أمين صالح
البحرين

أمين صالح قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره، حقق أليخاندرو أمينابار Alejandro Amenabar، المخرج الأسباني، المولود في سانتياغو، تشيلي (1972)، والذي بعد عام انتقل رضيعاً مع عائلته إلى أسبانيا إثر الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المنتخب سلفادور أييندي. ثلاثة أفلام طويلة: الأطروحة (1996) Thesis، وهو عمل إثاري. ثم "افتح عينيك" Open your eye (1997)، الذي تحول بعد أربعة أعوام إلى فيلم أمريكي بعنوان Vanilla Sky. ثم "الآخرون" (2001).

نشأ أمينابار في مدريد. بدأ مسيرته الفنية في صباه بكتابة القصص القصيرة وتأليف المقطوعات الموسيقية، وتجدر الإشارة إلى أنه ألّف موسيقى كل أفلامه (إضافة إلى كتابة السيناريو ). في مراهقته التحق بالجامعة ، لكنه تخلى عن الدراسة ليمارس الفن الذي تولع به في حماسة: صنع الأفلام. حقق أفلاماً قصيرة نالت جوائز. وكان في الثالثة والعشرين من عمره عندما أنجز فيلمه الدرامي الطويل الأول "الأطروحة"، عن شاب يدرس السينما.

فيلمه "الآخرون" The Others قام هو، بالإضافة إلى إخراجه، بكتابة السيناريو وتأليف الموسيقى له. وهو فيلم يختلف عن أفلام الأشباح والبيوت المسكونة، الشائعة في سينما الرعب. الفيلم يعوّل على عناصر الرعب التي نجدها في تلك السينما من حيث توظيف الإضاءة والديكور في خلق أجواء غريبة، مرعبة، لكن دون الإفراط في التعويل على المؤثرات الخاصة. وثمرة ذلك، فيلم إثاري خارق للطبيعة، هو أشبه بحلم.

معظم الأحداث تدور في بيت كبير، معزول وقديم، يقع في جزيرة، في العام 1945. العائلة مكونة من جريس (نيكول كيدمان)، الأرملة التي لا تستطيع أن تصدق بأن زوجها سوف لن يعود من الحرب التي انتهت. وابنتها آن وابنها نيكولاس، أما الأب فهو رجل عسكري ذهب إلى الحرب ولم يعد. جريس امرأة شابة دقيقة، متديّنة بعمق إلى حد التزمت، عصبية ومتوترة. الظلمة، بالنسبة لها درع، وسيلة حماية، فالصغار لديهم حساسية شديدة ومزمنة من ضوء النهار، الذي يفضي إلى تقرحات في البشرة، لذلك هي تبقي النوافذ موصدة والستائر مسدلة، ولا تسمح لهم بالخروج.

خدم جدد يأتون للعمل في البيت: مدبرة منزل، بستانيّ كهل، وشابة فقدت القدرة على النطق.

الصغيران يزعمان أنهما يسمعان ويشاهدان أشباحاً في المنزل. ذات ليلة مغلّفة بالضباب، أثناء خروجها من البيت بحثاً عن قسيس، تصادف زوجها العائد من الحرب، والذي يبدو بلا مشاعر ولا عواطف. في اليوم التالي يختفي. جريس تكتشف صورة للخدم الثلاثة تبيّن أنهم ماتوا إثر انتشار وباء السل في 1891. في النهاية يتضح أن العائلة "الأخرى" هي الحية، الطبيعية، بينما جريس وصغارها أموات، بعد أن خنقتهما بالغاز ثم قتلت نفسها، بفعل اليأس والحزن بعد اكتشافها لمقتل زوجها في الحرب.

في العام 2004 حقق أمينابار "البحر في الداخل" The Sea Inside من إنتاجه وإخراجه وكتابته (مع ماتيو جيل) ومونتاجه وموسيقاه.

إنه عن رجل (خافيير بارديم) مقعد، مشلول من العنق إلى أسفل جسمه بسبب حادث، يكافح – ضد قانون يمنع مساعدة الشخص على ارتكاب الانتحار - لينال حقه في أن يموت بكرامة.. إذ لا يستطيع بسبب الشلل أن يفعل ذلك دون عون من الآخرين، والذي هو ممنوع قانونياً. كما أنه يلقى معارضة شديدة من الكنيسة الكاثوليكية.

الفيلم، في الواقع، سيرة ذاتية للكاتب والشاعر رامون سامبيدرو، الذي معركته خلال التسعينيات، من أجل اكتساب الحق في اختيار طريقة موته بشرف وكرامة، لقيت تغطية إعلامية واسعة، إضافة إلى صدور كتاب يتضمن مقالاته، حقق مبيعات عالية. وقد نجح أخيراً، بمساعدة محبيه من العائلة والأصدقاء، في الانتحار.

هو في شبابه كان يعمل ميكانيكياً في السفن، وبالخطأ غطس من مكان مرتفع في مياه ضحلة فارتطم رأسه بالرمال، مما سبّب له شللاً على الفور. نرى ذلك عبر الفلاش باك، والفيلم يبدأ بعد مرور 25 سنة تقريباً من الحادث. هو الآن مثقف، يقرأ ويستمع إلى الأوبرا والموسيقى الكلاسيكية، مبتكراً أدوات تسهّل له عملية الكتابة والرد على الهاتف. روحه مرحة، مرنة، جذابة. يتلقى بامتنان محبة ومساعدة المحيطين به: أفراد عائلته، الأقارب، المحامية.

إنه يبرر رغبته في الموت في قوله: "أريد أن أموت لأنني أشعر أن الحياة في مثل حالتي لا نبل فيها ولا كرامة". البعض يتعاطف معه ويقتنع بوجهة نظره، والبعض يرفض ويستنكر قراره، بدافع ديني أو عاطفي. وهو يدافع عن قراره بالقول أن "الحياة حق وليست منّة". ولكي يشجعهم على مساعدته، يقول: "من يحبني حقاً هو الذي سوف يساعدني على إنهاء حياتي". وفي النهاية يقول لهم "سأكون في أحلامكم".

ولأنه سجين فراش، لا يقدر أن يتحرك أو يمارس فعلاً فيزيائياً، يشعر بالحياة تمر أمامه وقرب نافذته المفتوحة، ينتظر موتاً تأخر كثيراً في المجئ، فإنه لا يجد طريقة للتعبير عن توقه إلى الحرية والانطلاق غير العبور من بوابة الحلم، ففي أحلامه يقدر أن يطير، أن يصل إلى البحر، ويلتقي بمن يحب.

أداء رائع ومذهل من بارديم، الذي يؤدي بعينيه وصوته وإيماءات وجهه فقط (بسبب شلل جسمه) والذي يتعيّن عليه أن يعبّر عن نسيج متشابك من الانفعالات والمشاعر، الأحاسيس والرغبات المتعارضة.

الفيلم حاز على العديد من الجوائز، من بينها 14 من جوائز جويا (الأسبانية) عن أفضل فيلم ومخرج وممثل ومجالات أخرى، أوسكار أفضل فيلم أجنبي، جائزة جولدن جلوب كأفضل فيلم أجنبي، جوائز الفيلم الأوروبي كأفضل مخرج وممثل، جوائز مهرجان فينيسيا كأفضل فيلم ومخرج وممثل.

كما حقق نجاحاً جماهيرياً في أسبانيا وأوروبا.

مؤخراً، عُرض لأليخاندرو أمينابار فيلم تاريخي بعنوان "أغورا" تدور أحداثه في مدينة الإسكندرية، في القرن الخامس الميلادي. تناول فيه التعصب الديني، والصراع بين العلم والتطرف الديني، مع انتشار المسيحية وبداية صراعها مع الوثنية واليهودية.

* * *

حديث: أليخاندرو أمينابار

ترجمة: أمين صالح

عن "البحر في الداخل"

  • شاهدت رامون سامبيدرو، لأول مرة، في مقابلة تلفزيونية، وقد اهتممت كثيراً بحالته، لكنني لم أفكر آنذاك في تحويل قصته إلى السينما، لأن ما يطلبه كان صادماً جداً. في الوقت نفسه، الطريقة التي بها كان يعبّر عن نفسه، وهو هادئ ومسترخ ومُرْسل على سجيته، أثّرت فيّ كثيراً.
    علمت أنه أصدر كتاباً (رسائل من الجحيم)، وقد حصلت على نسخة منه، وهو كتاب فلسفي وشعري أساساً، يشتمل على أفكار ومفاهيم واضحة عن الحياة والموت والحب. مع ذلك، كان تحويله إلى فيلم أمراً غير وارد بسبب طابعه التجريدي. مع أنه في الكتاب، هو وصف الحادث الذي تسبب في إصابته بالشلل، وكان ذلك مشوقاً ومثيراً جداً للاهتمام لأنه، خلال الحادث، هو رأى – حسب قوله – حياته بأكملها تومض أمام عينيه.
    لقد اكتشفت بأنه في شبابه، وهو في العشرين من عمره، كان كثير السفر والتنقل من مكان إلى مكان. عندئذ بدأت في إجراء بحوث واستقصاءات في حياته الخاصة، وعن كل النسوة اللواتي وقعن في غرامه. آنذاك فقط اقتنعت بأنه سيكون شخصية رائعة ومدهشة. لم أكن واثقاً إلى أي حد سأكون قريباً من الحقائق في النسخة السينمائية. لذلك أجريت لقاءات مع العديد من أقارب رامون. وهؤلاء كشفوا لي الكثير من الوقائع والحكايات عن حياته. عندها فكرت أنني سوف لن أحتاج إلى إضافة عناصر من الحكاية القصصية الخيالية لجعل المادة تنجح كفيلم. نحن لدينا هنا حس الدعابة، لدينا فكرة النظر عبر النافذة، فكرة عالم الأحلام، العلاقات بجميع أفراد العائلة. لذلك كنت أعلم أننا سوف نحقق من كل هذه العناصر عملاً درامياً.
  • خافيير بارديم كان الخيار الوحيد. بعد أن انتهيت من السيناريو، قمت بالاتصال به، وطلبت منه أن يفكر في تأدية الدور. لقد اخترته لأنه موهوب جداً، واعتقد أنه من أكثر الممثلين الأسبان موهبة في الوقت الحاضر. لكنه لم يكن يشبه رامون في قسمات وجهه، ولا يماثله في العمر. بارديم في الخامسة والثلاثين، بينما الشخصية في الخمسينات. تلك كانت المشكلة الأساسية، العمر، غير أني قررت أن أثق كلياً في موهبته وقدراته.
    تناقشنا بشأن الشخصية والسيناريو لبضعة أيام. كان هو أشبه بصحفي يدوّن ملاحظاته، ويطرح عليّ أسئلة عن ما أعنيه بهذا المشهد أو ذاك، وإلى أين ستذهب الشخصية. بعد أن حصل على المعلومات المطلوبة، ودّعني قائلاً: "أراك بعد شهرين". راح يحضّر نفسه للدور، ثم عاد يوماً، دخل بيتي واستلقى على الكنبة، وأخذ يؤدي شخصية رامون.
    كان ذلك رائعاً، لكننا نجهل كيف سيبدو مع المكياج. كنا بحاجة إلى مكياج مقنع تماماً. لم نعرف كيف سيبدو حقاً إلا في اليوم الثاني أو الثالث من التصوير، عندما أدركنا أنه اتّحد كلياً بالشخصية. كان تفاعلاً مثالياً بين المكياج وأدائه. بإمكانك أن تصدقه تماماً.
    بارديم أحب الشخصية كثيراً، لكن كان لديه مشكلة في بناء الشخصية، لأن شخصيته لا تتطور، بينما الذين من حوله يتطورون. هو أشبه بصخرة. وأي ممثل يجد صعوبة شديدة في أداء هكذا شخصية. عندما أدرك بارديم أن رحلة رامون النفسية والفلسفية تحدث ف ذلك المكان المحدود، صار قادراً على تأدية الحالة الذهنية تلك.. في سلام تام، واسترخاء تام.
    في ما يتعلق بأدائه، كان يتعيّن عليه أن يركّز طاقته في عينيه وفي صوته.
    وهو – بارديم – اتحد بالشخصية إلى حد أنه لم يتذمر على الإطلاق من وضعيته الثابتة، الشاقة، طوال فترة التصوير. كان حليماً وصبوراً جداً فيما ينتظر مدةً طويلة. بل كان كثير المزاح، ويُضحك الجميع بنكاته المتواصلة. حس الدعابة التي لديه توافقت بشكل جيد مع حس الدعابة عند رامون.
  • عندما عرضت المشروع على عائلة رامون، أظهروا ممانعة في البداية. السيناريو لم يكن مكتوباً بعد، أردت فحسب أن أعرف رأيهم في الفكرة. لم أقرر بعد ما إذا كان عليّ أن أنفّذ القصة الحقيقية أم أستلهمها وأبني عليها أحداثاً متخيلة. لكن كلما تعمقت أكثر في البحث، ازددت تأثراً بالقصة الحقيقية، بل قررت أن أستخدم الأسماء الحقيقية. أفراد العائلة كانوا متعاونين ومساندين جداً، وحكوا لي كل قصصهم. لكنني أيضاً أردت وجهات نظر أخرى مختلفة عن العائلة، مثل المرأة القروية وبعض أصدقائه. وجميعهم اتفقوا على امتلاك رامون لحس دعابة عال.
  • أثناء الكتابة، كنت واعياً لحساسية الموضوع بالنسبة للأشخاص المعاقين، وقد حاولت أن أضع نفسي في مكانه وحالته، مفكراً في ما كنت أريد أن أفعله بحياتي. لو كنت مكانه لأردت أن أعيش، لكنني أظن أن رامون كان مصيباً عندما قال أن حياته تخصه وحده. أنا لم أرد لأي شخص معاق أن يشعر بأن الفيلم يؤذيه أو يجرح مشاعره. نحن لم نقصد أن نقول لأحد ينبغي أن تقتل نفسك لأنك صرت عبئاً. الفيلم هو عن مسألة شخصية، حالة خاصة.
  • بالنسبة لي، من أجل التحكم في اهتمام الجمهور، وشد انتباهه، كان علي أن أهتم بالقصة، ليس من خلال تحريك الكاميرا، بل تحريك المشاعر. في الفيلم، هناك أشخاص يحيطون برامون، وأنا أردت أن أرى الحياة من وجهة نظرهم. بعد ذلك، أردت أن أخرج فيزيائياً من الحجرة التي ينام فيها رامون، لذلك خلقنا "نوافذ" من أجل أن يخرج الجمهور من الحجرة.
  • نظراً لأن أغلب الأحداث تدور في حجرة، ورامون لا يغادر سريره فإنني لم أرغب في أن أعطي إحساساً بأننا نشاهد مسرحية. إنها ليست مسألة تحريك الكاميرا فحسب، لكننا احتجنا أن نحرّك إدراك الجمهور، وهذا كان وارداً في السيناريو، ففي كل مرة نشعر بأننا محاصرون في الحجرة، كنا نجد الوسيلة لتركيز البؤرة على شخصية ما، ربما لدقائق قليلة، بحيث نجعل الجمهور يشعر كما لو أنه في مكان مختلف.. على المستوى السيكولوجي.
    كنت قلقاً جداً بشأن ذلك. احتجنا إلى أماكن مختلفة غير الحجرة. أيضاً، كل شيء في القصة كان يأخذني في رحلة بطريقة أو بأخرى. عندما تفكر في الموت والحياة، الحياة تبدو رحلة، والحياة بالنسبة لرامون، في شبابه، كانت رحلة. كان بحاراً وسافر حول العالم. لهذا أردت أن أحتفظ بفكرة الرحلة في القصة.
  • في السابق كنت ألتزم بالنص، لكنني حاولت أن أحرّر نفسي أكثر فأكثر. الآن، أنا لا أنظر إلى الجُمل في السيناريو بوصفها أبياتاً في القصيدة والتي لا يمكن تغيير ولا فاصلة واحدة فيها. الآن صرت أشجّع الممثلين على تغيير أشياء في النص بحيث يمكن التعبير عن الجُمل بطريقة طبيعية أكثر. هذا لا يعني أنهم كانوا يرتجلون طوال الوقت، بل يعني أن النص قابل للتغيير.
  • في كتاباته تحدّث رامون عن ضرورة أن يحب المرء الآخر، لا أن يمتلكه. أن يكون قادراً على قبول الآخر. في الوقت نفسه، هو كان يشعر بأنه يمتلك حياته، لكنه أيضاً لا يمانع في التخلص منها.
  • رأيي الشخصي في مسألة القتل الرحيم هو ضرورة أن يدرس القانون الحالة من جميع جوانبها. أظن أنها مسألة حساسة جداً، فنحن نتحدث هنا عن الحياة والموت، لذا علينا أن نحترس، أن نكون حذرين.
    أريد من الجمهور أن يشعر بالحزن على رامون، لأنه يرحل عنا، نحن الذين أحببناه وأعجبنا به. لكن في الوقت نفسه أريد من الجمهور أن يشعروا بالحياة، ويسألوا أنفسهم إلى أي مدى هم يحبون حياتهم. لذا، في النهاية، أتمنى أن يفكروا في هذا، لا أن يقرروا: "هيا، دعونا نوافق على القتل الرحيم".

المصدر: Venice Magazine, 2004