القسم الثاني . الفصل الرابع 5

عبدالله خليفة
امتداد أم مغايرة

وجدت القصة القصيرة عند محمد عبدالملك امتدادها الأيديولوجي في قصص عبدالله علي خليفة . ولكنها لم تجد فيها أبسط أشكال الامتداد لطبيعة التجربة الفنية وما استهدته من تقاليد ذات أصول كلاسية أو حديثة . فقد بدأ عبدالله خليفة كتابة القصة القصيرة مع بداية السبعينات، ولم يسلم في بداياته من نوازع التأثر بالخيبة التي اجتاحت كثيراً من المثقفين، ولكن منذ عام1972 عندما نشر قصة(الخبز) بدا هذا الكاتب يضع أمامنا الخطوط العريضة للانتماء إلى القوى التقدمية في المجتمع، فشغلته قضية الانتماء هذه أكثر مما شغلته قضايا الفن والأدب، وكشفت جهوده في أدب القصة القصيرة وبعض كتاباته النقدية القليلة عن هواجس واضحة منحازة نحو تطوير الاتجاه الواقعي النقدي وتقريب مقولاته إلى حد بعيد من الواقعية الاشتراكية.

وربما كانت هواجس التطلع إلى هذه الواقعية قاسماً مشتركاً بين الأصوات الجديدة التي عرفتها القصة القصيرة في السنوات الأخيرة كعبد القادر عقيل ونعيم عاشور وفوزية رشيد وعائشة عبدالله غلوم وغيرهم من الذين نظر بعضهم إلى تناقضات الواقع من زاوية الصراع السياسي وما يبدو فيه من استشراف القوى الاجتماعية، وتطلعها للعالم الجديد، أو من الذين نظر بعضهم إلى التناقضات من زاوية تكثيف الواقع عبر تقنيات النمذجة والرمز الدرامي.

بيد أن الحكم على تجارب هذه الأصوات يكتنفه كثير من الحذر والتحفظ لأنها لا تزال خمائر أولى لم تسفر عن تماسك يمنح لهذه الدراسة منافذ لاستبطان ما يمكن أن تتميز به من أساليب جديدة بعيدة عن أثر التقليد أو الخضوع لبريق الأشكال الحديثة والتوجهات السياسية المباشرة، وسيطرتها الآنية . وما يجعلنا نتابع مظاهر الواقعية الفنية في قصص عبدالله خليفة بصورة خاصة - فوق ما تميز به من توسع كمي - هو أنها تمثل لنا نموذجاً لبعض الظواهر الأدبية في تطور القصة القصيرة خلال السنوات الأخيرة، وخاصة فيما يتصل بالقيم الفنية والاجتماعية التي ينتهي إليها محمد عبدالملك باعتباره أكثر كتاب القصة القصيرة رعاية وتأصيلاً لتقاليد الواقعية النقدية، وإخلاصاً لتصورها الأيديولوجي في المجتمع، فالقصة عند عبدالله خليفة تنطوي على طموح الابتعاد عن تصوير النماذج البشرية بين تفاصيل حياتها المجهدة . وهي بدلاً من أن تلجأ إلى وصف المعاناة الاجتماعية تقوم بوضعها وجهاً لوجه أمام القوى السياسية والاقتصادية المسيطرة، ومن ثم تصبح القصة القصيرة عند عبدالله خليفة صياغة لموقف أكثر منها تسجيلاً لواقع اجتماعي مضطهد بتقاليد قصصية، وبقدر ما بين صياغة الموقف وتسجيل الواقع من اختلاف .. يكون ما بينها من تآخ يعبر عنه تمثل الانتماء إلى الطبقات الشعبية الفقيرة والانضواء في ركابها.

من هذه العناية التي ينصبها عبدالله خليفة لتحرير ميلاد الموقف بين شخصيات القصة تنبثق زوايا الرؤية في تجربة هذا الكاتب مع فن القصة القصيرة . زاوية الامتداد لواقعية محمد عبدالملك النقدية . وزاوية المحتوى التعليمي الأيديولوجي الذي يندغم مع صياغة الكاتب للموقف بوعي وبغير وعي. وزاوية العلاقات والمنابع الفنية التي تنهج في تشكيل الموقف السياسي . ومن مجموع هذه الزوايا يمكن استبصار طبيعة الظواهر والانحرافات التي تنتهي إليها الواقعية الفنية في السنوات الأخيرة، اعتماداً على مدى تواجدها وتشكلها في نماذج القصة القصيرة عند الكاتب وليس اعتماداً على مقولاته النظرية التي يعلنها في كتاباته الصحفية المتفرقة.

لقد أراد هذا الكاتب أن يبدأ مستوعباً الدروس الماضية في تجربة القوى الاجتماعية وفي التجربة الأدبية الجديدة، ولهذا يندفع نحو تبني الموقف التقدمي في المجتمع، ويتجه إلى استيعاب من سبقه من كتاب القصة القصيرة ودراستهم، ولكن ذلك لا يعني تجاوزه لمنطلقات الواقعية النقدية إذ ليس من السهل على كاتب لم يختبر وسائله الفنية بعد، ولم يحذق توظيفها بطواعية ومرونة أن يجعل من القصة القصيرة مستودعاً لأبعاد موقفه النظري من المجتمع، فذلك يحتاج إلى نضج وخبرة فنية تستكنه تقنيات الأساليب واختبار إمكانياتها في التعبير عن أعمق التناقضات الاجتماعية امتثالاً وصيرورة في الواقع.

من أجل ذلك تظل المشكلة الأساسية التي يتحفز لها استبصار الكاتب دوماً هي كيف يترجم ما هو تقدمي وسياسي في شكل فني متطور يبتعد فيه عن سطحية التقاط التفاصيل الواقعية، ويحقق له قدرة على التلاؤم مع الأساليب الجديدة، والحق أن الكاتب إزاء هذه القضية قد تمكن من تعميق وعيه الاجتماعي والأيديولوجي وتنقيح حسه الطبقي في صياغة أشكال تناقضات الواقع لكن مع ذلك ازدادت لديه الحساسية المتجافية تجاه الأشكال الفنية الحديثة، وما تستهدي به من وسائل غير معهودة لدى الواقعيين التقليديين، ذلك لأنه كاتب لا يستطيع تنحية المقولات السياسية المكرسة في النظر إلى صراع المصالح والقوى السياسية، أو البحث في نتائج التقدم نحو الرأسمالية بما يترتب عليه من أشكال الاستلاب للحرية وإهدار الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.

ومن هنا نجده يرث نفس النظرة التي وقف معها عبدالملك، والتي اعتمدت رفض الواقع والظهور أمامه بمظهر العداء والنقمة لما يقوم عليه من قوانين متخلخلة تتعايش معها أخلاقيات المجتمع البرجوازي المتداعي إنسانياً . وذلك ما يصله غالباً بالطابع الديمقراطي الذي كانت عليه معظم قصص محمد عبدالملك. لأنه لا ينشغل بكشف الوسائل الحقيقية التي تؤدي به إلى حل التناقض القائم . بل إنه ينشغل ببناء موقف التعاطف وتصوير أبعاده من خلال ما يتألف به الواقع من مظاهر الصراع السياسي والاجتماعي . ونجد ذلك في قصص ( دنيا) و (أغاني البحار العجوز) و (السلوى) و (القرار) و (الغرباء) و (الملاذ) و (نجمة الخليج) و (الطائر) و (الملك).

ففي قصة (القرار) (50) يكون البطل محاطاً بقوانين لا قبل له بردها، تكشف لنا مدى التناقض في مجتمع الملكية الخاصة، فهو يفاجأ باستدعاء رئيس الشركة التي يعمل فيها ليسلمه قراراً بفصله من العمل . ومنعه من الاتصال بالموظفين أو السؤال عن سبب فصله، وحين يحاول معرفة أي شيء عن هذا القرار يواجه بالردع والاحتقار والطرد . وهنا لا يقوم الكاتب بعرض تفاصيل اجتماعية لحياة هذا الموظف . ولا بالإفصاح عن حالة نفسية معينة . إنه يجعلنا أمام موقف من مواقف الاضطهاد والارتهان الذي تسببه السلطة الاقتصادية لأرباب العمل . ويكاد الكاتب يسرف في التغاضي عن أهمية التفاصيل الواقعية في تسجيل تلك المواجهة النقدية للواقع حيث لا نجد لقرار الفصل من العمل تفصيلاً وإيحاءً يعين على معرفة التناقض . كما لا نجد للشخصية بناءً نفسياً واجتماعياً واضح القسمات مع ما يقيده الواقع من ارتهان واستلاب، وكل ذلك لأن الكاتب يريد أن يتحرر من بعض المفاهيم الكلاسيكية في الواقعية النقدية التي انطلق بها غيره من الكتاب، وخاصة فيما يتصل بالتصور الواقعي للتفاصيل والمظاهر الخارحية وتوظيف أدوات التحليل لمشكلة التناقض الاجتماعي . وهو في الحقيقة يتحرر من ذلك شكلياً . لأنه لا يستطيع أن يتخلص من النظرة الانتقادية نفسها التي تستقي الجوانب الدرامية من التناقض الاجتماعي . ويمكن ملاحظة أن رغبة التحرر السابقة عند الكاتب تحرف لديه نزعة الارتقاء والإحساس بخاصية التطور . فهو يمتد مع محمد عبدالملك في تصوير مظاهر الاستلاب، واستهلاك الواقع البرجوازي لحياة الطبقة الشعبية الفقيرة ولكنه لا يستفيد من أكثر وسائل الواقعية النقدية حيوية، وهي التحليل لظاهرة التناقض، ففي القصة السابقة لم يستوعب خلفيات قرار الفصل ولم يبحث عن ردود الفعل التي يخلفها . بل إنه جعل شخصيته في لحظات مواجهة تمتلئ بالدهشة والاستغراب ومحاولة الاهتداء إلى سبب أو العثور على منطق . وقد يكون في ذلك دلالة على أن قيود الواقع الراهن تخلو من أي منطق يبررها أو يؤدي إلى شرعيتها . وهي دلالة تنضوي مع التصور الواقعي النقدي حقاً، ولكنها تظل في دثار من الموقف الدرامي السريع الذي لا يؤلف النظر إلى تناقض الواقع تحليلياً.

ونجد هذه الدلالة أكثر جلاءً واستكناهاً في قصة (الغرباء) (51) التي يصور فيها الكاتب رجلين وامرأة يقتحمان منزل موظف ليستلبوا منه بيته وحوائجه ويقيموا مكانه مخططاتهم ومصالحهم المادية، ويبدو هؤلاء الغرباء صورة لاستعمار اقتصادي متحالف مع السلطة السياسية، إذ أن رجل الشرطة يتعاضد معهم ويأمر بإلقاء القبض على المواطن، وهو في حالة من الذهول وعدم القدرة على القيام بأي فعل : (لا قدرة لي على الكلام، لا قدرة لي على التفسير . لا قدرة لي على الاحتجاج .. ) . وفي هذه اللقطة السريعة تبدو لنا كم هي واهية أسباب الاضطهاد الاجتماعي والسياسي، فالكاتب يكتفي بتكثيف أبعاد المواجهة في موقف صدامي يعتمد على الحوار والألفاظ الهجائية، ويتسم بالتلقائية في كشف التناقض من غير أن ينهج لذلك وجهة تحليلية تختبر الواقع بمواجهة لحظاته المميزة القادرة على استبطان الوقائع وانتزاع التفاصيل النفسية التي تقيم للشخصية بناءً فنياً واضحاً.

إن مواقف المواجهة التي يصورها الكاتب على نحو درامي إنما تتبع نفس الغاية الانتقادية في التصور الواقعي، وهي إذا كانت تبدو خارجة عن هامش التفاصيل اليومية التي كان محمد عبدالملك يثير من بينها سؤاله واحتجاجه على أخلاقيات الواقع ؛ فإنها في مقابل ذلك تستقي من الموقف التلقائي الذي يلتقط له عبدالله خليفة إطاراً درامياً أكثر مما يلتقط له من تفاصيل وظواهر . إنه يستقي من ذلك نفس محتوى السؤال والاحتجاج بما يهدف إليه من دلالات الرفض وعدم التسليم بالواقع، ويمكن إدراك ذلك من الدلالة الإيحائية الكامنة في صياغة الموقف لقصتي ) القرار ( و ) الغرباء (، كما يمكن أن نقف مع ذلك بوضوح أكثر في قصة (السلوى) (52). فالرجل ) علوان ( الذي أفلس بعد حياة قذرة مليئة بالشهوات يدخل (الخمارة) ليقتل فيها قتلة فظيعة، ويكون حديث الجميع في الحارة الموبوءة بالجريمة واللامبالاة، ويرفض الجميع الإدلاء بأي شهادة حول سبب مقتل علوان . وتنتهي القصة بكثير من الأسئلة : لماذا يرفضون الشهادة ؟ ولماذا تخلص البعض من (علوان) الذي لم يكن يملك شيئاً يدفع إلى قتله ؟ وهل أراد - حقاً - قبل قتله أن يحرق الخمارة ؟ وتوحي لنا كل هذه الأسئلة بوجود قوى مستغلة باعثة لأحداث الجريمة ومظاهر السقوط الأخلاقي في الحارة التي تستنفذ حياة الأهالي في سكون واستسلام . وفي قصة (العين) ينجم السؤال نفسه من صور التناقض بين الواقع وبين ما يتلقاه الطالب عن أستاذه من معلومات تناقض ما هو كائن، لتبدو لنا حقيقة الاستلاب الذي يعيشه المواطن بعذاب مرير.

لقد جاء مظهر الاحتجاج في المواقف الصدامية العفوية مرتبطاً بإثارة السؤال حول ما ينطبع في الواقع من خلل جسيم، وهذا ما يعتبر مورد التصوير الأيديولوجي في نقد الواقع لدى كثير من كتاب القصة القصيرة الذين ارتبطوا بالمرحلة الواقعية . ولكن الصورة المضطربة التي ينم عنها تصور عبدالله خليفة هي أن الموقف النقدي لديه يتسم بالحرفية والمباشرة، نظراً لأن الموقف الدرامي بنبضه السريع، واعتماده الشديد على الحوار لا يتشبع بمظاهر الواقع الموضوعي، ولا يكتنز بحقائق وعلاقات تبعث فيه القدرة على احتواء ظاهرة التناقض وتحليلها . وهذا من شأنه أن يضعف من استيعاب الكاتب لمتطلبات الواقعية الفنية في تشكيل العالم القصصي، إذ (أن إضفاء صفة الواقعية بعمق على العمل الفني يتحقق إذا ما تم إعادة خلق الظواهر الجوهرية للحياة التي يصورها هذا العمل بكل امتلائها) (53). وهذا الامتلاء لا يكون إلا برفض التلقائية المباشرة والاتجاه في بحث مظاهر التناقض من خلال ما تتشكل به في الواقع من موضوعات عميقة الوجود، مرهفة الاتصال بالدلالات الاجتماعية والإنسانية. ونعتقد أن النماذج البشرية المجهدة التي كان يصورها محمد عبدالملك أكثر إيغالاً في مثل تلك الدلالات من المواقف التي يعلنها عبدالله خليفة في صياغة مشاهد سافرة بمعناها، مطردة في بنائها.

لقد ظل الكاتب رغم المظاهر الشكلية أو التقنية التي يلغي أهميتها في العمل القصصي متناغماً مع الأيديولوجية الديمقراطية التي تجنح إليها الواقعية النقدية، وهو بذلك لا ينطلق من الظروف التاريخية التي تأثر بها غيره من كتاب القصة القصيرة فحسب، بل إنه ينطلق من نفس مؤثراتهم الثقافية التي لعبت دوراً كبيراً في توجيههم نحو التراث الواقعي النقدي، حيث يدينون جميعاً لتأثر واضح من قراءاتهم لموباسان، وتشيخوف، وغوركي ودوستويفسكي، وتولستوي، وغيرهم ممن عكست أعمالهم الأدبية آثاراً واضحة في المراحل الواقعية التي مرت بها القصة العربية الحديثة.

والسنوات القليلة التي تفرق بين ظهور كاتب وآخر ليست مناطاً حاسماً في استظهار فروق جمالية وفكرية . قد تحقق ضروباً من الاستفادة أو التطوير الذي يرتهن غالباً بظهور مواهب مرهفة الإحساس والاستيعاب للأشكال الجديدة . ولكنها عند من تتشابه لديهم أثر الظروف التاريخية وأثر الثقافة المعاصرة يكون المجال واسعاً في العثور على منابع الاتصال والامتداد بين أهدافهم ووسائلهم في النظر إلى المجتمع والفن، ويصدق ذلك على عبدالله خليفة، فرغم محاولاته الدؤوبة في إحداث مغايرة فنية وأيديولوجية إلا أنه يظل ألصق بالتصور المنحدر من واقعية محمد عبدالملك وخلف أحمد خلف وغيرهما، بل إنه ينتهي غالباً إلى ما ينتهون إليه في نقد الواقع واستبطان حركته التاريخية، فإذا كانت الحياة تنتهي ببطل عبدالملك في قصة ) خمارة الجرذان ( إلى أن يقول : ) وقفت في الطوابير .. وعملنا في جنوب البلاد وشمالها .. ورفعنا طوابق وعمارات ثقبنا بها عين السماء، وأخيراً خرجنا صفر اليدين ( ... فإن حياة الاستهلاك اليومي تنتهي ببطل عبدالله خليفة في قصة ) الملاذ ( إلى نفس المصير الذي يجعله يردد (أنا فقير وليس لي أحد، تقوم العمارات وتزدحم البنوك بالأموال، وليس لي من ذلك شيء) (54). وهناك شخصيات عديدة تردد نجواها مع الواقع كما كانت تفعل في بعض قصص عبدالملك كالصبي الأعمى الذي يراسل كائنات غير مرئية بعزفه على آلة أوكرديون حمراء اللون في قصة (لحن الشتاء)... يذكرنا بشخصية قريبة الشبه في قصة (عازف السكسفون) لعبدالملك الذي كان يحلم بجموع الفقراء يستمعون إلى عزفه.

وليس ذلك فحسب بل إن هناك مظاهر من التناقض تنبع من بعض خصوصيات المجتمع في الخليج العربي يكاد يلتمسها معظم كتاب القصة الواقعية وفق تصور أيديولوجي واحد رغم اختلاف الأساليب والصور الفنية . من ذلك ما يمثله رجل الدين من تناقض أخلاقي وسلطة تقليدية تتعاضد مع تناقض الواقع اليومي وسلطاته الاقتصادية والسياسية، فيرينا سليمان الخليفي في قصة (في الداخل والخارج ( كيف يبرز الواقع الراهن الأسباب كاملة لنمو نموذج رجل الدين ليكون متحالفاً مع الاستغلال الاجتماعي السائد، ونفس هذا التحالف نجده في قصة (أصوات ) لأمين صالح، حيث لا يتورع رجل الدين في أن يكون أداة بين أصابع السلطة السياسية من أجل الحفاظ على المصالح المادية التي يستمدها من مكانته الدينية . وهو أيضاً نفسه في قصة (الملاذ) لعبدالله خليفة، يرفض احتواء الفقير العاطل عن العمل ليتفرغ لمصالحه الذاتية، وهذه الصورة تعود ثانية في قصة (هكذا تكلم عبدالمولى) (55) في موقف أكثر اكتمالاً والتفافاً حول مظاهر السلوك الأخلاقي التي يمثلها رجل الدين في المجتمع البرجوازي، فرجل الدين(عبدالمولى) يتحول إلى أداة طيعة في يد السلطة الاستغلالية (مختار القرية ) الذي يعيش في عزلة عن الأهالي محللاً لنفسه ما يشاء ويترك رجل الدين يدافع عنه، ويكسب لمصالحه صفة الشرعية باسم الدين، ويسبغ عليه جميع صفات العدل والشرف، وحب الخير، ليضلل إيمان الأهالي بما يدعو إليه المثقف ( حسين ) من أفكار جديدة تخلصهم من العناء الاجتماعي.

فالكاتب في نظرته لأثر استغلال الدين في المجتمع البرجوازي الجديد لا يختلف عن نظرة أمين صالح وسليمان الخليفي، لأنهم جميعهم يصدرون عن نظرة نقدية تكشف نوايا مثل هذا النموذج الاجتماعي، وما يخلفه من آثار وضيعة بين العلاقات الاجتماعية، وكل ما هنالك أن عبدالله خليفة ربما وجد في معالجة هذا النموذج أهمية خاصة تستدعيها رؤيته السياسية التي تنحو به إلى البحث عن التناقضات الداخلية في صراع الأنظمة القائمة مع القوى الاجتماعية . ومن أجل ذلك يتناولها في أكثر من قصة مؤكداً على ناحية لها صلتها بمسايرته للموقف الأيديولوجي الديمقراطي، وهي أنه لا يرفض المعتقد الديني أو ينتقد علاقاته الروحية في وجدان المجتمع، ولكنه ينتقد عملية استغلال الدين للنظام السياسي ومصالح المجتمع البرجوازي، حيث تتحول أفكار الدين إلى أدوات استهلاك خاضعة للمصلحة الفردية، كما عبر عن ذلك في شخصية (عبدالمولى). ولعل هذا هو فحوى صدام القصة الواقعية الانتقادية في هذه الفترة مع (رجل الدين) باعتباره نموذجاً خاصاً يتولد في مجتمع الملكية الخاصة، أي أن صدام الواقعية هنا يتجه إلى نظام بأسره، وليس إلى قيم دينية معينة أو شخصية محددة.

إن عبدالله خليفة رغم ما توحي به أعماله القصصية من أشكال ظاهرية تسعى إلى تجاوز بعض التقاليد السابقة في القصة الواقعية القصيرة . إلا أنه لا يتمكن من أن يحقق لفنه مغايرة أو تطوراً فنياً . بل تنحرف لديه بعض تجاوزاته، وخاصة في الوظيفة الفنية التي تستلهمها دلالات حركة الواقع، وتفصيلاته النابضة بتقاليد العمل القصصي وحرارة التمثل للواقع.

وبدلاً من أن ينغمس الموقف الدرامي عند عبدالله خليفة في مظاهر الوجود الاجتماعي والنفسي للمشكلة أو النموذج . يكون محدداً بتعبير (الموقف) عن الاستغلال الاجتماعي في معاني مباشرة، وموضوعات تفتقر إلى غنى الأسلوب أكثر مما تفتقر إلى سهولة المادة وقربها الشديد - فنياً - من ذوق المتلقي.

ويقترن عدم تجاوز عبدالله خليفة لبعض أساليب الواقعية النقدية بعدم تجاوزه لموقفها من الواقع كما رأينا، مما يجعل تجربته في القصة القصيرة تعني في كثير من جوانبها امتداداً لتجربة محمد عبدالملك وعيسى هلال وخلف أحمد خلف وغيرهم ممن يتعايش الكاتب مع إنتاجهم القصصي في هذه الفترة.