القسم الثاني . الفصل الثالث 2

علي سيار الواقعية وميلاد المعنى الجديد

إن أكثر من يتمثل لديه تطور أدوات التحليل الفني في القصة القصيرة نحو الواقعية هو علي سيار، فهو قد عايش جهود القصة القصيرة بين جيلين، الجيل المؤسس في الأربعينات والخمسينات، والجيل المؤصل في الستينات والسبعينات. ومن خلال هذه المعايشة يمكن للباحث أن يدرك المنظور الذي ارتدت إليه النزعة التحليلية في أعماله القصصية . ففي الفترة الأولى تأثر فيما كتبه من قصص قصيرة بالأجواء الرومانسية التي كانت تبهر الكاتب المبتدئ، وخاصة حين لا يجد ما يصل به تجربته الأولى من تقاليد فنية تحقق له موقفاً جديداً بركائز ثابتة.

ومن هنا جاءت قصتا ) أشباح الليل) و (دموع العيد ( وكذلك القصتان اللتان حملتا رواسب البدايات الرومانسية وهما (السيد) و (في يدي جماجم) رغم أنه كتبهما بعد عودته إلى الكتابة في الستينات، فقد جاءت هذه القصص تحمل صياغة الموقف الرومانسي، حيث لم يستطع الكاتب أن يجعل من أبطالها سوى نماذج تمثل ذاتها وتركيبتها الفردية بما تعيشه في واقعها من خيبة وهزيمة.

وقد كان الكاتب في هذه القصص يلجأ إلى أسلوب التحليل الذي ينفذ بقدرة كبيرة إلى الأفكار الداخلية للشخصية حتى يمكن أن يقال أنها من قصص الشخصية الواحدة بما كان يقوم به الكاتب من التفاف حول سلوكها ومشاعرها ومواقفها التي ينصب لها كثيراً من الاهتمام، ويستنبط لها كل ما أوتي من قدرة في عرض التفاصيل وحبكتها.

بيد أنه في هذا التحليل لم يخلق لنا سوى شخصيات عاجزة متشبثة بمواقفها الفردية في المجتمع، ومؤثرة حياة الانطواء مع مصائر الحزن والغربة والجنون، وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت تلك القصص تتميز ببعض التقاليد الواقعية، وخاصة فيما نهجته من تحليل يبحث عن الدوافع النفسية والاجتماعية بأسلوب لا يجنح إلى المبالغة والإغراق . ونعتقد أن ذلك هو تأشيرة الدخول للأعمال القصصية الأخيرة لعلي سيار، إذ أن قصصه الأولى هي التي بشرت بحسه الواقعي، وصقلت مدركاته بصورة واضحة من المعطيات الفكرية والاجتماعية الجديدة في سنوات الفترة الثانية (الستينات، السبعينات).
من أجل ذلك تأتي النزعة التحليلية في واقعية علي سيار متمتعة بسمت فني رصين، مطرد القسمات، وكأنها تشتق تقاليدها من خلاصة . أو تؤكد إتيانها من تجربة أدبية تجني ثمار غرسٍ حان موسم طوالعه وخضرته، وربما كانت السمة البارزة في هذه الواقعية هو اهتمامها بالرصد الداخلي لظواهر القلق في حياة البرجوازية الصغيرة التي يجعل الكاتب نماذجها تحتمل معاني الاستلاب والإحساس بزيف الحياة الحاضرة، وهي لذلك تنحدر في تركيبتها الاجتماعية من فئات الموظفين الذين يؤثر الكاتب متابعة ما يكتنف حياتهم الداخلية من تناقضات، وربما يرجع ذلك إلى تأثره بتقاليد الواقعية في القصة العربية وخاصة عند نجيب محفوظ.

لقد استطاع علي سيار في قصص ) حكاية عشرة دنانير) و (سأطردك يا عبدالسلام ) و (شمس لا تشرق كل يوم) و (المأزق) و (السلالم) أن يعبر فيها عن كثير من عيوب المجتمع البرجوازي الجديد، وخاصة في مظاهر التحلل والفساد البيروقراطي التي دخلت بقوة مع تطور الجهاز الإداري في هذه الفترة، منذ بدء الاتجاه إلى تكوين الدولة الحديثة . وقد تمكن الكاتب من هذا التعبير بما أعد لأسلوبه القصصي من قدرة تحليلية مركزة تجعل من الشخصية الواحدة مدارها الأساسي . وتلجأ إلى اختيار أكثر المواقف القصصية إيغالاً وحرجاً وتأزماً كي تكون قادرة على استجلاء ما يطرأ على حياة الشخصية من تحول واستبصار، ولا يقتصر محتوى التحليل الواقعي على ذلك، بل إنه يجسم الفساد والشذوذ من خلال اختياره للنماذج السوية التي تكون أزمتها الاجتماعية والنفسية فيما يعشعش حولها من زيف وتحلل.

في قصة (حكاية عشرة دنانير ) (7) يستجلي الكاتب موقفاً نفسياً حرجاً في شخصية سوية تكشف جانباً مما تدل عليه شريحتها الاجتماعية من أمراض، فالبطل موظف صغير تقف أمامه مجموعة من الذين يريدون إنجاز معاملتهم . وهو يستلم أوراقهم واحداً بعد الآخر، وفجأة يبرز له أحدهم من آخر الصف ليقدم له مغلفاً به عشرة دنانير حتى يمرر له معاملته قبل غيره . ويمسك الكاتب التفاصيل النفسية والواقعية لهذا الموقف ليحيله إلى لحظات صدامية عنيفة تستبطن مظاهر الخلل والانحراف التي تتخذها البرجوازية ذريعة لصعودها.

ويعتبر الموقف الذي اكتشف فيه بطل القصة الرشوة من الرجل من أعمق المواقف الواقعية التي تعتمد على تحليل الدلالات الظاهرة والباطنة، وتتابع مـظـهـرهـا النفسي بدقـة تستحــوذ الانتبـاه، وتستقطـب أجمل مـا يحدثـه أسـلـوب (المنولوج الداخلي) من قدرة على الاستحكام والسيطرة للموقف الراهن فهو يجعل البطل محاطاً بالعيون الكثيرة التي تحدق فيه، وتنتظر الانتهاء من مصالحها، وفي غمرة ما ينهمك به من عمل يشذ من بين الجميع رجل يلمح فيه (ابتسامة لزجة) يقدم معها عشرة دنانير، وهنا يصف بإيقاع سردي متلاحق كيف يرفض البطل هذه الرشوة بصورة متلائمة مع تلقائية المشهد وعفويته . فهو بين إحساسه بتفاهة الرجل الذي تحول أمامه إلى (تمثال من الشمع بعين زجاجية) وبين عيون المراجعين التي تحيط به وتبدو له جمراً أحمر يلسعه بقوة، وبين مشاعره المختنقة بزيف المشهد والمضطرمة بالرفض والصراخ الداخلي . بين كل ذلك يشعر بالموقف الحارق الذي يجعل الظاهر والباطن وجهاً واحداً لمدى تأزم وحرج لحظاته المتلاحقة حتى أصبح وكأنه أمام موقف من مواقف الانهيار :
) عيناه هو الآخر جمر أحمر أنا مشدود لهاتين العينين .. مشدود إلى كل العيون في وجوه كل الواقفين ... كل الجمر الأحمر ... النار تأكلني، تأكل عيني .. تحرق لساني .. تلسع أصابع يدي .. النار .. النار .. أ .. أ .. و ..) (8).
بيد أن ذلك يحرك في أعماقه الصحوة الرافضة التي تحيل اضطرام الموقف إلى احتراق لكل ما يدل عليه من زيف وفساد وانحراف، ولذلك تنبثق مع هذه الصحوة التعرية الكاملة لذلك السلوك الذي أقدم عليه الرجل، خاصة حين أدرك أنه فعل ذلك بتحريض من أحد الموظفين (يوسف) الذي عرف بالنفاق والوصولية والتلصص على صغار الموظفين ورؤساء الأقسام، مما يجعله ينهي الموقف بمواجهة فاضحة يقول فيها للرجل : (لست أكثر نذالة من يوسف .. تفضل مكانك في الطابور).

وبقدر ما تحمل هذه العبارة من إدانة وتعرية، تحمل ميلاد المعنى الجديد في تلك المواجهة التي أحاطتنا بموقف الشخصية من بعض ظواهر التحلل الاجتماعي.

ويلح نقد الكاتب على ذرائع صعود البرجوازية في قصة (سأطردك يا عبدالسلام ) (9) بصورة أخرى يستمد جوانبها الاجتماعية والنفسية من مجتمع الموظفين أيضاً، والكاتب يصور فيها ذلك الموظـف الكـبير الـذي وصـل إلـى رتبــة (وكيل وزارة ) عن طريق (الواسطة) بعد أن كان مهملاً في الدرجة السابعة مع صديقه القديم (عبدالسلام ) الذي كان يعمل معه في التدريس، ووفاء منه لهذا الصديق قام بنقله إلى وزارته بعد أن أعيته مهنة التدريس، وأهدرت رحيق شبابه من غير أن يتحقق له أمله في تحسين وظيفته، ولكنه يفاجأ بقرار الوزارة في الاستغناء عن بعض الموظفين ومنهم (عبدالسلام) بدعوى أنه زائد عن الحاجة . ويكون عليه هو أن يوقع قرار الاستغناء عن ( رفيق عمره). ومن خلال هذا االموقف يصور الكاتب الصراع الداخلي الذي يضج بالحيرة والتأزم والرفض، فالقصة تبدأ بذلك الموظف الكبير وهو يوقع قرارات الاستغناء، وما أن يرى ورقة صديقه القديم حتى يزيحها جانباً . لتنثال عليه ذكرياته الأولى مـع (عبدالسلام)، هذا الاسم الذي يعني له سطوراً من تاريخه . والذي يشم رائحته من ثيابه، ويحن إليه بقوة كلما تمعن فيما هو عليه الآن، وفيما كان عليه قبل الترقية التي قفزت به سلم الوظائف جميعها، وتشده ذكريات الصديق إلى أيام العمل المضني والعاطفة البريئة التي كان يكنها لابنته من غير أن يجرؤ على مفاتحة رفيقه فيها . كل هذه الخيوط المتينة التي تربطه بعبدالسلام تجعله يصرخ رافضاً قرار الاستغناء عنه.

وفي هذه القصة يصور الكاتب أكثر من مفارقة يقوم عليها صعود البرجوازية وتحكم سلطتها البيروقراطية، فقد تحولت شخصية ) عبدالسلام ( إلى أداة حقيقية تكشف جميع أشكال الزيف والتحلل التي تدل عليها حياة الموظف الكبير. وبطل القصة الذي يتمثل شقاء رفيقه القديم وكأنه يتمثل رمز الحقيقة الآفلة، المسحوقة بالنفوذ البرجوازي، كما تحول قرار الاستغناء إلى شكل من أشكال الاستغلال الذي يقوم به الجهاز الإداري، فهذا الموظف البسيط الذي عمل خمساً وعشرين عاماً من التفاني والإخلاص في التدريس تكرمه الوزارة في نهاية عمره بقرار الاستغناء ) بعد أن سرقت منه شبابه ودمه وهو يحاول أن يعطي أبناءها كل ما عنده ).

ولعل أهم ما تتميز به الواقعية التحليلية في قصص علي سيار هو أن شخصياتها تنتهي غالباً بميلاد معنى جديد في حياتها، فبطل قصة ) حكاية عشرة دنانير ( تنتهي به لحظات الحرج وإحاطة الزيف إلى تدفق مشاعر الإصرار أمام ما تمثل له من شذوذ وانحطاط، وبطل قصة ) سأطردك يا عبدالسلام (ينتهي من حيرته وتأزمه برفض الاستغناء عن خدمات صديقه، والبطل في قصة) شمس لا تشرق كل يوم (يهرب من أسرته التي أرادت أن تزوجه بالإكراه من فتاة غنية ولكنها قبيحة، جاهلة شرسة الطباع . لقد هرب منها بعد أن أحس بغربته الشديدة معها، وأراد لنفسه واقعاً يتناغم مع حالته الضائعة فلم يجد سوى خليلته القديمة ) بدرية (، ولكنه حين يذهب إليها يجدها قد تزوجت . وحينئذ يكتشف في أعماقه المعنى الجديد الذي تدل عليه هذه الحياة العريضة، خاصة فيما تشعرنا به نهاية القصة من أن رفض بطلها للزواج القهري، ورفض ) بدرية ( للماضي إنما هو الضرورة الجديدة التي يستطيع الإنسان أن يخلقها في حياة يختارها بنفسه، إنها ضرورة رفض الواقع الملوث الذي يحمل الصورة الحقيقية للإنسان، ويضعه في مغبة الضياع، وكأن الكاتب في كل ذلك يريد القول أن المجتمع حافل بما هو جديد، وأن الشخصية الإنسانية تستطيع بموقفها الناهض أن تعيش بصدق كثيراً من لحظات الميلاد للمعاني المضيئة في حياتها. وهذه دلالة على أن العالم الذي يرصده الكاتب الواقعي عالم متغير دوماً يلعب الإنسان الدور الأكبر في تشكيل نسيجه المتسع، فالفن الواقعي لا يقتصر على رسم الشخصيات والموضوعات المستمدة من الواقع بل إن هذا الفن كما يقول : سيدني فنكلشتين : ) يبين عن طريق اختياره لموضوعاته كيف أن العالم يتغير، كما يبين ما هو الجديد وما هو المتحرك والناهض بين الناس في المجتمع) (10) . ولقد حرصت واقعية علي سيار أن تستمد هذه الكيفية وتستلهمها وهي ترصد نماذجها من الطبقة البرجوازية.
ولعل قصة (المأزق) من أكثر القصص دلالة على انتباه الكاتب لتلك النظرة الواقعية، فهو يستعين بنزعته التحليلية في رصد الدوافع والأسباب النفسية والاجتماعية التي تحيط ببطل القصة، وتجعله يعيش غربة قاسية تصل به إلى ذروة الانفعالات اليائسة التي يود فيها أن يسلخ بعضه عن بعضه الآخر. فهو شخصية مشوهة من الناحية الجسمانية له ساقان تشبهان لنحافتهما عود الجريد . وهو ممتلئ البطن بالديدان التي تأكل كل ما ينزلق إليه من طعام حتى أنه لا يكاد يشبع أبداً، مما يجعله عرضة لسخرية الأطفال في الشارع وسخرية الموظفين في العمل، وهو يعيش فراغاً وجدانياً كالصحراء، يرى زملاءه يتحدثون عن النساء ومغامرات الحب، ويجد نفسه فقيراً مغفلاً غير قادر على تحقيق أمنياته مع المرأة . وهو حين يذهب إلى مكان العمل تتضاعف لديه مشاعر الغربة والضعف والانهيار حيث يستغله الموظفون بالتندر والنكت التي تنال من كرامته ويطلقها عليه زملاؤه في هستيريا مجنونة كلما أطل عليهم بوجهه في الصباح، وهو عليه أن يرضخ لذلك، ويرضخ أيضاً لتلك الأجواء المريضة المنحرفة التي يشيعها أولئك الموظفون الذين يشتغلون معه كالمدير ذو الكرش الكبيرة الذي يستخدم صغار الموظفين لأغراضه الخاصة، ومصطفى المنافق الذي يقف كالمبهور حين يمر عليه المدير، وسليمان الذي يقدم أقذر أنواع الخدمات للمدير مقابل ابتسامة رضا.

كل هذه الدوافع يضعها الكاتب تحت مجهره ليحكم النظر بدقة فنية للأعماق النفسية التي تمزقها مشاعر الغربة واليأس، وليقول أن الإنسان رغم كل ذلك يستطيع أن يخلق له واقعاً آخر يبدد فيه تلك الأعماق المهزومة، ويبث في فجوات الضعف واليأس أقوى مواقف الإصرار والنضال والتجاوز في الحياة الاجتماعية، وهذا ما عبر عنه بطل ) المأزق ( الذي لم يقف مكتوف الأيدي مستسلماً لغربته وحرمانه، راضخاً للأجواء الموبوءة، بل إنه تحول بحكم تلك الغربة والحرمان وبحكم اضطهاده اليومي إلى إنسان آخر يكتشف الضرورة التي كانت تفتقر إليها حياته، فقد قرر أن يقف على رجليه ) لن تكونا رجلين من الجريد بعد الآن وسيفقأ كل عين تنظر إليه نظرتها إلى مخلوق غريب لا وجود له في عالم الأحياء (، بهذا قرر تبديل واقع الجدب والجفاف والضعف إلى واقع التحدي والصمود أمام هزء الموظفين وتلاعبهم بكرامته، فهو ما أن دخل عليهم في اليوم التالي حتى استقبلوه بالسخرية كالعادة، ولكنه أطل عليهم هذه المرة بعين متوقدة بالغضب والحنق فبدا لهم رجلاً مخيفاً يود لو يبصق على وجوههم جميعـاً. وأخذ أحدهم يتساءل: )أي جديد فيـه حولـه إلى هـذا الإنسان المرعب(، وتركهم ينظرون إلى وجهه فيشعرون بذلهم وتفاهتهم حتى أصبحوا يفرون منه ويتهامسون بعيداً عنه.

وتستمر هذه القيمة الواقعية ملقية بظلالها في معظم القصص القصيرة التي ضمتهـا مجموعـة الكاتب ) السيد ( من غير أن تضعـف من شأن اهتمامـه بالتحليل، بل إنها تكسب وعيه الاجتماعي والنفسي عمقاً وأصالة، ونعتقد أن قصة (السلالم) هي التي حققت قدراً كبيراً من التطور لجميع أدوات الكاتب في الرصد والتحليل والمتابعة السردية الدقيقة للحدث، واستشراف المستقبل الجديد أو المعنى البازغ في حياة الشخصية . إن هذه القصة يمكن أن تعد علامة بارزة لاتجاه الواقعية التحليلية في القصة القصيرة خلال سنوات الفترة الثانية، بل إننا نعتقد أنها من الأعمال القصصية التي كان لها أثرها في صد الموجة الرومانسية المندفعة مع بداية الستينات، فقد نشرت مع القصص السابقة في سنوات استمرار الرومانسية ومع ذلك فقد احتفظ فيها الكاتب برؤية فنية مغايرة.

وتجمع هذه القصة بين قوامها التحليلي والسردي الرصين، وقوامها النقدي للمجتمع الذي يجعل المواطن يعيش غربته القاسية بمرارة شديدة، وكما تمثلت الملاحظات النفسية والاجتماعية الدقيقة في وقفته التحليلية لشخصية القصة، فقد تمثل المعنى الجديد في نهاية القصة، إذ جاء هذا المعنى نهاية لحياة الغربة والضياع، ويمكن أن نتابع الصورة التي تمثل فيها كل ذلك من سياق القصة نفسه حتى نضع أيدينا على تطور المقدرة التحليلية لدى الكاتب.
شخصية القصة نموذج لشريحة اجتماعية بسيطة، ترفضها قطاعات المجتمع البرجوازي فتجعلها في غربة نفسية تمتلئ بالمرارة، وغصة الأسئلة المحيرة التي تتلاطم في داخلها لتفجر أعماقها بمزيد من المعاناة الاجتماعية والنفسية، إنها شخصية تقدم نفسها على هذا النحو :
) أنا الآن رجل بلا شغل .. عاطل عن العمل .. عضلاتي المفتولة لم تقنع أصحاب الورش بتشغيلي في ورشهم .. أصحاب الدكاكين ينفرون مني لأن لي مثل هذه العضلات وأصحاب البيوت نظروا إلى جسمي العريض في سخرية وهم يسمعون إلى رجائي بأن يشغلوني صبياً في بيوتهم) (11).
ويكون آخر المطاف أن يذهب إلى وزارة يستفسر عن مصير الوظيفة التي وعد بها منذ أسبوعين، ومن أولى عتبات الوزارة صاعداً منها إلى الدور الرابع يبدأ الكاتب في رصد المعاناة الداخلية لبطل القصة . وقد استطاع الكاتب هنا أن يجعل لتصاعد تلك المعاناة وانتشارها في ذهن الشخصية، معادلاً موضوعياً يتمثل في صعوده سلالم الوزارة التي يطؤها وكأنه يطأ مساحة الأمل الأخير بعد أن أعياه البحث والتعب . في الدور الأول من سلالم الوزارة نجد مشاعره تفصح عن وضعه الاجتماعي والطبقي، لتوحي لنا أنه من القائمة السفلى، يعيش نفي الفئات العليا واضطهادها لوضعه الإنساني، فهو يحمل شهادة الثانوية مفتول العضلات ممتلئ بقوة الشباب ولكنه فقير معدم ترفضه الشركات وأصحاب المحلات والورش، وينظرون إليه بسخرية، ولذا يلجأ إلى البحث عن أي عمل يشبع بطنه أو يسدد إيجار الغرفة الحقيرة التي يسكنها.
وفي الدور الثاني يبدو لديه بارق لأمل ضعيف، لأنه أحس بأنه يخطو خطواته نحو العمل، ولكنه يتعزى بذلك أمام اتجاه نفسه إلى الإحساس بالتناقض الكبير الذي يلف حياته العريضة، فقد اكتشف بعد صعود هذا الدور أن هناك مصعداً يستعمله الآخرون . ومن هنا أدرك أن ذوي الخيلاء والأبهة والعز هم الذين يقطعون الحياة بتفوق، ويعرفون كيف يصعدون بسرعة إلى مراتبها العالية . أما هو فيظل ذلك ) المخلوق الشاذ ( الذي استنفذ من عمره شهرين وهو يراجع الوزارة . وفي الدور الثالث تصعد في أعماقه رائحة الغربة ومشاعرها الكئيبة من بين تفاقم إحساسه السابق بالتناقض الاجتماعي الذي يقود حياته نحو التوقف والجمود . فقد رأى في هذا الدور رجلاً بدا له ) أنه أحد كبار موظفي هذه الوزارة ( فألقى عليه التحية ولكنه لم يرد عليها رغم أنه سمعها، ولهذا خاب ظنه في أن يجد شخصاً يقتنع بأنه من فصيلة آدمية.

وحين يصل إلى الدور الرابع بدأ يحدث نفسه : ) ويخيل إليّ وأنا أنقل أقدامي بين كل درجة وأخرى أنني أتعب .. أن قواي تخذلني .. وأن شيئاً كالرصاص يشد أقدامي ... لابد وأنني أنهك نفسي بهذا الصعود المرهق (. وأحس في هذا الدور بعزلته التامة بين الموظفين الذين يمرقون الطريق أمامه بخفة بينما يظل هو متوقفاً يشعر بالإجهاد، ويكاد يفقد كل أمل . ويقف الكاتب هنا مع مشاعر اليأس التي تحط في داخله بكل ثقلها، وتبرمها من الحياة، ولكنه بين ركام معاناته لا يفقد هذه الشخصية معايشته لميلاد المعنى الجديد في حياتها، فمن العناء والجهد والغربة يستمد إصراره ويدخل غرفة المدير ليكون أمامه كتلة من اليأس والرجاء ( الموت، والرغبة في الحياة، والتشبث بكل معانيها البازغة . وبالفعل فقد لاح له بارق النجاة عندما قال له المدير : (غداً يمكنك أن تستلم عملك )حتى بات يحدث نفسه : (وعدت إنساناً .. إنساناً في حاجة إلى من يقول له مبروك) بعد أن كان يرى نفسه مخلوقاً شاذاً لا يستطيع أن ينال ما تناله الحيوانات من شبع.

لقد تمكن الكاتب في هذه القصة من مقدرته التحليلية، فقد لجأ فيها إلى أكثر الأساليب السردية قرباً من الحركة النفسية، وهو أسلوب ) المونولوج الداخلي) واستطاع بذلك أن يجعل من الصورة المتناظرة بين صعود السلالم، وتصاعد المشاعر، رمزاً للحياة الاجتماعية الشاملة التي يقطعها بطل القصة جاهداً دون جدوى، حيث تمكن بتلك الصورة أن ينقل أدق التفاصيل الاجتماعية والنفسية وهي تموج في حاضر هذه الشخصية وماضيها ومستقبلها. ومن هنا جاء وصوله إلى ) الدور الرابع ( مؤشراً للوصول إلى أقصى درجات المعاناة والإجهاد، وكأنه بمثابة الحلقة الأخيرة التي تقف بها حياته الاجتماعية. وهذا ما جعل الكاتب يبث لديه مشاعر التوقف والجمود والإعياء في هذه المرحلة من وصف التفاصيل، بل إنه يبدو في هذه الصورة النهائية إنساناً متضوراً متضرراً متبرماً من الحياة:
( أكاد أكفر بهذه الإنسانية .. أكفر بها لدرجة أن النطق يستعصي عليّ في بعض الأحيان، وساعتها أبدو تماماً كأحد الحيوانات الأليفة . ترى ما قيمة أن أكون إنساناً في مجتمع لا يحترم آدمية الإنسان ؟) (12).
وهذا الموقف الذي يشارف اليأس، ويصل بالشخصية إلى محيط الاختيار يمكن أن يكون وجهاً آخر في واقعية الكاتب يعتمد الرؤية النقدية الحادة للمجتمع. ذلك أن البطل بما انطوت عليه حالته الإنسانية من اضطهاد وانسحاق إنما يعبر عما يشيعه المجتمع البرجوازي في أبناء الطبقة المغلولة من مشاعر الغربة النفسية العميقة التي تجعل من مجرد سير الحياة قيداً نفسياً آخر يستفز إحساس الإنسان بوجوده الشامل، تماماً كما فعل بطل القصة حين أخذ يقارن بين وضعه ووضع الحيوانات فبدت هذه أحسن حالاً منه.

بهذه الصورة استجمعت قصة (السلالم) جميع إمكانيات الكاتب الفنية، وبدت شكلاً متطوراً يعبر عن أكثر القيم الجمالية ارتباطاً بالواقعية الفنية تجلت بوضوح في ربط الشكل بالموضوع ربطاً حميماً، وعلى نحو ما رأينا في متابعة السياق القصصي، ولا ريب أن حيوية التحليل ودقته قد انطلقت من ذلك الارتبـاط الـعـفـوي الـذي يـعـمـقـه، ويـشـف بـه المحتوى الـرمزي فـي مفـردة )السلالم(. فقد ارتبطت الصورة في هذه المفردة بالصورة القصصية أو الحبكة المتصاعدة . بل إن استعمال المنولوج الداخلي بدا أكثر استقامة واندفاعاً مع الحركة النفسية المتصاعدة من استعماله في بعض القصص السابقة، حيث ظلت أنفاس هذا الأسلوب في السرد متقدمة لا يقطعه الارتداد إلى الماضي أو التذكر إلا في مواقف قصيرة وقليلة، في حين كان هذا الأسلوب في قصة (حكاية عشرة دنانير) قد تعرض لالتواء شديد، أدى إلى تعثر انسيابه وتباعد اتصاله بنفس البطل، فبعد أن كان الموقف متصلاً عن طريق المنولوج باللحظة الحاضرة، أصبح متصلاً عن طريق أسلوب التذكر بالماضي الذي ينتقل إليه الكاتب بهذه العبارة : (ويمر في ذهني شريط قصير). ويدل ذلك على أنه لم يستطع في تلك القصة أن يستوعب جميع التفاصيل التي يحتاج إليها بأسلوبه الأول فاضطره ذلك إلى استكمال الفراغ في الموقف بالعدول عن انسياب المنولوج . وهذا ما حاول الكاتب جاهداً عـدم التـورط فيه علـى نحـو تلك الصـورة في قصة (السلالم).

وأياً ما كان الأمر فإن ذلك يجب ألا يجيل نظرنا عن اللغة القصصية المتذبذبة أحياناً في بعض القصص، والتي تأتي غالباً من عدم تمكنه في استعمال أسلوب (تيار الوعي). ذلك أنه يطمح إلى توظيف هذا الأسلوب، ويندفع إليه في بداية كل قصة ولكنه سرعان ما ينفلت منه الزمام فيسقط مع السرد التقليدي تارة ومع الارتداد إلى الماضي بضمير المتكلم تارة أخرى، الأمر الذي ينعكس علـى تـبـديـد بـعـض المواقف المركزة أو تفريغ خطوطها الفنيـة كما فـي قصة (شمس لا تشرق كل يوم) .

وقد استعمل الكاتب بعض الجمل من اللغة العامية، ولكنه لم يحقق فيها ما يلفت الانتباه من الوجهة الفنية، إذ أنها جاءت عبارات جاهزة ملتقطة بصورة عابرة، باستثناء ما جاء في قصة (المأزق) حين رأينا الكاتب يسجل موقفاً قصيراً أراد بـه أن ينقـل الصـورة الساخرة لبطـل القصـة الـذي عرف لدى أطفـال الشـارع بـأن (ديدان) بطنه تأكل الطعام عنه، لذا يستقبلونه بهذه العبارات :
- وخروا عن الدود لا ياكلكم ...
- وصل أبو الدود ...
- دود .. يا دود .. من يشتري ...) (13)
فالكاتب لم يجعل لهذا الموقف العابر حركة تسجيلية فحسب بل إن القارئ يستمد منه أثراً حيوياً بما يشيع فيه من سخرية وإضحاك تقربه من الواقع.

ويمكن القول أخيراً أن بداية علي سيار مع القصة الواقعية القصيرة في هذه الفترة أكثر تبكيراً من غيره، ومع ذلك فقد استطاع أن يقوم بتأصيل بعض التقاليد الفنية والسردية في القصة التحليلية، وأن يؤكد بعض القيم القصصية الجديدة التي تشكل نسيج النموذج الواقعي في القصة القصيرة، وهو ما نرده مباشرة إلى خصوبة تجربته في الكتابة، واستفادته من الوعي الاجتماعي في الفترة الثانية، خاصة فيما كان يقوم به من تحليل لأشكال الانحراف والتحلل في الطبقة المتوسطة عبر كتاباته الصحفية المتنوعة(14) .