نقد الحلم الأمريكي وعبثية الحرب

أمين صالح

أفلام كوبريك الأولىخوف ورغبة Fear and Desire (1953)

أول أفلامه الدرامية الطويلة، حققه بميزانية بسيطة، بلغت عشرة آلاف دولار، حصل عليها من أبيه وعمه، ومن تبرعات أهله وأقاربه، مستخدماً ممثلين هواة أو لم يسبق لهم التمثيل.. "لم أكن أعرف شيئاً عن كيفية إدارة الممثلين. لقد أخفقت تماماً في تحقيق ما لم أكن أعرفه".. (هذا ما قاله في حوار مع مجلة New Yorker, Nov. 1966).
الفيلم، الذي هو من إنتاجه وتصويره ومونتاجه، ولم يعرض جماهيرياً في الصالات السينمائية العامة، عن أربعة جنود يضيعون خلف خطوط العدو، في حرب غير محدّدة زمنياً ومكانياً، ويكافحون من أجل استرداد هوياتهم والعودة إلى قاعدتهم. يقول كوبريك (المصدر نفسه): "على الرغم من كل شيء، تمكنا من عرض الفيلم في إحدى الصالات الفنية بنيويورك. البعض كتب عنه مقالات طيبة، لكنه لم يحقق أي مردود مادي. ولم أحصل على عروض من أية جهة لصنع فيلم آخر".
يقال أن الفيلم تم سحبه من التداول والعرض بناءً على طلب كوبريك نفسه.

قبلة القاتل Killer's kiss (1955)

أيضاً من إنتاجه وتصويره ومونتاجه، وشارك في كتابته.. يقول كوبريك (المصدر نفسه): "في ظرف أسبوعين كتبت، مع صديق، سيناريو آخر، مختلفاً تماماً، بعنوان قبلة القاتل. مجرد مشاهد أكشن، مشدودة آلياً، ضمن بناء يحاكي حبكة أفلام العصابات".
مدّة الفيلم 67 دقيقة، وتم تصويره في مواقع خارجية في نيويورك، عن ملاكم فاشل في الحلبة، لكنه يتمكن من إنقاذ حبيبته الراقصة من الاختطاف. في النهاية يغادران المدينة القاسية التي لم يجدا فيها غير الاستغلال والقسوة والوحشية.
الفيلم بدوره لم يحقق أي عائد مادي. وعندما وجد كوبريك نفسه مفلساً ومديوناً، عاد يتكسّب من مباريات الشطرنج. في هذه الفترة من العام 1955، تعرّف على جيمس ب. هاريس، وهو ابن مالك شركة توزيع للأفلام التلفزيونية، أراد أن يصبح منتجاً سينمائياً. كلاهما كانا في السادسة والعشرين من العمر، لذا سرعان ما تآلفا، وكوّنا شركة إنتاج خاصة. العلاقة بينهما كانت مثمرة وناجحة حتى قرر هاريس، في بداية الستينيات، أن يتحول إلى الإخراج.

القتل The killing (1956)

الفيلم، الذي كتب له كوبريك السيناريو، مبني على رواية ليونيل وايت Clean Break، عن مجموعة من اللصوص ينوون سرقة مدخول حلبة سباق. وقد خططوا للسرقة بحيث يتزامن مع وقت السباق الفعلي للجولة السابعة.
كوبريك هنا يوجّه نقداً لفكرة الحلم الأمريكي القائمة كلياً على الشهوة إلى المال، والتي تقود الشخصيات إلى مسارات كارثية. كل الشخصيات مؤمنة بأن المال وحده هو الحل لكل المشاكل والعلل الجسدية والنفسية، وبه يمكن تحقيق كل الأحلام والرغبات.
العمل، المصور بالأسود والأبيض، والذي تستغرق مدته 85 دقيقة، من النوع الإثاري والتشويقي، مع اعتماد على الفلاش باك، ضمن بناء مركّب زمنياً.
تجدر الإشارة إلى أن كوبريك لم يستطع أن يصوّر فيلمه بسبب قوانين النقابة، لذلك استعان بالمصور المخضرم لوسيان بالارد، علماً بأن كوبريك من المخرجين القلائل الذين ينتسبون إلى نقابة المصورين، ويدير كاميرته من حين إلى آخر عندما يحقق أفلامه.
الفيلم لم يحقق نجاحاً على الصعيد التجاري (مع أن بعض المصادر تشير إلى أنه أحرز نجاحاً تجارياً متواضعاً)، لكن لفت إليه أنظار النقاد، وقدّم كوبريك إلى الجمهور, وإلى صناعة السينما، كموهبة جديدة وجادة وجديرة بالاهتمام.

دروب المجد Paths of Glory (1957)

أول أفلامه المنتجة بميزانية كبيرة ونجم مشهور هو كيرك دوجلاس. في إحدى مقابلاته (Film Quarterly, Spring 1959) تحدث كوبريك عن فيلمه هذا وعن الأفلام الحربية عموماً، فقال: "ما يفتن ويجذب في القصص الحربية أو البوليسية أنها توفر فرصة فريدة تقريباً لإظهار تباين الفرد في مجتمعنا المعاصر مع البنية الصلبة، الراسخة، للقيمة المسلّم بها، التي يصبح الجمهور واعياً تماماً لها، ويمكن استخدامها كشيء مضاد لحالة إنسانية، فردانية، عاطفية. الحرب أيضاً تعمل كنوع من الحاضنة لإنتاج سريع وقسري لمواقف ومشاعر. المواقف تتبلور وتتجلى في أرض مكشوفة. إيزنشتاين، في كتاباته النظرية عن البناء الدرامي، غالباً ما يلجأ إلى الإفراط في التبسيط. تباينات الأسود والأبيض، في فيلمه (الكسندر نيفسكي) لا تلائم كل دراما. لكن الحرب تسمح لهذا النوع الأساسي من التباين.. وضمن هذه التباينات تستطيع أن تبدأ في تطبيق بعض إمكانيات الفيلم.. النوع الذي استكشفه إيزنشتاين".
وفي المقابلة ذاتها قال أيضاً: "لا أستطيع أن أقدّم خلاصةً أو موجزاً لفظياً دقيقاً للمعنى الفلسفي للفيلم. المقصود منه إشراك الجمهور في تجربة ما. الأفلام تتعامل مع المشاعر وتعكس شذرات من التجربة. لذلك سيكون أمراً مضللاً محاولة تلخيص معنى فيلم ما بشكل لفظي".
الفيلم معد عن رواية همفري كوب، الصادرة في 1935، والتي يقول عنها كوبريك (New (Yorker, Nov. 1966: "أتذكر أنها كانت من الروايات القليلة التي قرأتها باستمتاع أيام دراستي في الثانوية. لقد وجدتها في عيادة والدي، وأخذت أعيد قراءتها فيما كنت أنتظر أن ينتهي والدي من علاج أحد مرضاه".
الأستوديوهات لم تهتم بالمشروع إلا بعد أن نجح في إقناع كيرك دوجلاس بالتمثيل فيه. عندئذ وافقت شركة يونايتد أرتستس على تمويله بشرط أن تكون الميزانية ضئيلة، وأن يتم تصويره في أوروبا. هكذا صوره في ميونيخ بألمانيا، في يناير 1957، بالأسود والأبيض.
الفيلم يقدم رؤية ساخرة ومريرة عن عبثية الحرب - هنا الحرب العالمية الأولى - كما تتجسد في حكم الإعدام الاعتباطي الصادر ضد ثلاثة جنود فرنسيين أبرياء، تم اختيارهم عشوائياً، لمحاكمتهم عسكرياً وإدانتهم بتهمة الجبن والامتناع عن المشاركة في هجوم انتحاري، عبثي، على موقع ألماني محصّن جيداً. الذي أصدر الأوامر جنرال طموح، يأمل في إحراز ترقية، وعندما يتردد الجنود، يأمر قوات أخرى بإطلاق النار على خنادق رفاقهم. لتغطية هذا الفعل الشائن، يختار من بين الجنود أكباش فداء. الكولونيل (كيرك دوجلاس) يكلّف بالدفاع عن الجنود الثلاثة، لكنه لا ينجح في إنقاذهم.
القصة مستوحاة من واقعة حقيقية سنة 1916، أثناء معارك وحشية ودامية، استمرت ستة أشهر، وحصدت أكثر من 315 ألف جندي فرنسي في محاولة لاستعادة حصن فرنسي احتله الألمان. عنوان الفيلم، دروب المجد، تهكمي فدروب الحرب لا تفضي إلى المجد بل إلى الموت.
بسبب النقد الموجه إلى نفاق العسكرية الفرنسية والسلطات البيروقراطية فقد منعت فرنسا وسويسرا عرض الفيلم لمدة عشرين عاماً.
بعد عام تزوج كوبريك من الممثلة الألمانية سوزان كريستيان هارلان، التي ظهرت في نهاية الفيلم، في دور فتاة ألمانية تؤخذ أسيرة من قِبل جنود فرنسيين سكارى، يأمرونها بأن تغني، فتفعل، مثيرةً في نفوسهم حزناً عميقاً. وهي كانت راقصة باليه قبل أن تتحول إلى التمثيل.
الفيلم حقق نجاحاً تجارياً معقولاً، لكنه لفت أنظار النقاد إلى موهبة كوبريك، البالغ من العمر 28 سنة. وهو يعد الآن من الأفلام الكلاسيكية المضادة للحرب.

سبارتاكوس (1960)

عمل تاريخي ملحمي، مبني على رواية هوارد فاست، مدة عرضه 197 دقيقة تقريباً، عن ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس ضد روما، التي استشرى فيها الفساد والظلم والانحلال، سنة 73 قبل الميلاد.
الفيلم يعرض، في إطار متواز، حياة العبيد من جهة، واجتماعات شيوخ روما وحياة البذخ التي يعيشونها. سبارتاكوس هو عبد يتم جلبه إلى روما وإلحاقه بالمقاتلين الذين يتبارزون في ما بينهم حتى الموت لتسلية أهل روما. هذا الظلم والاستغلال، والاستهانة بأرواحهم، يدفع العبيد إلى الثورة ومحاربة أقوى امبراطورية.
في فترة إنتاج الفيلم، كانت الأفلام التاريخية والملحمية رائجة، ناجحة تجارياً. وقد توفرت لفيلم "سبارتاكوس" كل أسباب النجاح، من المادة المشوقة والمثيرة للاهتمام، إلى العناصر الفنية البارزة والمهمة: كاتب السيناريو دالتون ترومبو (الذي كان ضمن القائمة السوداء في فترة المكارثية)، الممثلون الكبار (لورنس أوليفييه، شارلز لوتون، بيتر أوستينوف، جين سيمونز) ومخرج شاب سيكون له شأن
الممثل كيرك دوجلاس، الذي قرر أن ينتج فيلماً عن سبارتاكوس والعبودية في روما ما قبل المسيحية، طلب من كوبريك أن يخرج الفيلم، لكن دون أن يمنحه السلطة الفنية على السيناريو أو الشكل النهائي للفيلم، فقد كانت الكلمة الأخيرة بشأن مجمل النتائج لدوجلاس. ومع أن كوبريك أشرف على المونتاج، إلا أنه صرّح بأن تنفيذ الفيلم لم يبلغ مستوى طموحه، وكان يمكن للنتيجة أن تظهر بشكل أفضل.
وعن هذا قال كوبريك (كتاب The Movie Makers: Artists in the Industry, 1973): "سبارتاكوس هو الفيلم الوحيد الذي لم تكن لدي سلطة مطلقة عليه. كان المخرج أنتوني مان قد بدأ تصوير المشهد الأول، لكن اختلافه في الرأي مع دوجلاس جعلته ينسحب بعد الأسبوع الأول من التصوير. (..) عندما قدّم لي دوجلاس العرض، ظننت أنني أستطيع فعل شيء منه إذا خضع السيناريو للتعديل. لكن التجربة برهنت لي أنه إذا لم ينص العقد على احترام قراراتك فسوف لن يحترموها. كان بالإمكان تحسين السيناريو أثناء التصوير لكن ذلك لم يحدث".
وفي مقابلة أخرى، قال كوبريك: "في "سبارتاكوس" حاولت، لكن بنجاح محدود، أن أجعل الفيلم يبدو حقيقياً قدر الإمكان. السيناريو كان يتسم بالغباء بعض الشيء، وعدم الأمانة في التعبير عما كان معروفاً عن سبارتاكوس وثورته. التاريخ يخبرنا أنه مرتين قاد جيشه من العبيد المنتصرين حتى الحدود الشمالية لإيطاليا، وكان بإمكانه أن يغادر البلاد بسهولة، لكنه لم يفعل ذلك، بل عاد مع جيشه ليسلب وينهب المدن الرومانية. البحث في أسباب هذا الفعل كان يمكن أن يكون من بين أكثر الأسئلة إثارةً للاهتمام والتي يمكن أن يطرحها أو يتأملها الفيلم".
عن طول أو مدة فيلم ما، يقول كوبريك (كتاب The Film Director as Superstar, Joseph Gelmis): "أنا لا أضع دليلاً صارماً بشأن طول الفيلم. أعتقد أنه إذا لديك فيلم مثير للاهتمام حقاً، فإن مدته ليست مهمة، شريطة أن لا تتمادى في التطرف بحيث يؤدي إلى تشتيت انتباه المتفرج وتخدير حواسه. الفيلم الأطول الذي قدّم المتعة لأجيال من المتفرجين هو (ذهب مع الريح)، وهذا يدلّ على أن الفيلم، إذا كان مشوقاً ومثيراً للاهتمام، فسوف يجذب الجمهور حتى لو استغرق ثلاث ساعات وأربعين دقيقة".
الفيلم حاز على أربعة من جوائز الأوسكار في مجال التصوير والملابس وتصميم المناظر والتمثيل المساعد (بيتر أوستينوف).

لوليتا (1962)

كوبريك طلب من مؤلف الرواية فلاديمير نابوكوف أن يكتب سيناريو الفيلم. عندما استلم منه المسودة الأولى لاحظ أنها سوف تستغرق ساعات طويلة إن نفّذها كما هي. بعد ذلك قدّم نابوكوف نسخة أقصر، استخدم منها كوبريك عشرين في المئة. وعندما شاهد نابوكوف الفيلم في عرض خاص صرّح بأن كوبريك مخرج عظيم وأن لوليتا فيلم ممتاز وأن الممثلين رائعون.
من رواية نابوكوف الشهيرة، المكتوبة في العام 1955، والتي أثارت الكثير من الجدل والخلاف والمنع (باريس منعت نشر الرواية من العام 1956 وحتى 1958 ولم تطبع في أمريكا وبريطانيا، في نسختها الأصلية الكاملة، إلا في العام 1958)، قدم كوبريك إعداداً بارعاً ورائعاً. إنه عن الهاجس الجنسي، عن الهيام المرَضي، المحكوم بالإخفاق، عند رجل في منتصف العمر، يعمل أستاذاً جامعياً للأدب، تجاه ابنة زوجته، لوليتا المراهقة التي تبلغ من العمر 13سنة، والتي تمارس معه كل أشكال الإغواء والتلاعب بعواطفه وهواجسه إلى حد الإذلال. هو يخطط لقتل الزوجة، التي تكتشف يومياته وما دوّنه فيها من اعترافات بمشاعره، فتخرج في ليلة ماطرة وتدهسها سيارة. محاولاته لإغواء لوليتا تفشل، إذ تهرب أخيراً مع رجل آخر، يتزوجها.
في تلك الأيام، وبسبب الرقابة الصارمة، لم يكن مسموحاً للمخرج بأن يبرز الجانب الجنسي في العلاقات، بل أن يكتفي بالإيحاء والمجاز.. لذلك شعر كوبريك بأن نقطة ضعف الفيلم تكمن في افتقاره إلى الإيروسية، العنصر المحتوم في العمل.
يقول (كتاب The Film Director as Superstar, Joseph Gelmis): "بسبب الضغوطات التي مارستها قوانين الرقابة ورابطة الحشمة الكاثوليكية في ذلك الحين، لم أتمكن على نحو واف من اضفاء الطابع الدرامي على المظهر الإيروسي لعلاقة همبرت بلوليتا، ولأننا لجأنا إلى التلميح بشأن هاجسه الجنسي، فإن الكثيرين اعتقدوا أن همبرت واقع في غرام لوليتا. في حين أن هذا، في الرواية، يأتي كاكتشاف في النهاية، حين هي تتحول من الحورية إلى امرأة حبلى تعوزها الأناقة. هذا اللقاء، وإدراكه المفاجئ أنه يحبها، هو من أكثر عناصر القصة إثارة للمشاعر. لو يتسنى لي أن أحقق الفيلم من جديد، فسوف أؤكد على المكوّن الإيروسي للعلاقة بالثقل نفسه الذي قدمه نابوكوف في روايته".
ويقول (كتاب (The Movie Makers: "لم أكن قادراً على إعطاء أي ثقل على الإطلاق للمظهر الإيروسي في علاقة همبرت بلوليتا".
وفي موضع آخر (New Yorker, Nov. 1966) يقول: "الشيء الهام في الرواية هو أن تفكر من البداية أن همبرت عبدٌ لانحرافه الجنسي. فقط في النهاية، عندما تكون لوليتا متزوجة وحبلى، ولا تعود تلك الحورية الصغيرة، تدرك – مع همبرت – أنه يحبها فعلاً. في الفيلم، نظراً لاستحالة تصوير هاجسه الجنسي، فإن ذلك يفضي إلى الإيحاء من البداية إلى أنه عاشق لها".
فيلم لوليتا مغلّف بالكوميديا السوداء والإثارة البوليسية والحس الرومانسي في قصة حب مستحيلة.
دكتور سترينجلوف Dr. Strangelove (1964)
العنوان الأصلي للفيلم: دكتور سترينجلوف أو: كيف تعلمت أن أكفّ عن القلق وأعشق القنبلة.. وعنه حاز كوبريك على جائزة نقاد نيويورك كأفضل مخرج. وقد رشح لأربع من جوائز الأوسكار (من بينها أفضل فيلم ومخرج) لكنه لم يفز بأية جائزة.
كوميديا سوداء، ساخرة، هجائية، عن الحرب الباردة بين القوى العظمى، والهجوم النووي غير المقصود، الذي يقع عن طريق الصدفة. الأوضاع والحالات والحوارات تبدو عبثية ولا معقولة، وهي مطروحة ضمن رؤية كابوسية، رؤيوية، لكن مفعمة بالدعابة والسخرية، تتعرض للمخاوف من أسلحة الدمار الشامل، ومن الحرب النووية، وهيمنة التكنولوجيا على البشر، في الفترة التي أعقبت سباق التسلح المحموم، والمواجهة بين الصواريخ الأمريكية والروسية التي كادت أن تتسبب في كارثة عالمية، واغتيال كنيدي.
في البداية، هو خطط للفيلم لأن يكون إعداداً جاداً لقصة بيتر جورج "إنذار أحمر".. عن جنرال مجنون وقراره بإرسال قاذفات القنابل لمهاجمة روسيا لاقتناعه التام بأن عجزه الجنسي راجع إلى مؤامرة شيوعية دولية لتسميم مياه الشرب. لكن تدريجياً تغيّر موقف كوبريك تجاه مادته.. "فكرتي عن تنفيذ الفيلم ككوميديا كابوسية خطرت لي في الأسابيع الأولى من عملي في السيناريو".
إن بناء جدار برلين هو الذي شحذ اهتمام كوبريك بالأسلحة النووية والإستراتيجية النووية، وراح يقرأ كل ما استطاع الحصول عليه من وثائق وأبحاث عن القنبلة. في آخر الأمر، اعترف بأنه لم يتعلّم أي شيء جديد عن الموضوع. يقول (New Yorker, Nov. 1966): "عندما تبدأ في قراءة التحاليل عن الإستراتيجية النووية، هي تبدو لك عميقة التفكير إلى حد أنك تشعر بهدهدة وسكون بفعل الإحساس المؤقت بإعادة الطمأنة. لكن فيما أنت تذهب عميقاً نحوه، وتصبح أكثر استغراقاً، تبدأ في إدراك أن كل فكرة تفضي إلى تناقض ظاهري. (..) في وقتنا الحاضر، القنبلة الذريّة تقريباً ليس لها أي واقع، فقد أصبحت فكرة تجريدية تامة، نجد تمثيلاً لها في بضع لقطات من الجريدة الإخبارية المصورة في هيئة سحابة شبيهة بالفُطْر. الناس يتفاعلون، في المقام الأول، مع التجربة المباشرة وليس مع الفكرة التجريدية. من النادر جداً أن تجد شخصاً قادراً أن يستغرق عاطفياً مع التجريدات. وكلما طال وجود القنبلة بيننا من غير حدوث أي شيء، ازداد الناس في إنكار وجودها سيكولوجياً. تصبح تجريدية مثل حقيقة أننا جميعاً سوف نموت يوماً ما، هذه الحقيقة التي نبرع في إنكارها. لهذا السبب يبدي معظم الناس اهتماماً قليلاً جداً بالحرب النووية، وصارت أقل إثارة للاهتمام كمشكلة. وكلما تأخر الحدث النووي، ازداد الوهم وتعزّز الإحساس بالأمان. وفيما الوقت يمر، يزداد الخطر لأن الشيء يصبح نائياً أكثر فأكثر في أذهان الناس".
عن الرؤية التشاؤمية التي قد يحملها الفيلم، يقول كوبريك (Playboy, Sept. 1968): "أنت لا تكف عن الاهتمام بالإنسان لمجرد اكتشافك لعبثيته وهشاشته وزلاته وادعاءاته. بالنسبة لي، اللاأخلاقية الحقيقية الوحيدة هي تلك التي تعرّض الجنس البشري للخطر. والشر المطلق الوحيد هو ذاك الذي يهدّد بإبادة البشر. بالحس الأعمق، أنا أؤمن بإمكانية الإنسان وقدرته على التقدم. في (سترينجلوف) كنت أتعامل مع اللاعقلانية المتأصلة في الإنسان، والتي تهدد بتدميره. تلك اللاعقلانية هي حاضرة اليوم بيننا بقوة، ويجب قهرها".
وفي موضع آخر (The Movie Makers: Artists in the Industry, (1973 يقول: "إن تدمير هذا الكوكب سوف لن يكون له أي دلالة أو مغزى على المستوى الكوني. انطفاء كوكبنا سيكون أشبه باشتعال عود ثقاب يسطع لهبه للحظةٍ في السماء، وإذا اشتعل عود الثقاب في الظلمة فإن أحداً سوف لن يكون هناك ليندب الجنس الذي استخدم الطاقة لا لإضاءة منارة إلى النجوم بل لإضرام النار في ركام الحطب التي عليها تتمدد جثته".
بعض النقاد استنكروا البعد العدمي للفيلم، وعندما سئل إذا الفيلم يوحي بكراهية أو ازدراء للجنس البشري، رد مندهشاً (Take One, May/ June 1971): "أوه، يا إلهي، لا.. الهجّاء هو الشخص الذي لديه رؤية تشاؤمية، شكوكية، عن الطبيعة البشرية، مع ذلك لا يزال يمتلك تفاؤلية تجعله يتعامل مع هذه الطبيعة بنوع من الدعابة، حتى لو كانت قاسية".
ويضيف قائلاً: "إن خلو الحياة من المعنى يرغم الإنسان على أن يخلق معناه الخاص".