أمين صالح
(البحرين)

أمين صالحمزيج من التوابل:
بعد مشاهدته لأحد الأفلام الهندية، في صالة سينما بإحدى المدن الهندية، أبدى المخرج الأسترالي باز لوهرمان – مخرج الفيلم الشهير "مولان روج"- دهشته وانذهاله من الطريقة التي يستقبل ويتفاعل بها الجمهور الهندي مع الفيلم المعروض على الشاشة، واعتبرها تجربة فريدة واستثنائية، أتاحت له فرصة اختبار فهم جديد ومختلف للعلاقة بين المتفرج والفيلم.
إذا كان المتفرج الأوروبي، مثلا، يفضـّل مشاهدة الفيلم في صالة ساكنة تماما، في صمت مطبق، دونما أي إلهاء من أي نوع، وفي خشوع وتبجيل.. كأنه في كاتدرائية، فإن المتفرج الهندي يذهب إلى السينما كما لو يذهب إلى نزهة. وهو لا يعبّر عن تقديره واحترامه للفيلم بالتزام الصمت، كما يفعل زميله الأوروبي، بل عبر الضجيج والتفاعل الحر، الفوضوي.
الجمهور الهندي في الصالة يأخذ حريته المطلقة في تبادل الأحاديث الصاخبة، في الرد على المكالمات الهاتفية عبر الموبايل، في الرقص والغناء الفردي أو الجماعي مع الأغنية المعروضة على الشاشة، في الخروج من الصالة لتدخين سيجارة.. إنها أمسية مخصصة للترفيه البحت، والفيلم في بؤرة الاهتمام لكن ليس إلى حد الاستحواذ.
غالبا ما يطلق على الأفلام الهندية صفة "أفلام masala" (أي ذلك المزيج من التوابل): وضع كل شيء في طبق واحد، حالة متجذرة بعمق في الروح الهندية.. نجد انعكاس ذلك في الوجبة الهندية حيث تقدم مختلف أنواع الأطعمة والتوابل والبهارات في طاسات على صحن واحد. مثلما نجده في المسرح الكلاسيكي الهندي الذي يستلزم: الحدث الدرامي، الأغنية، الرقص، الصراع، والنهاية السعيدة.. وكل هذا منطلق من نظرية "الراسا" rasa (الجوهر/العاطفة) أو (الماهية/الإحساس)، هذه النظرية التي تسعى إلى "الشعور المفعم بالبهجة، الذي يشعره المتفرج حين تكون صراعاته محلولة، ويحس بالتناغم والانسجام مع نفسه ومع الطبيعة".

ذهاب إلى الفنتازي:
طوال ساعات ثلاث أو أكثر، حافلة بمزيج من الميلودراما الصارخة والرومانسية الحالمة والاستعراضات الغنائية الراقصة والفكاهة والإثارة والمعارك والمطاردات (تبلغ ذروتها مع نهاية سعيدة ينتصر فيها الخير والسعادة على كل المحن والكوارث والشرور التي طالت الشخوص الطيبة) تصور الأفلام الهندية واقعاً مختلفا بشكل جذري عن الواقع الذي يعيشه المتفرج، المواطن الهندي خصوصا. إنها تصور عالما سحرياً، شبيهاً بالحكايات الخرافية، يستمد مكوناته وعناصره من الواقع والميثولوجيا في آن واحد.
المنطق مفتقد كليا. القوانين الفيزيائية تتعرض للنقض أو التجاوز على أكثر من صعيد. الحياة اليومية محرّفة أو محجوبة تحت سطح مصقول يعرض الوجه المتخيل.. الجميل والفاتن. الزمن والمكان يحملان خاصية حلمية وارتباطهما بالحدث أو بالشخصية ارتباط عفوي إن لم يكن عشوائيا. لا حدود بين العقلاني واللا عقلاني، الممكن والمستحيل، فهما يتجاوران ويتصلان ببساطة كلما استدعت الحبكة ذلك. العلاقات مفتعلة وغير مبرّرة، تحكمها الصدفة لا الضرورة الدرامية.
الشاشة المستطيلة، البرّاقة، تصبح فضاءً مأهولاً بكائنات بشرية في مظهرها الخارجي لكنها لا تنتسب إلى البشر الذين نصادفهم في حياتنا اليومية. إنها أشبه بمخلوقات كوكب آخر تنتحل أحزاننا وأفراحنا، آلامنا ومباهجنا، لكنها غريبة عنا، أجنبية ودخيلة.
من هذا الفضاء (الشاشة) تخرج الأشكال والمناظر والصور لتخلب لبّ المتفرج وتأسر عينيه، لتمارس عليه فعل التنويم المغناطيسي، ولتمنحه مادة خصبة لأحلام يقظته.
تقنية هذه الأفلام غالباً ما تفتقر إلى الصقل - رغم المهارات العالية في التصوير - وفق رؤية فنية متماسكة. الكاميرا استعراضية أكثر من كونها أداة للتعبير. الأسلوب مبسط وتقليدي للغاية. الحبكات متماثلة ومشحونة بالكليشيهات. التفاصيل الصغيرة مهملة ومن السهل اكتشاف الأخطاء أو الشوائب الفنية. الشخصيات نمطية. الأحداث يمكن التنبؤ بها بسهولة.
إذا علمنا أن الأفلام المنتجة سنوياً، والموزعة على 39 لغة ولهجة، لا تقل عن 1000 فيلم ( في العام 2005 بلغ الإنتاج 1041 فيلما) وهو يشكّل أعلى معدّل إنتاج في السينما العالمية، فسوف ندرك مدى السرعة والفبركة في تنفيذ الأفلام، والنظرة التجارية البحتة التي تحكم عملية الإنتاج باعتبار الفيلم سلعة استهلاكية.

الحالم والواقع البديل:
في بلاد يعيش أغلب سكانها في حالة فقر وبؤس، في صراع مرير مع واقع شرس وقاس، تأتي الأفلام الهندية لتكون ملاذا يلجأ إليه المواطن لتفريغ كل قهره ومعاناته، للهروب إلى عالم من الحلم والفنتازيا.
الأفلام الهندية تتوجه إلى جمهور واسع، يائس من تحقق أحلامه في الواقع. يرى أن أحلامه وأمنياته وطموحاته وتخيلاته ورغباته الدفينة لا تتجسد إلا على الشاشة، وتجد تصعيدها في السحر الذي يغلـفه.
هو يذهب إلى الشاشة (العالم الآخر) طواعية وبلا إكراه ليعيش حالة من الغشيان، حالة هي بين الصحو والنوم. وهو يدفع نقودا ليتعاطى جرعات من الوهم، ليرى مشاكله وأزماته محلولة. يريد أن ينسى نفسه، يغيب عن عالمه الحقيقي المليء بالمآسي والبؤس والشقاء.
إنه يحقق سموه بواسطة الصور المتحركة التي تغزو حواسه ومشاعره، وما إن تحتل الصور كيانه حتى يفقد ذاته. هكذا، في صالة معتمة، معزولا عن محيطه وأقرانه، مستسلما كليا للصور المهيمنة، يبتعد المتفرج عن عالمه الحقيقي ليدخل في عالم زائف، مصطنع، يتشكل في فضاء الحلم. ويزداد اندماجه وانفعاله وهيجانه - فسيولوجيا وسيكولوجيا - كلما ازدادت جرعات التوابل والمنبهات التي يضيفها صانعو الفيلم، وأيضا كلما بلغ التلاعب بالمشاعر والغرائز مستويات أعمق.
استجابات المتفرج هنا صريحة، ظاهرة، هذيانية. إنه يتفاعل بحماسة عفوية، وإزاء كل حالة يعبّر بردّ فعل متلائم ومختلف. اللا وعي يتحرر من الكوابح والموانع. عملية المشاهدة تنتفي منها صفة النقد والتحليل لتتسم بالتنفيس والتعويض والتطابق أو التماهي. الإحساس بالعنف والغضب والرغبة الجنسية والعاطفة الرومانسية.. كل هذه الأحاسيس وغيرها تتملك المتفرج طوال مدة العرض.
الملفت للنظر أن عروض بعض الأفلام الناجحة تستمر لسنوات: فيلم sholay عُرض مدّة سبع سنوات متواصلة، بينما عُرض فيلم dilwale dulhaniya le jayenge مدّة عشر سنوات متواصلة، فالجمهور الهندي لا يمانع من مشاهدة أفلامه المفضلة أكثر من عشرين مرّة لمجرد الاستمتاع بتأدية أغاني الفيلم الناجحة وإلقاء حوارات الممثلين بالتزامن مع الشاشة.
الأفلام التي تتناول حقائق حياته وتناقضات واقعه وقضايا مجتمعه بالتحليل والنقد، بدافع التغيير أو التحريض على التغيير، لا تلقى دائما قبولاً واستجابة إيجابية من القسم الأكبر من الجمهور. فالمتفرج، من جهة، يختبر هذه الحقائق ويعيشها ويعانيها يوميا، فلا يشعر بحاجة إلى رؤيتها ثانية وقد أعيد تمثيلها على الشاشة. إنه يأتي باحثا عن الحلول أو الاكتفاء بالفرجة لا المشاركة في إيجاد الأجوبة.
من جهة أخرى، السينما بالنسبة إليه هي المفسّر الوحيد للعالم وظواهره. إن ما تظهره الأفلام يصبح حقائق ثابتة. والواقع السينمائي يتحول مع مرور الوقت ليصبح الواقع الذي يتوق إليه ويرغب في الانتماء إليه والإقامة فيه، يصبح الواقع البديل الذي يمثل الخلاص. ويبدأ في النظر إلى واقعه كحالة مؤقتة، زائلة، سوف يغادره يوما لينتقل ويعيش في الواقع الآخر.. واقع الشاشة.

عبادة النجم:
الأفلام الهندية تأخذ جمهورها في رحلة عبر دهاليز الحلم، لكنها رحلة سياحية حيث الأغاني والرقص والمناظر الطبيعية الخلابة المنتقاة بعناية، سواء في مناطق سياحية في الهند أو في بلدان أوروبية. يرافق الجمهور في رحلتهم الوهمية "نجوم" لهم صفات وعواطف سماوية.
نظام النجوم قوي وراسخ ومزدهر في السينما الهندية منذ بداياتها تقريبا. وجود النجم ضمان لنجاح الفيلم. إنه العنصر الأهم. سينما المخرج لا وجود لها، باستثناء ساتياجيت راي ومرينال سين وآخرين قلة يمثلون السينما المختلفة، المغايرة، التي لا تصل إلى الجمهور العريض.
المخرج موظف، حرفي، وليس صاحب رؤية خاصة وأسلوب خاص. حتى أنه لا يتحكم ولا يضبط كل مظاهر صنع الفيلم، ففي الفيلم الواحد هناك مخرج آخر متخصص في تنفيذ الأغاني، وآخر في تصوير الرقص، وآخر في تصوير المعارك والمطاردات، أما الحوار فيخضع لإعادة الكتابة من قبل النجوم ليتناسب مع صورتهم الجماهيرية. كل هذا لا يدع للمخرج الأصلي سوى مساحة صغيرة للعمل.
كل عناصر الفيلم، من قصة وتصوير ومونتاج واستعراضات، موظفة لخدمة النجم الذي يمثل في عدة أفلام، يصل عددها أحيانا إلى عشرة، في وقت واحد.
لعبادة النجم جذر ديني و اجتماعي في الذهنية الهندية. المواطن العادي يكنّ احتراما عميقا، يصل إلى حد التقديس، للزعيم أو الكاهن أو المعلم أو أي كائن قادر أن يقوم بأفعال بعجز غيره عن القيام بها، والذي يلجأ إليه الآخرون طلبا للعون أو المشورة أو تقديم حلول لمشاكلهم.
إنه أمر عادي ومألوف أن يبني المعجبون معابد خاصة لممثليهم المفضلين، وأن ينظروا إليهم ككائنات سماوية. عندما أصيب النجم أميتاب باشان، أثناء تصوير أحد أفلامه، إصابة بليغة أدخل على أثرها المستشفى، توقفت أنفاس الأمة كلها. الشعب، بكل طوائفه وطبقاته، صلى من أجل شفاء نجمهم، بل وقدم الكثيرون النذور، ومارسوا أعمال التكفير، في سبيل شفائه العاجل.
عبادة النجم هي التي تحافظ على بقاء بعض الممثلين لسنوات طويلة وهم يؤدون دور البطل الشاب حتى وإن تجاوزوا الخمسين. إنه بمنزلة المقدّس، الخارق، السامي، الخالد. في حين نجد أن الممثلات أقل خلودا، أقل بقاء في دائرة النجومية، فاللواتي كن بالأمس يقمن بدور حبيبات البطل أصبحن اليوم يقمن بدور أم البطل (نفسه).
النجم يعتبر نجوميته عرشا ملكيا. إنه يهيئ أولاده وربما أحفاده لوراثة العرش، فينشئ أبناءه سينمائيا، ينتج ويخرج أفلاما يضطلعون بالبطولة فيها ليتكرسوا نجوما مثله.. والنماذج لا حصر لها.

الكائن الخارق:
النجم نموذج، مثال، لما يتوق إليه المتفرج، لما يريد أو يحب أن يكونه. إنه يجسد كل ما لا يستطيع المتفرج أن يفعله. يمثـّل البديل أو الذات الأخرى الأكثر تفوقا وسموا وبطولية.
عندما قدم النجم "أميتاب بتشان" شخصية الشاب الغاضب في سلسلة من الأفلام، منح الجمهور صورة كانت مطلوبة بإلحاح، ذلك لأن آلافـاً من الشبان يرغبون في التعبير عن غضبهم لكنهم لا يجدون القنوات التي من خلالها يمكن التعبير عن هذه الحالة.
النجم قادر في الفيلم الواحد أن يفعل كل شيء: يرقص على مختلف الإيقاعات، الشعبية والغربية. يغني (وإن كان يستعير أصوات مغنين محترفين). رومانسي جدا، يذوب حنانا ورقة في تعامله مع المرأة التي يحب. محارب صلب، بإمكانه أن يصرع عشرة رجال أشدّاء حتى لو كان هزيل البنية. مرح إلى حد التهريج.
النجم كائن خارق. يسمو فوق البشر. بطولته ليست موضع شك، فهو لا يخاف من شيء، ويقتحم مكامن الخطر كالذاهب في نزهة. تتوفر فيه كل الصفات الخيّرة والنبيلة. الظروف أو التربية أحيانا تدفعه إلى سلوك طريق الشر لكنه ينال عقابا خفيفا ليعود سريعا كي يحارب من أجل الدفاع عن قيم الخير والحق والعدل.
النجم تتوفر لديه خاصيات ومواصفات لا يمكن أن تتوفر في كائن بشري: الجاذبية، الحكمة، المعرفة، الشجاعة، الرشاقة، الرهافة، القدرة الخارقة، وغير ذلك من المواصفات التي تستحق الإعجاب والحب، والتي تؤهل النجم لأن يكون نموذجا يحتذى به. علما بأن المتفرج يدرك جيدا بأن مثل هذه الخاصيات ليست حقيقية، ولا يمتلك الممثل - النجم بعضاً منها في حياته اليومية. المتفرج يعرف مثلا بأن الصوت الذي يغني به النجم صوت مستعار، وأن المساحيق (المكياج) تغطي وجهه، وأن هناك ممثلا بديلا يقوم بالحركات العنيفة في المعارك والمطاردات نيابة عنه.. لكنه الوهم، الوهم الذي يتشبّث به المتفرج ولا يقبل أن يتحطم، فأي تحطيم للوهم هو كسر للمرآة التي من خلالها ينظر إلى ذاته الأخرى، ذاته المتخيلة، ذاته التي يرغب في أن ينتحلها، يكونها، ذات يوم.

كليّ الوجود:
البطل متوحد مع ذاته، يعيش بمفرده، لكنه يوجد في كل مكان ويظهر في أي وقت. مع ذلك فهو غالبا ما ينتهي بالاستقرار في كنف عائلة صغيرة (مع حبيبته التي يتزوجها أخيرا) أو بعد العثور على أفراد عائلته الذين افترق عنهم صغيرا لأسباب خارجة عن إرادته.
هو نرجسي، معتد بنفسه، متغطرس، ماكر، يمقت من يحتال عليه أو يستغله أو يتلاعب به. في الغالب يكون عاطلا عن العمل بمشيئته، لأنه – كبطل - لا يمكن أن يكون خاضعا وممتثلا لقانون أو روتين أو نظام. هو لا يواجه مشاكل اجتماعية واقتصادية. إنه يكسب رزقه من حيث لا ندري. أحيانا يحظى بإعجاب وتقدير الجمهور عندما يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء.
عندما يحب فمن النظرة الأولى. إنه يستخدم كل الأساليب، حتى التذلل والقيام بأفعال صبيانية، من أجل كسب رضا وإعجاب حبيبته البطلة، المتعجرفة في أغلب الأحيان والتي تستمر بلا كلل في التمنع وصده ومجابهة محاولاته المستميتة بالعبوس والتأفف والتذمر. لكن المتفرج يدرك، بحكم التكرار والتماثل، أنها سوف تستسلم لا محالة، فهو قدرها وبدونه لا وجود لها. الجليد يذوب بينهما حين يستفرد بها عدد من الأشرار، الطالعين من لا مكان، مثل بذور شيطانية، يريدون اغتصابها. عندئذ يخرج البطل بشكل فجائي كما لو من باطن الأرض، أو يهبط من أعلى كالملاك الحارس ليكون المنقذ الخارق الذي يصون شرفها وينجيها من الهلاك.
في الأفلام القديمة، كان للبطل ظل. إنه الصديق الذي لابد أن يكون خفيف الظل، والذي يتعيّن عليه أن يخفف من حدة التوترات والضغوطات التي يتعرّض لها البطل وذلك بالمرح والفكاهة والحركات التهريجية.
في أفلام اليوم، لم يعد البطل النجم بحاجة إلى هذا الصديق الذي قد يسرق منه الأضواء ولو مؤقتا. لقد اكتشف أنه قادر على الإضحاك، أو لابد أن يمتلك هذه الخاصية لكي يكون في البؤرة دائما، ومن ثم لابد من تخصيص مواقف معينة يظهر فيها مقدرته الكوميدية إلى جانب قدراته الأخرى.
البطل يتكيف مع كل حالة وموقف.. كالحرباء: إنه شفاف في المواقف الرومانسية، مأساوي ويذرف الدموع الوفيرة في المواقف الميلودرامية، عنيف للغاية في مواقف الحركة (الأكشن)، مرح ومبتهج ورشيق عندما يؤدي أغنية أو رقصة.

سينما محافظة ومهادنة:
البطلة بالأمس كانت امرأة مثالية، مخلصة، خاضعة، تقدّس أهلها وزوجها إلى حد العبادة، وفي سبيلهم تضحي بكل شيء، براحتها وسعادتها وحياتها أيضا. هذا النموذج لم يتغيّر، لكن الجمهور الأكثر شبابا، الأكثر تأثرا بالمفاهيم الغربية والسلوك العصري، يطالب بنموذج مختلف يتلاءم مع هذه النظرة والتطورات. ولأن السينما التجارية، بشكل عام، تتوجه إلى الشباب الذين يشكلون الغالبية التي ترتاد السينما، فإن الأفلام الهندية صارت تخلق نموذجا ونمطا أنثويا جديدا (إلى جانب النمط القديم).
إنها البطلة العصرية، المتحررة، المستقلة إلى حد ما، التي ترتاد الملاهي الليلية وترقص وتغني هناك، لكنها أبداً لا تحب غير البطل. العلاقات المتعددة مرفوضة، فالسينما الهندية محافظة في جوهرها، ومهادنة. إنها تتناول المظاهر العصرية بروح ورؤية تقليدية. القديم يجاور الجديد. البطل الذي يميل إلى النموذج الأنثوي الجديد (البطلة المستقلة) ويرغب فيها، يشعر في قرارته بأن استقلاليتها تهدد أناه وكينونته وقيمه، لذلك يسعى إلى ترويضها وإعادتها إلى حظيرة التقاليد والأعراف السائدة الراسخة، وهي توافق راضية ومغتبطة على العودة إلى لعب الدور السابق، المثالية التي تقدّس الحياة الزوجية والعائلية.
قصص الحب بين البطل والبطلة غالباً ما تلقى معارضة من الأهل، بسبب الفوارق الطبقية أو الطائفية أو الاجتماعية، لكن النهاية تأتي في صالح الحبيبين اللذين ببراءتهما ونقاءهما وشجاعتهما يتمكنان من إقناع الأهل بضرورة زواجهما.

الشر المطلق:
ليس ثمة التباس بين الأبطال والأشرار. يسهل جدا التمييز بينهم، لا في السلوك والتفكير فحسب، بل أيضا في المظهر والشكل. الخير والشر لا يلتقيان في ذات واحدة. إنهما منفصلان. فالشخصيات مبسطة وليست مركـّبة سيكولوجيا.
الشرير هو خصم البطل، قاتل أحد أبويه أو أحد أقاربه، منافسه في حب البطلة، سارق أملاك عائلته بالعنف أو الاحتيال، عدو مجتمعه أو وطنه.
إنه يتسم بشيطانية غير مبررة. دوافعه ليست واضحة دائما. بالأحرى، هو يمثـّل الشر المطلق. أفعاله كلها شريرة، بل أنه يغذي أبناءه بالشر ليصبحوا نسخة مكررة منه.
هو بلا عاطفة ولا مشاعر إنسانية، عدواني، استحواذي. الغريزة والجشع هما اللذان يحركانه. إنه أشبه بآلة قتل. وعندما يكون منافسا للبطل في كسب ود البطلة فإنه يتصف بالسماجة والخسة والجبن.
لا أحد يتعاطف معه، لكن وجوده ضروري في كل فيلم.. بدونه لن تكون هناك إثارة وتشويق، لا معارك ولا فواجع.

العائلة بين التشتت و الوحدة:
العائلة ركيزة أساسية في الأفلام الهندية التي تمجد مفاهيم أخلاقية مطلقة كالواجب، التضحية، الحشمة، الولاء، الوفاء.. إلخ. هذه المفاهيم ليست عرضة للمساءلة والاستجواب، إنها ثابتة وراسخة ومسلـّم بها. وليس هناك مجال أكثر ملاءمة من مجال العائلة لتداول هذه المفاهيم ووضعها تحت الاختبار.
العائلة مهددة دائما من قبل قوى خارجية. هذه القوى تتمثل، في أغلب الأحوال، في مظهرين: القيم الغربية، وقوى الشر المهددة للوحدة الصغيرة (العائلة) التي ترمز إلى وحدة أكبر (المجتمع).
العائلة المتحدة، المسالمة والمتآلفة، تتعرّض للاهتزاز والإنفلاش مع دخول امرأة عصرية، ذات سلوك وعادات غربية، كزوجة لأحد الأبناء. إنها مخلوقة قاسية وشرسة، تسيء معاملة أفراد العائلة وتعرّضهم للإذلال والاضطهاد.
الأفلام، في ما يتعلق بهذا الجانب، تلعب عادة لعبة مزدوجة، فهي تصور المظاهر والقيم الغربية على نحو جذاب في البداية لكنها تدينها وتؤكد على ضرورة المحافظة على القيم الهندية في النهاية.
المظهر الآخر للتهديد يكمن في اقتحام الأشرار للمحيط العائلي (بدافع الانتقام من الأب أو لسبب آخر) ومحاولة تشتيت العائلة إن لم ينجحوا في تحطيمها. الكثير من الأفلام تقوم أحداثها حول عملية البحث عن المفقودين. الثيمة المفضلة أن يعمل أحد الشقيقين في سلك الشرطة والآخر يتحول إلى الشر ويخرج على النظام والقانون، وبعد مغامرات وصراعات عنيفة يتعرفان على بعضهما من خلال أغنية كانا يحفظانها في مرحلة الطفولة، أو من خلال وشم أو علامة ما على أعضاء الجسم، أو قلادة وما شابه.. وغيرها من الإشارات التي تخلو من أي منطق والتي أصبحت كليشيهات مكررة من فيلم إلى آخر.
تشتت العائلة وضياع أفرادها تخلق مناخا خصبا لا للميلودراما فحسب، حيث الأحداث الفاجعة والبكائيات المفرطة، بل أيضا للعنف والإثارة، إذ يؤدي التشتت إلى الغضب والرغبة في الانتقام. وقد ينشأ التشتت كذلك عن طريق القدر أو حدوث كارثة طبيعية.. في كل الأحوال، لا بد من اجتماع العائلة وإعادة توحيدها في النهاية.

عناصر ميثولوجية:
الذهنية الهندية متصلة بالميثولوجيا على نحو عميق، نظراً لارتباطها بالتقاليد الدينية والثقافية. فالحكايات الميثولوجية، التي تدور حول الآلهة وصراعاتها ومعجزاتها وأفعالها الخارقة، منتشرة ومتداولة في الحياة اليومية، وتمارس تأثيرا هائلا على التفكير والسلوك.
الملاحم الميثولوجية كانت مصدرا خصبا للأفلام الهندية الصامتة في بداية القرن. وإذا كانت الأفلام التي تصور أحداثا ومواقع تاريخية وأسطورية قد اختفت تقريبا الآن، إلا أن العناصر الميثولوجية لا تزال موجودة وتتكرر من فيلم إلى آخر بأشكال أو ترجمات معاصرة، وأحيانا تأتي في أشكال مموهّة أو إيحائية:
ثيمة الصراع بين الخير والشر، التي تطبع الحكايات الأسطورية، لا تزال مهيمنة في كل فيلم. والأفلام المعاصرة حافلة بالمعجزات والخوارق (النمر يطأطئ خشوعاً أمام المرأة المظلومة ويساعدها، الثعبان يلدغ الشرير أثناء محاولته ارتكاب جريمة قتل أو اغتصاب، الظواهر الطبيعية تتدخل لتؤثر في أحداث الفيلم.. إلخ).
أسماء الآلهة والآلهات غالبا ما تطلق على البطل أو البطلة، وفق محمول دلالي ميثولوجي: كريشنا، راما، سيتا، رادها. وهناك القدر الذي يتدخل في كل شيء ويلعب دورا أساسيا في تصعيد الأحداث، وكذلك في إيصالها إلى نهاية سعيدة.
أما المصادفات، غير القابلة للتصديق، فتكتظ بها الأفلام وتتوالى لتتسبب في اللقاء والفراق والإنقاذ والاكتشاف. المصادفات هي التي تحرّك الأحداث وتتحكم في طبيعة ومصير الشخصيات، وهي التي ترفع عصاها السحرية لتعقـّد الأمور أو تحلـّها.
نهايات الأفلام دائما سعيدة ومغلقة، فبعد الموجات المتتالية من البكاء والعنف والضحك والرقص والغناء، يسود الهدوء والفرح، وكل شيء يصبح على ما يرام: الخير ينتصر، العدل يتحقق، النظام يستتب ويعاد ترسيخه، القيم التقليدية تتكرس من جديد، الصلوات تستجاب، الخاطئون يلقون حتفهم أو يعلنون التوبة ويطلبون المغفرة، الأخيار يحرزون التكريم وتتحقق أحلامهم، الأثرياء الجشعون ينالون العقاب أو يصبحون أسخياء وأتقياء، القساة تتغير طبائعهم ويصبحون ودودين، وكل شخص يتحول إلى مخلوق وديع وطيب.

التابو:
المفاهيم الدينية غير قابلة للنقد والاستجواب. إنها ثابتة وراسخة. وللأفلام حرية تناول العلاقات الطائفية أو تعددية المذاهب، لكن دون المساس بما هو مقدس وانتهاكه، ودون أن يتسبب ذلك في إثارة البلبلة والانقسام. المجتمع بكل طوائفه يجب أن يظل متماسكا ومتحدا، حتى لو لم يكن كذلك في الواقع اليومي. لذلك نرى العديد من الأفلام تتناول مشكلة الطوائف والتناحر بينها من خلال نظرة رومانسية أو ميلودرامية، انطلاقا من موقف إصلاحي وأخلاقي، وعبر المستوى العاطفي لا التحليلي.
إنها تتعرّض للفوارق الدينية من خلال الحوار الخطابي والأغاني والحبكات الجانبية، لكن الخط القصصي الرئيسي منفصل عن هذا الجانب ويسير بمحاذاته دون أن يدخله في البؤرة، ويضعه تحت مجهر الفحص والسبر والتحليل. حتى في الحبكات الجانبية نجد الاكتفاء بالدعوة إلى التسامح والتساهل والمحبة والعيش في سلام.
عندما يلجأ السينمائيون إلى تصوير العنف والتناحر بين الطوائف، فلكي يؤكدوا بأن المصدر خارجي وليس نابعا من طبيعة وأخلاقيات المجتمع. فثمة قوى خارجية، شريرة، تعمل ضد مصلحة الوطن وتسعى إلى زعزعة الوفاق وتأجيج الانشقاقات وزرع بذور العنف.
أما على المستوى الرومانسي والميلودرامي، فتتم معالجة الفوارق الدينية من خلال قصة حب مشبوبة وبريئة بين بطل ينتمي إلى طائفة، وبطلة تنتمي إلى طائفة أخرى، وتذوب الفوارق بعد أن يكتشف الجميع مدى صدق عاطفة الحبيبين اللذين يواجهان العواصف بصبر وبراءة.

لا يتبادلون القبل علانية:
لأن المجتمع الهندي (بما في ذلك صناعة السينما ذاتها) محافظ ومدافع عنيد عن الوضع القائم، يمجد القيم والمفاهيم التقليدية، فإن موضوع الجنس يظل التابو (المحرّم) الرئيسي، والقبلة تظل محظورة، رغم أنها كانت مباحة في السينما الصامتة وبدايات السينما الناطقة، ولم تتعرّض القبلة للمنع إلا مع تصاعد الروح الوطنية قبل الحرب العالمية الثانية، والدعوة إلى تجنب العادات الغربية، الأمر الذي أدى بالمنتجين آنذاك إلى منع القبلة طواعية.. إذ ليس ثمة مادة في قانون الرقابة تحظر تصوير القبلة السينمائية. مع مرور الوقت، حوّلت الرقابة هذا القرار إلى قانون غير مكتوب مارسته سنوات طويلة، وربما حتى الآن (رغم حالات التمرد القليلة في السنوات الأخيرة.. لكن باستحياء).
إن منطق الرقابة، في هذا الشأن، غريب ومحيّر، فهي تجيز القبلة في الأفلام الأجنبية، التي يشاهدها الجمهور نفسه، وتمنعها في الأفلام الهندية مبررة ذلك بأن الهنود لا يتبادلون القبل علانية وفي أماكن عامة.

المطر الذي يبرر الخلوة:
من أجل التحايل على الرقابة بشأن منع القبلة والمحظورات الأخرى المتعلقة بالجنس، يلجأ السينمائيون إلى أساليب مختلفة في تصوير الأوضاع أو الحالات الجنسية، دون إظهار صريح للعري، ودون خوف من مقص الرقيب.
هذا نجده في مظاهر شتى: أثناء عناق البطل والبطلة، تدحرجهما على أرض معشوشبة، مشاهد الرقص والغناء في مختلف المواقع، تعرّض ملابس البطلة للبلل بفعل المطر أو الوقوع في نهر أو بركة، محاولات البطل المستميتة في تقبيل البطلة وصدها الرقيق له، تغطية الوجوه المتلاصقة بباقة من الأزهار للإيحاء بالقبلة، تقبيل أطراف أخرى من الجسم، مشاهد الاغتصاب وما تحتويه من تعارك وتمزيق للملابس.. وفي كل هذه المشاهد تشعر بالحضور المهيمن للرقيب والأعراف والتقاليد.
الجنس غير صريح وغير مكشوف، إنما يتم عرضه عن طريق الإيحاء والتلميح. الكليشيه أو التقليد المفضل في هذه الحالة أن يتم الفعل دون رغبة مسبقة أو تخطيط معد له سلفا. إنه يحدث لسبب خارج عن إرادة الطرفين، أو بسبب تغيّر مفاجئ في الطقس (هطول المطر مثلا).. عندئذ نرى الحبيبين يلجآن إلى كوخ مهجور ثم يحدث الفعل الذي سوف يصعقهما في ما بعد. أثناء ذلك تنتقل الكاميرا إلى المدفأة أو النافذة لتصور سماء تبرق، شلالا يتدفق، نهرا يفيض، زهورا تتفتح.
المظهر الآخر للجنس نجده في الحوار المزدوج المعنى، حيث يدور الكلام حول شيء ما لكنه يعبّر في الوقت ذاته عن إيحاءات جنسية تبدو صريحة ومكشوفة أحيانا.

الخيانة الزوجية:
في سينما تدعو إلى الارتباط الزوجي والتماسك العائلي، وتدافع عن الأخلاق والفضيلة، فإن الخيانة الزوجية تصبح فعلا أثيما يستحق العقاب. وهي في الغالب تتفادى طرح الخيانة والطلاق لئلا تصاب العائلة بشرخ عميق.. إذ من الضروري إظهار مدى مقاومتها وصمودها. فالمرأة التي تتعرض لشتى أنواع الإذلال والاضطهاد نراها تتحمّل كافة الضغوطات والمشاكل بصبر أسطوري، وتقاوم الإغواءات والسقوط في الخطيئة حتى لو دفعت حياتها ثمنا لذلك. أما المرأة التي ترضخ للإغواء وتتمادى فهي شريرة بطبيعتها، لذلك يتعين عليها أن تعود إلى رشدها أو تنال العقاب بشكل سريع وحاسم.
حتى البطل لا يحق له أن يرتكب الخطيئة. مباح له أن يرقص ويغني ويلهو مع من يشاء من الفتيات، لكن ينبغي أن يحدث هذا ببراءة مطلقة وأن يحب امرأة واحدة فقط (هي البطلة) وإلا أصبح شريرا في نظر الجمهور وسوف لن يتعاطف معه.

حركة في الفراغ:
تفتقر معظم الأفلام الهندية إلى التحليل الاجتماعي أو السياسي للموضوعات التي تتناولها. الشخصيات تبدو عائمة في فراغ اجتماعي وثقافي، كأنها منبثقة من لا مكان أو من موقع خارج الوسط المادي.
هذه الأفلام لا تتطرق إلى قضايا جوهرية ومصيرية. عندما تعرض للفساد في بعض أجهزة ومؤسسات النظام – كالشرطة أو المناصب الوزارية - فإنها تظهر ذلك في صورة باهتة وسطحية، دونما عمق أو تحليل، أو وفق رؤية محددة، إنما لغاية إثارية حيث البطل الفرداني يواجه الفساد وحده بالعنف الدموي.
غالبية الأفلام تدور في نطاق ضيق من القصور البورجوازية، متجاهلة قطاعات واسعة من الطبقات الفقيرة. وإذا دعت الضرورة لتصوير ذلك، فمن وجهة نظر عاطفية بحتة وعبر حكايات سطحية وساذجة لا علاقة لها بالواقع الحقيقي الزاخر بالتناقضات المريعة. وهي تحاول جاهدة تذويب الفوارق الطبقية ظاهريا، لكنها جوهريا تعمل على تكريسها.
الملاحظ أن سينما ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت ذات منحى اجتماعي نقدي (أفلام راج كابور، محبوب، بيمال روي) تتناول بجدية وبوعي قضايا الأرض، وصراع الفلاحين ضد الإقطاع، والنضال من أجل بناء مجتمع جديد.. بينما الأفلام المعاصرة تتحاشى تناول قضايا مهمة وبنظرة جدية، وتركز على البطل الفرد الغاضب، الخارق، الوحيد، الذي يستخدم العنف للانتقام أو لتحقيق العدالة.
العنف يجد مبررا لوجوده ولتمجيده في آن عندما يتعلق الأمر بإنقاذ العائلة أو شرف الحبيبة أو الدفاع عن المظلومين أو استعادة الحق.. هنا يحقق العنف حضوره ويثير التعاطف إلى جانبه. فالبطل الذي يصرع خصومه (عصابات الأشرار) يصرع في الوقت نفسه خصوم أو أعداء المتفرج. ولا يخلو فيلم الآن من المعارك المصورة في أماكن متعددة، بطريقة غير واقعية وغير منطقية.
في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي – وهي تعد المراحل الذهبية في تاريخ السينما الهندية - كانت الأفلام تعبّر عن مرحلة ما بعد الاستقلال، مرحلة بناء المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. كان أبطال الشاشة من المزارعين والعمال.
عدد من المخرجين، الذين شعروا بأن التحرر والاستقلال لم يجلب للأمة ما كان مرجواً، وما ناضل جيلهم من أجله، تناولوا في أفلامهم النضال ضد الفقر، الظلم الاجتماعي، نظام الطبقات، اضطهاد المرأة.. هذه القضايا التي ظلت قائمة بأشكال متعددة.
في تلك الفترة (بداية الخمسينيات تحديدا) برز عدد من المخرجين الذين تأثر بعضهم بالواقعية الإيطالية الجديدة: ساتياجيت راي (في البنغال)، راج كابور (الذي كان كاتب أفلامه شيوعيا يدعى ك. عباس، الذي اتجه بدوره إلى الإخراج وحقق أفلاما هامة)، بيمال روي، محبوب خان (مخرج الفيلم الشهير ( mother India جورو دوت (الممثل المخرج، شاعر السينما الهندية، الذي انتحر وهو في التاسعة والثلاثين من عمره).
في السبعينيات برزت أفلام اتجاه ما يسمى "السينما الفنية"، المضادة للسينما التجارية السائدة، التي تناولت قضايا النظام الإقطاعي، الظلم الاجتماعي، الفوارق الطبقية، استغلال المرأة.. إلخ.. مبتعدة في الوقت نفسه عن النجوم والأغاني وتقاليد السينما الرائجة. مثل هذه الأفلام اكتسحت المهرجانات العالمية، واضعة السينما الهندية الجادة على الخارطة العالمية. لكن، ضمن السوق المحلية، ظلت هذه الأفلام بعيدة عن انتباه واهتمام الجمهور العريض الذي يفضّل الاتجاه الآخر.. بالتالي لم تجد هذه الأفلام الدعم المادي والمعنوي.

أصداء ومحاكاة:
الأفلام الهندية، في أغلب مشاهدها، عبارة عن ترجمة حرفية أو صورة منسوخة من عدد من الأفلام الأجنبية، الأمريكية خصوصا، الناجحة جماهيريا.
الفيلم الواحد يمتلئ بأصداء وتضمينات من أفلام أخرى، ويبدو الفيلم أشبه بالكولاجات الملصقة ببعضها والتي تحتوي كل منها على قصة مستقلة ومنفصلة عن الأخرى.
هذه الأفلام لا تحاكي الأعمال الأجنبية فحسب، إنما تحاكي نفسها أيضا. فكل فيلم ناجح جماهيريا يفضي إلى سلسلة من الأفلام المتشابهة، التي هي عبارة عن تنويعات حول نفس الفكرة، أو الحبكة، أو الشخصيات. كما لو أن الفيلم نفسه يعاد صنعه المرة تلو الأخرى حتى ينجح عمل آخر، من نوعية مختلفة ظاهريا، لتظهر من جديد سلسلة أخرى.

العنصر الأهم:
منذ بداياتها والسينما الهندية تزخر بالأغاني.. فيلم "شيرين فرهاد"، على سبيل المثال، احتوى على 42 أغنية، ووصل عدد الأغاني في أحد الأفلام إلى 59 أغنية.
الأغنية عنصر مهم جدا، وفي كثير من الأحيان تضمن نجاح الفيلم. وفي تاريخ السينما الهندية كله لم تنتج سوى أفلام قليلة جدا تخلو من الأغاني والرقص (أعني هنا السينما التجارية وليس تلك التي يطلق عليها السينما الفنية art movies) وهذه المحاولات فشلت في جذب الجمهور، وأدرك السينمائيون أن التحرر من الأغنية والرقص ليس عملا سهلا بل مغامرة غير مأمونة العواقب.
الأغنية، على يد مخرج بارع، يمكن أن تكون وسيلة لتقدم مسار القصة، لتوضيح مشاعر وأحاسيس غير منطوقة. لكن في أغلب الأفلام الهندية، الأغنية لا صلة لها بالقصة دائما، ولا علاقة لها بالأحداث، ولا حتى بالشخصيات. إنها تقتحم الأحداث لتقطع السرد وتعطل الزمن. وهي محشورة في مواقف وحالات غير متوقعة تماما، مع ذلك فهي مقبولة عند المتفرج ولا تثير اعتراضا أو استياء. إنها تحدث في أي وقت وفي أي مكان، في الصحو والحلم والتخيل، دون أي مبرر أو ضرورة فنية. أحيانا تستغل الأغنية من أجل تمرير لقطات مثيرة جنسيا والتي عادة لا يسمح بها الرقيب إذا جاءت ضمن السياق السردي للفيلم.
الأغاني والرقصات منفذة بمهارة وجاذبية، بتصوير بارع ومونتاج حيوي. الاستعراضات ثرية بصريا، وهي تعتمد على تابلوهات راقصة وألحان شعبية، أو استعراضات تصور في الملاهي الليلية وأماكن الديسكو.
و ما يؤكد أهمية الأغنية والاستعراضات، الأجور العالية التي يحصل عليها نجوم الغناء ومؤلفو الموسيقى الذين لا يتجاوزهم في الأهمية قليلا إلا النجوم. إن نجاح الفيلم يعتمد غالبا على النجم والمخرج ومؤلف الموسيقى، بينما تأتي القصة والسيناريو كعناصر ثانوية.
من جهة أخرى، الأغاني تستخدم دعائيا للترويج للفيلم، ومبيعات الأغاني تغطي جزءا مهما من الميزانية، حتى لو أخفق الفيلم تجاريا. علاوة على ذلك، فإن شركات إنتاج الأغاني، التي تموّل بعض الأفلام، تصرّ على وجود عدد كبير من الأغاني في الفيلم الواحد.

وبعد:
على الرغم من كل شيء، تستمر الأفلام الهندية في غزو الأسواق الخارجية، منتزعة المستهلكين من أرض صلبة إلى واقع آخر تتجسد فيه الأحلام والرغبات.. لكن على المستوى الأدنى من الوعي.