حديث: مايكل هانيكه

ترجمة: أمين صالح

مايكل هانيكه* نقطة انطلاق الفيلم كانت الرغبة في العثور على مشروع مناسب للعمل مع (الممثل الفرنسي) دانييل أوتوي Daniel Auteuil الذي اقترح التعاون معي. في الوقت نفسه، كنت ألهو بفكرة كتابة سيناريو فيه شخص ما يجابَه بعقدة ذنب تجاه شيء ارتكبه في طفولته. وقد لعبت الصدفة دوراً في هذا، ففي تلك الفترة شاهدت عملاً وثائقياً كانت تبثّه قناة فرنسية عن الأحداث التاريخية التي عجّلت بحدوث تلك المظاهرة في أكتوبر 1961. بعد مشاهدة هذا العمل، أخذت كل تلك العناصر المختلفة في الالتحام.

هذا العمل التلفزيوني الوثائقي، الذي عُرض بعد أربعين سنة من الصمت، شاهدته صدفةً ذات ليلة في النمسا، وقد شعرت بصدمة شديدة لأنني لم أسمع قط عن هذا الحدث من قبل. إنه أمر صاعق أن تكتشف بأن حدثاً كهذا، في بلاد مثل فرنسا تتباهى بحرية الصحافة، يبقى محظوراً وفي طي الكتمان لأربعين سنة. أعتقد أنه شيء عظيم أن يتم الكشف أخيراً عن مثل هذا الحدث التاريخي. لكن في الوقت نفسه، لا أريد لفيلمي أن يشاهَد بوصفه مشكلة فرنسية خاصة. يبدو لي أن في كل قطر ثمة بقاع مظلمة، لطخات قاتمة، حيث الأسئلة عن الذنب الجماعي تصبح هامة.

السبب الذي يجعلني أؤكد على أهمية عدم مشاهدة فيلمي كمشكلة فرنسية خاصة، هو ما حدث في المؤتمر الصحفي بعد عرض فيلمي الأول "القارة السابعة" في مهرجان كان، فقد طرح عليّ أحدهم هذا السؤال: "هل الأمور رهيبة وفظيعة إلى هذا الحد في النمسا؟ هل هكذا تبدو الحياة هناك؟"

تلك هي الوسيلة الكلاسيكية للدفاع ضد رغبتي في جعل الناس يدركون مشاكل ومعضلات معينة. إنه الكنس النموذجي للعناصر غير المريحة وإخفائها تحت البساط. ليس لهذا علاقة بجنسية الفيلم. لقد حققت الفيلم في فرنسا، وكان بإمكاني أن أصوره، مع تعديلات قليلة جداً، ضمن محيط نمساوي أو أمريكي.

أثناء عرض الفيلم مؤخراً في ليون، وأثناء المناقشة، نهض شاب في الصالة وسألني عما إذا عشت طفولة تعيسة.. هذه طريقة مماثلة لمحاولة تجنب التعامل مع قضايا حقيقية في الفيلم.

* في النمسا اليوم لا تزال تسمع الناس يعلنون قائلين "لا أحد منا كان نازياً".. لا أحد سوف يعترف بأنه كان نازياً، أو متواطئاً مع النازية، جميعهم كانوا ضحايا للنازية.

* الفيلم عن رجل في منتصف الخمسين من عمره، والذي في طفولته ارتكب شيئاً سيئاً، والماضي يبدأ في مطاردته بعد أربعين سنة. إنه عمل إثاري، تشويقي، إلى حد ما.. لكن الثيمة، مرة أخرى، عن الجريمة والإحساس بالإثم. السياق: هو ما فعله الفرنسيون في الجزائر.

* هناك بضعة أسباب لجعل جورج مقدّم برنامج تلفزيوني. قبل كل شيء، أردت شخصاً قابلاً لأن يكون معروفاً جيداً ويمكن التعرّف عليه في الحال.. هكذا يتعرّف عليه مجيد. إن مذيعي التلفزيون هم الأكثر شهرة في عالم اليوم. والسبب في جعله يتعامل مع الأدب هو أنني أردت إظهاره كمثقف.. وتلك الثقافة ليست كافية للحيلولة دون أن يكون جباناً، أو أن تكون لديه شخصية ضعيفة.

من تجربتي الشخصية في العمل التلفزيوني، أعرف جيداً أنواع الضغوطات التي يتعرض لها المرء في التلفزيون. أنا لم أعد أعمل في التلفزيون لكنني باستمرار أسمع عن زملاء لي يقدمون نصوصهم إلى شبكات التلفزيون فيقال لهم: السيناريو معقّد جداً. عليك أن تجعله بسيطاً لأن الجمهور غبي، لا يستوعب جيداً. بإمكانك أن تحصل على الكثير من المال من المعلنين إن جعلته بسيطاً.

* الفيلم لا يقدّم إجابات، حلولاً. أود من الجمهور أن ينهي الفيلم. الرواية تستحضر الصور، السينما تسرقها. أنا باستمرار أبحث عن سبُل لإعطاء تلك الطاقة إلى الجمهور ثانيةً.
* ليس ثمة خط أسود أو أبيض. نحن لا نعرف ما إذا كان جورج يقول الحقيقة، أو ما إذا كان مجيد يقول الحقيقة. لا نعرف أيهما يكذب.. تماماً مثلما لا نعرف أن نميّز بين الصدق والكذب في الحياة الواقعية. لا يمكنك أن تجزم بأن الفقير طيب والغني شرير.. هكذا فحسب. الحياة أكثر تعقيداً. كصانع فيلم وفنان، أنا أحاول أن أسبر وأتحرى تعقيدات وتناقضات الحياة. لهذا السبب آمل أن يكون الفيلم مقلقاً ومزعجاً.. بالدرجة الأولى لأننا لا نعرف كيف نستجيب.

* أظن أن انتحار مجيد يمثّل أمرين. قبل كل شيء، هو فعل يائس من أفعال تدمير الذات. لكنه أيضاً فعل عدواني موجّه نحو جورج.

على نحو مثير للاهتمام، شخص أعرفه، كان قد شاهد الفيلم مؤخراً، روى لي قصة سمعها عن رجل هجر زوجته. هي طلبت أن تقابله في مترو الأنفاق. التقيا هناك وفجأة رمت بنفسها تحت قطار متحرك أمام ناظريه. أظن أن هذا تعليق مثير للاهتمام على فيلمي.

* قال جودار ذات مرّة: " الفيلم هو الحقيقة في 24 إطاراً في الثانية". أنا كيّفت هذه الملاحظة، من وجهة نظر خاصة، بحيث تُقرأ هكذا: "الفيلم هو الكذب في 24 إطاراً في الثانية في خدمة الحقيقة".. أو الكذب مع احتمال أن يكون في خدمة الحقيقة.

الفيلم هو بناء اصطناعي. إنه يزعم إعادة بناء الواقع، لكنه لا يفعل ذلك. هو شكل من أشكال التلاعب. هو الكذب الذي يمكن أن يكشف عن الحقيقة. لكن إن لم يكن الفيلم عملاً فنياً فإنه مجرد متواطئ مع عملية التلاعب.

* في فيلم "المخفي" لم أستخدم الموسيقى. الموسيقى في الأفلام عادةً تستخدَم من أجل إخفاء عيوب ومآخذ معينة. في الفيلم الواقعي ليس ثمة موضع للموسيقى. على أية حال، الموسيقى لا ترافق حركاتك وأفعالك في الحياة اليومية. الأمر يختلف في فيلم النوعية genre والذي لا يزعم أنه واقعي. لكن في الفيلم الواقعي، ما لم تكن الموسيقى مؤداة فعلاً في المشهد، فسوف لن تجد لها موضعاً.

المصدر: Cineast, Winter 2005