كتابة: رولاندو كابوتو
ترجمة: أمين صالح

(1)

عباس كيارستمي لم يحجم قط عن عرض حيل السينما. فيلمه "عشرة" يتألف من عشرة أجزاء أو مقاطع. ما إن ينتهي الفيلم حتى يكون على وشك الابتداء. فيلم آخر أكثر غنى وامتلاءً سوف يتولّد في ذهن المتفرج.. هذا الذي سوف يكمل ما تركته الشاشة ناقصاً، وغير مكتمل. نوع ديمقراطي جداً من السينما والذي يترك الكثير من المساحة والحرية للمتفرج في المشاركة.
لكن ثمة مجازفة أيضاً في هذه العملية، فإذا كانت مخيلة المتفرج غير كفوءة أو ليست بمستوى المهمة، فإن الفيلم عندئذ سوف ينهار على نفسه.

(2)

في مهرجان ملبورن السينمائي تحدث كيارستمي عن كيفية تكوّن فيلمه "عشرة"، وأشار إلى أن الأجزاء، في الأصل، كانت تتمحور حول محللة نفسية تجد نفسها مرغمة، نتيجة إصلاحات تُجرى في مكتبها، على متابعة جلساتها مع المرضى في سيارتها. لكن فيما الفكرة تتنامى، اتضح أنها من بعض النواحي غير عملية، وغير ملائمة. هكذا اتخذ الفيلم منحى آخر مختلفاً، مع محافظة الفكرة الأصلية على بعض الأثر في الصورة النهائية للفيلم، إذ لا يزال هناك ذلك الإحساس الذي يعترينا فيما نشهد لحظات خصوصية جداً بين الأفراد في مكان مغلق (مثل السيارة). بهذا التغيير نجح كيارستمي في النأي عن تقديم حالات مرَضية صالحة للتحليل السريري، طارحاً – عوضاً عن ذلك – حالات هي عبارة عن تأملات في الهوية، الرغبة، الجنس، الدين.. وغير ذلك من القضايا التي تتصل بالفرد والمجتمع.

(3)

ثمة حدّة وكثافة عاطفية في الحوار بين الأم والابن. من خلال هذا الحوار نفهم اضطراب العلاقة بين الأب والأم، وانفصالهما. أيضاً تتكوّن لدينا فكرة عن عمل الأم (هي مصورة فوتوغرافية) وأسلوب حياتها. في كلام الأم نقد اجتماعي مباشر وصريح. ابنها يتهمها بالكذب أثناء إجراءات الطلاق، وهي ترد قائلة بأن النساء مجبرات على تلفيق التهم للزوج بتعاطي المخدرات أو ممارسة الإيذاء الجسدي لأن القانون لا يجيز الطلاق إلا عبر اللجوء إلى مثل هذه الأسباب.

(4)

كل مخرج كبير يخلق عالماً، كوناً، خاصاً به. العوالم السينمائية مؤثثة بالأشياء، الموضوعات، الشخصيات، المناظر والتي تتكرر وتعاود الظهور من فيلم إلى فيلم. في قلب عالم كيارستمي توجد السيارة.
السيارات متفشية في الأفلام، خصوصاً في أفلام الطريق، مع ذلك بخلاف الآخرين، كيارستمي لا يقدّس الشيء، لا يبدي تعلقاً شديداً بالشيء، لا يُثقله بالرمزية – حرية، حركية وجودية، عزلة، انسلاب، هروب اجتماعي – كما في العديد من الأفلام التي فيها السيارة والطريق تكون في المحور.
السيارة بذاتها، في أفلام كيارستمي، ليست شيئاً خاصاً ومميزاً، مجرد وسيلة نقل عادية. ليست استثنائية في التصميم، ولا خارقة في الوظائف. إنها تنقل الشخصيات من مكان إلى آخر. تتخذ مسارات مختلفة فيما هي تنطلق على طول عدد وافر من الطرقات المستقيمة، المنحنية، المنحدرة، المتعرجة. السيارات، مع الطرقات والمناظر التي تجتازها، تضفي قيمة أيقونية معينة. غالباً، كيارستمي سوف يقتفي حركة استهلالية للسيارة ويحتفظ بها كموتيفة مكانية متكررة، كما في الحركة الدائرية للسائق في بداية فيلم "طعم الكرز"، مثل الفيلم نفسه فيما هو يدور حول فكرة الانتحار. أو صورة الطريق شديد الانحدار في "والحياة تستمر" التي تكون نتيجتها واحدة من أكثر اللقطات الختامية قوةً وروعةً في تاريخ السينما حيث السيارة تتقدم ببطء شديد لكن بإصرار ومثابرة، صاعدةً ذلك المنحدر الذي يبدو متعذراً اجتيازه، في محاولة للوصول إلى قمة التلة. إنه متلازم بصري مثالي مع عنوان الفيلم وروحه.. "والحياة تستمر".
ما يبدو ذا أهمية لكيارستمي ليس محطات الرحلة بل بالأحرى كيفية اجتياز الشخصية المسافة بين موضعين. الطريق الذي يُسلك، سواء أكان طولياً أو غير مباشر، صعوداً أو نزولاً، متعرجاً أو مستقيماً، يبدو أن له دلالة ميتافيزيقية.
"عشرة" هو أول أفلام كيارستمي التي لا تسمح بأي لقطات خارجية من السيارة فيما هي تنطلق في رحلتها. هنا، السيارة هي محض حاوية للشخصيات ولقصصهم، رغم أهميتها. هكذا يحرمنا الفيلم – مع أنه يعوضنا بمكافأة أخرى – من واحدة من المتع الكبيرة التي توفرها لنا أفلامه.

(5)

مع حلول عصر الفيلم الرقمي (الديجيتال)، انفتح طريق جديد أمام السينما. فيلم "عشرة" يسير ضمن هذا الاتجاه، مع فيلم الكسندر سوكوروف "الفلك الروسي" Russian Ark، كلاهما أنتجا في العام 2002. الفيلمان يتبنيان التقنية الرقمية للتغلب على القصور الملحوظ في تقنية الفيلم "التقليدي".
في فيلم "عشرة" ثمة مقاطعات زمنية، انتقالات مفاجئة بين الأجزاء، وهناك مونتاج لكن في حده الأدنى.
كيارستمي يستخدم التقنية الرقمية كوسيلة لإعادة السينما إلى درجة الصفر، لكي يجدّد شروط الحوار بين المتفرج والشاشة.

(2003)

المصدر: Senses of Cinema, 14.3.2009