رام الله - بعد غياب دام أربعة عشر شهراً تعود مجلة (الشعراء) الفصلية الثقافية التي تصدر عن (بيت الشعر) في فلسطين للصدور.. حيث خصص العدد الجديد - مزدوج (خريف شتاء) 2005 للشاعر المصري المناضل محمد عفيفي مطر .. لمناسبة بلوغه السبعين.
افتتاحية العدد كتبها الشاعر المتوكل طه المحرّر المسؤول ومما جاء فيها :
"ونخصص هذا العدد من مجلة "الشعراء" لشاعر عربي كبير، ميزته العليا أنه استطاع ليس فقط، محاكمة لحظته، وإنما محاكمة السيئ من تاريخ أمته، فقد رأى أن سوء اللحظة التي يعيش هي مراكمة لكل ذلك السوء والرداءة في ما مضى. لقد استطاع محمد عفيفي مطر- هذا الشاعر المنسي أو المُغيَّب - أن يقدم صيغة مبدعة لعلاقة الشاعر/ المثقف بالسلطة وإفرازاتها وهيمنتها وما تضعه حولها من نخب تتبنى وتردد أطروحاتها ، خالقة بذلك "ظلاماً " كثيفاً يمنع الرؤيا ويقتل الرؤية ويغتال البصيرة والحياة.
إنّ مفردة "الظلام" التي يستعملها الشاعر محمد عفيفي مطر هي من أكثر المفردات تكراراً في دواوينه.
الظلام الذي يعيشه الشاعر ليس فقط، في زنزانته التي يسميها "جحيماً" وإنما في لحظته المعيشة وفي تاريخه. إن ما يعانيه ويكابده الشاعر جعله يرى الأشياء من جديد ويقرأ التاريخ بعيون وروح جديدة، أو لنقل، بنظرية جديدة هي نظرية "الخوف من الخوف".
وما بين "الظلام" و"الخوف" يكون الموت، وفي هذه الكآبة، والقتامة، تلد قصيدة الشاعر محمد عفيفي مطر، قصيدة تضجّ بالألم والفزع والكوابيس والرؤى المقتولة والأماني المغدورة ووجوه الأحبة الموتى والمدن التي يسكنها الأشباح كما أنها قصيدة مُركّبة تستند إلى الأسطورة التي يُعيد إنتاجها بلغة حداثية فلسفية، تؤكد أن صاحبها شاعر رجل يستحق الاحترام" .
وقدّم للعدد الشاعر محمود القرني ومما قاله :
"رحلة مطر الطويلة التي شقت عليه وشق عليها تنفلت من بين أصابع مسقط رأسه "رملة الأنجب" ، في بيت طيني واطئ ، ولأسرة متوسطة تتولى "العمودية" في الريف المصري للوهلة الأولى ، تنفلت الرحلة بشقتها إلى مدرسة المعلمين العليا ، ثم إلى العمل بالتدريس في محافظة كفر الشيخ ثم مجلة "سنابل" التي قادت الطليعة الإبداعية في نهاية التعاسة الستينية ، ثم إلى دراسة الفلسفة والتعلم على أساطينها وأربابها في جامعة عين شمس ، ثم الرحيل إلى السودان هرباً من أتون المطاردة الساداتية ، ومنها إلى بغداد حيث المتنبي والكرخ وجيكور والسياب ، وحيث شبالو وفيقة على الساحة ، وحيث عفيفي مطر يعلك الشعر في خطوات هي الأكثر مرارة كما يذكرها ، وبين هاتيك العواصم تتوزع الدماء السوداء الذي أهدرها حجّام جاهل وحُكّام قساة ، وأزمنة تهتكت فيها أستار الحلم ، وانفتحت أبواب الخزي على مصاريعها.
كان ثمة أشياء تتخلق خلف ظهر عفيفي مطر المهاجر الآبق ، كان حبٌّ لا يدركه هنا وهناك ، في قلب الجامعة وفي المنتديات ، وفي أسواق الكتب وأسواق السكارى ، بين ثنيات الأوراق الشابة السبعينية وبين وجيعات ستينية تجأر - على البعد - بالخوف والهلع من مجرد التذكر.
إنه عفيفي مطر، طوق الشعر ومطوقة، المارد المجند لخدمة الكلام، والشبح الطالع من برية الوحشة، وصدود الأوطان".
وتضمن العدد شهادة خاصة حول التجربة الشعرية كتبها عفيفي بعنوان .. إطار خشبي حول رسم في الماء وتضمن العدد أربعة قصائد جديدة للشاعر عفيفي خاصة بمجلة الشعراء وهي:
منمنمة ترن الجلاجل في أعناق الإبل .
منمنمة يرى السكران في شطح الدمع ويسمع.
تجليات الراقص.
بيت أجاممنون .
فيما تضمن باب الشهادات :
سعيد الكفراوي : شهادة عن البكاء في زمن الضحك.
سهير متولى : المسامر .. صائد اليمام.
شعبان يوسيف : وجهان متطابقان في الشعر والسيرة.
عبد المنعم رمضان: (4) قصائد إلى عفيفي مطر.
محمد فريد أو سعدة : بورتريه لعفيفي مطر .
أما باب الدراسات فاشتمل على إحدى عشرة دراسة لكل من :
محمد عبد المطلب: مقابلة عفيفي مطر في منزله الشعري.
وائل غالي شكري: شعرية التأبين.
وليد منير : استدعاء جرح الكتابة .
شوكت نبيل المصري: دهشة الجسد وهوامش التكوين.
محمود قرني: شمس عفيفي مطر المهيمنة.
محمد السيد إسماعيل: شهادة البكاء - شهادة الشعر.
أحمد رشوان : حوار مع فاصلة إيقاعات النمل .
صبحي موسى : عفيفي مطر وسيموطيقيا الجسد .
خليل حسونة : الانفجار النصي بين الفقد والتمدد.
علي أبو خطاب : (من دفتر الصمت) إلى (رباعية الفرح).
حسين البرغوثي : هندسة القصيدة (المحاضرات).
وتضمن العدد حواراً مع عفيفي مطر أجراه ماهر حسن، تحدث فيه عفيفي عن الكثير من القضايا الشائكة، ببوح شفيف، حيث بدا عفيفي كعادته غير مجامل، هادراً وجسوراً ومتقدماً فيما تضمنّت المختارات قصائد من أعمال عفيفي الثلاثة عشر وهي :
احتفاليات المومياء المتوحشة.
فاصلة إيقاعات النمل .
رباعية الفرح.
أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت.
يتحدث الطمي.
والنهر يلبس الأقنعة.
شهادة البكاء في زمن الضحك.
كتاب الأرض والدم.
رسوم على قشرة الليل.
الجوع والقمر.
ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي.
من دفتر الصمت.
من مجمرة البدايات.
ليختتم العدد ببيت القصيد والذي كتبه رئيس التحرير مراد السوداني بعنوان: آخر الشعراء الملوك (عفيفي في سبعينه دقاقة رقاب الجلادين).
كما صدر مع المجلة (كتاب الشعراء) وهو بعنوان : صيد اليمام (مسامرة الأولاد كي لا يناموا) للشاعر عفيفي مطر ، ومما جاء في "مشاغبة الإهداء" :
"مشاغبةُ إهـداء "
إلى الطلائعِ الجديدةِ من الأبناءِ والأحفادْ:
أُطلِق أمامكمْ بعضَ اليمامِ الذي عشَّشَ
فى قلبي ، وأُغْريكم باصطياده ..
حياةُ الأمةُ كلِّها هي آفاقُ طيرانه،
وأَمَلِي أن تُداوِرُوهُ بشباكِ الفهمِ الكادحِ
وسهامِ الذكاءِ اليقظِ المتوقِّد ..
هذا هو الرِّهـانُ بيننا .. فأيُّنا سيخذلُ الآخرَ
ويهربُ من صعوبةِ الرهانْ؟!
أطلقْتُ رهاني وكلِّي ثقةٌ بأنَّكم أذكياءُ
جادّونَ لا يصعبُ عليكمْ صيد.
أم سيكونُ الخذْلانُ منكمْ باستسلامِ
الصيادينَ للتسليةِ والسهولة،
والتسليةُ والسهولةُ صيدٌ لا يكلِّفُ جهداً
ولا مشقَّــة؟!
لعلَّكمْ ستقولون :
ما لنا ولهذا الصيدِ في الآفاقِ العالية،
وما لهذا الشاعرِ لا يضعُ ما يريدنا
أن نصيدَ على أطرافِ أصابعنا وفي
أكفِّ أيدينا؟!
هوَ رهانٌ بيننا إذن. فهيَّا اخرجوا معي
إلى براحِ السَّهرِ الصعب
وبيننا الأفقُ الوسيعُ ليمامِ القراءةِ
الكادحةِ والذكاءِ النبيل.
*****
يا حجراً أعرفهُ مذْ كنتُ صغيراً ألهو
فوقَ العتبة .
وأدقُّ عليكَ نواةَ المشمشِ والخروبْ
في المدخلِ ..
كنتَ تنامُ عميقاً ..
لا توقظكَ الشمسُ ولا
هَرْوَلةُ الأقدامْ .
كنَّا في شمسِ طفولتنا وصبانا
نصطادُ فراشَ الأحلامْ
وأنا أسألُ صَمْتَكَ :
هل تَتَفَصَّدُ ملحاً - مثلي - أمْ
تنفصَّدُ عَرَقاً من رملٍ أمْ
سوفَ تشيخُ فتنثركَ الأيامْ
فى طرقِ السعي ؟!
وهل صمتُكَ دمعةُ حزنٍ مكْنونةْ
أم زفرةُ يأسٍ أم بهجةُ حلمٍ
يتوقَّدُ في أغنيةِ الصمتِ المجنونةْ؟!
كنَّا فى طرقِ السعي نغنّي للعدلِ وللحريةِ
ونفجرُّ في ضَرَباتِ القلبِ بروقاً خُضْراً
تَسْطَعُ فى كيْنُونتنا السرِّية
فترانا الأرضُ بشارةً فجرٍ يطلعُ من
تاريخِ الظلمة.
يا حجراً أعرفُه ..
هل كنتَ الموسيقى المخبوءةَ في
شعرِ الشعراءْ
أم كنتَ نداءً كونيّاً يَصَّاعدُ من صمتِ الشهداء؟!
أزْمنَةٌ مرّتْ..
كانت تنثرُ فضَّتَها ورمادَ
كهولتها فى الشِّعْرِ
وَوَهَنِ الخطوةِ
والجسدِ المهزومْ
وأنا أسألُ صمتَكَ :
هل صرختُكَ الملساءُ الحُبْلى
تحملها عرباتُ خرابٍ مندفعةْ
ينقلها بنَّاءون لصوصٌ من أعتابِ البيتِ
لبناءِ السجنِ وتَعْليةِ الأسوارْ ؟!
أم هذي الصرخةْ فجرٌ فَضَّاحٌ مكتومْ
سيُشعْشِعُ حينَ يدقُ الولدُ الآتي
- من ظلماتِ الغيبِ-
نواةَ المشمشِ والخروبْ ؟!
******
من الحكمة والحلكة المستفيضة يغزل عفيفي عباءة الكلام المعشّق بالتحديق الصلب في الموقف الصعب ويجرح بأثلام الروح جلد اليباس حتى ينزّ من ظمأ الصحراء رقراق الوجع السرمدي ونهنهة الدمع في شقوق اللغة وخرائب الزمان الدائري ..
يأنس بالوحشي والغرائبي وما هو هامشي، لغته مستقطر هبيد دويِّ الإرث الفجائعي بداثر الثارات وغيلة الأيام النواهب وإرنان السهم والسمِّ في جسد الأرض التي "من جثث القتلى عليها تمائمُ"..
عفيفي ابن هذا النسق العربي - الإسلامي، والموغل في طبقات الجاهلية ورجَّاز الحنين الوثنيّ بامتياز.. يقلّب حجارة القدّامة منفرّاً العقارب والجواثم وحوائم الطير ومناسره في مصعلكة النشيد .. ويفجؤنا بسعلاة وورلٍ وتثاؤب الغوليِّ في الصحراء التي هَجَسها وأسرف فيها اغتراباً وجوعاً وفقراً كاوياً ولقمة خشنة .. يطلع من غبش الرمل ويودع الآراك والدوْم سرّ القول وفداحة "النظر المحض" في "محض المرارات" وألم البقاء على قيد الكرامة ، على الرغم من مبارد الأخلاط وأوشاب الهجنة ، ومخاتلة الخصيان والطواشيين .. عفيفي مطر يسعل وجع البلاد ويريك شهقة الطين في الرميم العميم .. وبمعزفه الجارح الكظيم يشعل اللغة إيقاعاً لائباً وتدفقاً موّاراً وإصراراً على الدفاع عن الجمال والحرية والعدالة في مجابهة القبح والأدعياء والأذلاء الصغار ..
مزمَّلاً بدثار الإرث النضّاح والغائر بقوّة الحياة ونسغ البقاء وعمق الرؤيا ، ومتقدماً نحو غدٍ نديٍّ شفيف ، يصرُّ عفيفي على البوح ويفيض بشموليته الهادرة .. وأنينه العنيد ليدرز قصيدته بمخلب الحقيقة الجسور .. وعنفوان طائف البرق الروّاغ.
*
في استدراج الخرافات الشعبية إلى حمأة النص استطاع عفيفي العثور على مفتاح الذهب في تجربته.. فقام بـ"أسطرة الأسطورة" وربما رفعها للتربيع أو التكعيب أحياناً، في محاولة للبحث عن الإيقاع الأصيل والرؤيا الفذّة القادرة على النفاذ والتجاوز .. وعلى محور المكان كنقطة ارتكاز مشعّة بنى عفيفي معماريته الشعرية ، وهندس قصيدته بـ"طاقة المكان" وقوّتَه وسطوته، فمن طمي النيل وخفقه السيّال وغرين الماء الغمْر نسج مساحة التجريب ودفع الكلام إلى قمة الاشتعال وحمى التكوين وجلجلة العناصر .. وبين سفاد النثر والشعر تخلّقت القصيدة "المطرية" بما يضمن لها الفرادة والاختلاف والريادة .. وباندغام الفلسفة مع الشعر ضمن عفيفي لنصه حرية التحليق ولياقة الريح وسطوة هبوبها اللافح ..
بكل هذه الحمولة المعرفية تقدم عفيفي مطر لصياغة مشروعه الشعري دون الالتفات إلى غمغمة الأضواء الكالحة .. ونفاق أبواق العجزة ومتسوّلي الكتابة .. وانحاز لروحه وهدير قلبه ورائحة التراب المشمول بحناء الدم وصدق التجربة وتغوُّل الإيقاع المغترِب عن السلاسة والنعومة والصفاء .. فنصّ عفيفي المتراكب والملغوم حاصر محاصريه وحاسديه الذين رموه بالغموض أو الاستغلاق .. ومخالفة الذائقة .. متناسين أن الكتابة العابرة للزمن ليست كتابة ترف ، بل هي هَبْو القلب وعصارة المعرفة مسفوحة على بياض الورقة .. ورغم ما أهيل على مشروع عفيفي من تراب بقصد الإلغاء والمحو .. إلاّ أن نقاط الضوء في النصّ كانت ممحاة العتمة وشواظ ردٍّ مقنع على اصطفاف النخاسة والأوراق الصفراء..
إنّ ما تعرّض إليه عفيفي من سجن وتعذيب وتهميش، لم يفقده مضاء العزيمة وشموخ النزال ، بل استطاع أن يحوّل الضعف إلى قوّة والإلغاء إلى بقاء .. والحصار إلى رياضة روحية لاجتراح النصّ المدمَّى والنادر .. وهكذا تنفتح الزنزانة على زمن القمع في التاريخ فيستحضر عفيفي في اعترافاته الأسماء الحركية لأصدقائه الإرهابيين : سقراط ، ابن رشد، السمندل ، النفري ، أورفيوس ، السعلاة .... ومتتاليات الروافض وكواسر الكتابة.
يحضر الألم والظلموت المؤرّث بكامل حمولته وينشعب في النصّ، وكأنّ الزمان الدائري قدر البلاد وحظّها الوافر .. الخنومية الجديدة مازالت تستهوي السلطة لإبداع مستحدث التعذيب وكيمياء الشبح وهرير الجلادين .. المدّخرين في الفواخير الأزلية عتاة لكل العصور ..
الزنزانة كتصميم للمكان تؤكد مساهمة السلطة ، أية سلطة في تحويل الأمكنة إلى معمارية سجنية .. ومدافن لكافة الأرواح الحرّة والأصوات اللاهبة ، التي تقترب من سرّ الفقراء وتقلّب حجارة قدورهم الطائشة، فـ"عبقرية المكان" استحالت أهوالاً من الزنازين والقمع وإعادة إنتاج الموت بطرقة حداثية تماماً ليس أقلّها الكهرباء ومشتقات القتل وحثالة التحقيق .. ويبقى الشاعر فضّاحاً للظلم وشاهراً قلبه قبّرة مدمّاة .. لتنضج القصائد مثل رغيف حار مشوية في أفران التعذيب.
*
عفيفي غوّاص المدّونات القديمة والأوراق السالفة ، امتص رحيق التراث وصاغه بمهارة الصانع عبر تناصٍ متراكب وتحويرٍ لافت، ما جعل لقصيدته مذاق التميّز والمخالفة .. عفيفي مطر نفرّي جديد دهمته الغربة بين قرى مصر والبصرة ، فأنضجته المنافي وأمدّته بإكسير المجاهدة ونبض الكلمة والصيرورة الداهمة .. وليس غريباً أن يهدي ديوانه "أنت واحدها وهي أعضاءك انتثرت" إلى النبي محمد (ص)، "سيد الأوجه الطالعة".. فعفيفي لا يخجل من هذا النسق العربي - الإسلامي، جذرنا المشع وعنصرنا الأنقى. فالشاعر ليس بمستلب ووفيّ لهذا التراث وما فيه من إشعاعات.
*
لم يلتفت عفيفي إلى جوقة النقاد الكسالى ، كان همّه إتيان الجديد وغير العادي والتواضع الجمّ وهذه ملوكية العارف والمتسائل الحقيقي، فطوبى للعارفين .
فليس من العجب أن تصطفَّ ماكينة الإعلام والترويج ضد عفيفي ومن شابهه من الأصوات الثورية والمناضلة في هذا الزمن المهزوم والتردي الشامل والسقوط المريع، وليس مستهجناً أن تفتح الأبواب وتتهيأ الظروف للخطاب المنكسر والقبوليين ، وتجار الدم والمرائين والكذبة .. فإيّانا والضلال !
*
إنه "أبو لؤي" .. له قسوة الرعد وهُجاس الشجر الحربي .. لياقة النهر أخصّ صفاته .. المتحوّل عن عمق .. والبعيد مثل نجم لافح.. بين شقوق أصابعه العاليات تنهض لغة الحلم ويصهل عويل الأيام المرّة وصهد الحزن الناقع .. جسده منحوت من رخام الفواجع. وفي صوته رنّة الريح في بوالي الطلول .. طافح بالحرية ومجنونها ..
إنّه محمد عفيفي مطر، آخر الشعراء الملوك.. وضلِّيل البلاد التي أضاعته .. عفيفي المُنادى مثل غريب، زجّاج الشطح والدمع.. يسعل الكلام يابساً وجارحاً.. وما إن تقرأ نصوصه حتى تفجؤك اللغة بإيقاع الدم الناري وشهوة التدفق وغموض منكشفٍ شفيف .. فتجوح ريح وتسري الخضرة في الحجر ومتاهات الرمل .. وينفر القطا.
*
في جامعة بيرزيت العام (1995)، نلتف حول الشاعر الرائي حسين البرغوثي .. في محاضرات حول قوانين الشعر العربي .. ويخصّ المعلم عفيفي مطر بثلاث دراسات طوال، يفككك فيها مجموعتيه (فاصلة إيقاعات النمل) و(احتفاليات المومياء المتوحشة) .. وهي سياحة في عالم مختلف لشاعر مختلف ومغاير .. أتخيّل حسين بحضوره الأسطوري يقدّم ولأول مرّة شاعراً باحتفاءٍ ورضى شديدين . وحسين - رحمه الله - غير مجامل وتحديداً فيما يخص الكتابة .. أشار حينها لشمولية النصّ (المطري) وسطوة الإيقاع لديه وفيض الرؤيا .. وخصوصية اللغة التي جعلت من صاحبها علامة فارقة في النص الشعري الحديث وكأني بالمعلم يقول : أحبّوا هذا الشاعر، ثمة خصوصية، انتهبوا .. منذ ذلك اليوم وعفيفي دليلي. باختصار شعرت بأنه قالني تماماً ولا داعي للاستمرار في الكتابة .. قالني وكفى ! .. لم تنشر محاضرات معلمي حول عفيفي، وفي هذا العدد ترفرف روح حسين لتجد لها مساحة للتذكّر الوفيّ.
ياهٍ .. الموتى يتذكرّون الأحياء ..
*
طالعاً من وَقْدِ المواريث ومتنطِّفاًً مرايا واختلاسات رؤى .. من مَجمرة الأسلاف مزمَّلاً بصهد الكَلام وتحاريق التفاعيل، يرفع الوجع قنديلاً أخضر ويشعل الليل مسامرةً للنجوم واختطافاً للمواقيت ونذراً ترنُّ في شروخ الذاكرة المستباحة تخديراً ومحواً .. كي لا يصبح البياض راية للبلاد التي هاج رميمها واستعاد لياقة الموت وتصانيف الإبادة والإلغاء المحض وهلاوس التعذيب العصري .. ها أنت يا سيدي يا عفيفي في السبعين تعلن سرّ البقاء النقيِّ والهجوم الفذّ ضد سلالات القبح، والأنانية والأذلاء المهانين، وطبقات الشعراء الخيزبازيين، وصيد النخاسة، وصحافة المخبرين والزمن الذي "ديوّثه الصحفُ"، وأعيان التسوّل، وجلائب الرطانة ..
ها أنت تدًّرع الصبر وزقوّم المواجهة الشهم للعصف برذائل "دهرٍ ناسه ناسٌ صغار" رخويون، مباعون، مثل "السيوف كي يملك الغرب الرقاب". تفتح عينيك الجمرتين على سلائب الوطن المفخوت مثل رمانة انفرطت فساح خرزها الأزرق القاني في سماء الوطن العربي المنهوب، سماء سوداء من رفات القتلى وفحم الجثث البيضاء الطافي على ماء استحال مجرور دمٍ ينسرب من شقوق الجراح المفتوحة فيما تبقى من بلاد ..
*
تعبر السبعين طافحاً بقسوة الجمال ونفاذه، بحضورك الملكيِّ وسيف الشعر المفضَّض بتعازيم الوحشة وزمزمة الاغتراب اليومي، وفيوضات اللحظة الجارفة .. تحاول هذي الحياة وتمسكها من قرنيها، لتربطها إلى صخرة السبعين التي أضاءت من حتِّ الأيام، فاهدأ مثل سبع نارٍ ينحاز لصواهل المفردات ونصال القوافي الشرسة وأدعية الأولياء القتلى .. اهدأ، لعلّ الأوسمة الفاجرة وزيف المراتب، والإقعاء على أعتاب الملوك الدمى يتساقط مثل وريقات تين قديم ..
اهدأ أشهدتُ عليك أمراء الصعاليك، ونبلاء الحرب الخاسرين، وجمّاع فلاسفة الجدل الثوري، وجمهرة الشعراء المغدورين في مظلمة الوطن المجروح والمخلّع من مفاصله.. أشهدت عليك منمنمة الصحراء وحنين نياق الغرباء، ورجّاز العرب القدماء، وفتحت شبابيك الحزن مضاءات بنواياك.
تعبرك السبعون محارباً مفلوذاً ومسنبلاً صوتك في عجاف الليالي، مقدوداً من دخان الأساطير وزفيف الصلصال الغُفل .. تخلع أقنعة النهر واحداً بعد الآخر .. وتنصب وجهك للهجير، في عناد الخضرة الطافحة ومرموز التنبؤ الصارم الشجاع .. وجهاً لوجه مع الجلادين تحدّق في ظلموت اللحظة وشظق اللقمة الناقعة ومسغبة الأيام الرواجف، تنجرف تحت باصريتك أوساخ النتن الدهري، وأشباه الصور والرجال .. وتتهرأ تحت لسع يقينك سياط الخنوميين الجدد، وترغو قصائدك بمهجوس البلاد والرغبة في العيش النظيف، والحياة الشريفة.
أشهدت عليك الطمي وأرق الفلاح وعبق المحاريث غبَّ شتاءات الريف المنسي .. أشهدت عليك الطير والنحل وسرجان الغربة ورفيف النسور في القصور .. أشهدت عليك بلاداً أضاعتك ملكاً منفرداً والعزلة مأواه ..
لا عليك يا صديقي المحارب ، انتبذ المغترب الريفيِّ الملكيِّ .. فهذا زمان صار يكتبه كل داشر ..
وماذا بعد أن استولى الغوغاء الكتبة على كل شيء، وتباروا في مزاد السبت، يهرفون بأفانين الشطب وصياغة ما يمنحهم أعلى الدرجات !! وماذا بعد همهمة الجهلة و لصوص النصوص وتهارش كلاب الكتابة في النتن اللغوي ! فتأنف من زهومة التكالب والاستحواذ وَجَلَبة التزاحم على "شحم كلُّه ورم".
وماذا بعد أن فرّت من تعاريج شعرك الشوكي طيور الحذر وأدمنتَ الحق، وكريم القول .. فشهدتَ على بلادٍ نخلّها الغزاة وأنشبوا فيها كل جارحٍ أسود وناب .. في تطوافك العَصيُّ على العِصيِّ، ومغتربات العمر هجرت "مدن النذالة" لأنك عاشق "مدن الكرامة" .. مشمولاً بمرجعيات الوجع الدهري. صوتك الهادر مثل شلال نار مازال محافظاً على نبره العالي وإيقاعه الخالص الشهم.
*
في مجلة الشعراء نفخر بهذا الشاعر الكبير والمظلوم الفذّ، الذي يقدّمنا ويكرّمنا بذوب روحه على الورق، ليقول لنا في فلسطين : مازال التراب يشتعل والبوصلة واحدة والعدو واحد .. والمواجهة مستمرة وتلويحتنا له، الوفاء ...
عفيفي أيها الشاعر المحارب في سبعينك ، دقاقة رقاب الجلادين، طوبى لك. ونبقى نحبّك .
إقرأ أيضاً: