القسم الأول . الفصل الرابع 1

القصة الاجتماعية والمعالجة
الإصلاحية للمعايير والتقاليد

* خالد الفرج
* فاضل خلف
* جاسم القطامي
* فهد الدويري

ولا تكتفي القصة القصيرة وهي تعالج الموضوعات الاجتماعية في هذه الفترة بصورة البؤس الاجتماعي وفظاظة العيش وشقاء المهنة وتبدل القيم الأخلاقية، بل إنها تطرح معالجتها لأثر التقاليد والمفاهيم المختلفة في فساد المجتمع وضياعه، فالتقاليد والمفاهيم المتوارثة مرهونة حقاً باختيار العقل، وطبيعة الوعي، ولكنها تعكس ممارسات وطقوساً ومظاهر مختلفة تدرك في شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة.

ويخضع مجتمع الخليج العربي لنسق من المعايير والتقاليد والقواعد السلوكية التي تلح على حياة الأفراد وتنظم تفكيرهم وتجعلهم يشعرون بالحاجة لها لدعم علاقات التماسك الاجتماعي والروحي بين بعضهم البعض، وهذا المجتمع قبل إنتاج النفط والتغيير الاقتصادي لم يكن يختلف عن غيره من المجتمعات التقليدية، حيث ينطوي على ميراث هائل من الأعراف والتقاليد تشكلت على مدى قرون طويلة من الزمن، وتفاعلت مع عوامل البيئة السياسية والاقتصادية وكل ما أحاط بها من الظروف المادية الطبيعية والتأثير الحضاري بالثقافات الأخرى.

وهذا المجتمع كغيره من المجتمعات الإسلامية يرتد في قواعده السلوكية ونمط المعايير السائدة لديه إلى تفاعله مع الثقافة الدينية بجميع تياراتها في مختلف العصور، منذ العصر الإسلامي الأول وحتى فترة الانضواء تحت لواء الإمبراطورية العثمانية ثم التحرر منها للوقوع في قبضة الاستعمار البريطاني، لذلك فهو يحمل إرثا تراكمياً من تفاعله مع العصور الماضية سواء ما ساد فيها من مظاهر المحافظة والتزمت الشديد كـما أحـدثت ذلك

تركة العهد التركي أو ما ساد فيها من مظاهر إصلاحية سلفية كما أحدثت ذلك الدعوة الوهابية أو ما ساد فيها من آثار بعض الحركات كحركة الخوارج والقرامطة والزنج. ومجتمع الخليج العربي يرتبط بعاملين من عوامل الطبيعة - البحر والصحراء، فهو يتفاعل معهما باتساق وبما تمليه عوامل التأثر والتكيف، ويحمل المجتمع المعاصر في هذه المنطقة من شرقي الجزيرة العربية رواسب قبلية تتضح في شكل الحكم ونظام القرابة وأنماط الحياة داخل الأسرة والقبيلة وأشكال الزواج ونحو ذلك من المظاهر التي ترتكز على القواعد السلوكية الأولى التي نقلتها القبائل العربية في هجراتها المبكرة من قلب الجزيرة العربية إلى ساحل الخليج العربي . فالتركيب الديمجرافي له امتداد بعيد يرتبط بالصحراء وتكويناتها القبلية، وفضلاً عن ذلك فإن الكويت مثلاً (بحكم ظروفها الطبيعية والمناخية بلد صحراوي ولكن وقوعها ضمن شبه الجزيرة العربية على ساحل الخليج العربي .. هذا الموقع الجغرافي ربط البداوة الكويتية إلى عهد قريب جداً وقبل اكتشاف البترول عام 1938 وبداية استغلاله عام 1946 .. ربط البداوة الكويتية في هذه الفترة وإلى فترات قليلة بعدها بصفة أساسية بالبحر، وكل ما يتفرع عنه من صيد للسمك واللؤلؤ وبناء السفن الشراعية والتجارة . علاوة على اشتغال نسبة قليلة من بدو الكويت بالرعي ضاربين في داخل الصحراء الكويتية، ولو أنه نتيجة ارتباط البداوة بالبحر نجد أن جماعات كثيرة قد استقرت في أشكال حضرية صرفة، خصوصاً في الكويت العاصمة) (30) وقد حدث الشيء نفسه مع الأسر ذات الامتداد القبلي في البحرين، ومثل هذا التفاعل جمع لنا كثيراً من القواعد والقيم والتقاليد التي تعد حصيلة للبيئة في مناشطها الاقتصادية والسياسية.

وقد أصبح للقواعد السلوكية ومعاييرها ومفاهيمها احترام شديد، وتقديس كبير حيث أنها تتلقى دعامة وجودها الأساسي من عملية الإرث عن الآباء والأجداد والأعراف السائدة . فوق أنها في موقف التحدي الاستعماري تعد جذوراً للشخصية العربية تتشبث بها لتقاوم عوامل المسخ والإفناء الاستعماري، لذا تمكنت في المجتمع واحتلت مكانة كبيرة وبخاصة في نظام الأسرة والزواج، ووضع المرأة والعلاقات الاجتماعية.

والكثير من القواعد السلوكية والتقاليد التي تواضع المجتمع على احترامها تفرض وضعاً قهرياً بل إنها ترتد أحياناً إلى نظام المجتمعات التقليدية الممعنة في جهلها ورفضها لإمكانيات التكيف الحضاري . لذا فإنها بدأت خلال الربع الأول من هذا القرن تتعرض لأشكال التغير الاجتماعي، رغم أن المجتمع لا يزال يعيش مرحلة اقتصادية تقليدية . وهذا يرجع إلى حركات الإصلاح المبكرة وظهور التعليم .. فضلاً عن أن عملية التغير البنائي تحدث كثيراً ) من خلال الاستمرار الزمني، وتعاقب الأجيال المتمايزة في الظهور والاختفاء (31) ولعل هذا ما تؤكده نشأة القصة القصيرة في هذه الفترة، واهتمامها بمعالجة بعض القيم والتقاليد التي تخلف آثاراً سيئة في المجتمع.

وترجع معالجة القصة القصيرة في البحرين والكويت للموضوع الاجتماعي من خلال التقاليد والعادات التي يتمسك بها المجتمع إلى أول قصة قصيرة تكتب في الخليج العربي وهي قصة (منيرة) نشرها شاعر الخليج خالد الفرج في مجلة ) الكويت ( سنة 1928، وفي هذه القصة يرفض الكاتب بحدة شديدة التقاليد والخرافات التي تسيطر على بعض العقول الساذجة وتتملك إرادتهم فتوجههم وجهة متخلفة بعيدة عن العقل والمنطق، بل إنها تقودهم إلى نهاية يفتقدون فيها كرامتهم وحياتهم فيكونون حينئذ في موقف لا رجعة فيه.

ويصور الفرج ذلك من خلال بطلة القصة (منيرة) التي تكاد تكون نظيرة لزينب في قصة محمد حسين هيكل . فكما قادت أحكام المجتمع التقليدي، وتصاريفه في الريف المصري ( زينب) إلى الموت، كذلك نجد (منيرة) تنتهي إلى الموت بحكم ما وقعت فيه من تأثر بالخرافات وقواعد التقليد السيئة. ولعل المجال لا يسمح كثيراً بالمقارنة بين البطلتين إلا من وجهة إدانة (هيكل - والفرج) لمعايير المجتمع التقليدي المتخلف، فضلاً عن بعض الأمشاج الأخرى كالملامح الرومانسية البسيطة التي يسبغها الفرج على بطلته، والرجوع في إطلاق التسمية للقصة إلى المرأة (منيرة - زينب) إن ذلك ربما يشير إلى أن خالد الفرج قد احتذى بجوانب محددة وهيّنة في صياغة قصته القصيرة بصياغة محمد حسين هيكل لقصة ( زينب) .

ورغم الفترة المبكرة التي ألف فيها الفرج هذه القصة فإنها متميزة بكثير من السمات الفنية التي تجعل منه رائداً للقصة القصيرة في الخليج العربي، إذ أن شخصياته تمتاز بتماسكها الفني، وبوضوح ملامحها الشخصية من خلال جملة من المواقف التي يسوقها الكاتب في وحدة فنية، وفي ذلك سيتقدم الفرج من الناحية الفنية على بعض من الكتاب الذين تظهر القصة على أيديهم في فترة لاحقة . ومرد ذلك في الحقيقة إلى ثقافة خالد الفرج التي عنى بها منذ وقت مبكر، والتي استفاد فيها من كثرة أسفاره إلى بلاد الشام وبخاصة سوريا . حيث ارتبط بها فترة من الزمن . وهو بعد ذلك يجمع ثقافة الشاعر واندفاعه القوي في البحث عن الأساليب الجديدة في الشعر والأدب حتى أخرج ملحمة شعرية ) أحسن القصص (. فلا ريب بعد ذلك من أن تكشف ثقافته وقراءته في الأدب العربي عن اهتمام آخر في القصة النثرية لم يألفه غيره من المعاصرين له في الخليج العربي. إلى جانب طبيعة ما اختار من شخصية )امرأة( تبعد في مادتها الموضوعية عن الخطابية والمباشرة في أسلوبها، وما تتعرض له من ظلم إنساني خالص، له طاقاته الشعورية التي تتمركز في أحداث واقعية معاشة فيها تنوع وحيوية ليست - مثلاً - كأحداث البحر في نمطيتها وتشابهها.

ويقدم خالد الفرج هدفه الإصلاحي الواضح في معالجة التقاليد السيئة في المجتمع من خلال شخصيات القصة نفسها، فهي قريبة العهد (من حيث تاريخ نشرها) من الجهود الإصلاحية في الربع الأول من هذا القرن .. وهي الجهود التي أرادت أن تصلح في المعتقدات السائدة، وبخاصة المتصلة بالدين، وعلاقة الإنسان بربه، وكيفية التوجه إليه عندما تصيب المرء صائبة أو مشكلـة مرضيـة، وفي فترة هذه الجهود كان مجتمع الخليج العربي يؤمن بكثير من الخرافات، والترهات، والأباطيل التي حاربها المصلحون بقوة وأرادوا تثبيت القيم الدينية الصحيحة المرتبطة بكيان المجتمع، ولعل عبدالعزيز الرشيد أكثر من اهتم بدعـوة الإصـلاح هـذه، وبخـاصـة في مجـلـتـه ) الكـويـت (. فـالـموضوع الـذي طرحتـه قصـة (منيرة) أهاب بالفعل بالشيخ الرشيد لنشرها في مجلته معتداً متحمساً بما دعت إليه وعالجته من أمراض اجتماعية.

من أجل ذلك فإن معالجة الكاتب في هذه القصة للمشكلة الاجتماعية تتخذ لها وجهة إصلاحية، فالبيئة التي يصورها أحوج ما تكون إلى أن تطرح ما علق في معتقداتها من قيم زائفة ورثتها من العصور المختلفة . وهذه إحدى القيم التي تسيطر على بطلة القصة (منيرة) فهي تؤمن ببعض الخرافات التي لا يصدقها منطق العصر، من أن هناك وسطاء من البشر بينها وبين الله يمكن أن يعينوها على مشكلاتها وأمراضها، فهي لذلك تنبهر بأحاديث الإماء والعجائز، وحكايات الجان والشياطين، وكرامات الأولياء والصالحين وخوارق الزار وشعوذاته، وتضع على كل عضو من جسدها تعويذة أو حجاباً على الصدر والرأس .. منه حجاب عن العين وآخر عن الجان أو عن المحبة .. الخ .. وتعطي معظم وقتها لخياطة كسوة الولي مرزوق .. أو لتطرز علماً لمزار الشيخ محبوب. وتنفق على ذبائح الخضر والمزارات وحفلات الزار أضعاف ما تنفقه على جميع مرافق حياتها الأخرى.

ولأنهـا لـم تنجـب ولـداً مـن زوجهـا، فقـد وقعت معـه فـي شقـاق، فبينمـا ترجـع (منيرة) سبب عدم إنجابها إلى زوجها لأنه لا يؤمن بالكرامات والأولياء يشتاط الزوج من الغضب، ويرميها بالجهل، ويرى أنها السبب في عدم الإنجاب ويهجرها ولكنها في غيبته اعتمدت على ما عقدته العجوز الخرقاء )أم صالح ( من جلسات ولقاءات مع الدراويش، فنذرت النذور لعودة زوجها إلى حالته الأولى وانصاعت لما طلبته العجوز فأخذتها إلى مكان مجهول وسرقت منها حليها ومجوهراتها وتركتها بين المخاوف والقلق تنتظر الدرويش الأكبر، وحينئذ تكتشف ما وقعت فيه من خداع، فأخذت تصرخ، ولا يجيبها إلا الصدى وتركض نحو البحر لترمي بنفسها وتنتهي.

إن خالد الفرج في هذه القصة يستجيب للدعوة الاجتماعية المبكرة التي رافقت بواكير النهضة العربية، تلك الدعوة التي أرادت أن تصرف الأذهان عن المعتقدات البالية، المعوقة لنهضة البلاد . وهو بحكم ارتباطه بفكر الدعوة )الوهابية( يبدو أكثر قرباً إلى نزعتها القوية التي جاءت لتهدم كثيراً من المعتقدات والأباطيل التي علقت بأذهان المسلمين، كزيارة القبور، وإقامة النذور، وحلقات الذكر، والإيمان باستطلاع الغيب ونحو ذلك . لذا فإن الفرج يتجه إلى تعرية المجتمع فيما يدل عليه مثل هذا السلوك من جوانب قيمية تنخر في كيانه الداخلي، وتعرض علاقاته إلى التفكك، فيستقطب ذلك بإدارة مواقف القصة من خلال شخصية مركزية يمتثل فيها ما يريد أن يعريه أو يصلحه من عادات وتقاليد، فيلجأ إلى أسلوب المبالغة، والاستطراد في الجمل الوصفية التي تبرز ملامح شخصية (منيرة) وكأنه بتوغله في هذه الشخصية إنما يتوغل في صميم القيمة أو القاعدة السلوكية التي يريد أن ينفيها ويهدمها في المجتمع، فتكون (منيرة) بهذه المثابة، هي التجسيم الحقيقي لما يتواضع عليه المجتمع التقليدي في تلك الفترة من إيمان، ورضوخ للقوى الخارقة والمعتقدات المتخلفة.

ويسعف الكاتب في هذا التجسيم اللغة القوية التي تستعين بالألفاظ الشعرية تارة .. وبالجمل الخطابية البليغة تارة أخرى في سبيل ما تثيره لديه (منيرة) من معان ودلالات .. فهو يقول في بداية القصة :
(تلك القوة المجهولة الخارقة الكامنة بين ذرات المغناطيس تجذب إليها القطع العديدة من المعادن : أشبه شيء بذلك الجسم الذي يمثل الشباب الغض والجمال الكامل فيجذب إليه حبات القلوب ونظرات العيون تلك المجموعة الرائعة الجذابة مصوغة بصورة امرأة من البشر أطلق عليها أهلها اسم منيرة).

منيرة ؟ منيرة .. هي ما حاول الشاعر في غزله، ونسيبه، والمصور في ريشته، والنحات في أزميله، أن يعبروا عنه فعجزوا، وأتى الخالق القدير فأبرزه في جسم بشري اسمه منيرة، وإن في تدفق ماء الحياة في أسارير المحيا، وفي غضاضة الصبي وطراوة البشرة، وسحر العيون وبريقها الخاطف والابتسامة الحلوة، والقد في اعتداله وميلانه وتثنيه لمعاني سامية دقيقة تقصر دونها تعابير البشر، اللهم إلا إذا كان في الملائكة شعراء، وفنانون، فذلك ما لم نعلم عنه شيئاً بعد (32).

ثم يأتي الكاتب بمجموعة من الأوصاف السلوكية التي تضع (منيرة) في موضع عدم التقبل لها من قبل مجتمع يعيش دوراً إصلاحياً ناهضاً يرفض الجهل والانقياد للتخلف، ويمضي الكاتب في كل أجزاء القصة وهو يكشف لنا عن الجوانب السلبية في شخصية (منيرة) ، فهو كما رأينا يشتقها من وسط اجتماعي تنطبع فيه المظاهر المحلية للمجتمع التقليدي في الخليج العربي .. فهي أمية، جاهلة، سهلة الانقياد والتصديق، ومثل هذه السمات في شخصيتها تجعلها فريسة حقيقية للأوهام المضللة والعادات السلوكية الشاذة، إنها نموذج للمرأة في المجتمع التقليدي المتخلف . والرغبة الإصلاحية لدى الكاتب جعلته يتخير ملامحها الفنية كي تصور أكثر المظاهر شذوذاً في حياة المرأة، فهي :
(تضع على كل عضو فيها حلية، وتضيف إلى كل حلية عوذة، ففي أحد الدمالج عوذة، وفي الصدر دزينة من العوذ والحجب المختلفة والأحجام والمغازي وعلى الرأس وفي العضو وفي الخلاخل .. إلى ما شاء الله) (33).

وهي تفسر الأشياء وتسعى إلى حل المشاكل بمعتقداتها الشاذة فتقع في الوهم وتنقاد إلى التصرفات التي تسرف في أبعادها عن حقيقة ما هي عليه، مما يودي بحياتها بعد ذلك . وتأتي مشكلة عقمها وعدم إنجابها لتكون امتحاناً عسيراً لهذه الشخصية ولموقعها من الصراع والعقدة.

فالصورة الشاذة لبطلة القصة، جد بالغة ومهولة كما يرسمها خالد الفرج، وهي تنبئ عن أنه قد انفعل انفعالاً عميقاً بآثارها السيئة ومخلفاتها التي تطبعها على كيان الأسرة، ويكشف اهتمامه المطرد بالسلوك الخاص للبطلة بكل ما هو عليه من غرابة وشذوذ عن رغبته البعيدة في ضرورة تخليص المجتمع من هذه الأمراض والقيم الزائفة، وربما كانت إشارته الأولى في القصة التي وصفت (منيرة) بأنها امرأة جاهلة، نشأت في بيئة تحكي لها حكايات الجن والعفاريت، هو الجانب الذي يضيء دعوة الكاتب في إصلاح القيم والعادات عن طريق التعليم وإعمال العقل في معالجة الأمور.

وتأتي شخصية الزوج (عبدالقادر) ليكون جانباً موازياً في توضيح تلك الدعوة، فإذا كانت زوجته قد ركنت إلى الخرافات والأوهام في معالجة مشكلتها فإنه قد اكتسب رؤية منطقية. لأن التجارة علمته الاعتماد على المنطق والعقل، فهو نموذج من نماذج البرجوازية التي أعدها انفتاح المجتمع في تلك الفترة، والتي رفضت سيئات المجتمع وأمراضه الظاهرة حين وجدتها لا تتفق مع طموحها وحياتها المنطلقة الناهضة.

القسم الأول . الفصل الرابع 1

الموازنة بين الشكل الفني
للقصة والمعالجة الإصلاحية

لقد تمكنت القصة القصيرة ضمن هذا الاتجاه الاجتماعي أن توازن بين اصطفائها لموضوعات المجتمع البازغة، وطبيعة الأسلوب الفني وأدواته، التي جذبت كتابها وحددت قدراتهم وإمكانياتهم أيضاً، فهم لم يخرجوا عن دورهم الفني والتاريخي، إذ أنهم يقومون بوضع الأسس الفنية للقصة القصيرة - من ناحية - وإن لم يعلنوا ذلك أو يصرحوا به . وهم مشغولون أيضاً بمرحلة الانتقال الاجتماعي وما يجري فيها من تغير يصطحب معه كثيراً من المشاكل الملحة، التي تريد المعالجة والإصلاح.

ولابد لنا من أن نسجل أن هذه القصص التي عرضنا لها تقع فيها كثير من مظاهر الضعف والتجاوز للأصول الفنية في الوقت الذي قد نعثر على بعض القصص التي تحمل خصائص فنية جيدة . ومرد هذا الاضطراب إلى أن معظم القصص السابقة تشكل البداية في ظهور فن القصة القصيرة، وربما شكلت بداية التجربة لكل كاتب أيضاً كخالد الفرج والدويري والقطامي ... والبداية لا بد أن تصاحبها مظاهر اضطراب وعوامل ضعف وبخاصة إذا كانت في فن جديد لا يجد الكاتب فيه تقاليد ماضية يمكن أن يستمد منها تجربته عن قرب وتراكم ومعايشة.

وفوق ذلك فإن الكتاب الذين عرضنا لهم يغلب عليهم الاهتمام بالدور الإصلاحي أكثر من الاهتمام بهاجس شروط القصة الفنية وتأصيل قواعدها ونستثني من بينهم فهد الدويري الذي يواصل فيما بعد تجربته السابقة بما يشـير إلى وعـيه وإدراكه المبـكر لضـرورة خلق القصة الفنية المتطورة،

في حين لم يساور مثل هذا الإدراك كاتباً مثل القطامي أو خالد خلف أو غيرهما، بل ظلوا تحت تأثير النزعة الإصلاحية وأهدافها الواضحة في تهذيب المفاهيم والقيم السائدة.

وأياً ما كان الأمر فإن القصة الاجتماعية وهي تنزع بقوة نحو المعالجة الإصلاحية، لابد أن تواجه صعوبة الاختيار الذي وقعت فيه بدايات القصة القصيرة في الخليج العربي فمثل هذه المواجهة تذخر في صميمها أحياناً إمكانية التجاوز والنمو.

ولعل أكثر ما زجت إليه الرؤية الإصلاحية الغالبة في القصة القصيرة هو استغراق الكاتب مع أكثر أساليب العرض والسرد اتصالاً بالقارئ، كي تحقق من ذلك جواً قريباً منه، مألوفاً لديه ... فهي تريد أن تلقن الفكرة التعليمية .. أو تصحـح القيمـة الأخلاقيـة، أو تنفي العادة السيئة، أو تنتزع مفهوماً شاذاً وشائعـاً ... والكتاب إزاء ذلك يشعرون بضرورة الاقتراب من القارئ فيصطنعون هذا الاقتراب بشتى السبل، فهم يلجأون إلى إيجاد الراوي الذي يقوم بعرض المواقف بصوته المباشر . ويكون هذا الراوية إما مشاركاً في الحدث وبطلاً فيه كما في ) مذكرات بحار ( أو ) يوميات بحار ( لجاسم القطامي، أو يأتي خارجاً عن الحدث في هيئة صديق يستنطقه الكاتب فيقوم مقام الراويـة كمـا فـي قصـة ) من الواقع ( لفهد الدويري و ) نهاية بحار ( للقطامي ... أو أن يدخل الراوية في ثوب الكاتب نفسه، فيتحول إلى ضمير المتكلم وينساب العرض في سياقه كما ينساب من الرواية، إذ أن الكاتب لا يخفي تدخله المباشر واتصاله بالحدث بين آونة وأخرى، وهذا ما وجدناه في معظم القصص السابقة تقريباً . وتنفرد قصة ) المهندس ( للدويري بأسلوب الرسالة .. حيث يأتي العرض فيها موجهاً في رسالة تبدأ ببداية القصة وتنتهي بها أيضاً وهذه لا تختلف عن غيرها ... إذ أن كل القصص أعطت شأناً واضحاً لعملية العرض المتصل بالقارئ، وذلك يتيح للكاتب أن يسوق أفكاره مباشرة فيضمن لها التأثير والوضوح.

ويأتي اختيار الحدث أو الموقف القصصي في معظم القصص السابقة لكي يوفر للكاتب الإمكانية الكاملة في رصد فكرته التعليمية .. ولأن بعض تلك القصص حاولت أن تقترب من مشاكل التغير الجديد بعد إنتاج النفط فقد عنيت فعلاً بإقامة المواقف التي تنفصم أمام القارئ بحدث من أحداث التحول والتبدل والمفاجأة، كأن يعرض القطامي في قصة ) هذا جناه عليّ أبي ( لكساد تجارة اللؤلؤ الذي ينتهي إليه مصير شخصية القصة، أو كأن يصور فهد الدويري التحولات المفاجئة والمتسعة، كانتهاء الشخصية إلى الفقر والعوز بعد الغنى في قصة ) صك الكرامة ( أو انتهائها إلى الغنى والثروة بعد الفقر والمذلة في )صانع المتاعب( و ) زكاة (. وفي كل ذلك يكون المجال رحباً لمعاينة الآثار الاجتماعية، واستجلاء ملامحها البارزة التي يراد لها الإصلاح، فالأحداث الكبيرة عند القطامي وخالد خلف تصور الأثر البالغ في المشكلة الاجتماعية وهذا ما يجعلها أكثر تمثلاً لدى القارئ.

أما عند الدويري فهي غالباً ما تكون بمثابة الامتحان العسير للشخصية ولثبات القيمة الأخلاقية والسلوكية، وكذلك الأمر مع النهاية التي تضع أمامنا مصائر من قبيل الموت، أو الفقد والخسران والشقاء ونحوه، فهذه من شأنها أن تقوم بدور تقويمي، وبخاصة عن طريق لفت الأنظار إلى أسباب المشكلة الاجتماعية أو العادة السيئة.

ومع سيطرة العرض في القصة وتزايد مواقع اقتحام الكاتب وتضخم آثارها المباشرة، وتوسع دائرة الحدث وانسكاب مواقفه المتعددة، تفتقد الشخصية الفنية وجودها في القصة الاجتماعية القصيرة وبخاصة فيما عرضنا له من نماذج، ويصبح بناء هذه الشخصية ضعيفاً ومضطرباً لأن الكاتب لا يوفر لها جانباً من التحليل النفسي، ولا يحركها ضمن واقع فني ينطوي على إعداد وخلق دقيقين، ويساعد على ذلك أن الكاتب لا يصوغ فكرته الإصلاحية في نظرة شخصياته إلى المجتمع والحياة ... وإنما يصوغها بعيداً عن تلك الشخصيات وفي ضوء نظرته هو والمحددة بوازعه الإصلاحي فتأتي فارغة من تلك النظرة الشاملة والمستقلة عن صوته وموقعه.

ولا شك أن لجوء كثير من الكتاب إلى المواقف الجاهزة أو صياغة المشاكل التي حدثت بالفعل في المجتمع، له دور كبير في تفريغ الشخصية وتجريدها من موقعها الفني الخاص في بناء القصة القصيرة ... فهناك كثير من القصص التي أشار كتابها إلى علاقة أحداثها بالواقع عن طريق حدوثها فيه بالفعل، وتحققها في شخصيات موجودة، كقصص ( من الواقع، صك الكرامة، إنسانية، هذا جناه عليّ أبي، وغيرها) وفي الوقت الذي تحتفل القصة الاجتماعية بعنصر )الحدوثة( يكون منهجها الوصفي واعتماد بعض نهاياتها على ) لحظة التنوير ( عاملاً في التخفيف من غلواء التعليم والمعالجة الإصلاحية.

إن لفكرة الإصلاح أثرها في بناء القصص ذات المعالجات التعليمية المباشرة فضلاً عن أثرها في المحتوى أو في الصياغة الأسلوبية للقصة، فقد خلقت تلك الفكرة ثنائية واضحة للشخصيات تقوم بين عنصري الخير والشر بحيث تكون الشخصية المنظور إليها نمطاً لأحد هذين العنصرين . وقد تجمع القصة الواحدة العنصرين معاً في صورة متقابلة، كما في قصة ) صانع المتاعب ( للدويري وقصة ) منيرة ( لخالد الفرج ونحوهما .. ومرد حرص كتاب القصة الاجتماعية على ذلك إلى اهتمامهم بالعنصر الأخلاقي في الأدب، هذا العنصر الذي ينبع كما يقول توماس مان : ) من فكرة الخير، وهي فكرة لها مكانها الطبيعي في مجالي الجمال والأخلاق على السواء ((41).

وينعكس ذلك الطبع على صياغة الأحداث وسياقها الذي تنتهي كما رأينا فيما سبق إلى تدبيج المغزى الأخلاقي بصورة مباشرة ... فجاءت النهايات نتائج وعبراً ملموسة تبلغ ذروة انحرافها عن الأسلوب الفني للقصة في قصص جاسم القطامي وبعض قصص الدويري حيث تتوجه للقارئ مباشرة تدعوه للاتعاظ والتوقف واصطفاء الفكرة الإصلاحية.

على أن هذه الملامح والسمات الفنية في القصة القصيرة، التي خضعت لفكر الدور الإصلاحي، لا تظل فترة طويلة، ولا تتوغل كثيراً في تجارب الكتاب، فالمجتمع في شتى البنى القائمة فيه يتعرض إلى التغير السريع، ولابد من ملاحقة مظاهر هذا التغير ومتابعة انعكاساته في الحقل الثقافي أيضاً، وهو يزداد توجهاً واحتضاناً لمد الثقافة العربية فيكتسب الاتصال الوثيق بنمو القصة العربية أهمية خاصة في تصحيح المفاهيم وتغذية السمات الفنية السابقة، وإثرائها من جديد.

لذلك تواجه القصة الاجتماعية القصيرة ذات الرؤية الإصلاحية بعض التحولات الفنية التي تحتاج إليها طبيعة الإبداع في فن القصة القصيرة . ومن هنا تبدأ في التخلي عن كثير من سمات الأسلوب المباشر الذي يقتحم به الكاتب سير الحدث القصصي، كما تبدأ في الظهور ملامح للشخصية الفنية في القصة القصيرة تقوم بتجسيد الفكرة التعليمية في السياق القصصي العام . ويبدأ عنصرا الخير والشر يعملان داخل الشخصية مع عدم نجاتها من الخطابية ووضوح الفكرة الإصلاحية وسيطرتها . وسيبدو لنا كل ذلك من خلال وضوح صورة المرأة في القصة الاجتماعية.