القسم الأول . الفصل السادس 1

بواكير القصة الواقعية القصيرة

الواقع والواقعية
السائدة عند كتاب القصة القصيرة

ليس من المغالاة القول بأن الكثير مما نقرؤه ونتوهم أنه يبتعد بعداً شديداً عن الواقعية، إنما هو يرتبط بوشائج قوية مع كثير من منطلقاتها ووسائلها الفنية، إذ أن الواقعية ليست أسلوباً واحداً من بين أساليب أخرى، إنها أساس الأدب، وكل الأساليب ) حتى تلك الأساليب التي تبدو متعارضة أشد التعارض مع الواقعية ) (1) تنشأ منها أو ترتبط بها ارتباطاً له دلالته .

من أجل ذلك نذهب إلى أنه ليس من قبيل التوسع في استيعاب معنى الواقعية أن تحتوي - في نظرنا - النماذج العديدة من القصة القصيرة التي توخت المعالجة الإصلاحية مع الموضوع الاجتماعي، أو آثرت التوجه الرومانسي، سواء ما كان منها مغالياً مسرفاً في هذا التوجه، أو ما كان منها متخففاً بعض الشيء من أساليبها . والقصص التي عرضنا لها تتضمن بعض أصول الواقعية، لأنها حاولت أن تعبر عن أهداف واضحة، ومواقف معينة من المجتمع ومن القوانين السائدة فيه، وتوغلت - أيضاً - في كثير من الوسائل الفنية كي توائم بين أغراضها ومواقفها وبين تجربتها الفنية، وربما كان من الطبيعي أن تتخبط مع تجربة ( الموائمة) هذه فترتد إلى الأشكال الساذجة، أو المتبسطة في تجميع عناصر الأسلوب القصصي وقيامها، ولكن رغم ذلك فإن القصة الاجتماعية، والقصة الرومانسية لم تكن بمنأى عن بعض سمات الواقعية، إذ أن الواقع لم يكن غائباً بل إنها تنطلق منه، ومن مشاكله وقضاياه، فهي بالضرورة لا بد أن تحتفظ بشيء من معطيات الواقعية وهي تتبع مشاكل المجتمع وتصور مظاهره البائسة .

وقد دفع هذا التتبع الذي انصبت عليه كثير من جهود كتاب القصة القصيرة، إلى الاهتمام بالتفاصيل . ويمكن إرجاع ذلك إلى أول قصة قصيرة كتبت في الخليج العربي وهي قصة (منيرة) لخالد الفرج، كما يمكن إرجاعها إلى الكثير من القصص التي تعرضنا لها فيما سبق . ولكن تظل بعض التفاصيل الواقعية ملفقة بسبب ما يسيطر على الكتاب من نزعات مختلفة الشدة سواء كانت ميلودرامية مفتعلة أو عاطفية متوترة .

ولا شك أن التفاصل الواقعية قد تؤدي فعلاً إلى خلق الأسلوب الواقعي إذا أدرك الكاتب لها وظيفة تسجيلية، أو تحليلية تسفر في النهاية عن شكلها الفني الذي تصوغه عناصر الاختيار، والاصطفاء، والرصد، بيد أن القصة الاجتماعية والقصة الرومانسية في هذه الفترة لم تتمكن من إدراك ذلك . وظلت معرفة كتابها بوظيفة التفاصيل ودورها الفني، محدودة بميولهم وأغراضهم التي يؤثرون التوصل إليها قبل أي شيء آخر، وإن جاء على حساب الشكل القصصي.

لقد ظلت التفاصيل الواقعية في القصة الاجتماعية التي توخت المعالجة الإصلاحية رتيبة، غير قادرة على استبطان الأعماق الداخلية للشخصيات، حتى باتت تتحرك غالباً بمعزل عن واقع التفاصيل . أما القصة الرومانسية فقد كانت تفاصيلها الواقعية تتحرك مع حركة العواطف الذاتية للكاتب، فهو تارة يغفلها وتارة يركن إليها كثيراً في خلق الأجواء المثيرة والمفجرة للعواطف والمشاعر، وهي غالباً ما تدّخر وراء هذه التفاصيل مفاجأة جديدة أو توجساً بازغاً في الشعور والوجدان. وكذلك الأمر مع المعالجة الكلية للواقع الاجتماعي، التي قد تنم عن معنى من معاني الارتباط بهذا الواقع، في حين أنها لا تنظر إليه أو ترصده برؤية واقعية، تعمل في سبيلها وسائل فنية قرينة بالأسلوب الواقعي، ومتضمنة أهدافه الفنية والفكرية .

ومن هنا فإن سمات العمل الواقعي في القصة الاجتماعية والقصة الرومانسية لم تكن موظفة توظيفاً فنياً يرقى إلى تشكيل أسس سليمة تجنح إلى الواقعية الفنية، ذلك أنها تستخدم غالباً في إطار مستقل أو جزئي تتبلور منه سمة واقعية معينة ولكنها في إطار الوحدة العضوية للعمل الفني تبدو من غير أثر يذكر .

على أن كثيراً من السمات الواقعية التي لم يتح لها أن تصاغ صياغة فنية، تحليلية تظل في قبضة كتاب هذه الفترة بمثابة النواة التي تخمرت في الأذهان، حتى أتيح لها فيما بعد أن تتأصل في بعض المحاولات القصصية الجادة، وربما تأثرت النزعة إلى الواقع بالمعترك الدائر بين الرومانسية والواقعية في الأدب العربي الحديث في أقطار أخرى حيث كانت سنوات الأربعينات والخمسينات تعد مرحلة حاسمة في الصراع بين الاتجاهين، ولا شك أن فكرة تحديث مجتمع الخليج العربي، ونقله من حالة التخلف، وتحريره من قيود المحافظة والتقاليد، تعد أهدافاً حيوية لدى الرعيل الأول من كتاب القصة، وأهداف التحديث والتطوير، تحتاج إلى الفكر الواقعي والنظرة العلمية أكثر مما تحتاج إلى شيء آخر، لذا فقد كان على الكتاب الذين عاصروا سنوات الصراع بين الرومانسية والواقعية، أن يميلوا إلى تتبع الأعمال الواقعية، وأن يترسموا خطاها في معالجة قضايا المجتمع الذي يمر بمرحلة تغير خطيرة بعيدة المدى، من حيث آثارها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وهذا ما خلق لدى كتاب القصة القصيرة نزعة ظاهرية تتجه نحو تصوير الواقع، في حين تتلبَّد وراءها رواسب البداية لفن مستحدث ليست له تقاليد في وجدان المجتمع وفي تاريخه . وظلت رواسب الدور الإصلاحي الناهض، ورواسب القلق والنكوص أمام انهيار الواقع وترنحه من أثر الاصطدام بالتخلف وبسيطرة الأنظمة السياسية كل ذلك بات يشكل عوامل حقيقية أبعدت معظم كتاب القصة القصيرة في هذه الفترة عن التوصل إلى جذور الواقعية الفنية.

ولكن رغم ذلك فإن تلك النزعة الظاهرية تعبر عن هاجس المرحلة التاريخية. تلك المرحلة التي كانت تضع اعتباراتها الفنية دون شك ضمن واقع النشأة لفن القصة القصيرة، وما يرافقها عادة من مظاهر الاضطراب والتقبل للمفاهيم الشائعة، وإن كانت روابطها بطبيعة الخلق الفني ضعيفة، أو قليلة الشأن.

وندرك حدود الهاجس في النزعة إلى الواقع، كما أسفرت عنه قصص الاتجاه الاجتماعي في إصرار معظم الكتاب على أن حوادث قصصهم ذات صلة حميمة بالواقع الاجتماعي، وأنهم إنما يصورون هذا الواقع . فقد كثرت لديهم أمثال هذه العبارات التي يصدرون بها القصص ( من صميم الواقع، من المجتمع، من مآسي الحياة، من القصص الواقعي، من عدسة الحياة التائهة، من قصصنا الشعبي ونحوها...) (2) ومثل هذه العبارات تشير إلى الجانب الفوتوغرافي في صياغة القصة القصيرة، دون شك، إذ أن الاتصال بالواقع هنا لم يكن قائماً على أسس نظرية ومواقف فكرية من القضايا العامة، بل كان قائماً على التقاط المشاكل الجاهزة التي يكون من السهل على الكاتب أن يتناولها ويلاحق نماذجها البشرية . وهناك عدد من كتاب القصة القصيرة يستهدفون هذه الفكرة بصورة مباشرة في إشاراتهم التي يذكرونها بين يدي القارئ في مقدمة القصة، وكأنهم يريدون أن يؤكدوا لنا ارتباطهم بالواقع الاجتماعي أو بواقع النماذج التي يصورونها (3).

لقد سيطر على كتاب القصة الاجتماعية والقصة الرومانسية، أن ما يكتبونه ينتمي إلى الواقعية، ويرجع ذلك إلى المفهوم الذي يوجه صياغة القصة القصيرة لديهم، ويقرر لهم أن ما يكتبونه واقعي. فهم يفترضون أن تسجيل الواقع أو صياغة بعض الأحداث التي وقعت في حياة أحد النماذج البشرية، يفترضون ذلك معياراً للواقعية التي ينزعون إليها، وهذا ما جعل القصة لديهم لا تسلم من التخبط والاضطراب الشديد . ونجد كاتباً مثل فهد الدويري يصطنع في قصصه الأولى عملية الارتباط بالواقع اصطناعاً شديداً، كاد أن يودي بموهبته في هذا الفن، فهو مثلاً لا يجد حرجاً في أن يقدم لقصصه بعض التقديمات النظرية الساذجة التي يريد أن يكتسب منها تعاطف القارئ مع صدقه الواقعي، وقد وجدناه في قصة (صانع المتاعب) يقيم حواراً بين راوي القصة وآخر . يقول فيه الراوي :
(تسألني متى حدثت وقائع هذه القصة ؟ حسناً، إني لا أعلم متى حدثت يا سيدي، ولو لم أكن أقتطف ما أقصه عليك من صلب الواقع ولب الحقيقة لحددت لك تاريخها باليوم والشهر والسنة كما يفعل كتاب القصة الذين يختلقون قصصهم اختلاقاً، يلفقون الوقائع، وتاريخ وقوعها ليوهموا القراء بأنها حقيقة واقعة.. ماذا ؟ أسمعك تتهمني بالحسد لأنني لا أستطيع مجاراة كتاب القصص، فأتصور الحوادث تصوراً، وأتخيلها من الوهم، ولكن من قال لك أني أزعم ذلك ؟ إن حياتي يا سيدي أقصر من حبل الـيـأس وأضـيـق من حـيلـة الـمـكـروب . إنـهـا قـصـة حـدثـت وكفى) (4).

وقد ذكر الدويري شيئاً من هذا القبيل في تقديمه لقصة (من الواقع) وفي كل ذلك يؤكد لنا المفهوم الضيق للواقعية الذي كان يحاصره محاصرة شديدة لم يستطع الفكاك منه إلا في أواخر ما كتب، فارتباطه بالنزعة الواقعية يقوم أساسـاً على حكايـة ما حدث فـوق سطـح الـواقـع . وتبـدو عبارتـه ( إنها قصة حدثـت وكفـى )، حجـة واهيـة، وغير مقنعة من الوجهـة الفنيــة بمـا تنطــوي علـيــه من جوانب تحرر الارتباط بالـواقـع، عـبر الالتقـاط والتسجـيـل لمشاكلـه الجاهـزة فقـط.

وفي هذا السياق نجد ظاهرة أخرى تلفت انتباهنا حول ملامح ممارسة النزعة إلى الواقع لدى كتاب القصة القصيرة، فقد وجدنا صحيفة (الخميلة) التي صدرت في البحرين خلال السنوات الأولى من الخمسينات تنظم مسابقة أدبية في القصة القصيرة أطلقت عليها ) مسابقة الخميلة للقصة الواقعية) (5).

وتنطوي صفة المسابقة رغم غرابتها على هاجس يهدف إلى خلق القصة الواقعية، ولكن هذا ما يبدو لنا من الوهلة الأولى، فما تثيره التسمية المجردة بعيد عن التمثل الحقيقي لمفهوم الواقعية في القصة، فنحن حين نطلع على القصة الفائزة بالجائزة الأولى في هذه المسابقة، التي جاءت بعنوان (قصة حياتي ) (6) نجد إلى أي مدى كان الإسراف الشديد في إطلاق هذا العنوان .

ومن قراءة القصة يمكن أن ندرك اضطراب المفهوم الواقعي الذي كان يسيطر على أصحاب الجريدة، فالقصة رغم أنها قد حازت على التزكية في مسابقة للقصة الواقعية فهي من أضعف القصص التي نشرت خلال هذه الفترة، وأبعدها عن الفن، وأول ما يصدم القارئ فيها هو أسلوبها التقريري المباشر الذي يواجهنا به الكاتب في وضوح تام، فيجعلنا أمام لغة سردية جافة لمجموعة من الأحداث الماضية، والذكريات المؤلمة لأسرة فقيرة، ويبدو أن الكاتب فرد من هذه الأسرة . لأنه يبدأ فيشكر إدارة الجريدة (حيث فتحت الباب لمن يرغب في تخفيـف آلامـه، وأن يبـوح بما يختزنه من أسـرار، ربمـا تكـون قـد ضايقتـه سنيناً .. ) . ثم يعرض آلام هذه الأسرة، فهو قد ولد ونشأ فقيراً، كما نشأ والده يتيماً في بيت من السعف عاش فيه مع أخواته فترة طويلة، ثم فوجئوا بمدّع يستخرج لهم ورقة رسمية تثبت ملكيته للبيت . ويذهب إلى المدرسة بعد أن يستقروا في منزل آخر، وعندما قدم امتحان الثانوية لم تعده المدرسة ناجحاً لأنه لم يدفع رسماً كاملاً. وبدأت الأيام تجدب عليهم، فخرج من المدرسة إلى العمل مع غنيّ ما لبث أن طرده، واشتغل في شركة النفط (بابكو ) فوجد العمل فيها مهيناً مذلاًَ، ثم ترك العمل وسافر إلى الكويت، ثم إلى قطر وعمل فيها براتب مرتفع، وكان لديه أخ أكبر منه، تزوج ومال إلى الاستقرار وتمكن من النجاح في العمل . وبدءا يوفران مبلغاً كبيراً . أرادا به أن يبنيا البيت المتهدم، ولكن اكتشف في يوم أن والده حاول مراودة زوجته والاعتداء عليها، فصدم في ذلك وترك البيت مع زوجته وأمه التي طلقها والده وفقدت بصرها، وتأتي نهاية الأحداث حين بعث الأخ الأصغر الذي لم يكن يعرف عن أبيه شيئاً ما وفره من مال . فاستلمه الأب وتزوج به فتاة صغيرة وترك الجميع يموتون حسرة.

إننا هنا أمام سيرة ذاتية يلخص الكاتب فيها أحداث حياته وأسرارها ويسجلها من غير أن يكون وراء هذا التسجيل إدراك فني لما يعنيه شتات الأحداث المتراكمة، فهو لا يوردها في بناء فني متماسك، ولا يقيم لها لغة فنية موحية تعتمد الرصد والاختيار من الواقع وفق استراتيجية فنية أو فكرية محددة . فقد كان يريد أن يجعل من قصته ) مخزن أسرار ( يودع فيه ما ظل محتفظاً به سنين طويلة، والقصة بذلك لا تسترعي الانتباه، فهي لا تتميز بجوانب فنية بارزة، ولا تعتمد أسلوباً واقعياً جديراً بالاهتمام فكيف تصدرت المسابقة الأدبية في القصة الواقعية؟
قد يرجع ذلك إلى الفكرة الفوتوغرافية التي كان يقام لها الشأن الأكبر في تحديد مفهوم الواقعية في القصة القصيرة . فقد ارتبطت ( قصة حياتي) بشخصية كاتبها، ومن ثم حققت واقعيتها - في نظر القائمين على الجريدة - من كون الوقائع الكثيرة المؤسية التي سردها الكاتب قد حدثت بالفعل ولها أشخاصها الموجودون في الواقع .

ولا شك أن هذا المفهوم يقوم على عدم التمثل الحقيقي لمعنى الواقعية في القصة، فهو يتعلق بالظواهر الخارجية، وبالتقاط المظاهر الطافية فوق سطح الحياة دون أن تنفذ إلى جوهر الأشياء المحيطة نفاذاً يعمل على الاختيار الموجّه من أجل بناء فني متماسك، ومعالجة فكرية واضحة .

ومن ناحية أخرى فإن المفهوم القاصر الذي أشرنا إليه يؤثر حدوث الفعل في الواقع، ورجوعه إلى وقائع حدثت على كثير من متطلبات الخيال والشروط الفنية في قيام الشكل القصصي، ومن هنا فهو لا يسلم من التخبط والاضطراب، إذ يكمن العيب الأساسي لأي نسخ ) نتورالي ( من الواقع في أن هذا النسخ يخلط بين ( طبيعة الواقع ) و ( طبيعة الفن ) (7) وهذه هي المشكلة الأساسية التي واجهها كتاب القصة القصيرة في هذه الفترة .

لقد كانت النزعة إلى الواقعية غاية موجودة لدى معظم كتاب القصة القصيرة في الأربعينات والخمسينات مندمغة مع شتى الهواجس الفنية التي تداعب أذهانهم، وهم يخوضون مرحلة تاريخية تضع أمامهم عدداً من الضرورات، أبرزها وضع الأسس الصحيحة لفن القصة القصيرة، ومثل ذلك يستدعي أن يفسـح الكاتـب لنزعته وطموحـه وأفكـاره النظريـة كـي تتمثـل الأسـس الفنيـة بـصـدق .

ولكن يظل أمامنا سؤال على جانب كبير من الأهمية . فإذا كانت تلك النزعة لم تصدر عن وعي وإدراك بمفهوم الواقعية الفنية، فهل يظل اتصال كتاب القصة القصيرة قائماً على الجمود المستمر ؟ أم يتاح لها النمو، والتحرك، والتبلور ؟ هذا ما تطمح الصفحات القادمة إلى الإجابة عنه .

ارتهان البواكير الواقعية بحصيلة التطور

مما لا شك فيه أن الواقعية لا يمكن أن تنمو في المجتمعات المنغلقة الممعنة في التخلف لأنها علامة من علامات التطور الفكري والحضاري(8) ومحصلة من محصلات العصر الحديث الذي يتحرر من التبعية والعزلة، وينتقل من التعميم إلى التحليل والتعليل، وإمعان الفكر والتخلص مما يقيد حركة الذهن أو يحد من تطلعها، ويضيق الخناق عليها، وهذا يعني أن الواقعية ترتبط بحركة المجتمع الذي تنمو فيه، وترتبط بقضايا التغير الاجتماعي والسياسي، وترتبط بقضايا الديمقراطية وكيفية بلوغها أيضاً .

وإذا كانت الواقعية تعني كل ذلك في المجتمع الذي يستقبلها، فإنها بالنسبة للفنان تعني أن يدرك الواقع الاجتماعي الذي يحيط به إدراكاً واعياً، بحيث يتعايش معه ويتمثل علاقاته، فتتشابك تجربته الفردية بالتجربة الإنسانية العامة للواقع، كي يتسنى للأديب أو الفنان أن يمسك العناصر الجوهرية التي تحكم صراعات المجتمع، وتسير علاقاته الدائرة إذ أن (المبدأ الفكري الذي سري في صميم العمل الفني الواقعي يتطلب بالضرورة من الفنان أن ينظر بجسارة ودون خنوع إلى العالم، وذلك لأن حقيقة الحياة المعممة حقيقة الشخصيات تنهار إذا أحل الكاتب محل حقيقة الواقع بدائله، أو سمح بتفسير اعتباطي، ذاتي النزعة لمعنى الأحداث والظاهرات، ومضمونها) (9) وكل ذلك يعني بالدرجة الأولى معرفة الفنان بالواقع وبمجمل الصراع الدائر فيه .

وقد كان من الطبيعي - ما دامت الواقعية تعني كل ذلك - ألا تصحو نشأة القصة القصيرة في الخليج العربي على مفهوم جاهز متبلور حول الواقعية . فالمجتمع الذي تنشأ فيه مجتمع بكر لا يزال يعايش تجربة الانفتاح الفكري والخروج من العزلة . ولا يزال يعايش قلق التغير الاقتصادي والاجتماعي . فهو في دور النشأة وليس في دور التأصيل والتحليل . وهو بعد ذلك يتمثل الكثير من مظاهر الحضارة والحداثة عن طريق التأثر من الخارج، وبخاصة من البيئات العربية، نظراً لتأخر انعتاقه من العزلة والتخلف .

لذلك فإن من المغالاة في مدلول الواقعية الفنية، أن نقرن ملامح القصة الواقعية بالبدايات الأولى التي سبق أن عرضنا للكثير من نماذجها . فالحق أنها ارتبطت بالدور الإصلاحي البازغ، كما أنها تجاوبت من ناحية أخرى مع أصداء الخيبة والانهيار التي تعرض لها مجتمع الخليج العربي وهو يعاني من قلق التغير الجديد.

وحيث أن موجات التغير من الخارج كانت قوية، متلاحقة، فإنها لم توجد الفرصة كي تتيح للمفاهيم الجديدة أن تستقر في المجتمع، وبخاصة في سنوات العقد الثالث والرابع من هذا القرن، فقد كانت تصطدم غالباً بجدار هائل من التقاليد وقيود المحافظة والمفاهيم الغيبية المسيطرة، ولم تستوعب البواكير الأولى في القصة القصيرة تأثرها بالواقعية في القصة العربية الحديثة. رغم أن بعض الكتاب كان يجهر جهراً واضحاً بأنه يرتبط بالواقع، ومرد ذلك في الحقيقة إلى عزلة الحركة الفكرية، والحركة الاجتماعية في آن واحد خلال سنوات العقد الثالث والرابع من هذا القرن .

وليس من الصعب تلمس مظاهر التخلف في تلك السنوات، فالمجتمع لا يزال محكوماً بإطاره المحافظ، وبمعاييره التقليدية المسرفة التي تحول دون بروز التفكير الواقعي، والمجابهة المنطقية . فهو يؤثر التمسك بالغيبيات، والقيم التي توارثها من الأجيال الماضية، ويتعلق بكثير من قواعد التفكير السلفية، وبخاصة حول وضع المرأة في المجتمع، وهو الوضع الذي يحول دون ظهورها بصورة إيجابية في فن القصة، وليس هذا فحسب بل إن هذا الوضع حال دون ظهور علاقات الحب في القصة الاجتماعية . وحين افتتن كتاب القصة الرومانسية بهذه العلاقة، اضطروا إلى ( الاغتراب) بأجواء القصة، حيث صوروا لنا هذه الـعـلاقـة فـي بيئـات خارجـة عــن مجتمـع البحـريـن والكـويـت كمـا رأينـا فــي (آلام صديـق) لفـرحان راشد الفرحـان وقصة (عاشـق الصـورة) لعـلـي زكريـا الأنصــاري.

لقد كانت سنوات الثلاثينات والأربعينات بالنسبة إلى الحركة الوطنية والإصلاحية سنوات انتصار حقيقي للبرجوازية الكبيرة في نخبتها التجارية العريضة، فهي لم تخسر من التغيير الاقتصادي بقدر ما ارتفعت مكانتها الاقتصادية والاجتماعية، حيث أصبحت وسيطاً حيوياً بين الشركات الأجنبية الجديدة، وبين القطاعات الأخرى في المجتمع، ومن ناحية أخرى فإن كثيراً من مطالب الحركة الإصلاحية كانت تحقق الامتياز فوق الامتياز لهذه النخبة البرجوازية، ويمكن أن نتمثل ذلك في حركة 1938 في الكويت التي أثمرت بظهور المجلس النيابي لبضع شهور، فقد تشكلت الكتلة الوطنية التي دخلت المجلس من الأعيان والتجار، وقد حققت الكثير من الإصلاحات التي مكنتها في المجتمع، كما أشاعت حولها الكثير من مظاهر احترام الفئات الاجتماعية الأخرى . بينما ظلت الطبقات الشعبية في هذه السنوات مغمورة بما هي عليه من تخلـف وفـقر وبـؤس، محرومة من فرص التعلـيم، ومعطيات التغـير الاقتصادي.

وكل ذلك يعني أن سنوات العقد الثالث والرابع من هذا القرن لم تكن وراءها حركة اجتماعية واضحة ومتطورة، والواقعية لا تجد استقرارها ونموها إلا مع التطور الاجتماعي وصراع القوى الاجتماعية، ويقرن أحد كبار النقاد المعـاصـرين ولادة الـواقـعـيـة بارتبـاط الكاتـب مـع الحركـة الاجتماعيـة فيقـول أن (الأمانة الذاتية عند الكاتب لا تستطيع أن تولد تلك الواقعية إلا إذا كانت تعبيراً أدبياً عن حركة اجتماعية عريضة، بحيث تدفع مشكلات هذه الحركة وقضاياها الكاتب إلى أن يلاحظ ويصف مظاهرها الأكثر أهمية، وبحيث تقوي من عوده، وتدعمه من جهة أخرى، وتمنحه القوة والشجاعة الكافية التي تخصب وتغني إخلاصه وأمانته ) (10).

ويمكن أن نضيف فوق عزلة المجتمع، وعدم تطور حركته الاجتماعية جانباً آخر لم يكن يؤدي إلى التوجه الواقعي، وهو أن مجتمع الخليج العربي لم يعرف بعد تجربة نقدية، يمكن أن تتغلغل منها مفاهيم الواقعية، حتى ما كان منها يتصل بالشعر (11)، ونقده، وتكشف اهتمامات الصحافة خلال هذه السنوات عن شح شديد في مجال النقد حتى ما كان منه نظرياً (12) كما واجه كتاب المقالة الاجتماعية صعوبة بالغة في نقد مظاهر الجمود الاجتماعي، وكان مجرد المطالبة بالتعليم الإلزامي للمرأة كفيلاً بإثارة رواسب المحافظة والتزمت العنيفة.

كل ذلك يعد مؤشرات واضحة على أن هذه السنوات لم تشهد ميلاد الواقعية بوصفها اتجاهاً عاماً ترضخ له شتى نواحي الفكر في البلاد، وتصدر عنه بواكير القصة القصيرة في الوقت نفسه .

بيد أننا نجد بوادر القصة الواقعية في العقد الخامس من هذا القرن وهي أكثر سنوات الفترة التي ندرسها خصوبة من الناحية الفكرية والاجتماعية والسياسية، وترجع هذه البوادر الواقعية بالدرجة الأولى إلى نمو تجربة بعض كتاب القصة القصيرة . واضطراد مداركهم الفنية . مما يؤكد استفادتهم وتأثرهم بالتيار الواقعي البازغ في الأدب العربي الحديث .

وأوضح ما جاءت به سنوات العقد الخامس هو انتشار المد القومي العربي وغليان الحركة الوطنية الذي رسب في وجدان الفئات الاجتماعية كثيراً من المفاهيم الجديدة، بل إنه أيقظ في أعماق النخبة البرجوازية المثقفة إحساساً بضرورة الاقتراب من كافة القوى الاجتماعية الناهضة . وإذا كانت آثار التحرك الوطني والشعبي - وبخاصة في البحرين - لم تنعكس بصورة مباشرة في القصة القصيرة خلال هذه السنوات . فإن كتابها لم يفقدوا مشاعرها العارمة التي خلفتها، وبخاصة إزاء بعض التناقضات الاجتماعية ذات القرب الشديد من أزمة الإنسان .

وجاءت هذه السنوات أيضاً بكثير من المعارك التي قادت الدعوة إلى تحرير المرأة من قيودها الاجتماعية الثقيلة والتي لم تقتصر على ضرورة تعليمها بل تجاوز ذلك إلى مطالب أخرى كالخروج إلى العمل والمشاركة الاجتماعية والسفور .

وهذا ما يؤكد لنا أن بوادر الواقعية لم تكن نابعة من تأثر خارجي فحسب بل كانت بمثابة الضوء المتسلل من الوعي الداخلي، كما كانت ضرباً من إدراك الضرورة التي لا مناص منها في نمو فن القصة القصيرة .

وتعد الملامح الواقعية في القصة القصيرة جانباً من جوانب الاستمرار والتطور للقصة الاجتماعية والرومانسية، ولكنه الاستمرار المتصاعد والمتنامي الذي حرص على أن يحافظ على ما بزغ فيها من سمات فنية، وأن يدعمها لتتأصل في روح المجتمع، وتصبح قريبة بدلالاتها الفنية المتجددة من الواقعية، إذ أن جميع النماذج القصصية التي سنعرض لها لم تكن منبتة الأصول، أو وليدة تغير طارئ، بل هي حصيلة جوهرية لنمو تجربة الكتاب بالدرجة الأولى وبخاصة عند فهد الدويري وفاضل خلف وعلي سيار كما سيأتي التحليل إلى ذلك .