مطر كحبات الرمان

ترجمة وإعداد: أمين صالح

أمين صالح سيدة التوابل The Mistress of Spices هي الرواية الأولى للكاتبة الهندية شيترا بانرجي ديفاكاروني، المقيمة في أمريكا، وقد نالت الرواية إطراء النقاد في أمريكا، حيث أسبغوا عليها الكثير من آيات الإعجاب والإشادة، ووصفوها بأنها: باهرة، مدهشة، رائعة، فاتنة، ساحرة، لا تقاوَم.. كما لقيت رواجاً كبيراً، إذ ظلت ضمن قائمة الكتب الأعلى مبيعاً لمدة 15 أسبوعاً.. وبهذه الرواية كرّست ديفاكاروني نفسها كواحدة من بين أكثر الكتّاب الجدد إثارة للاهتمام في أمريكا.

ديفاكاروني، في روايتها "سيدة التوابل"، وبلغة يتداخل فيها السرد والشعر، تمزج النقد الاجتماعي مع البعد الرومانسي للعلاقات العاطفية، معبّرة عن الوضع البشري وعن ألغاز الطبيعة البشرية، لكن ضمن نسيج من الواقعية السحرية، التي فيها يتلاشى ذلك الانقسام بين العالم السرمدي الحافل بالأسطورة والسحر (حيث تحوير أساطير هندية غابرة، مع إعادة ابتكار أسطورة الطائر الذي، مثل الفينيق، يُبعث من الرماد) والعالم الواقعي الذي فيه تتفاعل حيوات المهاجرين الهنود في أمريكا، خصوصاً أولئك الذين يرتادون دكان التوابل ويستشيرون صاحبته في مساعيهم لتحسين أحوالهم المعيشية: الاجتماعية، العائلية، العاطفية، الاقتصادية. وإليها وحدها، تيلو، سيدة التوابل، يكشفون عن أحلامهم، رغباتهم، آمالهم، توقعاتهم، أحزانهم، آلامهم، حالات الفقد، والفجوة التي يصعب ردمها أو تخطيها بين ثقافتين وحضارتين.

عالم الرواية زاخر بالسحر، بما هو كامن وراء نطاق الواقع اليومي. لكن إلى جانب كونها حكاية خرافية ذات مغزى إلا أنها أيضاً رواية واقعية، ليس فقط عبر تصوير الأماكن والأجواء الأمريكية المعاصرة، لكن الشخصيات نفسها تحمل هموماً ومشاكل راهنة.

كل فصل من الرواية معنون باسم تابل معيّن: الكركم، القِرفة، الفلفل، الشُمْرة، حب الفلفل.. وغيرها من التوابل المتنوعة. ومع القراءة تتوصل إلى فهم العلاقة بين العنوان والموضوع، بين التوابل والشخصيات المتباينة.. ذلك لأن للتوابل قوى سحرية، وينبغي أن تستخدم هذه التوابل على نحو صحيح ولائق كي تقدر أن تمارس سحرها: الكركم يمنح الأمل بولادة جديدة، الفلفل يطهّر النفس من الشر، الشمرة تهدئ الأمزجة وتسكّن الانفعالات، الحُلْبة لجعل الجسد حلواً وعذباً، الشعير لتخفيف الألم والمعاناة، الكركم لمساعدة المرأة التي تتعرض لسوء المعاملة والإيذاء الجسدي، ورق نبات النيلوفر لقضايا الحب.

في الواقع، التوابل هي التي تحكم وما على السيدة، تيلو، إلا أن تصلي وتتضرع لها كي تطلق طاقاتها السحرية، القادرة على علاج أوجاع البدن وأمراض الروح.

تيلو – وقد سمّيت كذلك تيمناً ببذور السمسم – كان اسمها نايان تارا، وتعني حرفياً: الزهرة التي تنمو قرب طريق الغبار. ولدت في زمن آخر، وعصر آخر. يتيمة منذ طفولتها، منبوذة في القرية الهندية الصغيرة، ولكي تتخلص من الظلم والإذلال، ترمي بنفسها في البحر لكن القدر يسوقها، بعون من أفاعي البحر، إلى جزيرة سريّة، خفيّة، متوارية عن الأنظار. على هذه الجزيرة الأسطورية، "حيث على جلودنا يتساقط المطر الدافئ مثل حبات الرمان"، تلتقي بنسوة شابات يتدربن على يد "الأم الأولى" كيفية التعامل مع التوابل – التي تفشي همساً بأسرارها - لاكتساب قوى تؤهلهن، بعد أن يغادرن أشكالهن الأصلية وينتحلن أشكالاً وهويات متغيّرة أخرى، لأن يسافرن إلى زمن آخر، وإلى أماكن بعيدة يزاولن فيها علاج النفوس والأبدان المريضة.

الأم الساحرة، العرّافة، تعرّف تيلو على عالم التوابل والأعشاب. تعلّمها كيف تعيّن هوية كل تابل، تركيبه، بنيته، صفته المميزة، نكهته، شذاه، ملمسه، قوته، تاريخه، موقعه، صوته، حاجته، رغبته. من الأم تتعلم كيف، بمجرد النظر إلى التوابل، تعرف فيم تفكر. وتتعلّم كيف، بمجرد الاحتكاك بكائن بشري آخر، تعرف ما هو التابل الخاص بهذا الكائن، فكل كائن له تابله الخاص به. وبإمكانها استحضار تركيبات من التوابل لمساعدة الكائن في مداواة حالته وتجاوز أزمته المادية والروحية.

تصبح تيلو سيدة التوابل الخالدة، الساحرة، العارفة. ولكي تسكن على حافة الواقع مع توابلها، يتعيّن عليها أن تطيع وتعمل وفق قوانين التوابل الصارمة وتلتزم بالقواعد الثلاث: ألا تغادر الدكان في أي ظرف أو حالة، ألا تستخدم التوابل لأغراضها الشخصية ورغباتها الخاصة، ألا تلمس شخصاً آخر بدافع الرغبة والاشتهاء.

أي انتهاك لأي من هذه القوانين أو المحظورات سوف يعرّضها لعقاب التوابل.

الحكاية، بطابعها الرمزي الصوفي، مروية من وجهة نظر تيلو، المرأة الهندية الشابة القاطنة في جسد امرأة عجوز، والتي انتقلت إلى أوكلاند بكاليفورنيا، لتدير محلاً لبيع التوابل، حيث تستخدم معرفتها بالقوى السحرية، السرية، للتوابل في مساعدة زبائنها من الهنود المهاجرين، الذين يناضلون من أجل لقمة العيش من جهة، ومن أجل تكييف مثُلهم وقيمهم مع قيم العالم الجديد، المختلف، غير المألوف.. هذا التضارب الذي يفضي غالباً إلى الإحساس بالغربة، بالانسلاب، بالعزلة، والحنين إلى الوطن.

في دكانها، الأشبه بعالم مصغّر، حيث أعداد لا تحصى من الوجوه تأتي، وكل وجه يسرد قصة.. قصص حزينة ومأساوية، وأخرى سعيدة ورائقة. وتيلو تكرس نفسها لتحسين حيوات هؤلاء الأفراد: الزوجة التي تتعرض لسوء المعاملة والإيذاء من زوجها، الشاب المضطرب، سائق السيارة الذي يريد أن يحقق حلمه بالثروة، الرجل المحافظ على قيم العالم القديم والذي يتصادم مع حفيدته التي يحبها ولا يريد أن يخسرها.. إلى هؤلاء تقدم جرعاتها السحرية.

إن بوسع تيلو أن ترى الكامن في قلوب وعقول الآخرين، وتعرف أن تقرر أي تابل يحتاجه الشخص ليحقق رغباته.. لكن ماذا عن رغباتها هي؟
مع أنها سجينة جسد امرأة عجوز، ومحظور عليها أن تغادر الدكان، إلا أنها مع مرور الوقت، وتفاعلها الإيجابي مع مشكلات الآخرين، تشعر بأنها غير قادرة على الامتثال للتعليمات الصارمة، والاحتفاظ بالمسافة المشروطة بينها والآخرين: "ليس بعيداً أكثر مما ينبغي، ليس قريباً أكثر مما ينبغي".

إنها لا تستطيع أن تكبح نفسها من التأثر والتورط، ليس فقط في التعاطف والانحياز تجاه معاناة الجالية الهندية، بل أنها تنجذب عاطفياً إلى رجل أمريكي، يدعى رافن، وجدت صعوبة في قراءة وتأويل أفكاره الأكثر إيغالاً. مع ذلك هو يجد العلاج النفسي والروحي من خلال عشقه لها، فيحثّها على الهرب معه بعيداً والعيش في مكان ريفي يصفه بالفردوس الأرضي.

العلاقة المركبة، غير المتوقعة، تتنامى إلى عاطفة مشبوبة لا يمكن السيطرة عليها. مثل هذا الفعل يمثّل تمرداً وعصياناً فاضحاً على التعاليم، وانتهاكاً للتعهدات والنذور، وهذا لا يهدّد مسار العلاقة فحسب بل أيضاً وجودها المقدس الفعلي، إذ تجد نفسها مرغمة على الاختيار بين الخلود والفناء، بين السحر والهامشية.

لكن الرواية تنتهي بإشارة إيجابية: ثمة أمل.

شيترا ديفاكاروني تتحدث عن:
المياه المليئة بالضوء

شيترا ديفاكاروني، مؤلفة رواية "سيدة التوابل"، شاعرة وكاتبة قصص قصيرة. ولدت في الهند وعاشت فيها حتى العام 1976. كانت في التاسعة عشرة من عمرها عندما غادرت كلكتا وانتقلت إلى الولايات المتحدة. أكملت دراستها في حقل اللغة الإنجليزية وحصلت على شهادة الماجستير من جامعة رايت ستيت في دايتون بأوهايو، ثم حصلت على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كاليفورنيا، بركلي.

أثناء الدراسة، ولكي تعيل نفسها مادياً، اضطرت إلى مزاولة عدة مهن غير منتظمة: جليسة أطفال، بائعة في بوتيك هندي، عاملة في مخبز، منظفة أجهزة في مختبر علمي. بعد ذلك قامت بتدريس الكتابة الإبداعية في كلية فوتهيل في لوس ألتوس هيلز بكاليفورنيا، حيث تولت رئاسة منظمة تعنى بالنساء الآسيويات من ضحايا سوء المعاملة والإيذاء البدني. كذلك مارست التدريس في جامعة هوستن.
حازت على العديد من الجوائز الأدبية.
من مؤلفاتها الشعرية: مغادرة مدينة يوبا (1997)
من مجموعاتها القصصية: زواج مدبّر (1995)

(من الحوارات العديدة التي أجريت مع الكاتبة الهندية شيترا ديفاكاروني، عبر مصادر متنوعة، حول روايتها "سيدة التوابل"، اخترنا هذه الأحاديث)

  • اعتمدت على الحكايات الشعبية التي أتذكرها من طفولتي، مثل المدينة النائمة تحت المحيط والأفاعي الناطقة. لكنني تقريباً غيّرتها كلياً. الشيء نفسه بالنسبة للتوابل. في المعتقد الشعبي الهندي، التوابل لا تستخدم فقط كمواد تضفي نكهة مميزة للطعام، بل أن لها قوى سحرية بذاتها، حيث توفّر دواءً للعلل الجسدية وعلاجاً للأمراض الروحية. لكن يتعيّن عليك أن تكون حذراً وشديد الحرص في كيفية استخدام التوابل، نظراً لأن سوء استعمالها يمكن أن يشكّل خطراً. إذا أنت لا تتّبع قواعدها فإن بإمكان التوابل أن تفتك بك وتقضي عليك. في الرواية أنا حوّلت القواعد إلى قوانين تفرضها المملكة المقدّسة، قوانين لا تستطيع تيلو أن تنتهكها بلا عواقب خطيرة.
  • الأفاعي الناطقة هي ضرب مختلف من السحر الذي لا أفهمه إلا جزئياً. إنها تمثّل نعمة للكون، أعني أنها ليست محكومة بالمنطق بل تأتي إلينا، نحن البشر الفانون، كبركة، كعطية لا نستطيع أن نفهمها.
  • الرواية قائمة على المجاز. الشخصيات مجازية. لكنها أيضاً واقعية، إنسانية جداً. إنها توجد على كلا المستويين في آن. تيلو، على سبيل المثال، هي شخصية بذاتها، لكنها أيضاً مجاز للصراع بين المسؤولية الاجتماعية والسعادة الشخصية. أردت من الرواية أن تعمل في ذلك الاتجاه، على عدة مستويات في وقت واحد.
  • أردت أن أقيم جسراً بين العالم الواقعي، على نحو صرف، والعالم الأسطوري. أن أجسّر الحواجز، أن ألغي التخوم، ليس فقط التخوم بين الحياة والموت، العالم اليومي والعالم الأسطوري، لكن أيضاً تلك التخوم التي نخلقها في حيواتنا والتي هي ليست حقيقية.. التخوم التي تفصل بين الجماعات والناس. بإلغاء التخوم نصل إلى الثيمة الرئيسية للرواية: أن السعادة تأتي من الاستغراق في عالمنا الإنساني.
  • أردت أن أعالج موضوعي بلغة الشعر والنثر بحيث تكون للغة الرواية خاصية غنائية ملائمة لنوعية الواقعية السحرية.
  • (عندما تحسم تيلو أمرها بالانحياز إلى البشر الفانين، هي تغيّر اسمها إلى مايا، وهي كلمة هندية تحدّد العالم اليومي للرغبة والألم والفرح بوصفه عالم الوهم، موضع الحزن المحتوم الذي منه يحاول الفرد الهندي أن يهرب).
    مايا، بالنسبة لي، هي الطاقة الموهمة للعالم. العالم الذي ليس ما يبدو عليه. لكن، في الوقت نفسه، مايا هي ما تجعل العالم إنسانياً وحساساً للغاية.
  • أعتقد أن علينا أن ننظر إلى المشاكل من حولنا وننكب عليها لا أن ندير إليها ظهورنا وننصرف عنها.
  • لم يُكتب الكثير عن حياة المهاجرين إلا مؤخراً. من المثير للاهتمام رؤية إلى أي مدى يفقد الناس الاتصال بثقافاتهم.
  • تقلقني حقاً أشكال الظلم والأذى التي تعرضت لها النساء منذ زمن طويل. إني أشعر بمآسيهن على نحو تخيلي، وأشاطرهن حيواتهن على نحو تخيلي.
  • المرأة تحتاج إلى صوت. كلنا نحتاج إلى أصوات.
  • ثمة مفارقة توجد في قلب الثقافة الهندية، ومن الصعب جداً تعليل هذه المفارقات والتناقضات المتجذرة بعمق. إنها تعود إلى زمن سحيق: كيف يمكن لرجل هندي أن يذهب إلى معبد إحدى الإلهات، ويعبد الإلهة بصدق وخشوع وولاء، ثم يعود إلى البيت ليضرب زوجته؟
  • أظن أن لدى المرأة الهندية قوة روحية عظيمة.
  • أرى أن الشاعر، الكاتب أو الفنان، يحتاج جوهرياً أن يكون كائناً إنسانياً كاملاً. ذلك مهم جداً للفنانين، أن يمتلكوا حياة كاملة.
    الفنانون، خصوصاً في القرن العشرين، أصبحوا في عزلة تامة، في غربة تامة. صاروا يعتقدون بأنهم يسكنون في هذا الكون العقلاني المأهول ببشر غير صالحين مثلهم.
    أنا لا أوافق على هذا على الإطلاق. أظن لو فنك جيد إلى حد كاف، فإن كل شخص ينبغي أن يكون قادراً على الحصول على شيء منه. وإذا فنك جيد إلى حد كاف، فلابد أن يجذب الناس إليه.. لابد أن يكون عن الناس وأن يمسّ شيئاً بداخلهم.
    أظن لو أنك كائن إنساني طيب فسوف تسنح لك فرصة أفضل لأن تكون فناناً جيداً، لأنني أعتقد أن الفن الجيد مؤلف من الحنو والشفقة والتعاطف.
  • تأثرت كثيراً بكتابات غابرييل غارثيا ماركيز، إيزابيل أييندي، وكتّاب الواقعية السحرية. تأثرت بالكون السحري الذي خلقوه. السحر عنصر هام جداً في أعمالي. تثير اهتمامي العوالم المتخيلة، التي تحتوي على كل ضروب القوانين المختلفة، والتي تختلف عن عالمنا.

مقتطف من: "سيدة التوابل"
صمت خفيف كالسديم

أنا سيدة التوابل
أستطيع أيضاً أن أتعامل مع أشياء أخرى: المعدن، الفلز، الأرض والرمل والحجر، الجواهر بما تشعه من ضوء رائق وبارد، السوائل التي تبدّد ألوانها في عينيكِ حتى لا ترين شيئاً آخر. تعلمتها كلها في الجزيرة.

لكن التوابل هي عشقي
أعرف أصولها ومنابتها، ما تدل عليه ألوانها وروائحها. بمقدوري أن أسمّي كل تابل باسمه الحقيقي الذي نودي به في المرة الأولى، عندما انشقت الأرض مثل قشرة وقدمتها قرابين إلى السماء. حرارتها تجري في دمي. من بودرة المانجو المجفف إلى الزعفران، هي تخضع لسلطتي وتذعن لأمري. بهمسةٍ، تهبني ممتلكاتها الخفية وقواها السحرية.

نعم، هي جميعاً تملك سحراً، حتى التوابل الأمريكية اليومية التي تخلطينها في شرود، وبلا تفكير، في قدْر الطبخ.

ترتابين؟ آه، لقد نسيتِ الأسرار القديمة التي تعرفها جداتك. ها هنا أحد الأسرار: الفاصوليا التي تُنقع في حليب المعزاة وتُفرك على عظم المعصم بإمكانها أن تحمي من عين الشر.

سرّ آخر: مقدار من الفلفل عند أسفل السرير، متخذاً شكل هلال، يشفيك من رعب الكابوس.

لكن التوابل ذات القوة والطاقة الحقيقية هي التي من مسقط رأسي، بلد الشِعر المتوهج، الريش الأزرق المخضّر.

سماوات الغروب البرّاقة كالدم.

إنها التوابل التي أعمل معها.

لو وقفتِ في وسط هذه الغرفة، ودرتِ على مهل، فسوف ترين كل تابل هندي – حتى تلك التوابل المهمَلة، المنسية – مجتمعة هنا على رفوف دكاني.

أعتقد أني لا أبالغ عندما أقول أن ليس هناك مكان آخر في العالم يشبه هذا تماماً. الدكان كان هنا منذ سنة فقط، لكن الكثيرين ينظرون إليه ويحسبون أنه دوما كان هنا.

أستطيع أن أفهم السبب. أنا أيضاً أبدو كما لو كنت مقيمة هنا منذ الأزل. هذا ما يراه الزبائن فيما يدخلون محنيي الرأس تحت أوراق المانجو الخضراء، الطيّعة، المعلّقة على الباب لجلب الحظ: امرأة محنية الظهر، ذات بشرة لها لون رمل عتيق، واقفة خلف منضدة من زجاج تحفظ الحلاوة والحلويات بعيداً عن الأطفال.

يتعيّن عليّ أن أكون هنا دائماً. يتعيّن عليّ أن أفهم توقهم الكامن إلى الطرق التي اختاروا أن يتركوها وراءهم عندما جاءوا إلى أمريكا. خجلهم من ذلك التوق يشبه المذاق المتخلّف، المرّ قليلاً، في الفم عندما يلوك المرء amlaki لإزالة الرائحة وإنعاش الأنفاس.

بالطبع هم لا يعرفون أني لست عجوزاً، وأن هذا الجسد – الذي انتحلته في نار شامباتي عندما نذرت أن أصبح سيدة التوابل – ليس جسدي. انتحلت التجعدات والتغضنات مثلما ينتحل الماء التموجات التي تغضنه.

إنهم لا يرون، تحت الجفون المرتخية، العينين اللتين تلتمعان للحظة. أنا لا أحتاج إلى مرآة محرّمة (المرايا محظورة على سيدات التوابل) لتقول لي هذا الشيء. مثل نار قاتمة. العينان اللتان وحدهما هما عيناي. لا. ثمة شيء آخر يخصني. اسمي الذي هو تيلو، اختصار لـ تيلوتاما، إذ سمّيت بهذا تيمناً ببزرة السمسم التي تصقلها الشمس، تابل التغذية.

هم لا يعرفون هذا، زبائني، ولا يعلمون أني في السابق انتحلت أسماء أخرى.

أحياناً هذا يجعلني ممتلئة بالجيشان، ببحيرة من ثلج أسود، عندما أفكر أن أحداً، على امتداد هذه الأرض كلها، لا يعرف من أكون.

بعدئذ أقول لنفسي: لا يهم، هكذا أفضل.

"تذكرن"، قالت المرأة العجوز، الأم الأولى، عندما كنا نتدرّب في الجزيرة، "أنتن لسن ذوات شأن. السيدة ليست مهمة. الدكان هو المهم، والتوابل أيضاً".

الدكان. حتى بالنسبة لأولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن الغرفة الداخلية ذات الرفوف السريّة، المقدسة.. الدكان هو رحلة نحو أرض ما قد يكون. انغماس في الخطر يقوم به شعب أسمر جاءوا من مكان ما، والذين إليهم يوجه الأمريكان هذا السؤال: لماذا؟
آه، فتنة الخطر!
إنهم يحبونني لأنهم يشعرون أني أفهم هذا. وهم يكرهونني قليلاً للسبب ذاته أيضاً. وهناك، الأسئلة التي أطرحها. أسأل المرأة الممتلئة الجسم، المرتدية بنطالاً وسترة طويلة، وشعرها معقود على شكل كعكة، فيما تنحني على كومة صغيرة من الفلفل الأخضر وتبحث بجديّة.. "هل عثر زوجك على عمل آخر منذ فصله عن عمله؟".

أسأل المرأة الشابة التي تدخل في عجلة، حاملة على وركها طفلاً رضيعاً، وتلتقط بعض مسحوق dhania jeers: "ألا يزال النزيف فاسداً، هل تريدين شيئاً لعلاجه؟".

أقدر أن أرى الصدمة الكهربائية وهي تتخلّل جسد كل فرد منهم، في كل مرّة الشيء ذاته. وأكاد أن أضحك لولا الإشفاق الذي أحسه تجاههم. كل وجه يجفل كما لو إني وضعت يديّ على الفك وعظم الوجنة وأدرت الوجه نحوي.. مع إني لم أفعل ذلك بالطبع، إذ ليس مسموحاً للسيدة أن تلمس من يأتي ملتمساً المشورة. إقلاق المحور الرهيف من العطاء والأخذ، الذي عليه حيواتنا تبقى غير مستقرة.

للحظةٍ أضبط نظرتهم العجلى، والهواء من حولنا يصبح ساكناً وثقيلاً. قليل من الفلفل يقع على الأرض، يتبعثر مثل مطر أخضر صلب. الطفل يتلوى في قبضة أمه المشدودة بإحكام. الطفل ينشج.
نظرتهم العجلى تنزلق في خوف وفي رغبة.
"ساحرة"، تقول العيون. تحت جفونهم المسدولة يتذكرون القصص التي يتهامسون بها حول نيران السمر في قراهم.
وفيما يغادرون، يديرون جانباً وجوههم الحذرة.

لكنهم سوف يعودون في ما بعد. بعد الظلام. سوف يطرقون باب الدكان الموصد الذي يشم رغباتهم وأسئلتهم. سوف آخذهم إلى الغرفة الداخلية، الغرفة التي بلا نوافذ، حيث أحتفظ بالتوابل الأنقى، تلك التي جمعتها في الجزيرة لأوقات الحاجة الاستثنائية. سوف أشعل الشمعة التي أبقيها جاهزة وأفتش عبر العتمة المقلّمة بالسخام عن لبّ النيلوفر والـحلبة المسحوق، عجينة الشمّار والحِلْتيت المحمّص. وسوف أنشد. سوف أمنح الأسرار. سوف أصلي واتضرّع لإزالة الحزن والألم والمعاناة كما علّمتنا المرأة العجوز. سوف أوجّه تحذيراً.

لهذا السبب أنا غادرت الجزيرة، حيث كل يوم بمثابة سكّر ذائب وقِرْفة، وطيور ذات حناجر ماسيّة تغرّد، والصمت حين يهبط يكون خفيفاً مثل سديم الجبل.

غادرت الجزيرة من أجل هذا الدكان، حيث جلبت معي كل ما تحتاجونه لكي تكونوا سعداء.