تامر عفيفي

الكرمل الجديدوسط هذا الإيقاع السياسي والثقافي العربي الصاخب، المزدحم بالرؤى والتصورات المختلفة لما يحدث بعالمنا العربي المرتبك، وهو يدخل مرحلة حاسمة ومحورية في تاريخه، يظل الكاتب والمفكر العربي شاهدا ومؤرخا ومساهما بشكل فعال في كل الأحداث بل ومؤثرا في الكثير من الاتجاهات السياسية والثقافية تأثيرا ملموسا، مما اقتضى أن يكون هناك حراكا ثقافيا معينا.

ذلك كالذي يمكننا أن نلمحه ونقترب منه برفق في مجلة أدبية رفيعة المستوى مثل 'الكرمل الجديد'، تلك المجلة الفصلية الثقافية التي تصدر عن مؤسسة الكرمل الثقافية في فلسطين، وقامت دار العين للنشر بإصدار طبعتها بالقاهرة بعدد رائع منذ عام مضى، تطل علينا 'الكرمل الجديد' في ثوب مختلف في عددها الثاني، وهي تعودك دائما منذ مطالعتها على أن تتحلى بالبساطة في قراءتها كأنها تصطحبك في رحلة خفيفة ممتعة عبر أنواع متعددة من الكتابات والأقلام لعقول مميزة وكتاب مهرة، أجواء الثقافة في 'الكرمل الجديد' أجواء عربية إنسانية رائقة، لا تحتمل الأبعاد الأكاديمية في التصورات، ولا ترهقك في بناءات روتينية لكتابات معقدة، هكذا كما يفكر الكاتب 'حسن خضر' رئيس تحرير المجلة فيمن يختار أن يشاركونه أو يختارون أن يشاركوه في هذا الكيان الممتع، في عددها الثاني الصادر عن دار العين للنشر، تقدم لنا 'الكرمل الجديد' وجبة لا تسبب لك ألما بقدر ما تحاول الحصول منك على فترة وجيزة من الزمن تشارف فيها جانبا من معرض جديد للثقافة والكتابة العربية في رقيها وتحضرها وزهو طموحها وبريق أملها في المستقبل الذي مازال يحبو نحو النور في ثقة، وخصوصا وهي تبدأ في كلمتها الأولى بخالص العزاء في اثنين من الذين سطروا صفحات مضيئة في كتاب الثقافة والتنوير والحداثة والتحديث العربية، وهما أنور عبد الملك وغسان تويني، كان كلاهما تلميذا نجيبا لتقاليد الحركة الاستقلالية العربية، ففي مسيرتهما حقا ما يحميهما من الغياب، يبدأ العدد بمقتطفات من مقابلة متلفزة خاصة أجراها في رام الله السياسي والإعلامي الفلسطيني نبيل عمرو مع الشاعر محمود درويش في أواخر العام 2003. شارك في المقابلة إلياس خوري ومرسيل خليفة من بيروت، وممدوح عدوان من دمشق، وغسان زقطان وحسن خضر من رام الله، تكلم الشاعر في كل شيء، وتكلم الآخرون في كل شيء أيضا، وتلا هذا الحوار الرائع مقالة للشاعر الفلسطيني الذي يعيش بالقاهرة مريد البرغوثي، عن محمود درويش بعنوان 'هو أجملنا وأولنا'، وقد نشرت نسخة من هذا المقال في جريدة الغارديان البريطانية، ثم يبدأ القسم الثاني بقصائد مختلفة المعنى والمبنى للشاعر سميح القاسم على هيئة ثمان قصائد 'راب'، كتبت على طريقة موسيقية مختلفة ورائقة، ومقاطع شعرية للشاعر صلاح بوسريف بعنوان 'لا تقصص رؤياك' وهي مقاطع من ديوان 'حَجَر الفلاسفة' الجزء الثاني من'شرفة يتيمة'، ثم ينتقل بك العدد الضخم إلى نص محاضرة في معهد Wissenschaftskolleg في برلين في حزيران (حزيران) 2011، ألقاها 'أمنون راز كراكُتسكين'، محاضرة مهمة عن 'المنفى وثنائية القومية'، من خلال كتابات وآراء 'غير شوم شولم'، و'حنة أرندت'، وإدوارد سعيد، ومحمود درويش وكان'غيرشوم شولم' في العام 1926 أحد مؤسسي 'بريت شالوم' (ميثاق السلام) المنادية بالتوصل إلى تفاهم بين اليهود والعرب حول شكل العلاقات الاجتماعية المتبادلة في فلسطين، على أساس المساواة السياسية المطلقة بين شعبين، يتمتعان بالاستقلال الذاتي الثقافي، وتحديد مجالات التعاون بينهما لتطوير البلد.'كانت تلك جماعة صغيرة تعمل في المقام الأوّل كمنبر للأنشطة الثقافية والتربوية، بيد أنها اتخذت موقفاً سياسياً بديلاً في الدعوة إلى وضع ترتيبات لثنائية القومية في ظل الإمبراطورية البريطانية، ومن ثنائية القومية إلى أسئلة الحاضر، قسم خاص بعنوان 'اليهودي العربي: تاريخ العدو' يرصد هذا القسم مقابلة خاصة بين نيرمين الشيخ وجيل أنيجار، الذي ولد لعائلة يهودية فرنسية من أصول عربية) وتتحدرأصول عائلة أنيجار التي قدمت إلى الأندلس إبّان حكم الدولة العربية هناك، من عائلة النَّجَّارالعربية المغربية(. وفي فترة محاكم التفتيش حوالي العام 1492 تشَّردت العائلة، وانتشرت في أنحاء العالم مع حركة الغزو الأوروبي: فبقي قسم منها في أوروبا، فيما عاد قسم من العائلة إلى شمال أفريقيا، وبخاصة إلى المغرب، وارتحل قسم آخر إلى أمريكا اللاتينية 'المكتشَفَة'/غزواً في حينه. ولذا، فقد وُلِد أنيجار في فرنسا لعائلة يهودية عربية مُصَهْيَنَة، وجاء إلى فلسطين في العام 1981، وتبعته عائلته، في العام 1984، لتستقر في إحدى مستوطنات القدس. وحين لم يستطع أنيجار تحمُّل السياسات العنصرية لدولة الاستعمار الاستيطاني (إسرائيل)، غادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أكمل دراساته العليا في جامعة كاليفورنيا - بيركلي، حيث تواصل مع مثقفين، وعمل مع أكاديميين، يهود مناوئين للصهيونية، وبخاصة دانيال بوريارن، وجوديث بتلر ذات العلاقة المميزة مع الفيلسوف الفرنسي اليهودي جاك دريدا، المقابلة مع 'جيل أنيجار' كانت على عدة محاور أساسية، تبدأ بالعلمانية واللاهوتي ـ السياسي، ثم الدين والعرق والإثنية، وعن اليهودي العربي في أوروبا، وعن 'المُسِلمان' في أوشفيتس، وتنتهي المقابلة بمشكلة الكونية، وقد قام بهذا المجهود الكبير في ترجمة الحوار المترجمان 'رنا بركات وعبد الرحيم الشيخ'.

واستكمالا لرحلة المقابلات والحوارات الرائعة تنتقل بك 'الكرمل الجديد' لمقابلة أخرى أجراها علاء حليحل مع الشاعر سميح القاسم، عنوانها 'سميح القاسم: أفنيت عمري في خدمة القصيدة'، يتحدث الشاعر في هذه المقابلة عن 'آل حسين' عائلته، وعن شعر المقاومة، وعن كلاسيكية القصيدة، وعن فترة الستينيات والسبعينيات، ومحاولة هروبه إلى لبنان، وعلاقته بمحمود درويش، حبه للسفر والتنقل، كتابه السردي الثالث 'ملعقة سم صغيرة ثلاث مرات يوميا، حبيبته الروسية 'تنيوشكا'، المرأة، وحبه للرسم، وأشياء أخرى، حوار هادئ وممتع يقربك إلى كل ما يخص الشاعر من تفاصيل وأسرار.
تقدم الكرمل كعادتها نصوصا أدبية جديدة وخاصة، هذه المرة تقدم نصا روائيا للكاتب والقاص الفلسطيني محمود شقير، بعنوان 'فرس العائلة' النص عبارة عن فصل من الرواية بالعنوان نفسه قيد النشر، ثم نصا للروائية الرومانية التي تكتب بالألمانية 'هيرتا مولر'، الحائزة على جائزة نوبل في الآداب لعام 2009 النص بعنوان 'ياله من هيكل ضخ، وياله من محرك صغير، عن حقيقة مؤلمة'.

اما في الجزء الخاص بالمكتبة قدمت لنا 'الكرمل الجديد في بدايته جزءا خاصا عن 'الشيوعية والثقافة'، كتابة مهمة لحازم صاغية، ومقالا نقديا عن رواية 'عصي الدمع' لمنهل السراج، للكاتبة د. شيرين أبو النجا، واختتمت المجلة بمقال نقدي عن رواية 'تبليط البحر' لرشيد الضعيف، لوليد أبو بكر.

القدس العربي
2012-08-03