القسم الثاني. الفصل الأول 5

حسن يعقوب العلي وصياغة الملامح النفسية الجديدة

نشر حسن يعقوب العلي أولى قصصه القصيرة في مجلة " الرسالة " الكويتية بعنوان " المنبوذ " عام 1963 ، ثم استمر في الكتابة والنشر في الصحف المحلية إلى أن اجتذبته الحركة المسرحية بالكويت في السنوات الأخيرة ، وشغلته تماماً عن القصة القصيرة بعد أن كان شديد الاهتمام بهذا الفن ، حتى أنه تميز بغزارة كمية تفوق معظم كتاب هذه الفترة .
والجزء الأكبر من قصص العلي يعبر عن تجربة القلق والخيبة التي استمرت في مجتمع الكويت بعد الخمسينات ، فشخصياته تواجه مشكلة التقاليد بنزوة عابرة لا تتمكن فيها من الاهتداء إلى طريق صحيح ، كما أنها تواجه أزمتها الفردية ، أو أزمتها مع الواقع باختيار رومانسي يتجه بها نحو الهروب أو التشرنق مع عذاب الذات ، وأياً ما كان الأمر فإن الكاتب يدل في إنتاجه القصصي على ارتباط وثيق بتناقضات الفترة الجديدة التي خرج فيها الجيل الثاني من كتاب القصة ، إذ انعكست في معظم قصصه أبرز القيم النفسية والاجتماعية التي ركـن إليها غيره ممـن ينتمون إلى جيله بعـد أحداث الخمسينات. تلك التي شطرت فئة كبيرة من المثقفين في البلاد بين وجهتين : إحداهما نزوة تتردد بين الثورة والانزواء تقود أصحابها إلى مصائر مجهولة ، أو تسلك بها سلوكاً غير عادي . والأخرى نظرة مهادنة مع الواقع ، تتريث بأصحابها وتستلب منهم استشرافاً واقعياً مأمولاً . وكلتا النظرتين تعبران عن مزاج رومانسي سائد في هذه الفترة . بيدأن تلك النزوة المترددة وما تبعثه للفرد من تهويمات الغربة والضياع والعزلة ، هي التي تشكل أبعد الجوانب الرومانسية في قصص العلي . في حين اعتمدت نظرة المهادنة لبوساً رومانسياً ، وسمتاً واقعياً في آن واحد .
لقد عاشت شخصياته غربة شديدة المرارة في صراعها مع نظم المجتمع وتقاليده، وانتهت إلى حالة مناطها الاندماج مع تجارب العزلة واليأس والخطأ الذي تواجه آثاره بمفردها ، ويبدأ الكاتب تصوير ملامح الغربة الفردية في قصة " المنبوذ " فهو يجسم في البطل تجربة قاسية من الحيرة والشك تقوده إلى شعور بالغربة والقلق من الحياة بأسرها ، ولا ترتبط هذه التجربة بشيء سوى تلك الحالة الذاتية الشاذة التي لا يتمكن من تفسيرها أو ادراك ملامحها الواقعية ، لقد اقتحمت مشاعر الشك والغيرة قلب الزوج نحو زوجته التي أحبها وألفها خمس سنوات . وتبدأ هذه المشاعر صادرة من أعماق الحيرة والأوهام ، إذ لا يدرك لها تبريراً في نفسه : " لا أعلم كيف ساور الشك قلبي وعقلي وكيف جعلني أعيش في عذاب دائم " . وأراد أن يخلص نفسه من عناء هذه الحيرة وعذاب الشك فطلق زوحته . في حين لم تجد هذه الزوجة إلا أن تبكي تحت قدميه وتؤكد له وفاءها وحبها . وما إن يخرج عنها حتى تزداد حالته الداخلية صراعاً وتأزماً . حيث وقع بين مشاعر شتى . تجذبه تارة إلى عينيها التي تركها باكية حزينة ، وتشده إلى نوع من التحدي الداخلي لشكه وغيرته ، إذ يتذكر كيف كان يدخل عليها متوهماً أن رجلاً آخر قد خلا معها . وفي حين أراد أن يهرب من حيرته وقع في حيرة أكبر وأشد نكالاً بمشاعره ، حيث انتابته وحدة وكآبة، وسيطرت عليه رغبة عارمة في أن يمعن الهروب من أعماقه المتمزقة بينما هو يجرها معه كلما أوغل في وحدته إلى أن أحس بعدم قدرته على التخلص من عذابه الداخلي ، الأمـر الـذي جعلـه يشعـر بالعزلـة والهزيمـة لأنـه ترك سعادته مع دفء الزوجة وآثر وحدته في غرفة قذرة يحدث فيها نفسه : " لا مفر من الاعتراف لقد أصبحت إنساناً معزولاً عن الناس وعن الحياة ". لقد أحس بأن كل شيء قد أفلت من يده .. الكيان .. والأسرة .. والمستقبل .. وفي غمرة نزواته الثائرة على عناء نفسه وشذوذ مشاعره يفكر في الانتحار ، ولكنه يجبن أمام جميع المحاولات التي تحقق له الموت ، حتى يرى بائع إحدى الجرائد يعلن عن انتحار امرأة فيأخذ الجريدة متلهفاً لمعرفة وسيلتها التي خلصتها من الحياة ، وهنا يفاجأ بالمرأة ؛ فقد كانت زوجته تناولت كمية من الحبوب المنومة لتثبت وفاءها لمن أحبت . ولا يجد في نهاية الأمر سوى أن يسخر من نفسه ويبكي.
إن بطل القصة هنا يعبر عن نزوة يثور بها على غربته الداخلية التي تبدأ من ذاته وتنتهي إليها ، حتى أصبحت مأساته هي صراعه الداخلي الواهم الذي نظر منه إلى الواقع ، والصراع الداخلي الواهم منبت يانع للشخصية الرومانسية، أهم ما يقود إليه عزلة الفرد وشعوره بالغربة، وقد استطاع العلي في هذه القصة أن يجسم تتابع هذا الصراع ، ويقيم اتصالاً لجميع حلقاته ممسكاً بأهم ما يعكسه من مظاهر نفسية شديدة القلق . وكانت ذروة هذه المظاهر هي الشعور بالغربة والعزلة وبخاصة حين يقول :
" إذن فأنا المنبوذ إنني لا أنتمي إلى هذا الوجود . ولو كان عند الناس ما عندي من الشك والغيرة لانهارت الأسرة ولعاش الناس في جحيم من الضياع لقد تأكدت الآن أني لست من البشر ، وإلا لكنت سعيداً مثلهم أو لكانوا أشقياء مثلي ، لنفرض أني مريض بالشك ، ولكن من أي مصدر جاء هذا المرض أيكون عن طريق القصص التي قرأتها أم الحكايات التي أسمعها كل يوم من ألسنة الناس ؟ أهو وليد الوراثة ؟ الوراثة ، هل معنى ذلك أن والدي كان يشك في طهارة أمي هل عاش الحياة التي عشتها أنا.. ؟ وهل أنا وليد شك ؟ وعندما وصلت إلى هذا الحد من التفكير ، وعندما عجزت عن الاجابة على هذه الأسئلة ترقرقت دمعة اليأس في عيني ولأول مرة شعرت أن الحياة تلفظني وتتحداني تماماً كما فعل المصباح وعلبة السجائر (81).
وقد تحمل هذه المشاعر شيئاً من التأثر " بهمام " بطل رواية سارة للعقاد ، وبخاصة في دورانها الجدلي الذي يوغل في مناقشة فكرة الشك ، بيد أن سمتها النفسية العامة التي تنتهي إليها تصطبغ بفعل مأساوي مفرط انبثق منه إحساس بالانطفاء والرغبة في جلد الذات وإدانتها. وقد رسم الكاتب ذلك بلغة سردية مباشرة (ضمير المتكلم) وبعناية فنية جعلت منه دافعاً نفسياً قوياً للانتحار . فقد توصل إلى أن الحياة تلفظه وتتحداه . بل إن الكاتب يستعين في تجسيد الحالة النفسية بأسلوب المعادل الموضوعي ، فقد جعل بطله يتمثل حالة الانطفاء هذه مع انطفاء المصباح الذي جاء يعبر عن تلاشي بصيص الحياة وظلامها ، وعلبة السجائر التي كانت تؤجج مشاعره وأفكاره ، وحين انتهت كان قد وصل إلى فكرة الانتحار .
وفي قصة " الأصابع " نجد تجربة شبيهة بما وجدناه في قصة " المنبوذ " ولكنه في هذه المرة يكسب هذه التجربة منطلقاً واقعياً ، لقد كانت الأزمة الذاتية مصدر غربته في القصة الأولى ، ولكنه هنا يجعل لهذه الغربة علاقة أخرى تتصل بمصدر من مصادر القلق الاجتماعي الذي يتمثل في شقاء العمل وقسوته في البحر ، فهو ذلك " السيب " الذي يقوم بسحب الغواص من البحر ، تتقرح أصابعه وتتعفن ، ويرفض التخلي عن العمل إلى أن تنهار قوته حين يقوم بسحب أحد الغواصين ليجده قـد فارق الحياة ، الأمر الذي أدى به إلى شعور بالحيرة والذنب والقـلــق ، فـقـد اعـتـقـد أنـه سبـب الـوفـاة كمـا اعتقـد بطـل "المنبوذ" أنه قاتل زوجته ، ولم يجد هذا البحار وسيلة يخلص فيها نفسه من القلق وعذاب الضمير سوى الانتحار اعتقاداً منه أنه لا يستحق الحياة كما اعتقد ذلك بطل القصة السابقة . وفوق ذلك يشترك بطل قصة " الأصابع " مع سابقه في أنه لا يدرك واقعه ، ولا يتمكن من معرفة مصدر التجربة المريرة التي راح ضحيتها . حيث جعل من انتحاره احتجاجاً على الذنب الذي وقع فيه وليس على قسوة العمل وشظفه .
وتأتي النزوة الثائرة التي تزج بالبطل نحو سلوك سلبي غير عادي في القصص التي يصور فيها حسن العلي الصراع مع التقاليد أو الصراع بين جيل الآباء وجيل الأبناء . وتبدو هذه النزوة أكثر حدة ، فهي تخرج من العالم الداخلي الخاص الذي جال فيه بطل " المنبوذ " لتخلق أمام البطل عالماً فسيحاً مرفوضاً لأنه يفقد الصلة به ويشعره بالغربة نحوه . وتكتنف نزوة الرفض هذه صرخة احتجاجية مدوية قد لا يهتدي الكاتب بسببها إلى الأسلوب الفني الدقيق بل تشق له جوانب تعليمية لا مناص من دروسها الأخلاقية . إن لدى العلي رغم كل ذلك ملامح جديدة قد تميزه عن غيره من الكتاب في تصوير الصراع مع التقاليد . أبرزهـا الشعـور بالغربـة ثـم الـنزوة الصريحـة بعواطفهـا السافرة في ثورتها علـى نظم المجتمع وتقاليده وإن كانت منحرفة السلوك غير متبصرة للطريق . ونجد هذه الملامح في عدد من القصص منها : " سوق الرقيق " و " نهاية حرمان " و " أبو مسعود " و " وداع " وغيرها .
في قصة " نهاية حرمان "(82) يضفي الكاتب ملامحه السابقة على بطلة القصة، فيكسب قضيتها - وهي قضية كل امرأة في مجتمع تقليدي متخلف - نزوعاً رومانسياً عميقاً . لقد حرمت التقاليد فتاة جميلة جميع حقوقها الاجتماعية فخلقت لها وضعاً نفسياً شديد القلق . إذ أنها عاشت وسط أسرة تقليدية منعت عليها التعليم لأنه يفسد أخلاقها . ووضعتها بين جدران أربعة ، لا تسمح لها بالخروج وإذا خرجت لابد أن ترتدي البرقع والعباءة . وهي بمنطق أسرتها لا يجب أن تفقد احترامها كامرأة ترضخ للمشيئة الأبوية وتنتظر اختيارها للزوج . في هذا الجو المليء بالقيود يصور الكاتب كثيراً من المشاعر الداخلية الدقيقة في حياة المرأة. ويسبغ عليها شوقاً متوقداً للحرية والانعتاق. واستطاع بذلك أن يلمس الأبعاد الحقيقية في وضع المرأة ، وخاصة حين جعل أصداء الحرمان تتجاوب في داخلها بين وازع حرمانها الاجتماعي وبين وازعها الغريزي في الشوق إلى الرجل ، الأمر الذي جعل لمأساتها الاجتماعية منطلقاً واقعياً . غير أن ذلك لا يصبغ موقف بطلة القصة برؤية جديدة . لأن الوعي بالواقع لا يعني القدرة على تطهيره أو تغييره . ولقد ظلت مأساة البطل الرومانسي سواء عند العلي أو غيره أنه حين يدرك مصدر آلامه وعذابه تستبد به نزوة عابرة تطيش بسهام وعيه ، وتلقي به في أكثر المصائر الإنسانية انتكاساً وعجزاً وهزيمة .
ويجسم الكاتب هذه النزوة في بطلة " نهاية حرمان " ، وبخاصة حين بدأ يلتمسها من رغبتها الجنسية الثائرة التي ظلت تعاني الحرمان والاضطهاد. ويعد توغل الكاتب نحو هذه الغريزة أحد الأبعاد النفسية الجديدة التي يستقيها العلي بتركيز شديد في قصصه ، ليجعل منها مصدراً من مصادر مأساة البطل الرومانسي . بل إن الكاتب في نهاية القصة قد استجمع في هذه الغريزة الحسية جميع مظاهر حرمانها ونزوتها الثائرة ، فهي أدركت أن اضطهاد غريزتها ورغبتها إنما يرجع إلى أسرتها والتقاليد ، لذا فهي تستجيب للرغبة الثائرة في جسدها مع ذلك البقال الذي كان يبادلها النظرات من الخارج وتلتقي به لتتحول في لحظة النزوة من فتاة إلى عشيقة . ولتكون نهايتها الموت على يد والدها من غير أن يعلم أحد سر هذا الموت .
لقد صور الكاتب هذه العاطفة الجنسية مرتبطة بالوضع الاجتماعي والنفسي للمرأة . من غير أن يكرس صورتها المثيرة لأغراض بعيدة عن قطبي الصراع (الفرد - التقاليد). ومن هنا يأتي الاختيار أو الموقف الرومانسي مشحوناً بالدوافع الذاتية والاجتماعية وهي جميعها تعكس ملامح القلق الفردي التي تستجد مع استمرار الرومانسية ، وبخاصة عند حسن يعقوب العلي .
وإذا كنا نعد قلق العاطفة الجنسية أحد جوانب العمق في الظاهرة العامة . فإن الغربة الداخلية التي تجعل الفرد يعيش انفصاماً عن واقعه الداخلي والخارجي حتى لا يشعر بوجوده ولا ينعم بأحلامه وعواطفه ، هذه الغربة تعد السياق الحقيقي الذي تصبّ منه النزوة الثائرة ، لأنها لا تنفصل أبداً عن العواطف الاخرى . بل إن انفجار الرغبة الجنسية في نهاية القصة جاء تعبيراً عن نزوة الخروج من الغربة ، فلقد جعل الكاتب مشاعر الاغتراب تخترق الطبيعة البيولوجية ، وتنال فرداً ينتمي إلى جنس النساء ، إننا نجد بطلة القصة تشعر بأن التقاليد خلقت لها وحدها بوصفها أنثى لتستلب منها كل شيء وتعطيه الرجل ممثلاً في والدها . ومن ثم فهي " تسأل نفسها ترى لماذا خلقها الله أنثى أما كان باستطاعته أن يخلقها ذكراً ؟ إذاً لما تعرفت على ذلك الشعور البغيض ولما شعرت بذلك الجفاف وبالنقص والضعف والاهانة والضياع ". ونجد بعد ذلك أن التقاليد التي فصلتها عن الرجل فصلتها عن الحياة بأسرها فحين أدركت القيود الشديدة حولها " كرهت نفسها وكرهت الحياة والناس والوجود إن كانت تعرف الوجود ، وانطوت في بيتها تنتظر الغول الذي سيخطفها " .
وخلاصة القول في بطلة هذه القصة أنها أكثر بطلات القصة الرومانسية ثورة على قيود الفصل بين الرجل والمرأة . إذ أن الكاتب جعلها تخوض فضاءاً عاطفياً متعدد الأبعاد ، ويبدأ من حرمانها الاجتماعي وينتهي إلى غربتها. ثم يتجمع بكل قوة في نزوتها الغريزية ليجعل من المعاناة الجنسية في جسدها هو المدى الوهلي الدافق لثورتها على التقاليد .
ولا يختلف الكاتب عن غيره من أبناء جيله الذين تعطشوا إلى أجواء الحرية والانعتاق من القيود ، فالكبت السياسي والاجتماعي ، والتركة المتخلفة من التقاليد والمعايير خلقت لدى جيل الستينات شعوراً بأنهم يعيشون مجتمعاً مغلقاً يستلب من الفرد قدرته وامكانياته في التغيير ، وقد عبرت جميع شخصيات القصة القصيرة في صراعها مع التقاليد عن تعطش شديد للحرية المفقودة ، ولكنها لم تلجأ إلى انتزاعها . فلقد سيطرت عليها مشاعر الغربة والخيبة كما أدركت حاجتها إلى الفعل ، ولكن ظل ذلك مجرد شعور خفي يبدو كغيره من بوارق الاحتجاج الرومانسي الذي سرعان ما ينطفىء مع انحراف السلوك وقلق الاختيار ، وفي قصة " أبو سعود " يفاجأ بطل القصة بعد أن بنى كل أحلامه وآماله في الزواج من ابنة عمه التي أحبته وأحبها يفاجأ بعمه يطلب منه التخلي عن ابنته لأنه سيزوجها من رجل ثري يحقق لها السعادة . ولا يستطيع هنا أن يفعل شيئاً ، ولكنه أدرك بشعور خفي أنه بحاجة إلى شيء ما ، إلا أنه لم يدرك ما هو ذلك الشيء . أما المرأة فقد أحست بحاجتها إلى الانتحار بعد أن طلبت من الاله أن يكتب اسمها في سجل ضحايا الإنسان وأنظمته الجائرة مخلفة وراءها صورة احتجاجها وتعطشها للحرية ، مقترنة بصورة التشاؤم الرومانسي . فهي تقول بأسلوب المنولوج الداخلي وكأنها تحدث المجتمع مباشرة :
" خذو كل ما أملك ، جردوني حتى من ثيابي ، فقط دعوني أعيش بحرية مطلقة ، من كل قيد من قيود أنظمتكم الجائرة "(83).
إن الموقف الإجتماعي والنفسي الذي يصفه الكاتب هنا لا يخلو من نضج الصورة التعبيرية التي تستمد شيئاً من روح التحرر الثوري البازغ في الروايات الرومانسية.
كما يستقطب - ذلك الموقف - جانباً من نزعة الكاتب التعليمية التي تدعو إلى تحرير المرأة من قيودها الاجتماعية ، تلك النزعة التي يخلق لها واقعاً فسيحاً ، بل يصطنع معها الأجواء الملائمة للجهر بها. أو للحلم بها في مجتمعه ، كما في قصة " سوق الرقيق " (84) التي يصور فيها تجربة من تجارب العلاقة بين الرجل والمرأة في فترة اصطياف أبناء الكويت في لبنان ، بعيداً عن قيود المجتمع المحلي كي يكشف عن التناقضات النفسية التي يعيشها أبناء هذا الجيل مع التقاليد .
ويستمر الكاتب مع مظاهرالقلق النفسي وسياق الموقف الرومانسي المتشائم الذي تؤدي إليه النزوة العابرة ، فنجد في قصة "وداع"(85) المرأة "الحبيبة" تنتحر وتترك الرجل يعاني غربته وضياعه حتى يلحق بها بعد أن يرفض عالم التقاليد ويتصوره خريفاً باطشاً بحياته . ولقد جعل الكاتب أسلوب القصة منولوجاً داخلياً طويلاً ، أراد أن يسجل فيه لحظات الاحتضار التي يمر بها البطل ، وهذا جانب من جوانب التلاؤم الفني بين الشكل والموضوع التي يحرص عليها الكاتب في بعض قصصه ، ويحقق فيها تماسكاً فنياً متطوراً. وخلال ذلك يصور غربة الرجل ليؤكد القاسم النفسي المشترك بين الرجل والمرأة في إحساسهما بالاستلاب من مواجهة تقاليد الجيل الماضي . لقد جعله الكاتب يتحدث عن غربته حين يشعر بكره شديد للناس الذين تمثل فيهم صورة ذلك الجيل حتى شبههم بالضفادع المزعجة ، ولا يجد في وحدته ما يناجيه سوى رموز أحلامه المجهضة .فهو يناجي الأم لتكون رمزاً لحاجاته الروحية التي فقدها بفقدان الحبيبة ، وهو يلجأ إلى مناجاة الطبيعة واللواذ بأجوائها المنطلقة وذكرياتها الصافية ، لتكون أحد مفاتيح الهروب إلى الأفق البنفسجي الذي خضبته قسوة التقاليد . وهو يلجأ إلى مناجاة طيف الفتاة التي أحبها لتكون رمزاً لديمومة المأساة واستمرار ندائها العزيز في اللحاق بها ، وفي كل ذلك تتجسم حالة نفسية شديدة الحزن تنتج ذلك الموقف الرومانسي الذي يسفر عن تمرد سريع لا يستوعب واقعاً كلياً ولا يتجاوز زمن احتضار بطل القصة .
لقد نظر الكاتب إلى المرأة ضحية للتقاليد المختلفة ، كما نظر إليها ضحية الواقع بأسره في قصة "الفتاة والذباب "(86) حين تدخل المجتمع وتكتشف كم هي غريبة عن قيمه التي جردتها من كل شيء سوى جسدها ، ولقد جرب الكاتب أشكالاً عديدة من الأساليب ، ولكنه لا يستمر عليها لأنه يحرص على المواءمة المؤقتة غالباً ، فهو يلجأ إلى الصدفة الساذجة كما في قصة "الحصباة" (87) كما يلجأ إلى الحدث المتنامي كما في " سوق الرقيق ". ولكنه في أغلب ما كتب يؤثر أسلوب التحليل النفسي ، ذلك الأسلوب الذي يميز استمرار الرومانسية في هذه الفترة ، فهو في قصص العلي يعمق الإحساس بجوانب القلق الاجتماعي والنفسي ، ويفجر منها مظاهر جديدة . بل إن اهتمامه بالتحليل استثمر لديه جانباً فنياً آخر يتميز به العلي عن غيره وهو إيثاره لتكنيك تيار الوعي في عدد من قصصه القصيرة، خاصة تلك التي يقف فيها مع لحظات الاحتضار والانتهاء أو مواقف التوتر والقلق النفسي الذي يجنح بالشخصية بعيداً عن الواقع ، كما رأينا ذلك في قصة " وداع " وكما نجده أيضاً في قصة " الدخان "(88) التي يصور فيها موقفاً انفصالياً عبر مناجاة طويلة للبطل . تستغرقه حالة شديدة من التخيل وانثيال الوعي الداخلي حتى أنه نسي واقعه تماماً .
وفي قصة " موج .. رياح .. مطر .." (89) يلجأ إلى احتضار الفرد في صراعه مع الطبيعة . حيث أبحرت السفينة بالبحارة وسط أعماق مترامية ، ثم ساد الجو سكون فظيع توقفت فيه الرياح وعم الجفاف وانتهى زاد البحارة من الماء ، وأصبحوا في لحظات يستقبلون فيها الموت إلى أن ينهمر عليهم المطر . والكاتب يصور هذا الجو المفعم بالمرارة والإحباط ، والمواجهة القدرية بأسلوب المنولوج الداخلي لبحار تنهمر مناجاته النفسية مع ما تشهده مساحة الوعي من قسوة الطبيعة في البحر . وقد استعمل الكاتب عناصر الطبيعة ليربط المناجاة بأجوائها الرومانسية فهو يقول في بداية القصة :
" مياه .. مياه .. أينما اتجهت أنظارنا ، زرقاء .. خضراء .. سوداء.. فضاء لزج يطوفنا . يلزق أجسامنا على خشب السفينة .. رائحته نتنة تشمئز لها نفوسنا.. غثيان يغلي في رؤوسنا الفارغة.. أرواحنا انكمشت .. تلعق الجفاف تلحس الهواء ، تبحث عن قطرة واحدة نشربها . ونحن ما برحنا نعيش على أمل مريض ، مشتغلون دونما حركة . على سطح سفينتنا المرسومة وسط لوحة محيط عفن .. مياهه آسنة .. منذ ودعنا شاطىء الخليج ، وصفحته الزجاجية الهادئة ، ترقد فوق شواطئه ، مدينتنا الصغيرة.. تنعكس على صفحته صورة القمر .. " .
إن الكاتب هنا يقترب من خصائص اللغة الشعرية بما يبث في لغته من تدفق نفسي يقرب ما بين الوعي والسطح . وقد ساعده في ذلك أسلوب مناجاة النفس، ذلك القالب " القريب من الشعر في خصائصه المكثفة ، وفي اعتماده على الإيقاع وفي معجمه الدقيق "(90). وقد استطاع العلي بالفعل أن يخلق نوعاً من الإيقاع للتدفق العاطفي عن طريق الجمل المقطعة الموحية التي ظلت تطول وتقصر . وتتكثف وتنتشر في شكل تدفق الأنفاس الرومانسية المحتضرة المندمجة مع الطبيعة. ولا مراء في أن ذلك يعد من الملامح الفنية التي ترتقي - فنياً - برومانسية هذه الفترة ، كما ترتقي بها أشكال التحليل النفسي الأخرى التي عرضنا لها ، وتضفي عليها لمسات واقعية مبشرة ، وإن كان الكاتب يفسدها أحياناً قليلة ببعض الصور المستهلكـة فـي غريـزة الجنس كصـورة القبلـة فـي قصـة " أبو سعود " السابقة التي جعل لها واقعاً حسياً ظاهراً لا يوظفه بذكاء مع الأغراض الفنية للتحليل النفسي .