين الأمم يتطلب أولا قدرا كافيا من المعرفة. فالغرب الذي يمتلك 70 إلي 80 بالمئة من الاقتصاد العالمي، لا يحوز علي المعرفة الملائمة للجماهير التي تمثل ثلثي العالم. ومن جهة أخري، يري المنجرة أن المشروع التوسعي الأمريكي لا يحمل للإنسانية أحلام السعادة والكرامة والإخاء والتواصل؛ وإنما هو ـ علي خلاف ذلك ـ مشحون بعداء للقيم التي لا تساير قيمه الخاصة، الأمر الذي لا يؤهل هذا المشروع اللاإنساني لقيادة الإنسانية؛ علما بأن إسرائيل تشكل عنصرا محوريا في هذا المشروع الأمريكي الجديد. ويؤكد عالم المستقبليات المغربي علي أن ما يسميه أمركة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية يمثل خطرا كبيرا. ويقول: نعلم جيدا ما الذي ستفقده أوروبا إذا تحققت أمركتها ، والذي ستفقده هو جزء منا وهو قريب من الشرق. إن أمركة أوروبا ستؤدي إلي أمركة العالم، وبالتالي إلي فقدان الإنسانية لماضيها.
وكمحاولة لرصد الفرق بين صامويل هنتنغتون والمهدي المنجرة، توضح المجلة أن هذا الأخير حينما كتب كتابا عن الحرب الحضارية الأولي ، قال للنخبة السياسية والفكرية في العالم إنه في حالة عدم احترام القيم الإنسانية والثقافية، فإن الحروب القادمة ستكون حروب قيم وثقافة. والآن، فإن لغة الرئيس بوش كلها ـ بقطع النظر عن ميزانية الدفاع الأمريكية البالغة 340 مليار دولار ـ هي دفاع عن قيم يهودية مسيحية معينة. فكلام المهدي المنجرة كان إيجابيا في الحديث عن المستقبل. أما صامويل هنتنغتون فقال لأصحاب القرار: خذوا حذركم، إن الخطر سيأتي من العالم غير اليهودي المسيحي.
وتتوقف المجلة عن جهود المنجرة في رصد إشكالات العالم الثالث، فهو يعتقد أن هذه الإشكالات متعددة ومتنوعة ومركبة في الوقت نفسه، إن شعوب العالم الثالث ما زالت تعاني غياب الاستقلال الحقيقي، والتبعية والهيمنة والفقر والجهل والأمية والديكتاتورية وغياب العدالة الاجتماعية الكاملة وخرق حقوق الإنسان. وعندما تبلغ هذه العوامل جميعها الحد الخطر ـ حسب المفكر نفسه ـ فإن مظاهرها تتجلي للعيان، ويختل الاشتغال الاجتماعي وتكثر الانفجارات والعصيان المدني والحنق الجماهيري الذي يؤدي إلي انفجار النظام. وآنذاك يتعلق الأمر بشرخ في الكرامة، وهذا ما يسميه المهدي المنجرة الانتفاضة . فبرأيه، الانتفاضات حتمية في العالم العربي الإسلامي، وما يؤشر لها هذه التساؤلات المستمرة وهمهمات الشكوي الأساسية: أين هم حكامنا؟ أين هم مثقفونا ومبدعونا؟ ما الذي حدث لمناضلينا المدافعين عن القضايا الكبيرة؟ أين هم المتحدثون باسم المجتمع المدني؟ إلي أي حد سيبلغ الاسترزاق بنخبتنا؟ وأين ستصل بها الوشاية وتجارة المخابرات؟ كيف نفسر استكانتنا الخاصة والقبول بمذلة وطنية ودولية كهذه؟
ما الحل، إذن، لتفادي الانتفاضات بمفهومها الاحتجاجي والزلزالي؟ المهدي المنجرة يدعو إلي اعتماد رؤية أو ما يعبّر عنه في مقاربات أخري بـ المشروع . يقول: نحن لدينا أزمة رؤية في الأخلاق، وهي أكبر أزمة يعرفها العالم الإسلامي، فالحركات الكبري في العالم بدأت برؤية، ولسنا بصدد الحديث عن رؤيا الأحلام التي يستند إليها بعضهم في نظرتهم إلي قضاياهم، فالحمد لله أن في الإسلام النبي محمد (ص) هو آخر الأنبياء، ولا يسمح لأي أحد أن يدعي رؤيا الوحي بعده؛ ولكن الرؤية هي التي تُلازم استفاقة المجتمع ووعيه. وبدون الرؤية لا يمكنك أن تبني استراتيجيا، وبدون استراتيجيا لا يمكنك أن تبني سياسة، وبدون سياسة لا يمكنك أن تتقدم في أي ميدان من ميادين الحياة. إن الشرط الأساسي للوعي بقيمة الرؤية هو الديمقراطية التي تهيئ السبيل لكي يعبر كل فرد في المجتمع عن ذاته، حتي يبلغ مستوي المشاركة، ويصبح جزءا من صناعة القرار.
وفي تعقيب علي مؤلفات الدكتور المهدي المنجرة، يلاحظ الأستاذ عبد الكريم غريب (مدير مجلة عالم التربية ) أن تلك المؤلفات تصنف في إطار تقاطع العلم والأدلجة، المعرفة والسياسة، بمعني أن المنجرة لا يتموقع في إطار منحي الدراسات الأكاديمية للظواهر، وإنما يفضل الكتابة القلقة التي تطمح إلي توعية المجتمع بالتغيير، وتجسيد دور المثقف العضوي الذي لا يبلغ رسالته للنخبة فقط، وإنما إلي عمق المجتمع، الشباب والنساء، والفئات المتعلمة والمتوسطة. والهدف الأساسي، يكمن في تعبئة المجتمع لوعيه بذاته وواقعه، وتمكينه من أدوات التغيير التي لا توجد خارج المجتمع، وإنما داخله، وأولها منظومة القيم.
إضافة إلي استقراء مجمل أفكار المنجرة، يحتوي العدد الجديد من المجلة الذي يقع في 519 صفحة من القطع المتوسط، علي مجموعة من الدراسات والأبحاث الهامة حول العولمة والحوار والتواصل والتربية، ساهم بها الأساتذة: مصطفي محسن، فوزية شراد، إدريس كثير، الفضيل العيرج، عبد الكريم فليو، عز الدين الخطابي، عبد الهادي مفتاح، أحمد زويل، فارح مسرحي، محمد الشيخ، عبد الحق منصف، محمد عباس نور الدين، محمد بوبكري، بن سماعيل موسي، حسين قادري، عبد المجيد عمراني، علي براجل، محمد فاوبار، لكحل لخضر، عمر الزعفوري، عبد السلام الحيمر، محمد طواع، الحاج دواق، العربي فرحاتي، رحيمة عيسان، عمر حيدوسي، حسنية حماميد، علاوة علي استجواب مع الباحث يحيي اليحياوي، وآخر مع الأكاديمي الجزائري عبد المجيد عمراني.
القدس العربي
2007-6-28