القسم الثاني . الفصل الثاني 2

التذبذب في سبيل التحول إلى الواقعية

سليمان الخليفي
محمد الفايز
أمين صالح

تستوقفنا تقنيات التمازج الرومانسي الواقعي في بعض قصص سليمان الخليفي، ومحمد الفايز، وأمين صالح، وفي معظم ما كتبه أحمد حجيري في القصة القصيرة، ونعتقد أن صورة التمازج لدى هؤلاء الكتاب لا تمثل إحدى قسمات التطور الفني الذي جنحت إليها القصة القصيرة في هذه الفترة فحسب، بل إنها علامة على اصطراح مجموعة من قيم المجتمع مقترناً بعدم وضوح الهدف وثبات صورة المستقبل . كما أنها تعد بالنسبة إلى كل كاتب ممن ذكرنا نبؤة الدور الفني الذي سيتبوؤه في الحركة الواقعية لأنه مع هذه الظاهرة يكون في بداية التحول والانتقال إليها.

نجد سليمان الخليفي في قصة (الأسئلة المغلقة) يتقرب كثيراً من الواقع الاجتماعي، ويتخلص من ملامح بداياته الأولى التي جاءت مفعمة بالأجواء الرومانسية المعتمة .. تلك الأجواء المنبثقة من الأعماق الداخلية وليس من الواقع كما رأينا في قصص (مجتمع العظام ) و (خارج اللوحة) و (قاع الجدار). كما أنه في قصة (الأسئلة المغلقة) يتخلص أيضاً من اللغة الذهنية المكثفة وتجسيدها المجرد ليستقر مع لغة قصصية ترتهن بشروط السرد وسهولة الوصف والتخفف من الالتواء والعسر.

وتصور هذه القصة طفلاً صغيراً يعيش في أسرة فقيرة تجمع بين أمه وأخته وأخيه الأكبر، والطفل يطرح عليهم بسذاجة الطفولة وبراءتها مجموعة من الأسئلة التي لا يجدون الجواب عنها، لأنها تمس حقائق من الواقع الذي يعيشونه ولا يستطيعون له رداً أو تفسيراً.

وتجول في محيط الطفل ملامح شتى تشتق حضورها في القصة من مواقف رومانسية وأخرى واقعية، ولعل وصف الكاتب للطفل يعيننا على الدخول إلى هذه المواقف، فهو قد ورث من أبيه) اللاشيء من المال والشيء الكثير من الفاقة والعوز، تجده مجسماً في ملامح أمه وشرود أخته وثورة أخيه)، والصورة العامة لملامح الشخصيات جميعاً تعكس لنا تلمساً واقعياً لأبعاد المعاناة الاجتماعية في هذه الأسرة، ولعل أوضح اللمسات الواقعية التي يضيفها الكاتب في إطار هذه الصورة هو الإحساس الواعي بما ينطوي عليه شقاء وضع الأسرة من معاني التناقض الاجتماعي أو الفوارق الطبقية التي تعد أثراً بارزاً من آثار التطور الاقتصادي في هذه الفترة، ويبث الكاتب لدينا هذا الإحساس في بعض مواقف القصة وأكثرها تمثلاً وبزوغاً في هذا الحوار بين ا لطفل وأمه :
- (أماه ) لم بيتنا صغير ؟
- لو كانت لنا أرض كبيرة لكان بيتنا كبيراً ..
- لم لا نملك هذه الأرض التي أمام بيتنا ...
- إنها أرض الدولة ..
- ومن هي الدولة يا أماه ..
- هي جميع الناس ..
- ألسنا نحن من الناس .. ؟
- بلى ولكن يجب أن ندفع المال أولاً.

- إذن لم لا تدفعين .. ؟
- إننا لا نملك مالاً كثيراً ..
- ومن أين أتى هؤلاء الناس بالمال .. ؟) (5)
مثل هذا الموقف يثير الانطباع الذي تلح عليه الواقعية في حرصها على نقد مظاهر المجتمع الرأسمالي وتناقضاته التي تخلق لها توقيعات نفسية قلقة في الإنسان، حيث تجعله يعيش مرارة الانقسام والسؤال بين من يملك ومن لا يملك، ويتجرع الغصة مع وجود الاستغلال الاجتماعي.

وفي مقابل هذا النهج في إثارة الصورة العفوية لجوهر القضية الاجتماعية نجد الشخصيات الأخرى لا تتناغم مع الإحساس بتعميقه وتجذير وجوده الفني والفكري، فالطفل يستأثر وحده بتفجير الأسئلة حول قضية اجتماعية أساسية ولكن الأم والأخ يسايرون أوضاعهم الداخلية التي تكاد تنطوي بهم انطواء يجعلهم في عزلة عن محتوى الحس الاجتماعي لدى الطفل . الأمر الذي يسوقهم إلى مواقف رومانسية جلية.

إن الأم كما يصفها الكاتب (أدمت نفسها أشواك القدر، ورسمت الأيام في صدرها لوحة ألم) إنها لم تشعر برونق الحياة، وهي فيما تجده من عزاء آلامها في أبنائها لا تملك سوى أن تساير أسئلة ابنها الصغير، وتحدب عليه مستمدة سعادتها من ابتسامته حين تلقي له على الأرض قطعة النقود فيظن أنه قد عثر عليها في بحثه عنها وهو يحفر الأرض . وهي رغم هذه السعادة تعود إليها ذكرياتها القديمة مع زوجها المتوفى، فتعيد إليها الأسى، وتجسم لها آلاماً غائرة في نفسها . والأخت تعيش أزمتها الداخلية الخاصة حتى لكأنها في السبعين من العمر في التجربة بينما هي فتاة عذراء صغيرة السن، لقد ضغطت عليها الحيرة والمرارة فأصبحت تجابه هموماً غامضة، فحين يمتلئ وجهها بالابتسامة العريضة لمرأى أخيها الصغير تكون (روحها محملة على أنغام لناي حزين ليس لعازفه من وجود . دموعها على مقلتيها غشاء كأن عصارة من آهاتها الخفية) وتنظر إلى الحياة بمنظار الشخصية الرومانسية البائسة، فهي لا تدرك فيها جمالاً، وترى نفسها في حياة لا مجرى فيها للحب، كما تبدو لها نفسها، (كطائر ضعيف طار في اتجاه الريح وهو لا يعلم وجهته).

أما الأخ الأكبر فهو يحمل أعماقاً متبرمة من الواقع، ولكن هذا لا يعني أن الأسئلة المغلقة من الطفل الصغير قد وجدت صداها وتجاوبها في أعماق هذا الأخ، فتلك الأسئلة لم تكن تغذي إحساسه بحقيقة الواقع وإنما كانت تغذي إحساساً داخلياً بالضيق والسخط والاختناق، إنه يأنف من إلحاح الأسئلة التي يرددها أخوه الصغير، وبالتالي تتحول ثورته إلى سخط ليس له ملامح واقعية، فهو يسمع أسئلة أخيه ويقول بحنق شديد :
(إني أكاد أختنق من حيز الواقع الضيق .. لكم أمقتك أيتها الشمس العجوز .. لقد عفى عليك الزمن فما عدت تنشرين ضياءك في كل مكان .. ألا ترينها يا أماه .. لقد وهنت خيوط نورها .. لا أعلم هل تأكسدت بعض طبقاتها .. ألا فلتتدحرج خلف الأفق .. ألا أيتها السماء فلتأتي (كذا) بشمس تغير هذه).
ولا يختلف ذلك عن سخط الرومانسيين الذي يثير في مشاعرهم عوامل الضيق والقهر فيتمنون لو يسقط العالم، أو تميد بهم الأرض حتى تزول عنهم أحزانهم وآلامهم مع زوال كل ما يحيط بهم.

بهذه الصورة تجري مواقف الثلاث شخصيات (الأم - الأخت - الأخ الأكبر) إزاء تلك الأطروحة الواقعية التي جسمتها أسئلة الطفل الصغير . وقد بدت تلك الشخصيات تكمل بعضها، فالأم تحمل أحزان الماضي بجروحه القديمة التي تنكؤها الذكريات، والأخت هي الامتداد لأحزان أمها وهي تفجير للحيرة والغموض والاكتئاب التي تتخلق مع تجدد الأحزان . والأخ الأكبر يحمل ذروة المشاعر الداخلية المضطرمة في أعماق الجميع، إنه الحلقة الأخيرة التي تنفرط بسخط يعيدها إلى الشيء الداخلي الغامض الذي لا يمكنها من إدراك ضرورة التغيير بل يجعلها تصرخ في وجه عناصر الطبيعة . وبذا فهم جميعاً يعبرون عن موقف رومانسي يشبه الموجة التي تنكسر دفقاتها عندما ترتطم بالشاطئ . إنه ذلك الموقف الذي ينم عن تلك المسايرة الحزينة، المنطوية مع أعماقها العاجزة بيأسها وآلامها الذاتية.

وقد تبلورت خاصية تنميط الشخصيات في قصة الأسئلة المغلقة بعد أن وجدنا ملامحها الأولى في قصصه الثلاث (مجتمع العظام وخارج اللوحة وقاع الجدار) وهو تنميط مستمد من القالب المسرحي، ويساعد - بدون شك - على المزاوجة بين الأفكار والصور، كما يعين بشكل مباشر على تصنيف الشخصيات وفق أخلاقيات مختزلة، سيركز عليها الخليفي حتى في قصصه المتقدمة فيما بعد.

ويعتبر محمد الفايز من الكتاب الذين تعبر تجربتهم الأدبية في القصة القصيرة عن تعايش القيم الفنية والفكرية التي تضطرب بين تقاليد رومانسية وأخرى واقعية، حيث قدر له أن يبدأ الكتابة مع بداية الستينات من هذا القرن، ليستشف كثيراً مما جاءت به الفترة من قلق وحيرة وتردد وعشوائية . وليست هذه القيم وحدها مناط اضطراب اتجاه الرؤية عند الكاتب، بل إنه يجمع مع ذلك ناحية فنية لها أثرها الواضح في صقل هذه الرؤية وهي إيثاره الشديد لتكنيك النماذج البشرية الذي يدفعه إلى اصطفاء أو التقاط نماذج من الواقع تساير عناءها وهمومها اليومية بتطامن واستسلام، وهذا مما يكسب قصص الفايز طابعاً يقترب مما تنتهجه الواقعية التسجيلية في ملاحقة هموم النماذج البشرية، وتصوير حياتها بما هي عليه من يأس أو رجاء، وتطامن أو مقاومة، ورفض أو مسالمة.

ونجد ملامح واضحة لكل ذلك في قصة (الفيلسوف) (6) التي يهتم فيها بتصوير بعض السمات البشرية لشخصية يشتقها من صميم الحياة الاجتماعية في الكويت . إنها نموذج للطبقة العاملة المهاجرة . ينتمي إلى الأقلية العمانية التي دخلت الكويت بعد التغيير بحثاً عن حياة أفضل وكسب أوفر مع التطور الاقتصادي في هذه الفترة.

وتتميز هذه الأقلية التي صور الكاتب جوانب من حياتها في أكثر من قصة بسذاجتها وبراءتها وعدم تأثرها بمظاهر الحضارة الجديدة، فهي حين تدخل الكويت أو غيرها في منطقة الخليج العربي تدخلها بقيمها ومثلها الأولى، فتبدو لها الكويت المدينة العصرية ذات الضجيج والصخب الهادر . بينما تظل (عمان) شوقها وحنينها الذي يعيد إليها براءتها وصفاء مجتمعها البدائي . و (برّوك) في هذه القصة هو العماني الفقير الذي يشتغل خادماً مع أسرة غنية . تعتمل في وجدانه كثير من المشاعر الإنسانية الصافية التي تتبلور أحياناً في أفكار عفوية تكشف عن وعيه الاجتماعي المبكر، وإدراكه للتناقض الكبير الذي يلف حياته بالحزن والكآبة. إنه يردد أفكاراً عن المرأة والسياسة جعلت الرجال الذين يقدم لهم القهوة في مجلس سيده يطلقون عليه (الفيلسوف) لا ليثيروا نحوه العطف والحب بل ليسخروا منه ويضحكوا عليه، وهو يدرك ذلك فلا يخاف منهم بل يتنامى في داخله الإحساس بالتناقض الاجتماعي والقسمة الجائرة التي تجعله في موضع السخرة وتجعلهم في موضع الاستغلال، ولهذا يحدث نفسه :
(إني خادم) عماني (فقير، ومعنى هذا أن لابد من أن يسخروا مني، هؤلاء الأغنياء المتعجرفون إنهم عندما يتحدثون عن مواضيع بعيدة عن مصالحهم فإنهم يقصدون من وراء ذلك التسلية والسخرية، لا غير آه . إنني أشعر بالضيق عندما أقدم لهم القهوة . ولكن ماذا أعمل .. إنني لا أحسن غير هذا).

هذه الصورة التي تبدو عليها شخصية العماني تتميز باللون الواقعي لأنها تلتحم التحاماً شديداً مع مظاهر جوهرية في الواقع الاجتماعي، وتمس أبرز آثار التغير الاقتصادي في البلاد، لذا فهي تقربنا كثيراً من قلق الواقع بأسره.

بيد أن الفايز لا يتوغل كثيراً مع لمسات هذه الصورة . فمظاهر الاستغلال والواقع الرث التي يعيشها بطل القصة خلقت منه إنساناً يهرب نحو معاناته الداخلية التي يلفها الحزن والحنين إلى (عمان) رمز البراءة والصفاء في وجدانه الغض، ثم العزلة مع الراديو (الترانزستور ) الرمز الوحيد من مجتمع الكويت الذي يثير لديه نداء الشوق . ثم تجاوبه مع مشاعر الطفلة ابنة سيده التي امتزج شوقها الفطري إلى الحب مع شوقه هو الآخر . وشعر بعد أيام أنها تكنّ له شيئاً لذيذاً يمس نقصاً وفراغاً كبيراً في حياته، وتجلس معه ساعات الليل الطويلة . من كل ذلك بدت صورة أخرى تقوم على تفاعل المشاعر الأولى بين الطفلة والصبي العماني . وهو ما جعل تصوير النموذج البشري في هذه القصة يتمازج بين نزعتين واقعية ورومانسية.

والسياق الفني الذي يتراوح بين النزعة التسجيلية والنزعة الرومانسية نجده أيضاً في قصتي (الكلب ) و (التفاحة). حيث يبدو أثر المنحى التسجيلي يشيع في القصتين ارتباطاً قوياً بمظاهر البيئة المحلية في الكويت، فتحفل بإشارات عديدة عن وجود الغرباء، مع تلك اللوحات الواقعية التي يرسم في جوانبها بقالة (المهري ) والبائع اللبناني العجوز، وبيوت الحكومة، وأطفال الشوارع ونحوها من المظاهر التي توحي بالتصدع في الكيان الاجتماعي . نجدها بمثابة إطار فسيح الأرجاء تخرج من بينها تلك الكوة الرومانسية في تصوير الكاتب لمشاعر الأطفال وحزن الغرباء.

ويستمر محمد الفايز في الجمع بين النزعة التسجيلية والنزعة الرومانسية في قصة (بقالة العم خليفة) (7) مستفيداً من أسلوبه الفني الذي يشتق النماذج البشرية، ويرسم مواقعها مع مظاهر البيئة الشعبية متأثراً في ذلك بالقصة الروسية، وبخاصة في تلك اللوحات الواقعية التي تنقل حياة الأطفال، وتتمثل مشاعرهم من غير تكلف أو افتعال . ولعل هذا أكثر ما حققه الفايز في هذه القصة وفي غيرها مما سبق عرضه . والعم خليفة من الشخصيات التي يؤثر الكاتب تأملها والوقوف مع مشاهد حياتها، إنها من تلك الشخصيات التي تحمل ذكريات الماضي كما رأيناها في كثير من قصصه السابقة، وهي في هذه القصة تكون محور الصورة التسجيلية التي ينقل الكاتب تفاصيلها بعناية شديدة، حيث يجسم لها حياة مألوفة لا تلبث أن تكشف عن خلل جسيم.

وتبدو اللمحات الواقعية في مقدرة الكاتب على تسجيل معالم الموقف الطبيعي الذي يجمع بين (العم خليفة) الشيخ الأعمى وحانوته، وخادمه المهري (سعيد) ثم الأطفال الأشقياء الذين يضايقونه ويسرقون الحلوى ليتخبط بعصاه وتثور ثورته وتزداد نقمته على كل شيء حتى خادمه، وحين يتمكن من إبعاد الأطفال بحيلة يحتالها تبرز له مشكلة دخول الفئران، فلا يجد مخرجاً في نهاية القصة سوى أن يعود إلى امتهان السمسرة .. مهنته القديمة قبل أن يفتح الحانوت.

والسمة الرومانسية التي يحملها العم خليفة في هذه القصة هو أنه شخصية تنتمي إلي الماضي ويبرِّح بها شوق شديد إلى الواقع القديم، وبخاصة عندما يتفاقم إحساسه بالإيذاء مع الحانوت في الحارة الجديدة، فتبدو مشكلته في عدم قدرته على التكيف بعد انتقاله عن عالم الحارات القديمة، فهو شخصية ترفض التغير، وتعبر عن قلقه وعدم القدرة على تقبله حين يقول: (إننا لن نستطيع أن نتكيف بسرعة في هذا الواقع الجديد لأنه لم يكن من صنع أيدينا).

إن ) العم خليفة ( في هذه القصة امتداد لشخصية ) أبو فهد ( في قصة ) مدينة بلا ماء ( بما عبرت عنه من رفض التغير الطارئ . ولكن ) أبو فهد ( كان مع شوقه إلى الماضي نموذجاً إنسانياً حالماً، في حين كان العم خليفة مصبوغاً بملامح واقعية تخلف له إطاراً يصعب أن يحلق فيه كما كان في الماضي . فهو لم يستطع أن يظل في الحانوت الجديد، كما أنه لم يستطع أن يعود سمساراً في بيع وشراء (الحمير) إذ مضى وطر هذه التجارة، ولكنه استطاع أن يعود سمساراً في بيع وشراء البيوت، وهي التجارة التي جاء بها التغير الاقتصادي، وكأن هذه الشخصية برفضها للتغير تعود للتلاؤم معه من جديد لتكون بعد ذلك نموذجاً لإحدى الشرائح الاجتماعية التي خلقها التغير في الستينات.

ويظل محمد الفايز في كثير من قصصه القصيرة متمسكاً بالخصائص السردية لهذا الأسلوب الذي يترصد النماذج البشرية من سطح الواقع، وليس من أغواره العميقة، مما يجعلها عرضة لأن تلتصق بها قيم الواقع الذاتي، حيث تبرز غالباً بشكل عفوي لا تنفصل عن ذات الكاتب . ولا يبدو هذا السطح من التقاط النماذج فحسب، فالتبسيط الواقعي يبدو حتى في الموقف القصصي الذي يضم الشخصية، ويعانق وجودها الواقعي، بل إن العدد الكبير من قصصه يستمد التسمية الفنية من ذلك التبسيط الذي ينظر به الكاتب إلى واقع نماذجه البشرية، فهي على الأغلب ترجع بنا إلى الحرفة، أو الصفة الأخلاقية، أو الطابع العام الذي يشكل التركيبة الاجتماعية كقصص (الفحام ) و (الإسكافي) و (الزوجة) و (الزوجة الثانية ) و (الرسام ) و (الفيلسوف ) و (البحار ) و (المتمرد ) و (المراهقة). أو أنها ترجع بنا إلى مجرد التسمية المألوفة التي لا أثر لها في التحديد النفسي والاجتماعي للشخصية، كقصة (طيبة ) و (منى ) و (بقالة العم خليفة ( ولعل قصة) أم عبد الله ( (8) ترسم لنا بصدق أسلوب الفايز الذي ترتد تقاليده المتذبذبة إلى تلك النظرة العفوية العابرة، فالقصة تقف مع شخصية نسوية يصور حياتها الخارجية، التي تبدو من خلال ما يقوله الناس عنها . فأم عبد الله كما يصفها الكاتب في بداية القصة (كان البعض يقول عنها مجنونة، وفي رأسها عفريت، والبعض يقول أنها ساحرة، إذ كثيراً ما سمعناها تتحدث عن أشياء مجهولة . أما البعض الأخر فكان يقول أنها من أهل الله . وتظل هذه الصورة الخارجية عالقة بها حتى نهاية القصة لتعطينا عنها أكثر من انطباع، إنها تبدو ذات سلوك شاذ . كما تبدو امرأة متبرمة، أو سليطة اللسان، وتبدو بعد ذلك مثيرة للرثاء والعطف والبؤس . ورغم أن الكاتب يسرد كل ذلك بأسلوب تسجيلي يتابع تفاصيل المظهر الخارجي للشخصية، فإن أبرز الملامح المرتبطة بها تصلها بنظرة رومانسية واضحة، فهي امرأة متبرمة تحمل حنقاً شديداً ورفضاً لما حولها، ولكن لا نكاد نلمس شكلاً محدداً لهذا التبرم . إذ تحيط به غشاوة الرؤية لدى الكاتب التي لم تستطع أن تصل موقفها الحانق بقضية اجتماعية شاملة، أو أن تعمقه بدلالات درامية تتحرك بنمو في حياتها الداخلية . وهذا ما يفسر ثبات الصورة الخارجية اللامحددة التي بدأ الكاتب بها في وصف الشخصية.

وتمتد مظاهر التزاوج وقلق الاستيعاب الفني لدى الكاتب إلى أسلوبه التعبيري، ففي حين يستمر في الوصف الهادي الذي لا يلجأ إلى المبالغة والتهويل ولا يغريه الحشد اللفظي، نجده يمزق ذلك بتدخله المباشر، الذي يباعد بينه وبين الواقع الموضوعي، فهو يلجأ إلى تفسير تذمر أم عبد الله على هذا النحو :
(لكل نفس رغباتها وأحلامها وعندما يتعذر علينا تحقيق هذه الأحلام أو هذه الرغبات نكون أشبه بالمرضى المعلولين . يستفزنا كل شيء ويثيرنا كل شيء على ضوء هذه الحقيقة أستطيع أن أفسر سبب تذمر أم عبد الله).

ويمكن القول أن للفايز لغة تسجيلية ذات نكهة خاصة تميزه عن كثير من الكتاب الذين عايشوا القلق الفني والفكري، ولكنها لا تثبت برصانة مطردة بل إنها تتراوح رقياً وهبوطاً. وهي في أحسن الأحوال تحقق مظهراً سكونياً للنموذج البشري لا يخلو من الدلالة الاجتماعية، كما تسجل له ارتفاعاً في مؤشر السرد القصصي الذي يلجأ إلى المواقف المألوفة ليستمد منها حيوية الواقع . وحيث ترتبط السردية التسجيلية بسرعة الموقف وخلوه من بث عناصر تأملية عميقة فإنه يلتمس بوارق تأمل تخفف من عشوائية التسجيل واعتباطيته، وقد وجدنا ذلك في قصة (بقالة العم خليفة (، كما نجده في قصص أخرى منها قصة (العيد والذباب) (9) التي تصور بعض المظاهر اليومية، تمر بها بائعة الباقلاء (من الشخصيات الشعبية في مجتمع الخليج العربي) فيسجل الكاتب حركاتها وصوتها وإشفاقها على الصبي الذي يرافقها . ويثير من خلال ذلك ما ينطوي عليه الطابع التسجيلي من الحزن والكآبة، والحرمان، ونحو ذلك مما يوحي بالتطامن الشديد للواقع.

وتنفرد بدايات أمين صالح في القصة القصيرة بصياغة مغايرة تقوم عليها صورة التذبذب بين الواقعية والرومانسية، ففي حين بدأت قصص الخليفي والفايز بمواقف أو أجواء واقعية انتهت بأخرى رومانسية نجد الأمر يجري بصورة معكوسة عند أمين صالح في قصصه الأولى ) الضحية ) و (الحبل) و (إنسان وقضية ) و (الحيبية وقسوة الانتظار).

إن أمين صالح في هذه القصص يقدم لنا شخصيات ذات أهاب رومانسي سافر يعلن عن نفسه بوضوح شديد، ولكنه يجعل هذه الشخصيات تواجه امتحاناً عسيراً يجسِّد لها ضرورة جديدة، ينبثق منها الواقع الذي ينبغي أن تدركه، وتنضم إلى حظيرته بدلاً من أن تستمر في غلواء عزلتها وتفريط هواجسها الذاتية.

في قصة (الضحية ( نجد البطل يعاني مشكلة انفصاله عن واقع الغربة الذي يهيب فيه شيئاً داخلياً مفقوداً، وهو كيف يمكن له أن يقف موقفاً واقعياً من مظاهر الاستلاب في قريته ؟ إن مشاعره ومواقفه تكشف عن تجويف رومانسي غائر في أعماقه، فالجميع في القرية يقول عنه (خيالي) حيث يقضي ساعات يومه متطلعاً إلى البحر فوق صخرة مرتفعة ينظر منها إلى الأمواج التي تتكسر كما تتكسر آماله الكبار في قريته . ولا يقتصر الأمر في عزلته عن الناس بل إنه في البيت لا يكاد أحد من أفراد أسرته يشعر بوجوده، فوالده لا يثق فيه، وكل الأمور المهمة المتعلقة بالأرض يستشير فيها إخوانه الكبار، ويظل يعيش حقيقة سرابية يتأملها في البحر، ويدعو إليها أهل قريته بدلاً من أن يمسكوا المنجل، ويعيشوا مع التراب، وفي الوقت الذي يكون بطل القصة منسياً بعزلته وأوهامه ترزح القرية تحت معاناة الاستغلال الاجتماعي الفاحش من الحاج كاظم أغنى أغنياء القرية الذي يملك الأراضي ويطمع في أراضي الفقراء.

إن هذا الواقع الذي ينفصل عنه بطل القصة لا يلبث أن يكشف له وعياً جديداً، فقد استلب الحاج كاظم أرض والده ومات هذا الأب كمداً وحزناً، ومن هنا تبدأ صيرورة الوعي والتحول الذي يمزق ذلك الإهاب الرومانسي السافر، فهو يقول بعد أن فقد والده :
(أبكي بشدة سنوات حياتي التي قضيتها أحلم في عالم من الخيال.. تاركاً أسرتي تتمرغ في التراب، بينما كنت سابحاً في بحر من الخيال كنت فوق في السماء أبحث عن الحقيقة بين السحاب بينما الحقيقة تحت الأرض .. تخرج من باطن الأرض، مع كل ضربة فأس) (10).
ويبعث لديه هذا الموقف الجديد فعلاً من أفعال الاحتجاج والثورة، فيقتل الحاج كاظم بعد أن اقتنع أن الحقيقة تكمن في صدر هذه الطاغية، وليس مع أسرار البحر الذي كان يتطلع إلى أمواجه.

من هذا السياق الغني للحدث يتضح لنا كيف يجمع بطل أمين صالح بين موقفه الرومانسي وموقفه الواقعي فالحق أنه شخصية تحمل في صدرها مشاعر رومانسية فضفاضة منذ بداية القصة وحتى نهايتها . بيد أن الكاتب حين جعله يدرك أن أسباب مأساته تتجسد مع وجود (المستغل) الحاج كاظم يكون قد أضاء الموقف العام بميسم الواقعية النقدية . فجعل من الصعب أن يقال شيء عن طغيان السمات الرومانسية في بناء الفعل الدرامي لقصة الضحية.

ولا ينبغي أن نغفل بعد ذلك عن ناحية فنية تؤكد جاذبية الأسلوب الواقعي في القصة، فقد جعل الكاتب سياقها في شكل منولوج داخلي طويل، يستغرق جميع مواقفها، وكأن البطل في لحظة من لحظات الارتداد إلى الماضي، وهو ما أبرز لنا اعتمال الحركة النفسية بقوة وحيوية تدفع إلى موقف الانتقام.

والصورة الداخلية للبطل في قصة (الحبل) (11) تحمل لنا وجهاً رومانسيا، ولكنه لا يستقر على موقف انفصالي من الحياة، بل إنه يتذبذب بين الانفصال والرغبة في التلاؤم والتغيير للواقع . لقد جعله الكاتب إنساناً يفقد كل المعاني التي يمكن أن تربطه بالحياة . فهو منبوذ مرفوض من محيطه الاجتماعي بسبب وجهه الدميم المشوه ويده المقطوعة . يعيش على هامش الحياة عاطلاً يبحث عن العمل فلا يجده، ويبحث عن المرأة فلا يجدها بسبب عاهاته المزمنة، وفي كل لحظة من لحظاته تلاحقه الأنظار المزرية . وحين يعود إلى غرفته المظلمة الكئيبة التي تشبه زنزانة يحبس فيها دموعه وآهاته يفاجأ بمن يطلب منه الإيجار . من كل هذه المظاهر الاجتماعية والنفسية المحيطة يعيش بطل القصة تشاؤمه وعزلته حتى يقوده ذلك إلى الانتحار.

ولكن رغم هذا السياق الرومانسي الذي يؤدي به إلى الهروب والتخلص من الحياة فقد ضم البطل بين جوانحه رغبة عارمة في البقاء، ورغبة في العمل ورغبة في استرجاع الأشياء المفقودة، ورغبة في تغيير واقعه، وبخاصة تلك الخلقة المشوهة التي تسلط عليه قدر الإحباط والتحطيم، لقد أصبح بذلك إنساناً يتمسك بالواقع رغم أنه يرفضه، فبدأ مع مشاعره الحزينة وحياته المؤسية مثابراً من أجل أن يعثر على أوهى الخيوط التي تربطه بالحياة.

وتبدو قسمات جلية من الواقعية النقدية في بطل قصة (إنسان وقضية) (12). فالبطل يحمل غضباً وحنقاً وألماً متفجراً في أعماقه، مما يتعرض له من امتهان وسخرة في العمل، فقد قضى عمره يلهث وراء كلمة الصبر التي يعده بها رئيسه من غير أن يتغير شيء في حياته، حيث يظل العمل والعرق والراتب الضئيل والخمسة أولاد . والقيمة الفنية البازغة في تشكيل بطل هذه القصة أنه يدرك مدى الاستلاب الذي يفرضه عليه ذلك الواقع، وهو ما يثير لنا جانباً جوهرياً في صراع شريحته الاجتماعية مع أرباب العمل وذوي السلطة الاقتصادية النافذة في المجتمع.

ولكن الكاتب يحاصر بطله بموقف له جذور رومانسية بعيدة، فهو أمام ذلك الواقع يعيش إحدى ذروات العجز والمسايرة لكلمات الرئيس ) الصبر يا رجال .. لا حياة بلا تعب . نحن نطلب وأنتم تطلبون وطلبنا مقبول). هذه الكلمات بما تحث عليه من صبر ومجاراة وتخاذل . تشكل إيقاعاً داخلياً للموقف القصصي تتنامى معه سمات العجز والنكوص الذي ترتد إليه النظرة المتذبذبة بين مقاومة الواقع أو مسالمته ومهادنته، وبين الهروب من النهار أو البحث والحلم ببناء جسر كبير يعبر به بحيرة من جماجم مثقوبة وعيون مفقوءة ورقاب مقطوعة وجثث حمام وأطفال.

بهذه الصورة يتمزق البطل بين وعي الشخصية الواقعية أو ارتدادها إلى ضعفها المحبط الذي لا يتمّ عملية الوعي وإنما يجعلها مجللة ببعض الثغرات.

ولا يختلف السياق الفني الذي يجسم وجهتي الموقف الممزق بين الواقعية والرومانسية في قصة (الحبيبة وقسوة الانتظار) (13) عنه في قصة (الضحية) التي تسبقها في تاريخ النشر بعام واحد تقريباً . فالبطل يعيش الآثار النفسية والاجتماعية التي تخلفها معاناته الذاتية ومسايرته للواقع، رغم ما يدرك حوله من تناقضات، فهو يعيش قسوة الواقع التي يراها مجسمة في نماذجه البشرية المحرومة، ويعيش واقعه المتخلف ممثلاً في أمه التي تنكفئ مع طقوس الزار ثم يعيش حرمانه من الحبيبة التي تنتظره ولا يستطيع أن يفعل لها شيئاً لأنه لا يملك المال . كل ملامح الضعف البشري هذه لا تقرر مصير هذه الشخصية بصور ة فاصلة إذ لا يلبث أن يعود إليها (ظلها) رمز وجودها وكينونتها الواقعية، ليجعل منها شخصية تعبر عن مقاومة للواقع.

لقد دأب أمين صالح في هذه القصص على أن يجعل أبطالها في حالة مزدوجة، ففي الوقت الذي تكون في حمأة أزمتها الفردية (العزلة النفسية، فشل التجربة، الحرمان من المرأة، النقص البيولوجي ونحوها). نجدها في حاجة ماسة لموقف أكثر موضوعية وأكثر قدرة في التعبير عن أصالتها الإنسانية التي تجابه بها الصراع مع تناقضات المجتمع، وهذا ما يؤدي بها إلى التذبذب أو تمزق السياق الفني الذي يبني الشخصية ويشكل مواقفها.

وأيا ما كان الأمر فإن أسلوب الكاتب في قصصه السابقة يحمل - رغم تميعه - تباشير الأسلوب الفني الذي ينتقل إليه أمين صالح في السنوات الأخيرة، وهو الأسلوب الذي سيؤكد تطوره نحو واقعية حديثة تعتمد الكثافة الشعرية والصور التجريدية اللاواعية التي تحمل روائح مأساة عميقة . ففي قصة ) إنسان وقضية ( يستخدم بعض صور اللاوعي، كتعبيره عن الحلم ببحيرة الجماجم التي سبق الإشارة إليها، وتعبيره عن عزلته بصورة أخرى تجسمه عارياً بلا أسلحة يواجه البشر الذين يبدون جميعهم بنسخة واحدة كتماثيل من الخشب، وفي قصة (الحبيبة وقسوة الانتظار ( يعبر الكاتب عن صيرورة الموقف بالظل بحيث ينفصل عنه في لحظات العجز، ويلتصق به في لحظات المقاومة، ويضيف الكاتب إلى ذلك قدرته على تعميق تلك اللحظات بمواقف خلفية ذات طابع إيحائي . فعندما يتوانى البطل بأحزانه بعد فقد الحبيبة يقول الكاتب :
(وفاطمة تنتظر الذي يحمل الشعلة ويسير بها متحدياً الظلام . وهو .. هل هو المنتظر .. يفتح الراوي العجوز كتابه القديم ويقول بعد أن يبصق في عيون المستمعين : (كان ياما كان .. في ستينات القرن العشرين شاب مجنون .. سار من مدينته قاصداً القرية وعندما سألوه عمن تبحث .... أجاب العدالة يا ناس )).

هذه الملامح الفنية عند أمين صالح تضعنا عند مشارف الانتقال الذي سيحقق له أسلوباً مميزاً بين كتاب القصة القصيرة في البحرين والكويت، فهي تحمل أهميتها من صورتها الفاصلة بين مرحلة البحث والانقسام ومرحلة التجريب والتجاوز، وهي تؤكد دورها الذي يقوم بالتبشير والإرهاص والدفع نحو التطور الفني البعيد للكاتب كما سنرى ذلك.
وفي حين نهضت تجربة المزاوجة بين تقاليد الرومانسية والواقعية بهذا الدور في بعض قصص أمين صالح وسليمان الخليفي، وجدناها قد انتهت بمحمد الفايز نحو أبلغ ما يمكن أن يصل إليه فنه القصصي . فهو في القصص السابقة يعد أكثر رصانة واهتماماً بالواقع من تلك القصص التي عرضنا لها في استمرار الرومانسية، ولم يستطع بعد ذلك أن يتجاوز هذا المقدار من الاستيعاب للشكل القصصي أو للمواقف الاجتماعية التي يعالجها، فقد ظل طوال الفترة القصيرة 1963 - 1965 التي كتب فيها عدداً من القصص لا يهتم بتخمر التجربة أوصياغة خبراته ونظراته بتأمل ودقة، بل إنه كان يجري وراء لهاث الصحيفة الصادرة . كما أن ارتباط اهتمامه القصصي بالثلاث سنوات يعد ارتباطاً بعمر زمني قصير لا يتيح له فرصة كافية للتجريب، والانتقال والتطوير . ولعل مما يؤكد ذلك أنه حين انتقل إلى فن الشعر، وثبتت تجربته الشعرية سنوات عديدة استطاع أن يحقق له جهداً متطوراً عن غيره من شعراء الكويت، كما استعاد بعض الثيمات الشعرية في قصصه وطورها في صيغ شعرية متميزة، أبرزها ديوانه (مذكرات بحار).