القسم الثاني

تطور القصة القصيرة
تمهيد

بانتهاء سنوات العقد الخامس من هذا القرن تكون القصة القصيرة في الخليج العربي قد اجتازت مرحلتها الأولى التي انشغلت جهود الكتاب فيها بالتأسيس لهذا الفن الأدبي الجديد، والتعبير به عن مشاكل المجتمع وأدواره المقترنة بتحولاته الاجتماعية والاقتصادية . وقد كان توقف جهود القصة القصيرة مع نهاية النصف الأول من هذا القرن إيذاناً حقيقياً بالدخول في طور جديد.
ويرتبط هذا الطور بفجوة كبيرة من الصمت الأدبي والثقافي والقلق السياسي والاجتماعي، الذي أعلنته السنوات الحاسمة بين أواخر الخمسينات ومطلع الستينات، كما يرتبط بما أعقب تلك السنوات من مظاهر التغير الاجتماعي والسياسي والثقافي التي تغلغلت في مجتمع الخليج العربي بنفاذ شديد، وقد تحمّل جيل الستينات والسبعينات جميع التبدلات القلقة لهذا الطور .
ولقد تصاعد القلق السياسي في الخمسينات مع انتشار المد القومي، وقيام الثورات العربية في مصر والعراق وسوريا، وأصبحت المواجهة معلنـة مـع القـوى الوطنية، ففي الكويت بلغ القلق السياسي ذروتــه عندما طالبت صحيفـة )الفجر( بفك الارتباط مع بريطانيا، وهاجمت المعاهدة البريطانية مع الكويت، ودعت إلى التحرر من جميع أنواع الوصاية، وفي الوقت نفسه انتشر بين صفوف الكتاب والمثقفين كثير من الأفكار العقائدية التي منحتهم مزيداً من التفتح والإدراك .
وكان يقابل هذا الوعي السياسي المطرد أجواء اتسمت بالتضييق والمحاصرة وتمثلت في عدد من القوانين منها قانون المطبوعات في الكويت والبحرين الذي وجد فيه أصحاب الصحف جانباً معوقاً عندما اشترط ضرورة التفرغ .
وقد جاء كل ذلك مقدمة لضربة عطلت الحياة الثقافية جميعها في عام 1959، ويحدثنا حمد محمد السعيدان في ) الموسوعة الكويتية المختصرة ( عن ذلك فيقول : ) أغلقت جميع الأندية في 3 فبراير 1959، شمل ذلك تعطيل جميع الصحف في الكويت، وقد مهد لذلك التعطيل بيان موجه من أمير البلاد آنذاك - الشيخ عبدالله السالم - ألمح فيه إلى أن الحرية والديمقراطية قد استغلت أسوأ استغلال لدرجة التطاول على ذات الأمير ( (1) وبذلك مرت البلاد ببضع سنوات اتسمت بالجمود والتوقف، إذ قضى فيها على الصحافة، كما قضى على تلك التجمعات الوطنية التي ضمتها بعض النوادي والمؤسسات كنادي المعلمين، ونادي الخريجين، والنادي الثقافي القومي، وجاءت هذه السنوات - كما وصفها سليمان الشطي - ) سنوات عجافاً قطعت ما اتصل وقيدت الأرجل، وأخرست الأقلام، فتوقف نبض الكلمة الطيبة، وكان لابد أن تخمد الحياة الأدبية ويخيم الركود ((2).
وقد ظل هذا الجمود حتى جاء عام 1961 فشهدت الكويت أحداثاً ذات أهمية كبيرة في تطورها السياسي والاجتماعي، فقد ألغى ارتباط الكويت بالمعاهدة البريطانية إيذاناً باستقلالها من النفوذ الاستعماري في يونيو 1962، وعلى إثر ذلك انضمت إلى جامعة الدول العربية، وعضوية الأمم المتحدة، وأبرز ما شهدته الكويت في بداية الستينات هو توجه حكومتها إلى وضع دستور للبلاد، من أجل تشكيل الحياة السياسية، والاجتماعية وتنظيم علاقات الأفراد بأجهزة الدولة في إطار القوانين بدلاً من احتكامها إلى الاجتهاد والعرف القديم، وقد أجريت الانتخابات، وصدر الدستور في 11 نوفمبر 1962 ودخلت البلاد في الفترة النيابية بقيام مجلس الأمة الكويتي .
وتواجه الحركة الوطنية والثقافية في البحرين أحداثاً حاسمة خلال الخمسينات، حيث تطورت موجات القلق والصراع السياسي بصورة أحدثت صدامات عنيفة . وتصف إحدى الصحف المحلية الوضع الداخلي في البلاد بقولها ) بين عشية وضحاها أخذ حكم الفرد يعود في إقطاعية عمياء تشد أزرها دكتاتورية غاشمة، فتفشت الفوضى وعمت الضرائب، وعاد نظام الطبقات، وتفشت الطائفية، وعمت الكراهية وازدادت الشرور، ونحن اليوم نعيش في نظام سيئ فاشل، وفوضى ضاربة أطنابها في كل درب واستبداد نيروني فاجر متحكم قبلي متوحش، وجشع استعماري جائر، وخنق للحريات، وهدر للكرامات لم يكن لها مثيل ((3) .
وقد استحكم هذا الوضع الشاذ بصورة دفعت الأهالي إلى مزيد من التماسك والمواجهة، ودعت الوطنيين في البلاد إلى تأسيس ) هيئة الاتحاد الوطني ( التي أخذت تقود المواجهة وتقدم مطالبها الإصلاحية . فاستطاعت أن تحرك عامة الشعب، وبخاصة في الأعياد والمناسبات الدينية، التي تحيلها إلى تجمعات سياسية تنتهي بالتظاهر أو الاضطراب، ويعد عام 1956 عاماً فاصلاً في حركة القوى الاجتماعية فقد أطلق عليه عامة الناس ) سنة الهيئة ( بعد أن بلغ الصراع مع النظام السياسي موقفاً لا رجعة فيه، تبلور في سلسلة من الإضرابات التي كانت تعطل البلاد أياماً عديدة، وقد أطلقت شرطة الأمن النار على تجمعات المواطنين، وراح عدد من القتلى والجرحى ضحية مشاعرهم الوطنية، ومعاناتهم الاجتماعية، وأدركت السلطة البريطانية الخطر الذي يهددها من هذا التحرك الشعبي، فأعلنت الحكومة في 5 نوفمبر 1956 حالة الطوارئ في البلاد، وقامت المخابرات البريطانية بدور كبير في فرض الأمن، حيث ألقي القبض على قادة الحركة الوطنية، وتشرد عدد منهم في أنحاء البلاد العربية، إما بالنفي الإجباري، أو بالهرب من جو الإرهاب ) ودخلت الأمور في البحرين مرحلة جديدة تماماً، فقد تلاشت كل المكاسب الشعبية التي حققت على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والصناعيـة المحليـة كمـا منعـت الصحـف من الصدور منعاً باتاً، وبذلك دخلت البلاد مرحلة من الاضطهاد والقهر السياسي ((4).
وكما مرت الكويت بسنوات عجاف ساد فيها الصمت والتوقف في حقل الثقافة مرت البحرين بسنوات أطول وأكثر تعتيماً، فقد ظل قانون الطوارئ قائماً . وتم تشكيل جهاز قوي للمخابرات يشرف عليه الضباط الإنجليز، كما طبقت الحكومة قانون للعقوبات لعام 1955، فتعطلت الحياة الثقافية وخلت البلاد من الصحافة وظلت الوسيلة الإعلامية الوحيدة هي محطة الإذاعة.
وأياً ما كان الأمر فإن كل هذه الأحداث تعد مدخلاً عَبَرَ منه المجتمع والحركة الأدبية والثقافية إلى مرحلة مختلفة عما كانت عليه في الأربعينات والخمسينات، فمع بداية العقد السادس من هذا القرن تعود الحيوية والنشاط في الحركة الأدبية لتشكل تجربتها في واقع اجتماعي يتطور بسرعة متلاحقة، وواقع سياسي مليء بعناصر القلق والاضطراب، وواقع فكري متفتح على الثقافة العربية والأجنبية . وينعكس ذلك بصورة مباشرة على فن القصة القصيرة في البحرين والكويت الذي ينتقل إلى مرحلة جديدة ينشغل الكتاب فيها بالاستمرار والتأصيل للجهود الأولى، والاتجاه بتقاليد هذا الفن إلى التلاؤم مع روح الفترة وتطلعاتها الجديدة . فقد تهيأ لجيل هذه الفترة أن يقدم إنتاجه القصصي في جو مفعم بالتفتح والبحث الدائب عن أسباب المعرفة الجديدة، وفي محيط تسوده روح الوعي الحضاري، وإدراك ضرورات المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع . وإذا كان التعليم قد زود هذه الأجواء بالوعي وبقدرة التذوق والمتابعة، فإن الصحافة المحلية قد غذتها بروح الاستمرار، وبثت فيها دوافع مختلفة، أمدتها بجسور قائمة بين القارئ وكاتب القصة القصيرة . إذ ظهرت الصحافة من جديد مع بداية الستينات . وفي أعقاب إعلان الدستور في الكويت وضعت الحكومة قوانين جديدة تنظم صدور الصحف ( قانون المطبوعات والنشر ). وقامت البحرين أيضاً بوضع قانون مشابه لعودة صحافتها، فأدى ذلك إلى استقرار طبيعة المهنة الصحافية ووضوح علاقتها بالأدب .
ويمكن ملاحظة أن معظم كتاب القصة القصيرة في الأربعينات والخمسينات قد توقفوا عن الكتابة . إما بسبب يتصل بانطفاء التجربة الأدبية أو بسبب ما تعرضت له البلاد من مظاهر القلق السياسي والاجتماعي التي أجهضت تجارب الكتاب وجعلتهم يتجرعون مرارة الخيبة مؤثرين الابتعاد والغياب أو الانشغال بالتجارة أو الوظائف والمناصب الإدارية التي تحتويهم احتواء يغلق عليهم سبل الاستمرار أو الاحتجاج (5) .
وقد أتاح ذلك لجيل الستينات أن ينطلق في تشكيل تجربته الأدبية بعيداً عن أشكال الوصاية الشديدة من الجيل السابق، كما جعله يستمد تأثراً وتفاعلاً رحباً من القصة العربية والأجنبية متحرراً من التأثير المباشر الذي يمكن أن تلقيه التجارب المؤسسة للقصة القصيرة في البحرين والكويت بما جاءت عليه من اضطراب، وإمكانيات فنية محدودة . وإذا كان ذلك يحمد لهذا الجيل، فإنه يحسب عليه من ناحية أخرى، لأنه عندما بدأ تجربته مع مطلع الستينات لم يجعلها تسير على هدى من الخطوات السابقة، مما جعلها تتعلق في بداية الأمر بالرواسب، وتكون امتداداً للنماذج المستهلكة في كثير من خصائصها الفنية المتصلة بتصوير الشخصية المحلية .
غير أن ذلك لا يعني أن أحداث الخمسينات التي أشرنا إليها قد أحدثت انكسارا وقطعت الصلة بين جهود الفترتين في القصة القصيرة بحيث يستدعي ذلك البحث والتنقيب عن بداية متكررة .. أو نشأة ثانية كما ذهب بعض الباحثين(6).
وذلك لأن الأحداث التي واجهها مجتمع الخليج العربي لم تكن تمثل ثغرة أو فجوة واسعة المدى، بحيث يمكن أن تقطع الاتصال بين جيلين متقاربين متعاصرين، إن هذه الأحداث لم تستمر سوى بضع سنوات، وهي لا تستوعب سقوطاً لأنظمة المجتمع وقوانينه أو قيمه، بحيث يستدعي إعادة تشكيل الحياة وبناءها من جديد .
لقد كانت أحداث الخمسينات إحدى معالم التطور الاجتماعي والسياسي التي لم تكن تؤدي في أي حال من الأحوال إلى النكوص والارتداد في الفن والأدب، ولم تكن تؤدي إلى القطيعة، أو البداية المتعددة، والنشأة المتكررة . بل إنها تؤدي بطبيعة الحال إلى التطور والانتقال في أدب القصة القصيرة والحركة الأدبية بصورة عامة، لأنها منذ بداية الستينات وحتى الفترة الحالية ظلت تستمد وجودها وجذورها من تطور القوى الاجتماعية، وتفاعل البيئة المحلية بالثقافات الجديدة، وهذا ما يستدعي منا البحث في سمات المرحلة الانتقالية لجهود القصة القصيرة بكل خصائصها وسماتها الفنية والفكرية .
ولعل تجربة استمرار القصة الرومانسية مع بداية الستينات تعبر في مجملها، وبصورة تلقائية عن ارتباط عميق بجهود القصة القصيرة في المرحلة الأولى . وسنرى أن معظم الكتاب قد ارتبطت بداياتهم بتجربة الرومانسية منذ السنوات الأولى في هذه الفترة، مما يؤكد انحدار هذه التجربة عن تواصل مرحلي لم تنقطع جذوره بصورة تستدعي البحث عن بداية جديدة . وتكشف دراستنا عن كثير من نقاط الالتقاء في تلك الرواسب الفنية والفكرية التي ظلت تواكب الامتداد الرومانسي لدى كثير من كتاب القصة القصيرة في الفترة الثانية، بل إن كثيراً من السمات الفنية التي بذر بذورها الجيل الأول تعود ثانية ليسبغ عليها الجيل الثاني لمسات جديدة تطبع عليها روحاً جريئة، مندفعة، تواقة لاعتناق القيم الاجتماعية المتحررة من أشكال الوصاية التقليدية .
إن القصة القصيرة في الفترة الثانية تنطلق من حيث انتهت إليه في الأربعينات والخمسينات لتمثل فيها مؤشرات التطور والانتقال، ولتؤكد أن نشأة هذا الفن ونموه، وتطوره يخضع لعملية مستمرة متدرجة، لا يمكن أن ينظر إليها على أنها منبتة الأصول بما قبلها ) فليس ثمة فنان يبني ابتداء من أول لبنة، وكل ما في مقدوره، هو أن يتخير، ويحذف، ويطور ويضيف ويرتب من جديد في شيء من الأصالة لا كل الأصالة ((7). ومن هنا فهو لا يستطيع أن ينقطع عن الماضي، أيا كانت تقاليده، ومفاهيمه في الفن، وذلك لأن مكانته الفنية تنبع من نظرته إليها وموقفه منها، وهذا ما حدث مع الجيل الثاني الذي نهض بالقصة القصيرة في الخليج العربي مع بداية الستينات فهو يتجاوب مع متغيرات الواقع امتداداً وانتقالاً وتطويراً لكثير من الخصائص الفنية والفكرية التي كانت عليها القصة القصيرة في الفترة الأولى .
ولا ريب أن وقفتنا مع أحداث الستينات لا تعني أننا ننظر إليها بوصفها ظرفاً تاريخياً فاصلاً يهدف إلى العزل بين مرحلة وأخرى، بل إن هذه الوقفة تنظر إلى تلك الأحداث باعتبارها محتوى للتغير والتطور الذي مر به مجتمع الخليج العربي، ومهاداً للحس التاريخي في رصد التطور وتفسير الظواهر الجديدة المنبثقة عنها . إن هذه الوقفة لا تفصلنا عن الجهود الأولى بقدر ما تصلنا بها عن طريق انحداراتها العديدة في مجال التطور الأدبي، وتؤمن هذه الدراسة أن التطور في الفن يأتي من ) الاعتقاد بأن عملية واسعة النطاق من التحدر مع التغير التكيفي التراكمي المعقد، قد حدثت في نطاق الفنون ولا تزال تحدث ((8) ولا يمكن أن نستبين مثل هذه العملية إلا من خلال الظروف التاريخية التي تقف وراءها . لذلك تتذرع ملاحظاتنا بالأحداث والتغيرات المهمة في المجتمع لتضيء لنا سياق التحول وشروط التطور في القصة القصيرة، ولتفسر كثيراً من ظواهرها البارزة .
إن الأهمية الأولى في التوقف مع أحداث الخمسينات تنحصر في كونها إحدى المنطلقات الأساسية لتطور حركة القوى الاجتماعية، لأنها كانت بمثابة درس كبير تلقنته تلك القوى في البحرين والكويت . وإذا كانت هذه الأحداث قد ساهمت قليلاً في تغيير أسلوب الإدارة السياسية بالنسبة للكويت، فإنها - بالنسبة للبحرين - تتجه إلى استيعاب ظروف جديدة سواء بالنسبة للقوى الاجتماعية التي تتخطى الدور الإصلاحي نحو استراتيجية تحررية تقدمية، أو بالنسبة للنظام السياسي الذي يتجه إلى سياسة تتبع استراتيجية الارتهان بمصالح سياسية واقتصادية جديدة . فالسنوات الأخيرة من العقد الخامس كانت إيذاناً بخطوات سياسية عديدة لها أثرها في وضع الطبقات الاجتماعية والوضع الثقافي عامة، كإعلان الدستور في الكويت، وفرض حالة الطوارئ في البحرين، وليس هذا فحسب بل إن كثيراً من مظاهر التطور الاقتصادي الذي بدأ في الأربعينات لم يكن لتتضح آثاره بين يوم وليلة، بل إن آثاره المتغلغلة تأتي حقيقة مع ولادة الجيل الجديد الذي يواجه من جراء ذلك تناقضات اجتماعية مركبة تساهم في تعميق ارتباط الفنون بالواقع.
كل ذلك يجعل من التطور في فن القصة القصيرة منذ بداية الستينات عملية تاريخية تستمد جذورها مما يسبقها من ظروف، وتبني تطلعاتها مما يجد في المجتمع من ظروف، فهي تجربة شاملة متعددة الخطوط تتضمن بصورة غير مباشرة انحدارات الجهود القصصية الأولى، وتتمثل الاتجاه إلى القيم الفنية الأكثر ثباتاً وتأصلاً، وتحتوي الاتجاه إلى المغايرة في استيعاب الأشكال الفنية الحديثة، أو معالجة أساليب الحياة الإنسانية، وتندرج فيها كثير من سمات التغير التي جاءت بها تجارب كتاب القصة القصيرة في الشكل والموضوع كما تندرج فيها غزارة الإنتاج القصصي وتعدد اتجاهاته وتنويعاته الأسلوبية حتى بات فن القصة القصيرة بتوسعه الكمي والكيفي ينافس فن الشعر، بعد أن أصبح شكلاً فنياً راسخاً وقريباً من الجمهرة العريضة من القراء التي ازداد اتساعها مع تطور التعليم ونموه، وازدهار الصحافة وانتعاشها .