حديث: مايكل هانيكه

ترجمة: أمين صالح

مايكل هانيكه* حالما تتخذ الغالبية شكلاً ما، أكون ضدها من حيث المبدأ. إنه شيء غريزي. كلما اتفق الناس على كل شيء، أصير عدوانياً. في المدرسة، لم آخذ دروساً دينية كاثوليكية، وكنت أستمتع بكوني مختلفاً عن كل الآخرين في صفي. لم أكن أحب التملق والتزلف. في صغري كنت وحيداً، وظللت هكذا. وأنا لست فخوراً بذلك، لكنها الحقيقة.

* يمكنك، كمتفرج، أن تفسّر أعمالي بوصفها نقداً متواصلاً للحضارة الغربية الراهنة. لكن أعتقد أن من الصعب للمخرج أن يعطي تأويلاً لعمله. بالأحرى، لست مولعاً بالتأويل الذاتي. إن غاية أفلامي أن تطرح أسئلة معينة، والأمر سوف لن يكون مثمراً لو أجبت بنفسي على هذه الأسئلة.

* كل أفلامي هي عبارة عن رد فعل ضد السينما السائدة. كل شكل جاد من الفن يرى المتلقي كشريك في المشروع. في الواقع، ذلك هو أحد شروط التفكير الإنساني. في السينما، هذه الحقيقة، التي ينبغي أن تكون بديهية، صارت مهمَلة، متغاض عنها، واستُبدلت بالتوكيد على المظاهر التجارية للوسط الفني.

* السينما التقليدية اليوم، أو السينما الجماهيرية، لا تأخذ المتلقي بجديّة كشريك. إنها تنظر إلى أفراد الجمهور بوصفهم آلة صرّاف آلي، وظيفتها الوحيدة هي ضخ النقود. هذه السينما تدّعي بأنها تشبع حاجات ورغبات الجمهور، لكنها في الحقيقة لا تفعل ذلك.

* إذا كان الفيلم عملاً فنياً عظيماً، فإنه يستدعي مساهمة أفراد الجمهور في إنتاج معنى الفيلم. الشيء نفسه ينطبق على أي شكل من الإنتاج الفني.

* دوماً أبحث عن أماكن في القصة حيث ترك الأشياء مفتوحة يمكن أن يصبح مثمراً للمتفرج.

* عندما أباشر في كتابة السيناريو الفعلي، الخط القصصي يكون محدداً في ذلك الحين. الكتابة الفعلية هي عملية سارة ومرضية والتي تشمل اللاوعي. لكن قبل ذلك، أحتاج أن أعرف بالتفصيل الاقتصاد ووسيلة السرد. لا أظن أن أي عمل فني مبني على القوة الموجهة للزمن يمكن تركيبه بنمط متدفق بحرية. بالطبع بوسعك أن تكتب رواية أو قصيدة دون أن تعرف من البداية إلى أين سوف تقودك الكتابة. مؤلف الكتاب يستطيع أن يبحر على نحو مختلف عن قارئه. لكن الناقل المميز للزمن، المشتمل في أي دراما أو فيلم أو قطعة موسيقية يطلب منك أن تضم مفهوماً للمتفرج أو المستمع في بنائك الفني. في الفيلم هذا يفترض سلفاً، بالطبع، أن الميزانسين سيكون على المستوى الفني نفسه كما الكتابة.

* نقدي لوسائل الإعلام (الميديا) ينشأ من حقيقة أنني أعرف هذا المجال جيداً. من المهم ملاحظة أني كنت أحقق أفلاماً للتلفزيون النمساوي منذ بضع سنوات. في ذلك الحين كان من الممكن تحقيق أفلام جادة للتلفزيون. هذا صار الآن مستحيلاً تماماً، كما ثبت لي من خلال مشاهدة الأفلام على شاشة التلفزيون. ما تشاهده الآن كافٍ لإثارة الإحباط والكآبة لديك.

* الجانب التقني في عملية صنع الأفلام كان دوماً عنصراً هاماً بالنسبة لي. لدي طاقم فني رائع، من بينهم كريستوف كانتر، مصمم المناظر، الذي أعمل معه منذ سنوات طويلة.
لا أظن أن المخرج يحتاج أن يكون بارعاً في كل هذه المهن: التصوير، تصميم المناظر، الخ. لكن يحتاج إلى القدرة على إدراك كل التفاصيل بشكل سريع، وأن يعي مكامن الخلل.

* لا مانع لدي من العمل وفق التقنية الحديثة، المتطورة رقمياً، المنتجة بواسطة الكومبيوتر، لكنني سأفتقد متعة وقيمة التعاون مع الآخرين، مع الممثلين في المقام الأول. ثمة نوع من التوتر تبحث عنه دائماً، بين الدور المكتوب والشخص الحقيقي الذي يؤدي الدور، الذي يسكن ذلك الدور بكل الخاصيات الإضافية التي هي فذة وفريدة عند الممثل، مثل هذا العنصر سوف يزول آنذاك.
ما يهم في التعامل مع التقنية الحديثة هي النتيجة، مدى تأثيرها على المتفرج. إذا كان العمل يحترم الجمهور، فإن كل أنواع التدخل الفني أو التقني لن يكون مشروعاً فحسب، بل ينبغي أن يكون مطلوباً.

* بشكل عام، أنا أرسم لقطات القصة storyboards بعد أن أحسم اختيار المواقع. لكنني لا أؤمن بالأحداث الاتفاقية التي تقع صدفةً في الموقع، باستثناء ما يتعلق بأداء الممثل. أبداً لا أثق بالأشياء "الرمزية" التي تحدث مصادفةً أثناء التصوير. هي أحياناً تبدو مثل "اقتراحات" مفاجئة، لكنني عادةً لا أستطيع أن أحكم في تلك اللحظة المعينة ما الذي قد تعنيه للفيلم بأسره لو تعيّن عليّ أن أدخلها ضمن السياق. أنا لا أحبذ فعل ذلك، لا يبدو ذلك أمراً سليماً. شخصياً ألتزم بالسيناريو مئة بالمئة.

* أنا أستخدم تقاليد النوعية genre، كالإثارة البوليسية thriller. لكن، بوجه عام، ما يضجرني في أفلام النوعية تلك التجريدية أو عدم تحقق الواقع الذي يحدث هناك.. إنه يضجرني كمتفرج وليس كمخرج. هذا يشبه ما يحدث في المسرح، في أعمال يونيسكو أو جومبروفيتش: عندما يُختزل العالم إلى نموذج (موديل)، أفقد اهتمامي بعد خمس دقائق، لأنني وقتذاك أعرف ما الذي سيتحوّل إليه. أنا أيضاً أحاول أن أبني نماذج في أفلامي، لكنها تكون متخمة بالعالم، حيث النتيجة ليست مجازية فحسب بل مغموسة في واقع يمكن إثباته أو التحقّق منه. وأغلب الأنواع السينمائية – بصرف النظر عن النوع الإثاري البوليسي – لا تفعل ذلك، فهي تقدم أشكالاً نمطية من السلوك، والتي لا تثير اهتمامي إلا إذا استطعت أن أعكسها كمخرج.

* من بين المخرجين المعاصرين، القريبين من نفسي والذين أعمالهم تظل عالقة في الذهن، كيارستمي. لم يتجاوزه أو يتفوّق عليه أحد بعد. كما قال بريشت: "البساطة هي أصعب شيء يمكن تحقيقه". كل شخص يحلم بفعل أشياء ببساطة، وفي الوقت ذاته يجعلها تحمل خصوبة العالم. فقط أفضل الفنانين هم الذين يبلغون هذا الهدف. كيارستمي فعلها، كذلك بريسون. لكن يجب أن أعترف بأني أشاهد القليل من الأفلام الجديدة. كنت أشاهد الكثير، أما الآن فغالباً أتابع الأفلام القديمة في البيت. أشعر بامتلاء وغنى أكثر حين أشاهد ثانيةً فيلماً لكارل دراير أو أعمالاً كلاسيكية أخرى. إنها تخبرني عن عالم اليوم أكثر مما تفعله أفلام اليوم. لكن، بالطبع، هناك العديد من الاستثناءات.

المصادر:
Cineaste, Summer 2003
sight & sound, oct. 2003 Cineast, Spring 2007
Film Comment, Nov./Dec. 2009