القسم الأول . الفصل الرابع 1

الموازنة بين الشكل الفني
للقصة والمعالجة الإصلاحية

لقد تمكنت القصة القصيرة ضمن هذا الاتجاه الاجتماعي أن توازن بين اصطفائها لموضوعات المجتمع البازغة، وطبيعة الأسلوب الفني وأدواته، التي جذبت كتابها وحددت قدراتهم وإمكانياتهم أيضاً، فهم لم يخرجوا عن دورهم الفني والتاريخي، إذ أنهم يقومون بوضع الأسس الفنية للقصة القصيرة - من ناحية - وإن لم يعلنوا ذلك أو يصرحوا به . وهم مشغولون أيضاً بمرحلة الانتقال الاجتماعي وما يجري فيها من تغير يصطحب معه كثيراً من المشاكل الملحة، التي تريد المعالجة والإصلاح.

ولابد لنا من أن نسجل أن هذه القصص التي عرضنا لها تقع فيها كثير من مظاهر الضعف والتجاوز للأصول الفنية في الوقت الذي قد نعثر على بعض القصص التي تحمل خصائص فنية جيدة . ومرد هذا الاضطراب إلى أن معظم القصص السابقة تشكل البداية في ظهور فن القصة القصيرة، وربما شكلت بداية التجربة لكل كاتب أيضاً كخالد الفرج والدويري والقطامي ... والبداية لا بد أن تصاحبها مظاهر اضطراب وعوامل ضعف وبخاصة إذا كانت في فن جديد لا يجد الكاتب فيه تقاليد ماضية يمكن أن يستمد منها تجربته عن قرب وتراكم ومعايشة.

وفوق ذلك فإن الكتاب الذين عرضنا لهم يغلب عليهم الاهتمام بالدور الإصلاحي أكثر من الاهتمام بهاجس شروط القصة الفنية وتأصيل قواعدها ونستثني من بينهم فهد الدويري الذي يواصل فيما بعد تجربته السابقة بما يشـير إلى وعـيه وإدراكه المبـكر لضـرورة خلق القصة الفنية المتطورة،

في حين لم يساور مثل هذا الإدراك كاتباً مثل القطامي أو خالد خلف أو غيرهما، بل ظلوا تحت تأثير النزعة الإصلاحية وأهدافها الواضحة في تهذيب المفاهيم والقيم السائدة.

وأياً ما كان الأمر فإن القصة الاجتماعية وهي تنزع بقوة نحو المعالجة الإصلاحية، لابد أن تواجه صعوبة الاختيار الذي وقعت فيه بدايات القصة القصيرة في الخليج العربي فمثل هذه المواجهة تذخر في صميمها أحياناً إمكانية التجاوز والنمو.

ولعل أكثر ما زجت إليه الرؤية الإصلاحية الغالبة في القصة القصيرة هو استغراق الكاتب مع أكثر أساليب العرض والسرد اتصالاً بالقارئ، كي تحقق من ذلك جواً قريباً منه، مألوفاً لديه ... فهي تريد أن تلقن الفكرة التعليمية .. أو تصحـح القيمـة الأخلاقيـة، أو تنفي العادة السيئة، أو تنتزع مفهوماً شاذاً وشائعـاً ... والكتاب إزاء ذلك يشعرون بضرورة الاقتراب من القارئ فيصطنعون هذا الاقتراب بشتى السبل، فهم يلجأون إلى إيجاد الراوي الذي يقوم بعرض المواقف بصوته المباشر . ويكون هذا الراوية إما مشاركاً في الحدث وبطلاً فيه كما في ) مذكرات بحار ( أو ) يوميات بحار ( لجاسم القطامي، أو يأتي خارجاً عن الحدث في هيئة صديق يستنطقه الكاتب فيقوم مقام الراويـة كمـا فـي قصـة ) من الواقع ( لفهد الدويري و ) نهاية بحار ( للقطامي ... أو أن يدخل الراوية في ثوب الكاتب نفسه، فيتحول إلى ضمير المتكلم وينساب العرض في سياقه كما ينساب من الرواية، إذ أن الكاتب لا يخفي تدخله المباشر واتصاله بالحدث بين آونة وأخرى، وهذا ما وجدناه في معظم القصص السابقة تقريباً . وتنفرد قصة ) المهندس ( للدويري بأسلوب الرسالة .. حيث يأتي العرض فيها موجهاً في رسالة تبدأ ببداية القصة وتنتهي بها أيضاً وهذه لا تختلف عن غيرها ... إذ أن كل القصص أعطت شأناً واضحاً لعملية العرض المتصل بالقارئ، وذلك يتيح للكاتب أن يسوق أفكاره مباشرة فيضمن لها التأثير والوضوح.

ويأتي اختيار الحدث أو الموقف القصصي في معظم القصص السابقة لكي يوفر للكاتب الإمكانية الكاملة في رصد فكرته التعليمية .. ولأن بعض تلك القصص حاولت أن تقترب من مشاكل التغير الجديد بعد إنتاج النفط فقد عنيت فعلاً بإقامة المواقف التي تنفصم أمام القارئ بحدث من أحداث التحول والتبدل والمفاجأة، كأن يعرض القطامي في قصة ) هذا جناه عليّ أبي ( لكساد تجارة اللؤلؤ الذي ينتهي إليه مصير شخصية القصة، أو كأن يصور فهد الدويري التحولات المفاجئة والمتسعة، كانتهاء الشخصية إلى الفقر والعوز بعد الغنى في قصة ) صك الكرامة ( أو انتهائها إلى الغنى والثروة بعد الفقر والمذلة في )صانع المتاعب( و ) زكاة (. وفي كل ذلك يكون المجال رحباً لمعاينة الآثار الاجتماعية، واستجلاء ملامحها البارزة التي يراد لها الإصلاح، فالأحداث الكبيرة عند القطامي وخالد خلف تصور الأثر البالغ في المشكلة الاجتماعية وهذا ما يجعلها أكثر تمثلاً لدى القارئ.

أما عند الدويري فهي غالباً ما تكون بمثابة الامتحان العسير للشخصية ولثبات القيمة الأخلاقية والسلوكية، وكذلك الأمر مع النهاية التي تضع أمامنا مصائر من قبيل الموت، أو الفقد والخسران والشقاء ونحوه، فهذه من شأنها أن تقوم بدور تقويمي، وبخاصة عن طريق لفت الأنظار إلى أسباب المشكلة الاجتماعية أو العادة السيئة.

ومع سيطرة العرض في القصة وتزايد مواقع اقتحام الكاتب وتضخم آثارها المباشرة، وتوسع دائرة الحدث وانسكاب مواقفه المتعددة، تفتقد الشخصية الفنية وجودها في القصة الاجتماعية القصيرة وبخاصة فيما عرضنا له من نماذج، ويصبح بناء هذه الشخصية ضعيفاً ومضطرباً لأن الكاتب لا يوفر لها جانباً من التحليل النفسي، ولا يحركها ضمن واقع فني ينطوي على إعداد وخلق دقيقين، ويساعد على ذلك أن الكاتب لا يصوغ فكرته الإصلاحية في نظرة شخصياته إلى المجتمع والحياة ... وإنما يصوغها بعيداً عن تلك الشخصيات وفي ضوء نظرته هو والمحددة بوازعه الإصلاحي فتأتي فارغة من تلك النظرة الشاملة والمستقلة عن صوته وموقعه.

ولا شك أن لجوء كثير من الكتاب إلى المواقف الجاهزة أو صياغة المشاكل التي حدثت بالفعل في المجتمع، له دور كبير في تفريغ الشخصية وتجريدها من موقعها الفني الخاص في بناء القصة القصيرة ... فهناك كثير من القصص التي أشار كتابها إلى علاقة أحداثها بالواقع عن طريق حدوثها فيه بالفعل، وتحققها في شخصيات موجودة، كقصص ( من الواقع، صك الكرامة، إنسانية، هذا جناه عليّ أبي، وغيرها) وفي الوقت الذي تحتفل القصة الاجتماعية بعنصر )الحدوثة( يكون منهجها الوصفي واعتماد بعض نهاياتها على ) لحظة التنوير ( عاملاً في التخفيف من غلواء التعليم والمعالجة الإصلاحية.

إن لفكرة الإصلاح أثرها في بناء القصص ذات المعالجات التعليمية المباشرة فضلاً عن أثرها في المحتوى أو في الصياغة الأسلوبية للقصة، فقد خلقت تلك الفكرة ثنائية واضحة للشخصيات تقوم بين عنصري الخير والشر بحيث تكون الشخصية المنظور إليها نمطاً لأحد هذين العنصرين . وقد تجمع القصة الواحدة العنصرين معاً في صورة متقابلة، كما في قصة ) صانع المتاعب ( للدويري وقصة ) منيرة ( لخالد الفرج ونحوهما .. ومرد حرص كتاب القصة الاجتماعية على ذلك إلى اهتمامهم بالعنصر الأخلاقي في الأدب، هذا العنصر الذي ينبع كما يقول توماس مان : ) من فكرة الخير، وهي فكرة لها مكانها الطبيعي في مجالي الجمال والأخلاق على السواء ((41).

وينعكس ذلك الطبع على صياغة الأحداث وسياقها الذي تنتهي كما رأينا فيما سبق إلى تدبيج المغزى الأخلاقي بصورة مباشرة ... فجاءت النهايات نتائج وعبراً ملموسة تبلغ ذروة انحرافها عن الأسلوب الفني للقصة في قصص جاسم القطامي وبعض قصص الدويري حيث تتوجه للقارئ مباشرة تدعوه للاتعاظ والتوقف واصطفاء الفكرة الإصلاحية.

على أن هذه الملامح والسمات الفنية في القصة القصيرة، التي خضعت لفكر الدور الإصلاحي، لا تظل فترة طويلة، ولا تتوغل كثيراً في تجارب الكتاب، فالمجتمع في شتى البنى القائمة فيه يتعرض إلى التغير السريع، ولابد من ملاحقة مظاهر هذا التغير ومتابعة انعكاساته في الحقل الثقافي أيضاً، وهو يزداد توجهاً واحتضاناً لمد الثقافة العربية فيكتسب الاتصال الوثيق بنمو القصة العربية أهمية خاصة في تصحيح المفاهيم وتغذية السمات الفنية السابقة، وإثرائها من جديد.

لذلك تواجه القصة الاجتماعية القصيرة ذات الرؤية الإصلاحية بعض التحولات الفنية التي تحتاج إليها طبيعة الإبداع في فن القصة القصيرة . ومن هنا تبدأ في التخلي عن كثير من سمات الأسلوب المباشر الذي يقتحم به الكاتب سير الحدث القصصي، كما تبدأ في الظهور ملامح للشخصية الفنية في القصة القصيرة تقوم بتجسيد الفكرة التعليمية في السياق القصصي العام . ويبدأ عنصرا الخير والشر يعملان داخل الشخصية مع عدم نجاتها من الخطابية ووضوح الفكرة الإصلاحية وسيطرتها . وسيبدو لنا كل ذلك من خلال وضوح صورة المرأة في القصة الاجتماعية.