انتزاع المغزى الأخلاقي من القصص الشعبي

*  فهد الدويري
* عبدالله الزائد

لا يضمّن الكاتب تجربته المغزى الأخلاقي إلا من أجل أن يصل إلى نتيجة أو هدف محدد، ولا يكون هذا الهدف الذي يسعى إليه إلا قيمة أخلاقية عظيمة، يريد إسداءها لأفراد المجتمع وتنبيههم على أهميتها، فيكون المغزى بمثابة العبرة التي ترسم الجديد وتصلح في المعتقدات والقيم القديمة التي تواضع المجتمع عليها، ويكون سعي الكاتب بحثاً عن هذه العبرة المدار الرئيس الذي يوجهه وجهة إصلاحية لأن الإصلاح في المعتقدات والأخلاق يعني بالضرورة إصلاحاً في المجتمع وتنويراً لمفاهيمه ومثله السائدة، بل إنه يعد توغلاً في جانبه الوجداني وبنائه الداخلي الذي يتصل اتصالاً كبيراً بالعلاقات الاجتماعية السائدة .

ولا نريد أن نذهب بعيداً فنحن حين نقف مع فهد الدويري، وهو أظهر كتاب القصة القصيرة في هذه الفترة اهتماماً واحتفالاً بإيجاد المغزى الأخلاقي والسلوكي نجده يؤكد لنا مراراً أنه لا يتوجه إلا إلى الواقع الحقيقي في المجتمع ويشتق من مظاهره التي حدثت أو يمكن أن تحدث، فهو يكتب مقدمة قصيرة لأول قصة ينشرها في الصحافة بعنوان (من الواقع) (2) وتحمل هذه المقدمة فكرة نظرية عن أسلوبه في كتابة القصة حيث يقول :
(قال لي صديقي وهو يحاورني في موضوع القصص الخيالي والواقعي أني أصر على أنه ينبغي لكتاب القصة أن يدركوا أن في الواقع ما يفوق الخيال ومن ثم فإن عليهم أن يكتبوا الواقع الذي يسجل التاريخ النفسي للمجتمع، ليدرسوا في قصصهم ما انطوت عليه النفس الإنسانية من مشاعر وأحاسيس، عوضاً عن خلق أشخاص لا يعيشون إلا في قصصهم وحدها .. ذلك أن القصص الخيالي إنما يعكس الناحية النفسية للمؤلف، أما أحداث الواقع فإنها تعرض صورة المجتمع على حقيقتها).
 
ومثل هذه الفكرة الصريحة تشير بوضوح إلى أن الكاتب لا يشغل إلا بصورة المجتمع وبوجدانه وأخلاقياته السائدة وهو ما أطلق عليه (التاريخ النفسي للمجتمع) فالبحث عن الفكرة الأخلاقية أو المثالية تدخل في سياق البحث عن السبل الصحيحة المقومة للمجتمع والمصلحة لمعتقداته ومفاهيمه الشائعة .

وقد تنبه بعض كتاب القصة القصيرة إلى أن القصص والحكايات الشعبية التي يختزنها التراث العربي، وتراث منطقة الخليج العربي بصورة خاصة من أكثر الأشكال الفنية احتفالاً وتمسكاً بالمغزى الأخلاقي، فقد انحدرت منها -غالباً - خلاصة الصراع الذي تقيمه الحكاية الشعبية بين عنصري الخير والشر، وهيأت المجال واسعاً لإسباغ الصفة الأخلاقية على نموذج معين من الناس يحمل قيمة معينة من القيم ، سلوكاً .. أو طقساً .. أو عادة أو نمطاً، أو شعوراً وعاطفة، أو خصلة من الخصال السائدة .

ومن أجل ذلك فقد أصبحت الحكاية الشعبية مصدراً للقصة القصيرة في معالجتها وبحثها عن المغزى الأخلاقي والسلوكي، وأرادت - القصة القصيرة - وهي تستعمل المأثور الشعبي مادة ومضموناً أن تعبر بما عبرت عنه الحكاية الشعبية، وأن تصوغ ما صاغته في مجال السلوك الجماعي والتربية الأخلاقية، فالقصة الشعبية تتضمن بطبيعة أصولها ومصادرها البعيدة (وجداناً جماعياً يمكن أن يطل على الأديب صاحب الإنتاج الرفيع، بمعنى أن القصة الشعبية تؤثر في القصة الرفيعة، تماماً كما يؤثر أي مأثور شعبي في نتاج القراء وكتاب الدراما وغيرهم) (3) .

وقد جعل فهد الدويري من (السوالف) مادة حقيقية لفنه القصصي . و (السالفة) لا تخرج عن كونها حكاية أو حدثاً مر فيما مضى من قديم العهد والأوان، ومعظم القصص التي تتضمنها هذه (السوالف) حدثت وقائعها، بالفعل، ويعرفها الناس عن قرب، بل ربما كان أبطالها أحياء يرزقون، ولكنها لما تتميز به تلك القصص من غرابة ولما تحويه من مواقف لا تتكرر كثيراً تظل عالقة في أذهان الغالبية من الناس فيتناقلونها ويأنسون لها، خاصة وأنها تقدم لهم في النهاية عبرة أو موعظة أو قيمة خلقية محببة .

وقد استطاع الدويري في توظيفه للسوالف أن يقترب كثيراً من الواقع الاجتماعي، ومن بعض النماذج البشرية المنتمية إلى البيئة المحلية، وفي الوقت نفسه تمكن من احتواء المغزى الأخلاقي الذي حرصت عليه القصة الشعبية الأولى . ففي القصة السابقة التي أشرنا إليها منذ قليل وهي قصة ( من الواقع ) يصطنع الكاتب من نفسه مستمعاً إلى صديقه الذي يحدثه بأن أميراً من أمراء البحرين استولى على الجزيرة بعد حوادث مريرة، حيث استتب له الأمر، واستقبله الناس بالفرح لأنه أخذ يحكم البلاد بالعدل والإحسان، بعد أن كانت مليئة بالظلم، ولكن كان هناك من يضمر له العداوة فقد تم تدبير خطة لقتله والتخلص منه، حيث يغري الأعداء رجلاً يقوم بقتله في مقابل مبلغ من المال، ويدخل الرجل القصر ويختبئ في إحدى الزوايا ولكن الأمير يكتشف وجود المجرم فيأخذه ليطعمه ويلبسه الكسوة بدلاً من معاقبته، ويطلب منه معرفة الذين أغروه بهذه العملية . ثم يعطيه مبلغاً مضاعفاً للمبلغ الذي أغرى به، وهنا يعلن الرجل الوفاء للأمير والولاء له أبد الدهر .

ولا شك أن الدويري وهو إزاء صياغة هذه القصة لم يكد يكلف نفسه جهداً ومكابدة، فالحكاية جاهزة . بمواقفها وبمغزاها الأخلاقي، يأتي لصياغتها وتسجيلها بأسلوبه واضعاً نصب عينيه ما تعالجه من مضمون اجتماعي وأخلاقي يدور حول جزاء الإساءة بالإحسان، والصورة المثالية للحاكم العادل الذي يلقى الإساءة رغم أنه ملأ البلاد بالعدل والإحسان . وتلقن هذه القصة درساً حول عاقبة مثل هذه الإساءة التي لا يكون مصيرها إلا الكشف والجلاء والفضح والجزاء .

وهذه القصة بصياغتها المتوازية مع الحكاية الشعبية تفتقد روح الفن وتبتعد قليلاً عن الأصول الصحيحة في بناء القصة القصيرة، وبخاصة فيما يتصل بحركة الشخصية القصصية وحضورها الفني المتوازن مع حضور الرؤية الفنية للكاتب والقائم على التصوير أو التجسيد الذي يهب فيها القدرة على الحياة والخروج عما كانت عليه في الأصل الحكائي .

إن بناء الشخصية .. والتحرك الفني بالحدث لا يشكل اهتماماً واضحاً لدى الكاتب، فقد كان يشغله استخراج المغزى والفكرة الأخلاقية التي تأتي بازغة كالشمس في النهاية، فلا يكاد يصل إليها، حتى يواجه القارئ بها مباشرة على لسان الراوي الذي يقول :
(هذه يا صديقي قصة من الحياة، فيها خصائص إنسانية سامية، وفيها عظة . حاول أن تسكبها كما يفعل القصاصون، وسأقص عليك غداً قصة أخرى، لأريك أن في الحوادث الحقيقية قصصاً كثيرة حرية بالتسجيل).

ولا ريب أن الدويري قام بتسجيلها بالفعل، وبصياغة موعظتها، ولكن كما يفعل القاص أو الراوي الشعبي لا كما يفعل كاتب القصة الفنية القصيرة . والحق أننا لا ننتظر من الدويري في أول قصة يكتبها أكثر مما حرص عليه في اقتباس المغزى الأخلاقي من القصة الشعبية، بخاصة أن هذه القصة تحسب من البدايات الأولى التي تمخضت عنها نشأة القصة القصيرة في الخليج العربي .

غير أن الكاتب يستمر في هذا الاتجاه الحريص على اشتقاق المدلول الأخلاقي من القصص الشعبي، ففي قصة (صك الكرامة) (4) يجسد لنا صورة مثالية رائعة للنبل والشرف والوفاء للعهد، وذلك من خلال سلوك شخصية تحمل قسمات هذه الصورة وتتعلق بها تعلقاً عفوياً، وتواجه به مشقة الحياة بكل ما فطرت عليه من صبر وصفاء .. فأبو صالح رجل من أعيان البلاد له تجارة تمتد من الخليج إلى البصرة وإلى كراتشي وموانئ الهند، وتنقلب عليه الأحوال بعد كارثة مادية فيبتعد عنه الجميع وتقسو عليه الأيام، ويدفعه جوع أولاده للاقتراض من صديقه (عبدالرحمن) وحين يطلب منه رهاناً لا يجد سوى شعرة من لحيته ينتفها ويقدمها له عنواناً لكرامته . وتمضي الأيام حتى يأتي يوم وفاة أبي صالح فيطلب حضور صديقه ليسلمه الرهان، ويستلم منه المقابل لما اقترض منه .

والكاتب يرسم صورة مثالية مؤثرة لشرف العهد وكرامته ونبله في مجتمع لا شك أنه بات يفتقر إلى التمسك بمثل هذه القيم الأخلاقية العالية وهو يلجأ إليها في القصص الشعبية التي تمثل إرثا جماعياً قريباً من وجدان المجتمع في الخليج العربي، ثم يجعل سياقها في نموذج محلي مرتبط بواقع الحياة التجارية المغامرة في الخليج، وما كانت تتعرض له من تقلبات بعيدة الأثر تكون امتحاناً للوازع الإنساني والأخلاقي في الشخصية، كما حدث لأبي صالح الذي أخرجه الكاتب من محنته، مثالاً عزيزاً أثيراً إلى النفس المشتاقة لما تبعثه الأخلاق والقيم الحميدة من ضبط الأواصر والنوازع الإنسانية .

وربما كانت هذه القصة أكثر تطوراً من السابقة، لأن الكاتب حاول أن يرسم بعض الملامح الفنية لشخصيته عن طريق الوصف والحدث والحوار القصير . فهو بذلك يخرج عن سذاجة العمل القصصي الأول بمقدار واضح، كما يتخلص نوعاً ما من عدم منطقية بعض المواقف، فتبدو أكثر قرباً من الواقع الاجتماعي وإن كانت تحكي حدثاً ماضياً بعيداً، وفي هذه القصة تتسق عناية الدويري بالشخصية القصصية المحلية مع عنايته باستخراج المدلول الأخلاقي التعليمي، الذي يسعى إلى تلقينه وجعله مثلاً يجب أن يحتذي المجتمع به، وخاصة حين يهتف عالياً في نهاية القصة: (هذه الشعرة التي لم تعد شعرة عادية بل عنواناً لكرامة رجل نبيل).