1

منازل أمين صالح التي أبحرت أيضا:
تمفصلات مزدوجة بين السردي والشعري - رشيد يحياوي

2 أي أفق نتلقى به أمين صالح ؟ - رشيد يحياوي
3 أسئلة الرواية
"رهائن الغيب" لأمين صالح نموذجا - جعفر حسن
4

شعرية الرواية - أمين صالح

 
أمين صالح

 


منازل أمين صالح التي أبحرت أيضا:
تمفصلات مزدوجة بين السردي والشعري

رشيد يحياوي

1- عن التمفصل المزدوج
-أ-

رشيد يحياويتتقدم الكتابة عند أمين صالح وفق مقصدين، مقصد ينصب على فعل الكتابة ذاته، حيث تصبح الكتابة موضوعا للكتابة، ويظهر ذلك في اشتغاله على التركيب بين نصوص كتبه، حتى لو ظهر للقراءة الأولية أنها مختلفة عن بعضها في الكتاب الواحد، عبر تعالقات نصية، أو روابط بين الشخصيات والأحداث والأماكن، أو عن طريق الاستعارة النصية، وإعادة الكتابة كتابة الكتابة كما في "والمنازل التي أبحرت أيضا"(ط.1 – 2006)، إضافة إلى حرصه على الوصف ( وصف الأفعال والحالات والأشياء والفضاءات والكائنات) بما يعطيها بعدا غرائبيا ومفارقا للواقع أحيانا، بواسطة الصور الخارقة التي تجتمع فيها المتناقضات والأضداد. وهذا ما يدخل في الشعر.
وينصب المقصد الثاني على الخطاب السردي للكتابة، حين لا يخفي النص ميوله لتقديم حكاية بطريقته، وهو الطاغي على كتب أمين صالح ، وهو ما دفع بالتلقي العام لتصنيفها ضمن القصة والرواية.غير أنها جاءت مختلفة عن السرود التي مقصدها الأول هو السرد. ومرجع اختلافها، حضور المقصد الأول الذي ذكرناه، أي تفكير الكتابة في الكتابة. مما يجعل سرد أمين صالح، وبقدر ما هو سرد، فإنه أيضا محل اشتغال، ومحل كتابة تراجع أدواتها وهي تتقدم على الورق. إن أمين صالح، وحتى حين يفكر في السرد بوصفه طريقة لتقديم وعرض أحداث وشخصيات وفضاءات، فإنه غالبا ما يطبعه برؤية فلسفية وشعرية، وتأمل في الحياة وكائناتها، وملامسة للخفي المحتجب منها، مما يحول السرد إلى وسيلة وغاية معا، يتم الاشتغال عليه كي لا ينمو في خط نمطي ترتبط فيه الأحداث ارتباطا سببيا.
إن ازدواجية القصدية متمفصلة إذن في أعمال أمين صالح مع ازدواجية تمفصل السردي والشعري. فالشعر يحضر في المقصد الأول الذي تكون فيه الكتابة موضوعا للكتابة. حيث يشتغل الكاتب على الجمل بانتقاء ملحوظ، حريصا على المستوى الاستبدالي للكلمات من أجل خلق الاستعارات المفارقة، والصور ذات الإيحاء والإدهاش. وبمعنى آخر، يتجلى الشعر هنا في المستوى التركيبي والأسلوبي، متصاعدا من الجمل إلى الفقرات، وخاصة حين نكون أمام صور جزئية عن المكان والأشياء والذوات.
كما يحضر الشعر في المقصد الثاني، ضمن الخطاب السردي، بما هو خطاب حامل لمنظور السارد، ونماذج الشخصيات، ومسارات الحدث، وتحولات الزمكان. إذ يعطي الكاتب لهذه الأطراف طابع الترميز بشحنها بالقيم وفتحها على الغرابة. وبدل أن يوهم السرد بواقعية الحكاية، تتدخل علامات الغرابة والعجائبي ومتخيل الشعر لوضع القارئ أمام حالة من الذهول؛ شخصيات ذات ملامح تفصيلية دقيقة، وذات ظلال خارقة وشبحية أحيانا. أماكن عمرانية توصف مرات بدقائقها التفصيلية، ومرات أخرى، تتجرد من مكانيتها عائمة في الرمز. كائنات بشرية من صميم الحياة اليومية للمجتمع، لكنها تتجاور مع كائنات حيوانية وأطياف لامرئية، أو تمسخ، وتنسلخ من ذواتها صائرة إلى ذوات كائنات أخرى.
إن الشعر يتدخل ضمن ذلك، ليكون فاعلية نصية ورؤيوية معا. يحرر النص من الواقعية المباشرة، ويحرر اللغة من النثرية التقريرية، ويحرر خيال الكاتب من النماذج القبلية، كما يحرر اللغة من جاهزية التلقي. وكلما تعمق التمفصل المزدوج بين السردي والشعري في النص، زادنا ارتباكا بخصوص ما إذا كنا نقرأ نصا شعريا ساردا، أم نواجه نصا سرديا شعريا.
ومن يقرأ أمين صالح جيدا، سيلاحظ أنه حين يكون له قصد لكتابة الشعر، فإن السرد النثري يأخذ في التراجع. أما حين يكون له القصد لكتابة القصة والرواية، أو السرد إجمالا، فإن الشعر يسبقه إلى النص ويستوطنه حتى قبل كتابته. حينئذ لا يجد أمين صالح حلا أمامه، سوى أن يعترف للشعر والسرد النثري معا بحقهما في تقرير مصيرهما في النص. مكتفيا بإدارة حوار بين طرفين يتناوبان على الهيمنة والسيطرة. ولعل للشعر سلطة أقوى على أمين صالح من السرد النثري. لأنه حين يتجه لكتابة الشعر، المتخفف من آليات وطرائق السرد، يستطيع ذلك، أما حين يتجه للسرد، فإنه الشعر يبقى لصيقا به، لا يفارقه، ليس كظله، ولكن كذاته نفسها.

-ب-

لقد تعمدت في الفقرة السابقة أن أضيف صفة النثري للسرد، وذلك للتأكيد على كوني لا أضع مطلق السرد في مقابل مطلق الشعر. ما أريده بالسرد تحديدا هو الخطاب الذي يقدم الحكاية أو القصة في الأعمال السردية كما في الرواية والقصة القصيرة.إذ تكون اللغة هي النثر لاستيعابها للتفاصيل وملفوظ الشخصيات ومكون الحوارية، فضلا عن الاستطرادات وخطية الزمن، وما إلى ذلك، مما يجعل من السرد النثري أشكالا بائنة عن أشكال السرد الشعري.
وبالنسبة لأعمال أمين صالح المذكورة في هذه القراءة، وباستثناء "مدائح" و"موت طفيف"، لابد من التنبيه إلى أنها لا تعرض صورتها على القارئ بوصفها قصائد شعر تتضمن السرد، أو حتى شعر سردي، ولكن بوصفها نثرا في المقام الأول. خلافا مثلا للكتاب الأخير لأمجد ناصر المعنون ب" حياة كسرد متقطع"، حيث يعرض الكتاب صورته بأنه قصائد نثر مبنية على السرد. لكن تلقينا لأعمال أمين صالح، ينظر إليها باعتبارها نصوصا نثرية يتمفصل فيها السردي والشعري.
ونحن لا نستدعي هنا المرجعية اللسانية لمصطلح التمفصل المزدوج. ما نقصده به، أن يمضي السرد والشعر وفق خطين؛ أفقي وعمودي، مزدوجين في القراءة السطرية الخطية والتركيبية العمودية معا.
ولكي أوضح أكثر، أذكر بالنقاش الذي رافق توظيف الأسطورة في الشعر الحر. حيث أكد على أن توظيف الأسطورة انتقل من الجزئي إلى الكلي. أي بين أن تكون إشارة جزئية في سطر أو مقطع من القصيدة، وبين أتكون القصيدة بكاملها مبنية على الأسطورة، أو على رؤية أسطورية.
كذلك الحال في هذا الذي نقول به، لا نقصد نصا سرديا نثريا مزخرفا بالشعر، ولا قصة يتضمن أسلوبها صورا شعرية. وبمعنى آخر، ليس المراد سردا نثريا يبث الشعر في جمله في شكل صور بلاغية. ما نعنيه هو نص قائم على السرد النثري، لكن الشعر يتمفصل معه عبر الأسلوب بما هو تراكيب ( مستوى أفقي) وعبر معمار النص(مستوى عمودي). فيكون النص مبنيا سرديا وشعريا معا، مما يجيز وصفه بكونه وضعا سرديا وحالة شعرية أيضا. وقد يكون هذا المقترح مفيدا أكثر في تلقي كتب أمين صالح ذات الطابع السردي النثري المصنفة من طرف التلقي العام ضمن الرواية والقصة. أما كتاباه الشعريان "مدائح" و"موت طفيف" فقد تكون مقاربتها أفيد بوصفهما شعرا في المقام الأول.
إن ما نقترحه هنا، يحتاج - إجمالا- إلى نقاش موسع لأجل بلورته على المستوى التطبيقي، وإحكام تماسكه، النظري، حتى يتسع لاستيعاب مختلف التجارب العربية ذات المنزع السردي الشعري. ولعل وقفتنا هذه عند نماذج نصية من كتاب أمين صالح " والمنازل التي أبحرت أيضا" قد توضح جانبا من مقترحنا التحليلي.

2- نماذج نصية

ينبني نص " مساء يضرم المكائد"، وهو النص الأول في الكتاب، على حكاية ذات زمن خطي: صياد يعود في المساء بسلة نصف ممتلئة بالسمك. وفي طريقه إلى بيته يمر بالساحة العامة بالناس، حيث يكتشف وجود شاب وسط الميدان وقد أعدت كل لوازم شنقه بما فيها الجلاد. لكن الصياد يتذكر أن زوجته على وشك الوضع فيغادر الساحة قافلا إلى بيته.
قوة النص ليست في حكايته، بل في رؤية السارد للزمان والمكان والشخصيات، وهي رؤية قائمة على الشعر. إذ ينطوي النص على حالتين متعارضتين هما: شاب مقبل على الموت، وطفل مقبل على الولادة. ويقدم النص من منظورين، منظور السارد، ومنظور الصياد الذي يجول بعينيه في الساحة العامة كما تجول كاميرا تتحرك عمدا قصد الإحاطة بالمشهد. في المنظورين معا، يتبدى الزمان والمكان والكائنات في صور آهلة بالمفارقات متجهة إجمالا نحو تشكيل حالة من الحزن والأسى والجفاف.إن عناصر السرد ليست مقصودة لذاتها، بل المقصود ما ترمز إليه، لأجل تشكيل الحالة المذكورة في ذات المتلقي.
إن الصياد مثلا، يمكن تلقيه بوصفه علامة تدل أولا على الضعف والوهن مقابل قوة البحر وسفنه الكبيرة، وتدل ثانيا على الوحدة والسفر الذي لا ينتهي، وتدل ثالثا على العبثية في الساحة العامة؛ عبثية البشر ولا مبالاتهم، وعبثية القدر الذي يقود شابا للإعدام رغم براءته، وعبثية في العلاقة بين الجلاد والمحكوم بالإعدام، جلاد غير مكترث يأكل ويدخن، ومحكوم بالإعدام واقف يتأمل في انتظار تعليق عنقه في المشنقة. كما أن علامة الصياد تفيد أيضا قيمة الحياة المتمثلة في طفله الذي في المخاض.
أما الساحة العامة، فيمكن النظر إليها بوصفها علامة لتعارض القيم الاجتماعية، وطبائع الشخصيات والكائنات، وتعدد النماذج البشرية. إنها مكان رمزي لاجتماع المتناقضات. أما الزمن العام للنص، فهو المساء، أي الزمن المؤقت، زمن العتبة بين النهار والليل، لكنه زمن فاعل كباقي الشخصيات، يلتقي معها لحد أن يكون صورتها مادام يضرم المكائد ولا يولد سوى الأسى والحزن شأنه شأن المكان. وبما أن النص يبدأ بالمساء وينتهي به، أي المساء الذي يضرم المكائد، فإن حدث الولادة المرتقب، ينزاح بدوره عن المألوف، مشكلا صورة مفارقة، طرفاها: زمن يولد المكائد، وطفل على وشك أن يولد. أي مخاض إذن لامرأة في زمن عدائي كهذا؟
ويرد النص الثاني تحت عنوان " الغزال الذي مضى مطأطئا". وتقوم حكايته على وضعين سرديين. في الأول، يقف صبي جائع على الرصيف بمحاذاة زجاج مطعم قديم يغص بالزبائن وهم منهمكون في تناول الطعام دون اكتراث بالطفل. في الوضع الثاني يقوم الطفل بنطح زجاج المطعم الفاصل بينه وبين الأطعمة. فيتطاير الزجاج شظايا، ويتناثر الدم من رأس الطفل ليلطخ الزبائن.
يمثل الطفل هنا علامة على الجوع والفقر، فيما يشتغل الزبائن نصيا في صيغة علامة على الشبع والغنى. بين الطرفين يتدخل حاجز مكاني مانع في شكل حائط من زجاج. إنه حاجز شفاف لكن من جهة الطفل وحده الذي يبصر الزبائن، فيما هم لا يرونه لانشغالهم بإشباع ملذات بطونهم. لا ينتبهون إلى وجوده إلا بعد فوات الأوان، حين ينكسر الزجاج ويغدو الطفل دماء متناثرة على ملابسهم.
يشترك النصان، الأول والثاني في فعل القتل. ففي النص السابق، يطالعنا جلاد غير مكترث بالمحكوم بالإعدام، يلتهم شطيرة ويشعل لفافة تبغ في انتظار قتله للمتهم، حولهما الناس غير آبهين بمصير المحكوم عليه، تجمعوا من باب الفضول فقط، كأن القتل أصبح عندهم مشهدا عاديا من حياتهم.
أما في نص"الغزال الذي مضى مطأطئا" فيبرز أيضا زبائن يلتهمون الأكل غير مبالين بطفل، إنهم بمثابة الجلاد الذي يدفع طفلا لقتل نفسه. إنهم قتلة كما أن الجلاد قاتل.
بخلاف النص الأول ، حيث قدم السارد نفسيات الشخصيات بوصف الأماكن والحركات والملامح، يستغرق النص الثاني في استبطان نفسية الطفل، جائلا داخل أفكاره وأحلامه مستعينا بوظائف المكان لتعميق الشرخ بينه وبين الآخرين. فمكان الداخل (داخل المطعم) لا يعترف به، ومكان الخارج (الساحة العامة) لا يعترف به أيضا. إنه طفل مطحون بالداخل والخارج معا.
ويتدخل الشعر في تشكيل صورة للطفل، تأسيسا على بعدين: بعد ينغرس فيه الطفل في الواقع اليومي، وبعد ينتقل فيه إلى حالة لا مكانية ولا زمانية. فهو زمانيا، الطفل الواقف خلف الزجاج مند أزمنة غابرة، أي أنه الثابت مقابل الزبائن المتحولين، وهو القديم مقابل المستجدين، إنه الماضي، والحاضر، والمستقبل المغتال الدامي. أما مكانيا، فيمتد إلى ما لا نهاية بواسطة دمه المتناثر. دمه الذي لطخ قميص النادل، ووجه رب الأسرة، والشرشف الأبيض، وإسفلت الشارع، ليمتد فيعلو في السماء بأن يلطخ قباب المدينة، ويمتد كذلك ليسرح في الأرض حين يلطخ غزالا يمضي إلى غابة نائية، كما يسيح في الزمان حين يلطخ بهو المساء الذي يضرم المكائد المتناثرة، ربما كتناثر دماء الصبي الجائع.
الشعر وحده، هو من يتدخل ليخلق انسجام الخطاب، فيجمع بين شارع يسحق الكائنات الضعيفة، وبين مطعم ينقطع زبناؤه عن العالم الخارجي ولا يرون سوى الطعام، وبين غزال دام يمضي نحو مكان مخالف تماما لمكان المدينة، وبين طفل جائع منذ الأزل، يضطر لسفح دمه كي يكون علامة وجوده.
في جل نصوص الكتاب، يشغل أمين صالح عنصر الحلم رابطا إياه بقيمة البراءة. فإذا كان المحكوم بالإعدام شاردا ويحلم، وكذلك الطفل الجائع يحلم، ففي نصوص أخرى حضور أقوى للحلم، كما في نص"نزيل العزلة"، الذي يحكي عن شخص أعمى استرجع بصره، لكنه قرر فقء عينيه حين وجد أن العالم الذي كان يراه بحلمه هو الحقيقة ذاتها، أما الواقع فهو الزيف. وكما في نص"عند عناديل تبارك اليقظة"، حيث اعتاد شاب أن يرتاد مقهى بجانب الساحة العامة، ومنها يطل على المكان الخارجي فينتقي شخصيات، ويزرع فيها أحلاما تعيشها فعلا.. وحين يتأخر أياما عن الجلوس في المقهى، تأتيه تلك الشخصيات (خادمة، وحلاق وبواب، وشحاذة) وتطلب منه ألا يتخلى عن زرع الحلم في حياتها. كما تجدر الإشارة إلى أن الحلم ككلمة وكرؤية، وكفاعلية نصية لها حضور في جل أعمال أمين صالح، إن لم نقل كلها. كما أنه يفصح عن وعيه بذلك، حين يعتبر الكتابة حلما، والكاتب حالما.
وفي النص الثالث من "والمنازل التي أبحرت أيضا" يبرز الحلم بدءا من العنوان: "العجوز التي حاكت حلما خجولا". في العنوان ذاته يمكن ملاحظة لعبة الانشغال على الكتابة. فالعجوز لا تحكي ولكن تحاكي. إذ كان المقصود هو المحاكاة وليس الحكي، فإن المحاكاة تتطلب التأويل فعلا، على اعتبار أن العجوز داخل النص تحكي حلمها. لكن المعتاد في الحلم أن الحالم يحلم بما يهفو إليه، ما لم يتحقق ويريد تحقيقه بالحلم. إن الحلم يتجه هنا نحو المستقبل. أما العجوز فتحلم بما لم تعشه. حلمها هو آخر عتبة لها نحو الموت. إن حلمها صيغة لاسترجاع شبابها. لذلك فإنها، وهي العجوز إنما تخلق حلما تحاكي أي تستنسخ وتقلد فيه صورتها المحلوم بها عندها في شباب عمرها. لم يعد لها أمام الموت متسع للحلم، لحلم جديد، فقط استرجاع الأحلام ومحاكاتها، هو الذي يعطيها القوة للاستسلام للموت بكل اقتناع وطمأنينة.
ولعبة العنوان تتمظهر أيضا في العلاقة الضدية بين الشيخوخة والحلم. فالشيخوخة (وخاصة في حالنا هذه) تمثل نهاية سقف الحياة، فيما الحلم يمثل انفتاح الأفق في الزمان والمكان. كذلك يلاحظ إضفاء صفة الخجل على حلم امرأة عجوز حين تستعيد صورة الفتاة الشابة الجميلة التي كانتها يوما. أليس الخجل ناشئا هنا عن الشرخ بين الماضي والحاضر، بين الشباب والشيخوخة، بين استرجاع الحياة والإقبال على الموت؟
أما ضمن النص، فان الحلم لا يتخذ صيغة الموضوع فحسب، بل أيضا صيغة الفاعلية النصية لتوليد متخيل السرد وتحولاته. وتوجد- إجمالا- عدة جسور عبرت بسرد هذا النص نحو الشعر، أو عبرت بالشعر نحوه. إن نصا حلميا كهذا لابد أن يكون داخل الشعر. فالشعر أيضا، حلم يخترق الواقع والمتخيل معا، ويؤاخي بين المتباعدات. وأن يصبح الموت شخصية ساردة داخل النص، تقدم الوقائع والكائنات والفضاءات، فهذا أيضا مما يعبر بالنص نحو الشعر، خصوصا حين نقف عند الصورة التي تشكلت له في النص.
يشد الموت قارئ النص بحرصه على وصف التفاصيل كما لو كان حامل كاميرا على كتفه المثقلة بالأرواح. هاهو يقدم صورة بانورامية لبيت العجوز من الخارج، جائلا عبر طابقي البيت مركزا أولا على الشرفة(ببلابلها المزقزقة المتقافزة وأصصها الزاهية بالأزهار) بعدها يركز العدسة على الباب. ثم يستمر في التصوير وهو يدخل للبيت محركا الكاميرا عبر الغرفة كي يثبتها على العجوز الراقدة مريضة في سريرها.
إن الموت الذي يأتي عادة لاختصار كل التفاصيل، وتحذير الكائن الحي منها مادامت أعراضا لا جوهرا، ها هو يحرص عليها ويثبتها بواسطة الصورة التي يخلقها عنها. إنه شخصية رحيمة، حنونة وعاطفية، ومقدرة لقيمة الحياة، علاقته بالعجوز علاقة ألفة ومحبة. أما العجوز فمطمئنة للقاء زائر لا يراه أحد من عائلتها سواها، تبتسم له وتسعد بلقائه. الأغرب، أن يكون الموت فاعلا مساعدا على خلق الأحلام، حين يستجيب لرغبة العجوز في أن تقص عليه حلمها الخجول المجنح الذي تحلق فيه بين الغيوم وأشجار الرمان.
يبدو الحلم هنا كما لو كان الرمق الأخير من الحياة والعتبة التي يحقق فيها الكائن أقاصي رغبته في الخلاص داخل الحياة، قبل أن يتدخل الفاعل الثاني (الموت) ليمكن الكائن من خلاص أخير، لكن في عالم السديم والالتباس هذه المرة.
توجد رحلتان نحو الخلاص، الأولى خلاص من الشيخوخة بالحلم، والثانية خلاص من الشيخوخة أو ربما من حلمها، بالموت. في الرحلتين لا يقطع الكائن صلته بذاته. في الرحلة الأولى ترحل العجوز بالحلم وجسدها مشدود للسرير، وفي الرحلة الثانية ترحل العجوز وظلها مشدود للبيت حيث لا يقطع الكائن الراحل الصلة بين المكان الأخروي وبين المكان الدنيوي. وكما في لقطة من فيلم للأرواح والأشباح، ينهض جسد العجوز ذات السنوات السبعين، بخفة فراشة، وبكل استعداد واطمئنان، وهي التي كانت لا تقوى على مغادرة الفراش، نحو الرجل الواقف(الموت) طالبة منه بدء الرحلة الأخيرة. أي شباب إذن هذا الذي يتولد في عجوز قبيل موتها؟ شباب يسري في الروح على شكل حلم، وشباب يسري في الجسد على شكل خفة فراشة. وبمعنى آخر، أي حياة هذه التي تولد فجأة في حضرة الموت؟
تنهض العجوز روحا وجسدا لتغادر نحو المكان الأخروي، فيما يبقى خلفها ظلها يطل عليها من شرفة البيت، أو ينساب مع ظلال المتنزهين تحت أشجار الرمان مؤكدا لهم قرب حدوث المخاض. أي مخاض إذن يعد به ظل ميت؟ وأي حياة أخرى لهذا الظل في مكان الرمان، وهو المكان المتخيل بواسطة حلم العجوز الراحلة؟ وأي تناظر أيضا بين أن يبدأ النص بتقديم شرفة تتقافز في جنباتها البلابل وتنمو في أصصها الأزهار، وبين أن ينتهي النص بالشرفة ذاتها، لكن الذي يطل منها هو ظل امرأة ماتت؟
أسئلة كهذه، هي ما حملني على القول بانباء نصوص أمين صالح على ازدواجية التمفصل بين السردي والشعري وبكون الحكاية ببساطتها واختزالها، ليست هي الغرض الوحيد للسرد، فالغرض أيضا اندغامها مع الشعر خطيا وعموديا، رؤية ونصا، تخييلا ورمزية، لأجل أن يكون الخفي أكثر إشراقا من الظاهر، والحدسي أقوى من الحسي.
ولقد تعمدنا الوقوف عند النصوص الثلاثة الأولى من الكتاب بالترتيب، حتى لا يفهم من قراءتنا أننا انتقينا النصوص لنية في هوانا النقدي. بل لأنها هي كذلك في قراءتنا التفاعلية معها.

3- بين العناوين ولازمة النصوص

-أ-

لا يخفى أن العناوين تعد من العناصر التي تبني بها القراءة تلقيها للنص، ولا يخفى أيضا أن العناوين عند أمين صالح تدخل ضمن مختبر اشتغاله على الكتابة بوصفها موضوعا. كما أن العناوين، وإن كانت تقبل أن تقرأ خطيا وأفقيا ارتكازا على علاقات التجاوز بينها داخل الكتاب، فإنها تدخل أيضا ضمن التمفصل العمودي لأي نص، اعتبارا لعلاقات الحوار النصي والدلالي الناشئة بينها وبين نصوصها.
أما هذا الكتاب، فإن شعريته تعلن عن نفسها ابتداء من عنوانه. ولو لم يكن العنوان طافحا بشعريته كما تحمل طرح أسئلة كهذه: ما لها هذه المنازل التي أبحرت؟ أين أبحرت وفي اتجاه أي مصير؟ ما الذي أبحر قبل المنازل حتى تبحر هي أيضا؟ أي علاقة استعارية هذه بين المكان الثابت في الأرض والوجدان والذاكرة، وبين فعل الإبحار وهو فعل مكاني حركي؟ لماذا اختار الكاتب فعل الإبحار وليس السفر أو الرحيل؟ وما دلالة السفر ضمن المكان البحري؟ ثم أي المنازل هي هذه المنازل؟ هل هي المنازل بمعنى البيوت والمساكن، أم المنازل بمعنى القيم المرتبطة بتلك البيوت، أم أنها المنازل بمعنى الفصول والمراتب؟
لا شك أن القراءة التي لا تستسلم لأحادية الدلالة في العنوان، ستبحر في النص وظلال الدلالات المتنامية تسبقها. وعلى سبيل المثال، فإن فعل الإبحار محفوف بالمجهول، وبقدر ما يعد نقطة لانطلاق السفر، يعد أيضا نقطة لرحلة لا يعرف مآلها. كما أنه فعل يتم في مكان فسيح يمتد إلى ما بعد الأفق، لعله أرحب من الأفق في الامتداد.
تتجاوب هذه الدلالات وتتحاور مع عناوين داخلية في الكتاب. مثل أن يكون الإبحار "بابا مفتوحا على خاتمة"، أو أن يكون "الغزال الذي مضى مطأطئا " جريحا، كالمنازل التي مضت، ربما مطأطئة، وكان لابد أن تظل حافرة وجودها في المكان شامخة فيه. أو أن يكون فضاء إبحار المنازل "مدى فسيحا تتراكض فيه الرياح" أو" أفقا لا يمسه جناح" أو أن يكون الإبحار" هو والهاوية...وجها لوجه"، ولعله إبحار بسبب "مساء يضرم المكائد"، حيث "مصائر تهرول نحو ضفاف سماوية"... وكل هذه عناوين فرعية في الكتاب، وتتشاكل مع العنوان الرئيس في دلالتين كبريين هما:

  • الإبحار بما يعنيه من سفر ورحيل، حيث يبحث الكاتب عن مصير آخر له، بالحلم تحديدا كما في أمثلة كثيرة ضمن الكتاب.
  • شساعة المكان، بما يعنيه من مجاهل وانفتاح مطلق، وهذه الدلالة حاضرة في صورة المكان في الكتاب، حيث لا يظهر المكان المغلق والضيق أحيانا، إلا لإظهار الشساعة في المكان المفتوح.

-ب-

وإذا كانت عناوين الكتاب تمثل أوضاعا نصية بدئية، مشتغلة بلغة الرمز والاستعارة، فإن ما يلفت نظر القراءة، أن مجموعة نصوص القسم الأول من الكتاب تنتهي بلازمة شعرية عن المساء الذي الذي يضرم المكائد في الفراغ. تكرار هذه اللازمة يجعل النصوص واقعة داخل دائرة شعرية مزدوجة أو متمفصلة بدورها. أولا دائرة يمثلها العنوان الشعري للكتاب وكذلك اللازمة الشعرية للنصوص، ثانيا دائرة تمثلها العناوين الشعرية الداخلية وكذا اللازمة الشعرية ذاتها. مما يعطي اللازمة وظائف داخل عدة محاور: محور تدخل فيه في علاقة مع عنوان النص الأول " مساء يضرم المكائد"، ومحور تدخل فيه في علاقة مع عنوان الكتاب ، ومحور تدخل فيه في علاقة مع كل نص على حدة، ومحور تتعالق فيه مع النصين الأخيرين من الكتاب وإن لم يأتيا مختومين بها، هذا فضلا عن خلقها للاتساق النصي بين النصوص المختومة بها مادامت تتكرر في نهايتها.
وكل واحد من هذه المحاور يقتضي وقفة مطولة. لهذا نقتصر على هذه التساؤلات: أي دلالة لهذا الفراغ الذي تلح عليه اللازمة؟ ولماذا يكون موضوعا لفعل المساء تحديدا؟ وأي دلالة للتقابل الضدي بين الماء (البحر) في عنوان الكتاب، وبين النار ( الإضرام) في لازمة نصوصه؟ وهذا الفراغ الذي تلح عليه اللازمة، وتملأه بالمكائد، إلى أي حد يتوازى ويتناظر مع الفراغ المخلف أكيدا من طرف المنازل بعد إبحارها؟ إن الطبيعة إذا كانت لا تقبل الفراغ، فإن الشعر قادر على اكتشافه داخلها، أو اكتشافها داخله.
لقد لاحظنا أن عنوان الكتاب يستثمر فعل الإبحار بما يعنيه من سفر ورحيل، كما يستثمر موضوع الفضاء الشاسع، وفي اللازمة يحضر أيضا موضوع الفضاء الشاسع ممثلا في الفراغ، حيث يمكن اعتباره فضاء لا حد له، بمرجعيته المكانية وبمرجعيته الرمزية والنفسية. وتقودنا الملاحظة الأخيرة إلى الربط بين موضوع الفراغ وبين فعل الإبحار أو السفر داخل نصوص الكتاب.
وحين نعيد مراجعة النصوص الثلاثة الأولى التي اتخذناها نماذج للتمثيل لا للحصر، نرى مدى التلازم بين الفراغ والسفر. ففي النص الأول،يعود الصياد من سفره أو رحلته وإبحاره حاملا شبكته من السمك. وكي يلتحق ببيته يجد نفسه كالمسافر في رحلة عودة طويلة وثمة وراءه في البحر سفن يقول عنها النص:" سفن تشف عن ربابنة وملاحين لا يكفون عن السفر، وعندما تشاطئ أحداقهم المرافئ الأليفة يراودهم ثانية شغف السفر كأنهم أسرى رحلة أبدية لا تنتهي عند شاطئ أو ميناء" (ص10) . ولا ننسى أن آخر نص من الكتاب يحمل عنوان " صورة شخصية لعائلة في سفر".
إن رحلة الربابنة والملاحين، قد تكون شبيهة برحلة المنازل، أو برحلة الصياد الذي ما أن تطأ قدماه عتبة بيته حتى يتذكر أن أمامه رحلة أخرى بحثا عن صيد السمك. أما الميدان العام الشاهد على قرب إعدام الشاب، فميدان غاص بالجمهور، ومع ذلك فهو صورة جلية للفراغ، الفراغ من القيم، ومن الأهداف، لأن قيمة الحياة وهي أهم قيم الكائن الحي، غير مكترث بها عند جمهوره. يقول النص عن جمهور الميدان العام: " جمهور يستعين بالضجيج كي لا ينصت إلى ما يهمس به ضميره، وكي لا يفصح عن مشاعر لا تنسجم مع طبيعة التجمهر، مولع بالفرجة هذا الجمهور الذي يتوسل خطوة المصادفات ويتملق الوقت ليهبه فيضا من الإثارة قبل أن يداهمه النوم" ( ص 14).
أما في النص الثاني المعنون ب " الغزال الذي مضى مطأطئا" فتشكل فيه فعل السفر رمزيا في رحلة دم الصبي في المكان والزمان كما ذكرنا، فيما تشكل موضوع الفراغ بمقارنة ذات الصبي بذوات الآخرين ضمن المكان. حيث أن وجوده بالنسبة للمشاة في الميدان العام ليس سوى فراغ ما داموا يسحقونه دون أن يمثل لهم شيئا ذا قيمة إنسانية.
أما الزبائن داخل المطعم فلم يروه رغم وقوفه خلف الزجاج الشفاف.إنه أيضا مجرد فراغ بالنسبة لهم. يقول عنه النص: " لا أحد يعيره التفاتة أو اهتماما..ولو من باب الفضول أو التعاطف، كأنه غير موجود. كائن أثيري، أو محض شبح لا يرى"(ص19).
ولعل الموت وحده في النصين المذكورين هو الذي يثبت وجود الكائن ويثير فضول الجمهور. فقد تجمعوا في الميدان العام ليروا دم المحكوم بالإعدام، وأما بالنسبة للصبي فلم يتم الانتباه إليه إلا بعد أن تناثر دمه مع شظايا الزجاج.
وأما في النص الثالث، فيتشكل السفر من خلال فعل السفر الحلمي للعجوز، وفعل سفرها الأبدي عند مرافقة الموت لها. وحين تجمع أفراد العائلة حولها كان الموت واقفا هناك، تراه العجوز وهم لا يرونه. إنه الحضور والغياب معا. البيت شاهد عليه، والعجوز شاخصة بنظرها نحوه، أما أفراد عائلتها فلا يرون مكانه سوى الفراغ.
إن متخيل الفراغ، ومتخيل السفر، ومتخيل الموت إذا اجتمعت، جاء النص على غير المعتاد من السرود ذات المنزع التفصيلي، ورغم بعض التفاصيل التي تطالعنا في الكتاب حول الشخصيات والأشياء والأماكن، فإنها تتحول إلى علامات متعددة الدلالة، تخص الكائن المقيم في السفر، داخل الواقع وخارجه.

-ج-

وبصفة عامة، نود التأكيد على أن هذا الكتاب وكتبا أخرى لأمين صالح، وإن جاء خطها العام ضمن السرد النثري، فإن تحليلها من حيث المكونات السردية وحدها لا يستقيم مع أفقها الكتابي. ولقد تطرقنا بتركيز لمكونات سردية كالحكاية، والشخصيات، والمكان، ومنظور السارد، كي نبين أنها غير مفارقة للشعر، سواء على المستوى الأسلوبي والبلاغي أفقيا، أو على مستوى الرؤية السردية المتمفصلة مع الرؤية الشعرية، فضلا عن أثر كل ذلك على تلقينا لنصوص الكتاب.
ولعل المقصد العام الذي دفع أمين صالح لتأليف الكتاب، تزدوج فيه بدوره رؤيتا السرد والشعر. حيث يبدو لنا أن المقصد العام للكتاب، هو الكتابة عن الحارات القديمة في مدينة عتيقة، ومقصد كهذا قد يزدوج فيه الحنين إلى الماضي بزمن قيمه الجميلة مع وصف المكان ومؤثثاته وشخصياته، مما نرى له تجليات كثيرة في الكتاب. كما أن الطابع الشذري والتقطع النصي المناسب إجمالا للشعر حين يتغيى التقاط حالة معينة، له حضوره في الكتاب.
لم تكن عند أمين صالح نية كتابة عمل موحد الشخصيات ومتسلسل الأحداث، لهذا السبب حرص على فصل نصوص الكتاب عن بعضها بتذييل كل واحد بتاريخه. لعله أراد من الكتابة أن تمضي نحو مصيرها دون سابق مخطط، متقدمة في المتخيل وفقا لتقدم الذاكرة والرؤى فيه. ولعله كان يوازي بين المغامرة في الكتابة بوصفها فعلا نصيا وبين المغامرة التخييلية ذاتها.
ويتبدى حرصه على استرجاع فضاء الحارات القديمة، في استبعاده شبه المطلق لكل ما يمت بصلة للتكنولوجيا والصناعات العصرية والعمران الحديث. فالأحداث المتفرقة تدور غالبا في بيوت ومنازل ومحلات قديمة، وفي الساحة العامة، أو تغادر فضاء الحارة لمكان المتخيل الطبيعي، مياه، بحار، طرق نائية، غابات...الخ.
كأني بالكتاب جاء تمجيدا لتلك الأماكن العتيقة التي ما فتئت ترحل تحت تأثير زحف البناء العصري، أو ترحل لأن سكانها هجروها. وقد يكون هذا هو المقصود بإبحار المنازل، أو لأنها أبحرت في ذاكرة الكاتب وأحلامه فخلفت كتابه هذا. فأكثر من دلالة تتحملها أماكن أمين صالح، تماما كما تتحمل شخصياته المركبة أكثر من دلالة.
لقد كتب أمين صالح أشكالا كتابية تتجاوز حدود الرواية. وتتجاوز حدود القصة كما تتجاوز حدود القصيدة. لقد دمج بين السرد النثري وبين الشعر. وسواء أكان ما كتبه سردا شعريا وهو المرجح، أم كان شعرا سرديا، ففي كل الأحوال، يبقى شاعر السرد العربي الحديث بكل امتياز.

أي أفق نتلقى به أمين صالح ؟

رشيد يحياوي

-أ-

حين قرأت كتاب أمين صالح"هندسة أقل، خرائط أقل" أدركت إلى أي حد قد يكون مفيدا للناقد أن ينجو بدراسة ينجزها عن كاتب دون أن يتأثر كثيرا بما يقوله هذا الكاتب في أمثاله من النقاد. على الأقل سيريح قلقه النقدي بكل أنانية مؤقتة مثلما يريح الكاتب قلقه كتابي مؤقتا بمجامع أنانيته التي تجعله خالقا لا على أشكال الآخرين. فما العمل الآن بعد قراءتي لكتابه" هندسة أقل، خرائط أقل" وقد حاصر فيه أنانية النقاد، وسد الطريق على من يضل منهم داخل أرض كتاباته المليئة بالمنعرجات والمهاوي؟
إذا كان النقاد شغوفين بالهندسات والخرائط، فقد نبه أمين صالح إلى أنه لا يرى في عملهم هذا سوى مضيعة للوقت وضلالا نقديا غير مبين. فكيف بمن يتوهم أنه بتوسمه أعمال هذا الكاتب، سيصبح جغرافيا لامعا في قياس الحدود والمسافات والنتوءات والتداخلات بين تضاريس الكتابة؟
أدرك الآن، أن الناقد الذي يقف أمام أعمال أمين صالح متسائلا ماذا هي من حيث النوع. أرواية أم قصة أم قصيدة؟ سينظر إليه هذا الكتاب بأنه وحش يشهر سكينا حادة، وبكل بشاعة، يقطع النص إلى أطراف، غير مكترث بالدماء النازفة منها. إنه إرهابي، هذا الوحش في نظر أمين صالح. لهذا جاء كتابه" هندسة أقل خرائط أقل" مثل قانون لمكافحة الإرهاب الأدبي والنقدي. ومن يطلع عليه يدرك بسهولة تعرضه للانزلاق والوقوع في فخاخ الشبكات الإرهابية وهي كثيرة في خارطة أدب وطننا العربي.
ورغم هذه التحذيرات التي لا يكف أمين صالح عن وضع النقاد أمام نتائجها الكارثية، لا يريد هذا السؤال أن ينفصل عني: كيف نقرأ أعمال أمين صالح بكل أناقة نظرية ولباقة نقدية، والحال أن الكتابة عنده وكما يقول هو" حيوان خرافي لا يرتوي، لا يشبع، ولا يكف عن التهام المخيلة والروح والعقل والأحاسيس"؟
ألا يحتمل أن يصبح الناقد بدوره عرضة لذلك الحيوان الخرافي؟ وهذا بالنسبة لناقد يفترض في أنه"مسلح" فما بالك بقارئ "أعزل"؟ ربما يكون الحل على هذا النحو: بما أن الذي يولد الحيوان الخرافي الكتابي عند أمين صالح، كاتب بداخله طفل يلهو ويلعب ويحلم. اذن أقصى ما يجدي، أن يطلق الناقد أيضا من داخله طفلا ناقدا، يلهو ويلعب ويحلم بدوره مع طفل الكاتب، لعلهما ينجحان في ترويض الحيوان الخرافي الكتابي، وإطلاقه من قمقم الكتابة.

-ب-

أعترف بأن التساؤل حول الأفق الأنواعي لتلقي أمين صالح يخضعني لسلطته كلما هممت بقراءة كتبه. إنه كمين لا فكاك منه. فكتب أمين صالح الإبداعية تتقدم مثل كتيبة مسلحة عازمة على مداهمة أوكار التلقي في عقر ديار أصحابها. إنها حرب فعلا، القارئ فيها معرض للتشكيك في نوايا ومقاصد وثوابت ذائقته الجمالية التي تنزع عادة نحو الاستقرار قصد منحه الاطمئنان. صحيح أن دور الكاتب أن يكتب وكفى، لكن دور الناقد أن يكتب ويتساءل. فالناقد غير المتسائل لن يكون في أحسن أحواله سوى جهاز للنسخ والتصوير مهدد بالأعطاب. وأعمال أمين صالح تجبرك على التساؤل حتى لو كنت من فصيلة نقاد النسخ والتصوير فلابد لك أن تتساءل: ما هذا الذي تفعله بنا كتبه؟
إن طرح السؤال حول الأفق الأنواعي الممكن لتلقي أعمال أمين صالح، ليس هلوسة نظرية أو تمرينا أكاديميا يهرب من المواجهة المباشرة للنص قصد الالتفاف عليه وأسره في علب من كرطون النظريات. لكنه بالنسبة لي على الأقل نابع من القراءة ذاتها بوصفها حدثا تفاعليا بين القارئ والمقروء الذي يجعلك تشك في ثوابت القراءة نفسها مستفيدا من الشك في ميلاد مساحات معرفية وجمالية جديدة. وكتب أمين صالح من هذا النوع.
منذ أن قرأت له كتاب" ندماء المرفأ ندماء الريح" فاجأتني المساحات الجديدة التي أدخلها إلى قراءتي وذاتي. وظلت هذه المساحات تتزايد وتتوسع بعد قراءتي كتبه"العناصر" و"ترنيمة للحجرة الكونية" و"مدائح" و"هندسة أقل، خرائط أقل" و"موت طفيف" و" رهائن الغيب" وصولا إلى كتابه "والمنازل التي أبحرت أيضا". لكنها مساحات لا تتولد ولا تتوسع إلا ضمن حالة اللاطمئنان التي تجد الذات نفسها داخلها برضاها أو بعدم رضاها.
وكيف تكون مطمئنا لقراءة أعمال أمين صالح، وبعد أن صنف أعماله الأولى ضمن القصة، يعدل عن ذلك فيزيح نعتها الأنواعي ويجعل التلقي معرضا لمهبها؟ وكيف تطمئن لتلقيه، وهاهو كتابه "والمنازل التي أبحرت أيضا" يصنفه الناشر ضمن الرواية، ثم يصحح أمين صالح النسخة بخط يده، معلنا أنها ليست رواية؟ وكيف تطمئن أيضا، وهو يصرح : "أنا شاعر، لكن بطريقتي الخاصة"؟
فبهذا الإقرار، لم يعد مبررا أن نتساءل تجاه كتبه أو بعضها، هل هي شعر؟ إن كتابيه "مدائح" و"موت طفيف"، من المحطات المتميزة ضمن قصيدة النثر العربية. وكتابه "موت طفيف" يكفي في حد ذاته لكي يجعل أمين صالح من شعراء هذه القصيدة، ولا تقل قامته الشعرية في هذا العمل ذي الطابع الشذري الفجائي، عن قامات مجايليه ومن تلاهم من الشعراء المكرسين ضمن قصيدة النثر.

-ج-

السؤال المبرر الآن، ليس حول ما اذا كان أمين صالح يكتب الشعر، بل حول الطريقة الخاصة التي يكتب بها. أليس أمين صالح بإقرار كهذا، يضع قارئه أمام تحد لا يحد، كمن يجدد تسليح كتيبته الإبداعية، وينسحب إلى بيته الغوي، مكتفيا بالإطلال من شرفة الكلام، فيما القارئ يواجه تلك الكتيبة. هذا هو المبدع حقا، حين يدفع قارئه إلى وضع حرج كهذا.
نأخذ كتابه "والمنازل التي أبحرت أيضا" نموذجا لما تفعله بنا كتبه. نتصفح الكتاب فيظهر لنا في ثلاثة أجزاء الأول بعنوان" والمنازل التي أبحرت أيضا" وهو عنوان الكتاب، مثبت فقط على الغلاف وتنتهي نصوصه بلازمة "مساء يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيدا كيدا". والثاني بعنوان" عن مصائر تهرول نحو ضفاف سماوية"، والثالث بعنوان "صور شخصية لعائلة في سفر. وكل جزء من هذه الأجزاء يتضمن نصوصا فرعية. وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن الكتاب يعرض بنيته التركيبية في صورة غير التي ذكرناها. فالكتاب يتقدم في شكل متوالية من النصوص، المجموعة الأولى منها (12نصا)، مفردة، أما النصان الأخيران، فمركبان، أي يتكونان من مقاطع مرقمة بالنسبة للأول، ومعنونة ومرقمة بالنسبة للأخير.
ومع ذلك فلدي انطباع بأن النص الأصلي انتهى في صفحة89، أي عند آخر نص من المجموعة الأولى. لكن أمين صالح ظلت لديه أحلام كتابة نابعة من فضاءات ومتخيل الجزء الأول من الكتاب، فغير صيغة الكتابة وأضاف النصين الأخيرين. نص" عن مصائر تهرول نحو ضفاف سماوية" أولا، نظر لوجود بعض الروابط التي تجمعه بالجزء الأول، ثم نص "صور شخصية لعائلة في سفر" ثانيا، حيث اختفت الروابط الظاهرية الجامعة له بالجزء الأول. وهناك فرق واضح في الصياغة العامة التي أطرت الجزء الأول عن الجزأين الأخيرين اللذين ينفرد كل منهما بصياغة تخصه.
يمضي الكتاب وفق خط زمني ذي امتداد يبدأ في أبريل 2005 وينتهي في غشت( أغسطس) 2005. وليست لي نية في تأويل هذا الزمن، ولا الدلالات المحتمل لهذا التاريخ من السنة، والممتد من فصل الربيع إلى نهاية الصيف. ما يثير أكثر هو حرص أمين صالح على تأريخ كل نص على حدة. لأن أول ما ينطبع عند القارئ أنه ليس أمام رواية. فلم نتعود أن يكتب الروائيون عندنا فصولهم فصلا فصلا، ينتهون منه ويؤرخونه لينتقلوا إلى لاحقه. كما أن النص ليس يوميات مؤرخة. وقد يتولد لدى بعض القراء عند قراءة النص الأول أنهم بصدد مجموعة قصصية.غير أنهم بمجرد الانتقال بالقراءة بين النصوص، يكتشفون وجود روابط بينها. إنها إذن ليست قصصا منفصلة ولا رواية تتقدم وفق أحداث تنمو، ولكن متوالية سردية لحالات المكان والكائنات.
عند أمين صالح قدرة خاصة على متابعة تجربة والتقاط وميضها داخل زمن متقطع دون أن تفقد الكتابة لحمتها وتماسكها.إذ كيف ينمو نص متقطع في الزمن و يظل مع ذلك نصا إن لم يكن صاحبه قد تشبع بتجربة النص وامتلكه بمتخيله, ورآه كائنا وموجودا حتى قبل أن يكون ويوجد؟
ومن الأمثلة الدالة على ذلك عند أمين صالح، كتابة"العناصر". وهو كتاب موحد في هيكلته، لأن كل نص منه يبدأ بذكر عضو من أعضاء المرأة. فالنصان الأول والثاني من"العناصر" مؤرخان في يونيو 1983. ثم يأتي النص الخامس في أبريل 1984. بعده النص السادس في مايو 1984. ثم يتوقف أمين صالح عن متابعة "العناصر" إلى غاية أبريل 1985. حيث يكتب النص السابع . ويعيد التوقف لما يقرب سنة أخرى، فيكتب النص الأخير من" العناصر" في فبراير 1986. وقد نشرت المجموعة سنة 1989.
ويتألف كتابه" ترنيمة للحجرة الكونية" من ثلاثة نصوص. النص الأول كتب في أكتوبر 1990 وتمر سنة كاملة فيكتب أمين صالح في الشهر ذاته (أكتوبر-نونبر) 1991 النص الثاني، وتمر سنة أخرى فيكتب أمين صالح، في نفس الفترة من السنة، نصه الثالث (يناير-فبراير)1993.
وإجمالا، تتكون كتبه "ترنيمة للحجرة الكونية" و" العناصر" و" ندماء المرفأ ندماء الريح" و" المنازل التي أبحرت أيضا" من 32 نصا مؤرخا. عشرة منها كتبت بين سبتمبر ونونبر، أي فترة ما يسمى بالدخول الثقافي. ولم يعرف فبراير كتابة سوى نصين بينما اشترك معه يناير في نص آخر هو الذي حمل عنوان كتابه " ترنيمة للحجرة الكونية". أما الفترة الربيعية والصيفية من أبريل إلى يوليو، فعرفت كتابة 17 نصا. وباستثناء أربعة نصوص مؤرخة في شهر أغسطس(غشت) في كتابه " والمنازل التي أبحرت أيضا" ليس هناك نص في كتبه الثلاثة المذكورة مؤرخ في هذا الشهر. كما يلاحظ أنه في الكتب الأربعة لا نجد نصا مؤرخا في شهري دجنبر ومارس. هذه ملاحظات قد تكون وليدة الصدفة. وربما إذا قارنا بين النصوص المكتوبة في نفس الشهر أو الفصل رغم تباين السنوات، فقد نكتشف بينها مشتركا في اللغة والدلالة.

-د-

لكن هل من الصدف أن يكتب أمين صالح نصه الأول من " والمنازل التي أبحرت أيضا" في شهر أبريل وهو الشهر الذي يكون فيه الربيع في أوج شابه، عن إعداد ساحة الإعدام لشاب في أوج شبابه أيضا، أي في الثلاثين من عمره؟ وهل من الصدف أيضا أن يكتب النص الأخير من المجموعة الأولى من الكتاب في شهر غشت، وهو شهر الحصاد وجني الغلال، عن الشاب ذاته المحكوم عليه بالإعدام، القادم إلى المدينة من قرى اجتاحتها المجاعة؟
هنا في النص الأخير الذي يعيد كتابة كتابة النص الأول، يعود الجلاد للظهور رفقة الشاب المحكوم بالإعدام رغم براءته، فيسيران في الطبيعة الخضراء مثل صديقين، إلى أن يختار الشاب مكان إعدامه تحت شجرة تفاح يقول عنها النص: " شجرة تفاح كانت وقتذاك تهز ثمارها مثلما تهز الأمومة مهدها أثناء قيلولة العالم" (89). إن شجرة التفاح المثمرة، تتحول إلى زمن الربيع حيث تثمر عادة، مخترقة زمن الصيف، راجعة إلى أبريل زمن كتابة النص الأول.
فلماذا نشأت الصداقة بين الجلاد وبين المحكوم بالإعدام، ولماذا تقبل الشاب أن يعدم رغم علمه ببراءته، ولماذا اختار هو نفسه مكان إعدامه، ولماذا اختار مكان الإعدام تحت شجرة تفاح وليس شجرة رمان مثلا، ولماذا شبه السارد شجرة التفاح بالأم، وما العلاقة بين هذه الأم وشجرة تفاح الإعدام، وبين الأم وشجرة تفاح أنزلت آدم وحواء من الجنة...؟ إنها متوالية أسئلة تؤكد ما قلناه بخصوص استشكال أفق تلقي أعمال أمين صالح.
ترتيبا على ما سلف ذكره، أظن أنه من المناسب أن ننتقل من الحديث عن "شعرية الرواية والقصة" عند أمين صالح إلى شعرية السرد عنده. فيبدو أنه يكون مرتاحا في السرد وليس في الرواية والقصة. وفي أعماقه يدرك أنه لا يريد أن يكون روائيا تأسره الحكاية الطويلة ذات التفاصيل وتشابك العلاقات بين الأحداث والأشياء والنماذج البشرية، مما تتطلبه الرواية بمفهومها المرجعي. لهذا أعتبر أنه آن الأوان لكي نصحح الصورة النمطية لأمين صالح في التلقي العام بأنه قاص وروائي. صحيح أن بعض أعماله لم تخطئ طريقها إلى القصة وإن تم ذلك بطريقتها الخاصة، أما بالنسبة للرواية، فيستحسن أن يوسع النقاش حول كتابتها عند أمين صالح. والذي أعرفه من أعماله المحسوبة على الرواية كتابه" أغنية ألف صاد الأولى"، وسماها رواية في تلك الفترة، لكنها كانت أوسع وأشمل من الرواية، ولا أدل على ذلك من أن قاسم حداد اقترح عليه ألا يصنفها ضمن الرواية.
ومن أعماله المطولة" ترنيمة للحجرة الكونية" و "مدائح" وهما نصان بعيدان عن الرواية، فالكتابان معا بمثابة نشيد شعري سردي قائم على حواريات نصية. وبالنسبة لكتاب" والمنازل التي أبحرت أيضا" فقد صحح أمين صالح ما قام به الناشر، وأكد أنها ليست رواية. كذلك بالنسبة لكتابه" رهائن الغيب"، فهو سيرة ذاتية.

-هـ-

إن المقطع الأخير من كتاب" والمنازل التي لأبحرت أيضا" يضيء بعض ملاحظاتنا، ويجيب إلى حد بعيد عن تساؤلنا حول الأفق الأنواعي المناسب لتلقي أعماله، ولقد عنونه ب " الذي يروي كل هذا". يقول فيه: " أما أنا، فحسبي أن أشهد ما يشهده القدر من سيرة المصائر وأسرد كل هذا. أن أروي بعطر الكتابة أبجدية السفر وأمتدح الصحبة المباركة، أن أنظر عبر بلور الصداقة إلى نبض العاطفة ووهجها، أن أضم بين كفي هذه الأرواح الشفيفة مثلما تضم المياه ثمار المحيط، أن أحنو على مواطئ وشموا بها الأرض وأجمع ما تساقط من أكمامهم. وبمقلتين يترقرق فيها الحب، أرنو إليهم، ومعهم أتبادل صدى العواصم" (ص 119).
يفصح النص هنا عن راو، ليس هدفه الشخصيات ولكن سيرة المصائر، والمصائر بهذا المعنى لا يقصد بها تحولات الشخصيات داخل تحولات السرد فحسب، بل كذلك تحولات المصائر في بعدها الوجودي والفلسفي. إنه يروي لكن" بعطر الكتابة"، بمعنى عطر الشعر، فالشعر هو ما يجعل الكتابة تفيض بجمالية اللغة. إضافة لذلك، فالسارد الشاعر هو الحاضر، لا السارد الناثر. السارد الناثر يمكن له أن ينظر لشخصياته بمقلتين لا يترقرق فيها الحب. لأنه بذلك سيحنو عليهم ويحبهم. ولن يسمح بالتالي، بحدوث العداوة بينهم، ولن يتصارعوا ويكون بينهم أشرار.
إن الكاتب الذي يسرد المصائر، ويعطر الكتابة، ويمتدح الصحبة، ويجعل الصداقة عينه التي يرى من منظارها العواطف، ويجعل الأرواح الشفيفة تحط بين كفيه، فيضمها مثلما تضم المياه ثمار المحيط، ويحنو على أماكن مرت بها تلك الأرواح، ثم تترقرق عيناه بالحب، لن يكون سوى شاعر. ولأنه يسرد، فهو سارد شاعر. إنه ذاته الطفل الذي قال عنه الراوي في (ص118) من هذا الكتاب: " وفي الأمسيات الرائقة يحلو له أن يجلس على ضفة البحيرة محادثا القمر، ويرخي أهدابه على الحلم".
إنه أمين صالح بذاته وصفاته كإنسان وككاتب، كإنسان لأنه زارع أحلام من أجل المحبة والصداقة والعدالة والحرية، وككاتب لأنه أيضا زارع أحلام، من أجل كتابة جديدة وقارئ وكاتب جديدين. وهي الأحلام ذاتها التي تجعل قراءتك له تترقرق بالأحلام، أحلام بالكتابة، وأحلام بمتخيل الكتابة، وأحلام بالأماكن التي تتخلى عن الأماكن وتحلق حين تكف عصافير المساء عن التحليق، ولا يكون المساء " يضرم المكائد المتناثرة في الفراغ كيدا كيدا".

******

أسئلة الرواية
"رهائن الغيب" لأمين صالح نموذجا

جعفر حسن
(البحرين)

في مسار الرواية

يربط كثير من النقاد بين الرواية والثورة الرأسمالية في الدول الصناعية في أوربا وغيرها من البلدان، تلك الثورة التي أنضجت المشاعر القومية على نار هادئة حينا وفوارة أحيانا في تلك الدول، وصارت تلك الرواية تعبيرا عما يزدحم في رحم المجتمع من صراعات وتحولات ونقد لتلك التحولات على يد البرجوازية الصغيرة الطموحة، تلك التحولات التي تناوب عليها التغيير العنيف والسلس كما حدث في إنجلترا بعد الثورة. ويمكن بسهولة إيجاد جذور للرواية تمتد إلى القرن العاشر كما في السير والملاحم الشعبية كألف ليلة وليلة وغيرها.. الخ. ويمكننا الذهاب إلى ابعد من ذلك حين نأخذ بعين الاعتبار الرواية الشعرية.

ويبدو من المقارنة أن الشعر باعتباره أقدم أشكال القول الفني هو المتصدر لفنون القول لربطه بالقداسة من جهة وضبطه للغة باعتبارها كذلك من جهة أخرى، على الرغم مما عرف العرب من أشكال مختلفة للسرد تطورت منذ الجاهلية مرورا بالعصور العربية المختلفة، فمن الأساطير إلى الملح والطرف والخطب والحكاية والخبر إلى حي بن يقظان والسير والتراجم المختلفة وصولا لألف ليلة وليلة ثم المقامة واستلهاماتها المختلفة فيما بعد.

ولربما كان لتطور الشعور القومي وتحول الجيش من مجرد مرتزقة مأجورين إلى فئة من الشعب في أوربا، أظهرت حاجة ملحة لتغذية تلك الروح القومية وإظهار مدى أهمية ما تقوم به الجيوش في صالح الأمة، فكانت من الأسباب التي أنضجت الرواية التاريخية.(1) ويبدو أن الرواية العربية قد بدأت أيضا مع النهضة العربية "إن تلك الرواية في ولادتها العسيرة، لم تعثر على بداياتها الأولى على يد كتاب احترفوا الكتابة الروائية، إنما جاءت، كما جاءت، بمبادرة صحفيين، ورجال فكر، بالمعنى العام، أو على يد ((أديب بائس، وشاعر بائس دهمته الكوارث))، كما هو الحال عند حافظ إبراهيم. وهذه العوامل، إضافة إلى تلعثم البدايات، حكمت شكل الكتابة الروائية الأولى، فكانت ((رواية أفكار)) أكثر منها ((رواية تخييل))، بالمعنى السائد اليوم." (2)

في الحدود

كما يمكن اعتبار الرواية فن سردي في التعريف الإجرائي، يصعب وضع حدود شاملة قاطعة له، باعتباره فنا يتميز بالقدرة على التغير المستمر، ولكونه فنا سرديا فإنه يعتمد في إنتاج الفن الروائي على مادة اللغة، ليشكلها الإبداع المعتمد على مجموعة من التقاليد الفنية في مجاله، والمستفيد من المعطى التاريخي للأمة في خلق عالم من الخيال الفني، ذو اتجاهات متعددة تتبع بعضها نظريات فلسفية أو اتجاهات فنية ناتجة عنها، وربما تكون ذات نزوع نحو (الواقعية، النفسية، العلمية، البوليسية. . الخ).

كما يمكننا أن نرصد سلسلة غير منتهية للتعاريف التي ظهرت للرواية ونعطي مثلا "(إن الرواية بتعريفها الواسع عبارة عن انطباع شخصي مباشر عن الحياة، وهذا، من البداية، يشتمل على قيمتها، هذه القيمة الكبيرة أو الضئيلة، حسب قوة الانطباعات)." (3) كما يمكننا النظر إلى الرواية باعتبارها فنا تنطبق عليه الصفات العامة للفن، فنجد تولستوي حين يعرف الفن يقول :"((الفن نشاط إنساني يتكون من أن يحاول واحد من الناس أن ينقل بوعي، مستخدما إشارات خارجية معينة، يحاول أن ينقل إحساسات معينة، عاشها هو، ثم يتأثر الآخرون بهذه الإحساسات ويعيشونها هم أيضا))" (4)

اشتعال الأسئلة

ولعل النظر إلى الرواية بصفتها تلك تبيح طرح مجموعة من الأسئلة تثيرها التطورات الاجتماعية التي مرت بها الدولة العربية، حيث يمكن النظر إليها باعتبارها الحاضنة الشرعية للثقافة العربية التي ولد فيها هذا الفن منذ أن برزت رواية (زينب) لهيكل في مصر وإن اعتبرها البعض في إطار الترجمة الذاتية. ويمكننا اعتبار الرواية مجسا حساسا لنقاط التحولات في المجتمع العربي، فنجد أن الرواية استجابت ككل الفنون في المجتمع لنكبة فلسطين وهزيمة حزيران والحرب الأهلية في لبنان وغيرها من الأحداث الجسام.

على أن حدود الرواية باعتبارها فنا خاصا، تشير بحدة إلى حراك دائم في تلك الحدود، ولعل تعدد القراءات الممكنة للعمل الروائي في ذاته تعبير عن مستو من مستويات التحولات الدائمة في الرواية، كما تشير إلى تلك الحدود التي تقف فاصلة بين ما هو سردي باعتباره فنا، وبين ما هو اجتماعي، وما هو اجتماعي بالضرورة يشير إلى تاريخيته الخاصة والعامة في آن، ذلك الحد الذي يخلقه التمثل الفني الواعي لمعطيات المجتمع في النظرة الأيديولوجية، فهل يمكن أن نشير إلى تشاؤمية الرواية العربية وعلاقتها بالوهن المستمد من الإخفاقات المتتالية للسياسات العربية؟ وهل الرواية مربوطة بشكل مباشر مع تلك الإخفاقات؟ إلا يمكن للرواية أن تكون رؤيوية؟؟

في الظلال

ولعل الجدل بين النقاد حول فن السيرة باعتباره عملا روائيا لازال قائما في مجتمعنا ولازال الفرقاء فيه يدلون بدلوهم، فمنهم من يقول بعدم وجود هذا النوع من الفن أي "رواية السيرة" وبين من يؤكد وجوده فيشير جابر عصفور قائلا:"وأجدني أقرب إلى منطقة الروايات فيها خصوصا بعد أن أصبحت أدرك أننا نعيش في زمن الرواية، والواقع أنني كنت أستبدل بشعار زمن الرواية شعار زمن القص أو زمن السرد لأدخل فيه كتب التراجم التي يكتبها المؤلفون عن الأعلام الذين شغلوا الدنيا والناس، أو التي يكتبها عن أنفسهم هؤلاء الأعلام (../..) وواضح أن كتابة رواية السيرة الذاتية تحرر الكاتب من قيود كتابة السيرة الذاتية أو الترجمة الذاتية، فالرواية عمل خيالي في نهاية الأمر، وتملص الكاتب من أية مشابهة بينه وإحدى الشخصيات مسألة ممكنة فضلا عن أن القالب الخيالي للرواية يتيح للكاتب الحديث عن المحرمات التقليدية دون حرج: الدين، والسياسة، والجنس." (5)، مع إشارته في نفس المقال إلى قلة ما كتب في اللغة العربية من تراجم أو مذكرات شخصية.
وقد يعزو البعض تواجد فن (رواية السيرة) من عدمه إلى الأنماط الثقافية التي تؤثر بعض أطرها على سلوك الأفراد، فنرى إلى سلوك معتنقي المذاهب المسيحية في الكنائس، ذلك السلوك الذي يقوم على طلب الغفران من خلال البوح بالخطايا لراعي الكنيسة (الأب)، وهو الأمر الذي ربما يكون وراء كشف الذات بعوراتها ومزالقها أمام الأخر في السير الشخصية كما برزت فيما كتب عبر الثقافات الغربية المعتنقة للمسيحية، والتي يعتبر جزء منها على الأقل من السرد الفضائحي. بينما يميل الإطار الإيماني في مجتمعاتنا العربية الإسلامية إلى إخفاء الخطايا والعيوب، وذلك عبر الستر "إذا بليتم فاستتروا"، وربما تكون تلك النظرة الراسخة في مجتمعاتنا العربية وراء النظرة الازدرائية لذلك النوع الأدبي من جهة، ولعلها ما يجعل كثير من الأدباء يتحاشون كشف الذات بنوازعها الحقيقية وزلاتها واشتهاءاتها أمام الآخر، بينما ينظر المتلقي باشمئزاز لهذا النوع من الفضائحية .
ويرى علاء الامي ما يتعرض له من يكتب رواية السيرة الذاتية " إذا كانت مغامرة التأسيس لرواية السيرة الذاتية في المغرب قد أوصلت محمد شكري صاحب رواية " الخبز الحافي " إلى المصحة العقلية والتفكير بالانتحار فإن الثمن الذي يراد للروائي العراقي حمزة الحسن أن يدفعه سيتجاوز كثيرا ما دفعه زميله المغربي. فمنذ أن شرع الحسن بإصدار سلسلة رواياته التي بلغت اليوم أربعا وهو يتعرض للكثير من مظاهر التضييق والتهديد والتعتيم والاغتيال الأدبي بلغت ذروتها حين دعا كاتب عراقي علنا وعلى صفحات إحدى الجرائد العراقية المعارضة إلى محاكمته مستقبلا في العراق (الديموقراطي !) بسبب ما كتبه في روايته (سنوات الحريق )." (6)
بينما يمكننا تقسيم روايات السيرة على النحو الذي يفصله علاء اللامي بقوله في نفس المقال: " ويمكن تقنين ثلاثة أنواع من هذا الجنس النثري السردي من حيث مكوناته الداخلية وتقنياته التنفيذية ومواقعه المعيارية القيمية : النوع الأول وهو الأقدم والأشهر وهو "السيرة الذاتية" التقليدية ويعتمد كاتبها بشكل رئيس على الذاكرة والوثيقة المادية والتأرخة الدقيقة ومن أنواع الوثائق المستعملة : اليوميات والرسائل والصور الفوتوغرافية وأشرطة الفيديو والشهادات والبيانات والتقارير الرسمية وغير الرسمية ولا يلجأ الكاتب إلى تقنيات الروائية التقليدية إلا في حدود ضيقة جدا. وأما القيمة المعيارية لهذا النوع من النثر فتكمن في دقة أو عدم دقة وصحة أو عدم صحة وثائقيته.

النوع الثاني وهو"الرواية السيرية الذاتية " وفيها يلجأ الكاتب إلى تقنيات التوثيق السيري كما عرفناها في النوع الأول ولكن ليس بشكل طاغ ورئيسي وهو أيضا يستعمل الطرائق والتقنيات المستعملة في الرواية التقليدية أو رواية النص الجديد "المفتوح" حيث نجد الأساليب الوصفية والاسترجاع والبوح العادي والآخر الهذياني والحلم والفنتازيا وهذا النوع من النثر قيمته المعيارية في خياليته المبدعة وليس في صدقيته الوثائقية أو عدمها.

النوع الثالث وهو ما يدعوه الحسن في أحد نصوصه النقدية "السيرة الذهنية". وهذا النوع كما يصفه الحسن في اقتباس دقيق عن الفرنسي فيليب لوجون في كتابه (السيرة الذاتية : الميثاق والتاريخ الأدبي) هو مزيج من النوعين الأنفين (يستفيد كثيرا من النوعين السابقين وينفرد عنهما في خصوصية "الرؤية/ الرؤيا"). وعلى سبيل شرعنة وترسيم اسم هذا النوع بالسيرة الذهنية كما يبدو يضيف الحسن قائلا في تعريفه السابق (وقد نعيش معا أنا وأنت حادثة محددة ولكني أرويها بطريقة مختلفة عنك أي أن انعكاسها الذهني جاء بصورة أخرى.) غير أنني لا أجد الاسم مناسبا كفاية خشية اختلاطه بنوع آخر من مذكرات وسير الفلاسفة والعلماء ذات المضامين الذهنية والبعيدة كل البعد عما يدور عنه الحديث الآن. وعلى أي حال سنأخذ مؤقتا بهذا الاسم ريثما يتم التوصل والاتفاق في الساحة النقدية على اسم أكثر كفاءة وتعبيرا عن المعنى المراد."

يمكننا النظر إلى كون الحدود رجراجة بين أنواع مختلفة من السرد يمكن أن تحمل عناوين مغايرة على الرغم من أنها يمكن أن تدخل تحت حد السيرة الذاتية أو رواية السيرة الذاتية، مثل المذكرات والذكريات، اليوميات والحوليات، الرحلات والمشاهدات، وأوراق العمر، وحصاد السنين، والبحث عن الزمن. . الخ. وميزة اختلافها مع الرواية التاريخية، أن الرواية التاريخية تأخذ مجموعة من أحداث التاريخ لتضعها في قالب الرواية، وبالتالي تكون مرجعيتها خارجية يمكن التحقق منها، بالرغم من انسراب النظرة الأيدلوجية فيها، ولكن السيرة الذاتية هي سيرة الذاكرة الخاصة بامتياز.

بينما يرى المعارضون لوجود كتابة حقيقية للسيرة الذاتية إلى أنها تتطلب كثيرا من الشروط التي لم تتحقق في المجتمع العربي، حيث تنعدم الحرية اللازمة لمثل هذه الأعمال كما لا توجد ديمقراطية حقيقية تتيح حرية المعتقد، ولربما سيادة نظرية القرون الوسطي من خلال النظر إلى الاعتراف على انه سيد الأدلة، كما لازالت النظرة الأخلاقية مسيطرة على تقييم الفرد، في مقابل إخفاق المجتمع في إيجاد قيمة حقيقية للعمل المنتج، ويحتكر النظر إلى العمل على انه يتجلى في الطقوس العبادية فقط.
كما أن هناك حواجز متعددة للرقابة الذاتية والمجتمعية متمثلة في سلطات مختلفة تقوم على المنع والمصادرة، وتوظيف القوانين من اجل ملاحقة الكتاب حتى في البلدان الديمقراطية، لذلك يلجأ كثيرا من كتبة السيرة الذاتية التي تعتمد على فضح الذات وتعريتها إلى ما بات يعرف بالسيرة الروائية، وبالتالي يمكن التهرب من ملاصقة الحديث بالذات إلى فضاء المتخيل الفني الذي يجعل مسافة الكتابة مندرجة في نسيج مغاير للوقائع التاريخية وإن شابهها، فالشخصية التي تقوم في الرواية بالرغم من تمتعها بقدرة على إقناع المتلقي بمعقوليتها، وإمكانية تحققها إلا أنها تقوم في الوعي على إنها غير متحققة، أي أن هناك مسافة بين المتلقي والشخوص، يمكن بحركة واعية إغلاق الكتاب لتظل تلك الشخوص قائمة في ذاكرة الكتابة إلى حين محوها.

إخفاق الأسئلة

والسؤال الذي يبرز هنا، إلى أي مدى يمكننا أن ننظر إلى رواية أمين صالح "رهائن الغيب والذين هبطوا في صحن الدار بلا أجنحة" باعتبارها سيرة ذاتية أدبية له؟ كما أنها بالتأكيد ليست سيرة تاريخية له كما نرى، وذلك للغة الأدبية العالية المستخدمة، وربما لغياب المرجعيات الخارجية التي يمكن التحقق منها. ونسأل أي من شخوصه يبرز باعتباره حضورا شخصيا لهو؟ بينما يكاد أن يصرح في بداية الرواية إلى انه سيعود باعتباره رجلا آخر وهو يقتطف من هوميروس بقوله:"عندما أعود فسوف أكون مرتديا ثياب رجل آخر، حاملا اسم رجل آخر، مجيئي سيكون مفاجئا وغير متوقع، ولو نظرت إلي غير مصدقة، وقلت ((أنت لست هو)) فسوف اظهر لك العلامة، وسوف تصدقيني." ص 7.
كما يشعل لهب التناقضات التي يثيرها مقطع (في البدء) عن الولادة وحال الأب والأم التي تنتابها شرارات الطلق مبشرة بولادة (حميد)، ليعود لترتيب أوراق اللعبة الفنية في نسيج السرد من خلال مقتطفات من الوعي الذي يمرره للقارئ لإرباكه حيث يقول:"لا لم أولد هكذا ،لم يولد حميد هكذا، كنت احلم بولادة كهذه، كان حميد يحلم بولادة كهذه"، وبالتالي ابتداء المطابقة بين الراوي والبطل(حميد)، على أننا نعرف أن الكاتب هو أمين صالح ذاته، وبالتالي حضور الشخصية (حميد) باعتباره راو مفترض، تعطي مساحة دلالية لكونها في أفق الرواية تتخذ طابعا خاصا لرواية السيرة وإن تحددت بسنة واحدة هي 1963م، فلا نعرف لماذا الولادة منذ البدء، إلا أنها تعبير عن الأشواق المكنونة في الذات لتكون تلك صورتها وهي تتأمل وجودها المتحقق في الرواية.

جدل الرواة

هنا ومنذ اللحظة الأولى في الوعي ينبثق لنا التناقض بين كون حميد هو الراوي وبين كونه مدركا لحالة ولادته، وهو يتنقل بين الطلق وإفرازاته على الأب خارج الدار. وبالتالي يقف الراوي كلي المعرفة الذي يتحدث باعتباره مدركا لك ما حدث فيتكلم بضمير الغائب "ربما صعب على حميد أن يهضم ويستوعب كل ما يقوله، غير انه ـ وقت ذاك ـ كان يبيح حواسه كلها لكلام يتغلغل فيه حافزا مجراه في تلافيف دماغ يمنح الكلام ما يلائمه من تأويل."ص 170.
وهو الذي سيقرر منذ البداية إن الذي سوف يروي هو حميد، لكن هناك بالطبع أكثر من راو في هذه الرواية، إي أن هناك الراوي كلي المعرفة والراوي باعتباره مشاركا في الأحداث (حميد) الذي يتكلم بضمير الأنا "هذا النبأ أسعدنا، فقد ارتحنا لأن كائنا بشريا قد نجا من موت محقق، ولأنه أزاح عن كواهلنا عبئ الذنب. . عبئ الإحساس بالتواطؤ في ارتكاب الإثم. وارتحنا أيضا لأن سلطان قد نجا من حبل المشنقة، وإن كنا لا نعرف بعد ما إذا سوف يلقى القبض عليه ويسجن لسنوات أم ينسى الجميع الحادثة برمتها." ص 158، ولعلنا نلاحظ ضمير جماعة المتكلمين الذي يتكرر في المقطع السابق، وهو وإن دل على جماعة المتكلمين إلا انه في حقيقة الأمر يتكلم به بشكل حقيقي شخص واحد هو هنا حميد الذي يشارك في الأحداث على أحسن الضن.
ثم تعود الرواية لبناء ذلك التناقض وتعميق هوته باتجاه رواية يتناوب على سردها الراوي باعتباره كلي المعرفة، وحميد في حالة الوعي لتقول:"وحميد هو الآخر الذي لم أكنه ابدأ، والذي يشيد من حطام الذاكرة عالما لم تطأه قدماي.. وربما وطأت بعض جذوره" ص 12، بينما يصادر حميد باعتباره متداخلا مع الراوي وفي ذات الوقت مفارقا له كما تعبر الرواية "وإذ اكتب ما تمليه علي الذاكرة ومالا تمليه، فإني أصون الذاكرة وأخونها في آن" صفحة 12، فهل الذي يشير إلى نفسه في فعل الكتابة هو حميد أم هو الراوي كلي المعرفة أم هو أمين صالح ذاته ملتبسا في النص.
ليقرر حين يقرر له ما سوف يحكيه في فصل (مفتتح) حيث يقول :"اسرد مرايا حي الفاضل في العام 1963"وبالتالي يحدد السارد المكان والزمان الذي سوف يسرد فيه بوعي كلي، وحي الفاضل هو من إحياء المنامة في الجهة الشرقية منها، ولعل تلك التسميات القديمة للأحياء في البحرين تحمل هي وقراها أصداء غابرة تتبع رائحة من سكنوا، على أن العناوين الجديدة في مملكة البحرين كادت أن تطمس تلك التسميات التي استبدلت باعتبارها أسماء لمهن أو عوائل ساكنة في المنطقة بأرقام صماء تكاد تخرج المكان من تاريخيته.
من هنا كان المفتتح الذي حاولنا فيه سبر مسألة السرد باعتباره سيرة للذات، فهل نحن أمام سيرة ذاتية للكاتب؟ أم هي رواية للسيرة الذاتية؟ أم هي رواية بكل معنى الكلمة؟ ولعل أمين صالح (8) من المبدعين اللذين نادرا ما يصنف ما يكتب مباشرة إلا أن هذا العمل يحمل على غلافه عبارة (رواية)، وبالتالي يضعها ضمن تصنيف خاص بالفن السردي لكنه مربوط بخيوط من حرير بالمجتمع الذي شكل وعيه.
إن ما تدركه من انقسام الراوي هنا يعبر بطبيعته عن تأمل الذات لنفسها، بالرغم من احتفائية الرواية بالجمالي، إلا أنها في المقابل أيضا تقدم لنا معرفة خاصة، تنطق بتأمل الآخر من الذات، وتأمل الذات باعتبارها موضوعا للمعرفة، فاللحظة التي يستبطن فيها البطل تكون تلك اللحظة المنقسمة على نفسها في الذات، وبالتالي يرد التناقض إلى وحدته.

رصد لما يأفل

إن السؤال الذي ينبثق هنا أمام المتلقي هو موقف المؤلف، هل المؤلف هنا منفعل بالحدث مباشرة؟ أم انه حيادي يصف ما يتراءى له؟ وهل لموقف المؤلف قيمة ذات شأن هنا؟ لربما بدأ النقد يغادر تلك القيم المفروضة على العمل من الخارج؟ بل يعتقد البعض انه بدأ يميل إلى إنكار أحكام القيمة كلما مال النقد نحو العلمية، والتوجه نحو الاعتراف بالفراغات في العمل الروائي، والغموض، وعدم الدقة والتحديد، والمصائر المفتوحة، لتقبل القارئ بتشكلات النص الروائي المختلفة، فهذه الرواية لا تعطينا أحكاما على الأشخاص التي تصفهم، بقدر ما تعبر عن سلسلة العلاقات البشرية التي تقوم بين مجموعة من الأصدقاء، باعتبارهم نواتج لمجتمعاتهم التي لا يستطيعون الفرار من تأثيرها العميق، وإن جعلتنا نتعاطف مع بعضهم، وننحاز للبعض الآخر، مدركين أن ما يؤثر فيهم هو ما يشعل دوافعهم الإنسانية.

الراوي يجوب الغيب

ولعل كل الدلائل من حيث الشكل تشير إلى كونها من روايات السيرة، ولربما تقترب إلى حد ما لسرد أحداث محددة لمكان محدود وزمان كذلك، في ذات الوقت الذي تنكص بنا الرواية من زمن الولادة إلى زمن نفترض فيه شيء من النضج والإدراك عند الذات بما تنسجه من منطقية داخلية، وهي ككل الأعمال السردية تتمتع بتلك الحالة الفنية المشحونة بالمتناقضات التي لا تميز فيها بشكل واضح بين ما يكونه الكاتب في ذاته وما يكونه بطله في الرواية، وأي افتراض في تطابق الشخصيتين ستعيدنا القهقرة إلى نظرية الانعكاس الأفلاطونية، والتي لا تعود تفسر فنية النص بكفاية، ولا تخلق معرفة بالنص قابلة لفك شفراته المتعددة، وإنما نظل في المنطقة الغائمة التي سبق الإشارة إليها فيما يتعلق بالسيرة ورواية السيرة وتلك الحدود الرجراجة بين أشكال الرواية.
وتطرح ذات المحظورات على ذلك النوع من الكتابة السردية (رواية السيرة الذاتية)، ولعلها أيضا تساءل ذاكرة الإنسان التي تتولد بشكل غير متطابق تماما لكل ما يحدث، بحيث أن تلك الانحرافات التي تتكون في الذاكرة من خلال الطمس والإحلال، والتركيب، والاضمحلال، لا تترك إلا أثرا يبتعد نسبيا عن الحدث، لكنه في المتخيل قائم ومنسجم بشكل لا يتطابق مع وقائعية الحياة اليومية، وبالتالي يقوم ويبقى في النسيج الفني كتخييل، كما يمكن أن نرصد المسكوت عنه في ذلك النسيج، والتهميش المتعمد في مثل تلك الأعمال، بسبب حضور المتنحي المنسرب مع المقصى فيها.

في العتبات

كما لا يخفى ذلك الختل الذي يحمله عنوان الرواية الذي يصم الكل باعتباره داخل في قدرية غامضة تدبر مصائر الناس "رهائن الغيب، والذين هبطوا في صحن الدار بلا أجنحة"، يشير المقطع الأول إلى تلك القدرية التي يرتهن لها ناس هذه الرواية، ومنذ البدء تشتغل آلية الوعي عند الكاتب من اجل تدبير المكائد المختلفة للقارئ الذي يدخلها في شبه استسلام، لكنه سيعاود في النهاية طرح التساؤل الفادح على الذات، هل هناك فعلا قدر مقدر مرتهنون به؟ أم أننا نصنع مصائرنا من خلال الفعل الإنساني؟ ويبدو انه من سمات العقل الجدلية التي تصور ارتهان الإنسان لأفعاله الخاصة، وخضوعه للفعل العام، فتقف القدرية في الزاوية المظلمة لتطل برأسها حتى في العلم الذي يرى أننا مجرد كائنات مبرمجة إلى حد كبير بجيناتنا التي تهيئنا للموت.

كما أننا نأتي إلى المجتمع وهو بالنسبة لنا معطى أولي، وحتى في النظرية الماركسية تطرح المسألة القدرية بشكل كبير في الانتماء إلى الطبقة بلا وعي وحتميات التحول. . الخ، لكن يمكن النظر إلى النظرية الوجودية التي تتكلم عن الإنسان في قدريته المحتومة التي تمثلها أسطورة سيزيف، حيث يسترجع سيزيف إنسانيته في تأمله للصخرة وهو ينزل يتأملها رغم قدريته المحتومة ورغبته في الموت لإنهاء العبثية التي يقبع فيها فعله ولا منطقية العالم.

فنحن بذواتنا لا نختار آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا، ولا نكاد نختار موتنا، ولا مجيئنا إلى الحياة، ولكن بالتأكيد فأننا نختار أصدقائنا، حبيباتنا وعشاقنا، نختار كونا نكونه، ولعلنا نقع فريسة التصور الذي نكونه عن الذات، والتي نرها كما نحب وليس كما هي. تلك المصائر التي ستقوم الأحداث على وسم شخوص رواية (رهائن الغيب) على نار هادئة في مساحة طويلة ممتدة في لغة رشيقة عصية كأنها السحر، لكن الغيب هو ما لا نعرفه، أي أننا في اللحظة الوجودية الراهنة نعرف ذواتنا وماضينا إلى الحد الذي يسمح به اتقاد أذهاننا، لكننا لا نعرف ما سنكون عليه مع مرور التجارب، لكن يمكن أن نتوقعه على قدر معرفتنا بالمصائر العامة.

كما يشير فعل الهبوط إلى الملائكة، ذلك للإشارة الموجودة في العنوان إلى الأجنحة، كما تشير أيضا إلى العصافير أو سائر الطيور التي لها أجنحة، لكن فعل الهبوط يحصرها في التي تطير منها، والتي عادة ما تنحط نزولا حين تريد الأرض باعتبارها تطل من مكان عال، ولعل المتداول هو الانحطاط بمعنى النزول، بينما يخرجهم منها إنهم هبطوا بلا أجنحة، وبالتالي فعل الهبوط ليس نزولا من الأعلى، ولعل ختل اللغة هو الذي يذهب بنا إلى تلك الاتجاهات، ولربما يأتلق في ذاكرتنا فعل التأويل الذي يشر إلى فعل الأمر في اهبطوا مصر، والهبوط في الدار هو النزول فيها، ولعل الهبوط في الدار بمعنى من المعاني هو ولادتهم فيها، فهم يهبطون من عالم الأرحام المرتفع في المعنى والاعتدال، أفينـزل الجنين إلى عالم الشهود، ولا تخفى كل الدلالات التي تشير إلى اكتناز المعنى الصوفي في العبارة، كما أنها ليست بعيدة عن التفسير المتعلق بسمو الإنسان في الجنان وانحطاطه إلى الأرض.. الخ.

انبثاق الضوء

تشير الرواية إلى كل الشخوص ونزوعاتهم وتستبطن أسبابها في مرحلتين على الأقل، لكنها تؤسس لتلك الرؤية التي تقول بأن الإنسان هو ابن ظروفه وتفاعلاته ثم مسئوليته أمام قراراته، لكن الإنسان هو ابن المجتمع، والمجتمع معطى أولى يشير إلى نزوع إنساني باهر بالتسليم بالموجود المؤثر، فالوجود معطى أولى قبلي بالنسبة للذات، لكن هذه الذات مرآة لعصرها وظروفها التاريخية، فتنبثق هنا صورة للذوات تشير إلى أبطال القصة على تنوعهم وتستبطن دواخلهم الصغيرة.
"عندما يعرج كريم فإن الأرض تعرج معه، كذلك العتبات والشبابيك. وعندما يهرول كريم تهرول معه الريح والفصول والمجازفات."ص 19.
"عندما يتأتئ عزوز تتعثر الحكاية ويتخبط المعنى في رواق الكلام، ومعه يتأتئ الوقت واللعب وتنور أبيه." ص 22.
"وعندما يعدو زكريا تعدو معه السنابل والشرفات، وعند ما يهفو إلى السفر تهفو معه الحقائب والمجاديف والعاصفة."ص 25.
"وعندما يسهر مفتاح مع جنونه الكامن يسهر معه الشفق واللهب والجداجد." ص 26.
" الآن، بعد كل هذه السنوات، حين انظر إلى حمزة وأتأمل وداعته ورصانته، فإني ابحث في داخله عن ذلك الفتى الشارد مع صخبه وعنفه وأيامه الغضة في أروقة انزاحت عن خارطة العمر لتستقر على صفة ماض بعيد يتأرجح بين الذاكرة والنسيان، ماض لن يطفو ثانية في حلبة الحاضر." ص 48.
هكذا يشتغل الوصف في الرواية ليوقف الزمن المتدفق ويطيل أمد القراءة في مقابل زمن الوصف مع انشغاله بتجادل الزمن الحاضر والماضي، ذلك التأمل الذي يثير تساؤلا حول كمون الماضي في الحاضر، رغم ما يتراءى من مظاهر لا تكاد تبين عن ذلك الماضي الذي لا يمكن أن نسبره، لكنه موجود في ذلك الكائن البشري، وهو الكائن الوحيد حسب علمنا على هذه الأرض الذي يحمل تاريخه الخاص، ويقلب صفحات تاريخ جنسه العام في ذات الوقت.
تعاود الرواية في سبكها للشخوص وسبرها لها مؤكدة على الثيمات الأساسية التي تدفعها من الداخل لتتكدس بما هي عليه لتعاود الإشارة إليهم بعد مساحة من التفاعلات.
"لحزن عفاف سطوع الفضة وونين الموج، له ما للخيبة من نكهة مرة. لا يخفى هذا الحزن وإن توارى وإن اعتكف بل تتماهى معه أشياء الغرفة فتبدو كما لو في حداد" ص 178.
"حينا يرسل كريم حدقتيه لتنقضا كالنصال على فراغات مأهولة بأجناس عجيبة من الجوارح يريد ترويضها لتتعايش بألفة ووئام مع البلابل والعنادل والحمام. لا تخوم لمخيلته المجنحة." ص 187.
"زكريا، هبوب الأعياد آن تسطع الينابيع في أفق له لون المقل. يملأ رئتيه بهواء بارد ثم يندفع طاعنا المسفات بقامة فتية وصيحة حادة لعل المباغتة تفتح له المسالك بهوا بهوا وكلها مؤثثة بالبسط والريش." صفحة 187ـ 188.
" عزوز يهيء للعجين تنوره وللأيام الجمرات. يرى الكون في صورة رغيف مدور. من يجادل ابن خباز يؤكد جازما أن الله خلق الشمس والقمر على شكل رغيف كي يذكر الإنسان بأن عليه آن يبحث عن خبزه كل يوم؟؟" ص 188.
"نبيل، كلما ابتعد عن هامش الأمان، متجها إلى مشارف المجازفة شدته الخيوط إلى حيطان نسجتها العائلة على هيئة سياج أو أسوار حصن، تحت سقف مدرع كصدف سلحفاة: أمومة حريصة إلى حد الوسوسة على حماية البيت من النوايا الخبيثة وتراقب بلا كلل إن كان هناك رأب في الزوايا قد ينسل منها أي وباء.."ص 188-189.
"مفتاح، الذي يرمق الهباء بعينين طافحتين بالرماد ويستقرئ خواء المحيط بأصابع ينتفض فيها حنين غامض إلى أيام غامضة لا يعود يميز فيها ما هو رائق وما هو ملتبس. في خلاياه يتخبط الجنون. يمكث نهبا لوقت هلامي يبلبل حواسه ويشن عليه القهقهة التي تبالغ في تشويشه." ص 189.

الهجرة في سديم الوصف

لم تعرف الرواية وصفا للشخوص فقط، ذلك الوصف الذي كان يسبر كائنات كأنه نور ساطع يبتهل للشمس أن تمنحه غدائرها ليرى الأرواح المحلقة في التماعة العيون، إنما تستفيض اللغة في الرواية واصفة إلى حدود لم تترك أمامها حتى اللا محسوس لتدخله في عالم الحواس، فكل تلك الإحيائية التي توظف لتحريك كائنات الوجود لتبرز ملامح الشخوص في الرواية توظف في اتجاه آخر لتصف الوجود كما ينطبع على عيني ساحر بعيد يتلمس تأثيره في البشر قبل الظلام، وأثناء النوم، وفي ما قبل غبط الصحو :
"المساء، يخرج ـ لما مسته الوحشة ـ منتعلا خفين من سديم ليطوف حول البيوت هاذيا ساعة ثم يعود بعدها رائق البال فيهرق قطرات من الندى على أسطح غافية وأخرى تضج قليلا لتهدأ فجأة.(../..) أما المساء ذاته فيلتقط ضاحكا هبات السماء من غيوم صغيرة يسميها فاكهته." ص 194- 195.
"الليل يتمرغ مرحا في أنحاء المدى الأشقر مستبيحا الطرقات حجرا حجرا، وحينا يصير وشاحا رزينا لحي جاد ذهب قسم كبير منه إلى النوم.(../..) أمام ليل لا يكترث لكن يقرأ ـ في استغراق ـ انشقاقات الضوء ويملي على الظلمة مكائد المصابيح." ص 195.
"الفجر، يأتي مختالا، منتشيا بالحفاوة التي تجهر بها الطبيعة والتي تليق بحضوره البهي، ويحط على مشارف الجهات بين نور يعرف انه الغالب الآن في حركة التعاقب الكوني، وظلام ينحسر جمعا جمعا ليتناثر في الشتات الكوني." ص 195.

تقاطع الأمكنة

يهيمن على القصة القصيرة حدث مركزي، بينما في الرواية تتفاعل الأحداث لتولد دوافع ونوازع مختلفة للحدث، ومن الصور التي يحتملها الحي، وجود فتاة مختلة عقليا يسطو عليها أحدهم في خفاء كأنه القمر لينتج عن ذلك حمل مفاجئ، ليس غريبا أن نرى في ذات يوم امرأة متخلفة عقليا حبلى، لعل تاريخنا القريب يشير إلى مثل تلك الحوادث والعقل يمكن أن يصور أي شيء ليملأ فراغ السببية المنطقية، ألم تقم الشعوب بتصديق الأساطير التي تبرر وقوع الزلازل مثلا، فالأساطير ليست حصرا على الشعوب البدائية، إنما نحن أيضا نؤمن بكثير منها دون أن نشعر، ولعلنا مشغولون بنسجها حتى الآن، أليس الرحم مكانا محايدا يوفر كل مستلزمات الغفوة ما قبل الانبهار:
"بلا أجنحة كان الخبر يمضي محلقا من بيت إلى بيت، ومن زقاق إلى زقاق، والممرات كلها مفتوحة أمام حدث قد يغسل أنحائها بحفنة من الإثارة أو حفنة من الطرافة.
كل شيء بدأ همسا في بيت حمدان العامر: ((خلود حبلى يا حمدان)).(../..) كيف يمكن لأي رجل أن يقترف هذا الفعل الإجرامي الشائن، بفتاة صغيرة، ساذجة وبريئة، معوقة عقليا ولا تعي ما يدور حولها، لا بد انه وغد ونذل، ويستحق الرجم.. هذا مما لا شك فيه، وليس موضع جدل أو خلاف، لكن من يكون؟ (../..) لا تعلم لماذا هم غاضبون إلى هذا الحد؟ ولماذا لا يصدقون ما تقول؟ ((نصدق ماذا، أيتها المخبولة؟ إن القمر هو الذي نام معك، في فراشك، وهو الذي بذر في بطنك نواة الخطيئة؟))" ص 164-169.
كل تلك الملامسة لوضعية المرأة في المجتمع لا تقف عند تحميل المرأة مسألة التكاثر والنظر إليها على أنها مكان مقدس كرحم لتقديم الحياة من الذكورة، وإنما تستبيحها هجرا وإمعانا في الإقصاء، ذلك الذي يتولد من محاولة مطابقة المرأة للصورة التي يجب أن تكون عليها، فالمرأة العاقر ليس لها مكان في عالم يحدها كآلة للإنجاب، لذا تتسابق الأسطورة لتملأ فضاء النسوة اللواتي كمن في يباب العقم والعقر، من حدود الجسد أو من مطاولة الهجر والنبذ والامتهان:
"لكن هذا لم يمنع النساء العواقر والعوانس خصوصا، من صعود الأسطح خفية، عندما يكتمل القمر ويتحول إلى قرص مشع ينبض شهوة.. وهناك تحت الضوء العابر فضاء الغيب، وعلى فراش منمنم بالغواية، يتمددن باباحية ويشرعن أثداءهن ويفتحن الآهة والأنين أمام الطعنات العذبة لنصال كالبراعم، ضارعات لعل القمر الرحيم يدفق بذاره في المكامن الأكثر غورا ويوقظ الخصوبة في حقل مسه الجفاف منذ أن مسه الإهمال أو الهجر."ص 169.
وليس ببعيدة علاقة القمر مع الحمل والولادة، فإحصائيا هناك علاقة دالة بين زيادة عدد المواليد في الليالي التي يكتمل فيها القمر، وربما سجل الحس الشعبي تلك الظاهرة لأكبر جرم مسائي في سمائنا الصافية، ولربما كانت طقوس حجرة أم حمار التي أشارت إليها الرواية تمارس طقوس خصبها في الليالي المقمرة، فكانت النسوة يكسرن البيض عليها بعدد ما يطلبن من الذرية، مع كل تلك التمتمات والهمهمات الخفية والنذور ليلة اكتمال القمر.
الحي أمكنة وبيوت، ويكاد منظر البيوت الخربة لا تغادر أحياء المنامة القديمة، ولعل معظم الأفراد الذين عاشوا فترة الستينات في طفولتهم يتذكرون الخرائب، تلك الأماكن المهدورة لأسباب متنوعة، كانت تلعب دورا حيويا بالنسبة للأطفال في الحي، تفتح قمصانها لغوايات المغامرة، كما أنها مليئة بالكمائن التي تتربص بهم، لذلك أفردت الرواية مكان هاما للخرائب، حيث يكمن الرعب مشيرا إلى المعتقد الشعبي، الذي مفاده بأن الجن يسكنون الخرائب ولا يظهرون إلا في الليل، بصورة مبهمة يستبطنون الشر للمعتدين اللذين يحاولون اختراق سكناهم في الظلام، هناك رابطة بين ثلاثة أشياء واضحة المعالم بالنسبة للمعتقد الشعبي الذي يتكلم عن الجن وهم "الوحدة، الظلمة، غواية الإيذاء"، إذ لم يتناهى إلى سمعنا في قصص الجن عن خدمات قدمها جني عابر بشكل مفيد، وإنما تتعمد مواجهة الكائن في أكثر الأماكن وحشة وإمكانية للتعمير، لذلك كانت المقابر مسامير تدق في شواهد الوحشة.
ولعل المكان في الرواية يمتد إلى ابعد من الأزقة التي عرفت بها الأحياء القديمة والتي تعتبر في بعض الدول مزارات ذات جذب سياحي، بينما الطابع القديم للمنامة يتعرض للهدم باسم التجديد، ولعل الدكان مكان آخر في الحي يجمع الفتيان عنده، وربما كان الخباز أيضا بذات الطابع في كل البحرين.

فتنة اللغة

لعل كل من سيقرأ رواية أمين صالح سيصطدم في بداية القراءة بذلك الاستخدام الخاص للغة، ولا يبدو أن ما نشير إليه بجديد، ذلك أن الفن يتميز بالاستخدام المغاير للغة، وإن تصور الكل أن ذلك الاستخدام الخاص للغة مقصور على الشعرية، ولكن تلك الشعرية تتسرب إلى مناح مختلفة من الحياة، فحتى الدعاية والإعلان يستجران قسطا مهما من تلك الشعرية الطارئة، والتي تعمل في داخلها على تقارب المتباعدات، وخلق فراغ يملئه الذهن بصور ما والسؤال الذي يبرز أمامنا هنا لماذا تستعير الرواية الشاعرية؟؟ فهل يحدث ذلك لقابليتها الداخلية لتوظيف فنون أخرى؟؟ حيث أن نظام الرواية يسمح بمساحة من الحركة في مكوناتها بحيث تقبل الجديد، فهل نحن أمام أسئلة الرواية الجديدة،؟ أم لوجود قصور في نمو الرواية ذاته؟؟ أم انه استجابة لشروط الحداثة أو ردا على تعثراتها؟ أم انه انبثاق جديد من الشعر المهيمن على فنون القول عند الأمة؟؟ وهل ذلك التوظيف يخدم الرواية أم يقف حجر عثرة أمام التلقي كما حدث أمام الحداثة الشعرية الجديد؟
يقول جابر عصفور في هذا الشأن بتحول المدينة من الصناعة إلى عصر المعلومات الذي تبحث فيه الرواية عن قسماته الدالة داخل العلاقات المتنافرة بين البشر فيقول"ولعل هذا البحث هو الذي يفسر مع غيره، تفجر عنصر الشعرية في الرواية التي تنطق (زمن الرواية)، حيث لا تكتفي الرواية بأن تستنزل (الشعر) من عليائه، بل تجعل منه أحد فنون العربية، في علاقات متكافئة غير متراتبة، حوارية وليس مونولوجية، ومتفاعلة متعددة الأبعاد وليست أحادية البعد. وفي داخل هذه العلاقات الجديدة أفادت الرواية من الشعر ((شعريته)) كما قلت من قبل، وجعلت منه عنصرا من عناصرها التكوينية في مستوى، وملمحا من ملامح أنواعها الفرعية في مستوى ثان. في المستوى الأول، نلمح الحوارية التي يتناغم بها الشعري والنثري، فيؤدي كلاهما دورة في الإيقاع المركب للغة الرواية، حيث نلمح وجها آخر من أوجه الدلالة المتضمنة لمعنى الحوارية عند باختين حيث يتجاور المستوى اللغوي لعبارة ((كان المغيب يقطر سمرة هادئة)) ((السجن للجدعان)) في صفحات رواية واحدة. وفي المستوى الثاني تهيمن الشعرية على الوظائف اللغوية في الرواية، فتقع ((الشعرية نفسها في الصدارة من القص، خالقة ((وليمة لأعشاب البحر)) أو ((مخلوقات الأشواق الطائرة))، حيث ((الزمن الآخر)) للكتابة التي تؤسس للرواية الشعرية بوصفها مجلى حداثيا من مجالي الرواية في زمننا." (9)
وليس غريبا على أمين صالح الدخول في الشعرية على اعتبار انه ذا تجربة واسعة في هذا المجال، وقد سبق أن أشرنا في كتابنا (تمنع الغابة الطرية) إلى شاعريته المتدفقة خصوصا حين تناولنا نصوص كتابه (موت طفيف)، وعلى من يريد التوسع في هذا الشأن العودة إلى ذلك الكتاب. (10) ولكن الأمر لا يعفينا من ملامسة الاستخدام في الرواية، على أن معظم الروايات تتخذ من الوصف مساحة للتعبير عن المكان وتنبع فيه جمالياته، ولعل السمات المميزة في استخدام اللغة عند أمين صالح في هذه الرواية أنها، تقوم على تحريك الكائنات بما يضفي عليها صفة إحيائية كما سبق أن أشرنا ونأخذ هنا مثلا عشوائيا:
"بعد ائذ غادروا مع وجوه مكفهرة ويأس قابض بإحكام على الإرادة، ومهمة ناقصة مضرجة بالخيبة، وجسد شاحب يتأرجح بين البقاء والعدم وهو ينزف سره الذي لا يبوح به أحد." ص 152
هذا المقطع بعد أن يتشاجر سلطان مع الشاب الذي تنتابه منه طعنة حادة يسقط على أثرها ثم تتابع الرواية:
"وغادرت الشمس مع فلول أشعتها المرهقة ـ التي استعارت لون المغيب، آخذة معها أسلاب نهار يغتسل الآن في قرمز لليل قبل أن ينزلق بخفة هواء نحو الوسن.. وجاء المساء هابطا من المخدع السماوي في أبهة يحلم بها الملوك، وأسدل على أدراج المدى وشاحه المخملي الذي ضوع المكان برائحة السهر." ص 152.
هنا تستل اللغة حركة الوجود وهي تسدل أستار الليل على الكائنات كأنها تتكهن بما سيفعل الصبية في جعل الفعل الفادح مختوما بالكتمان، هكذا يتعاطف الوجود بما يشكل حركة الغروب، فأشعة الشمس تستعير لون الغروب، وهو فعل إنساني، والأسلاب يقوم بها المحاربون، وهم ينزلقون من معارك الخيبة والانتصار، المخدع للإنسان. . الخ، هنا تتحرك عناصر الوجود متضامنة مع تطور الحدث في الرواية لكنه يستل أفق الشاعرية ليجوب بها فضاء اللغة.
ولعلنا ندرك أيضا أن الشاعرية في اللغة تعتمد على تقارب المتباعدات في نهجها الحداثي، حيث نجد علاقة بين المساء وأبهته التي يحلم بها الملوك، ولسنا نعرف تلك العلاقة التي تجعل أبهة الليل تثير مباشرة رغبات الملوك ولكن العلاقة البعيدة تشير إلى الرغبة في الهيمنة على أن الليل لا يغير من الأشياء وإنما يلفها ويجعلها تخضع لبهتان يغتال ألوانها وظهورها، لكنها تستعيد ذاتها في النهار، وتخضع لحركة دائبة ونوسان يتجاذبها بين الليل والنهار، يتقاسمها الموت والبعث بذات القدر، مما يفتح باب التأويل للناظر على أطراف الكلام، والعلاقات التي تقام فيما بين الأشياء المتباعدة هي التي تفتح تلك العلاقة خصوصا حين النظر إلى أولئك الصبية وهم يتقاسمون قطرات الفقر والعوز.
ولعل للشعرية هنا ملمح ثالث يتمثل في عدم الذهاب إلى الأشياء بطريقة مباشرة، نعم يمكن الاعتراض هنا على أن ما نقوله هو سمة للفن، أليست الرواية والشعرية هما من ذلك الفن، والمقصود هنا، مثلا تصوير المشاعر التي تكتنف الأفراد عبر عدم التحدث عن ذواتهم وإنما عبر تفاعل تلك الذوات من خلال عناصر الوجود المختلفة، ولعل هذا الملمح يذهب بتكوين اللغة عند أمين صالح نحو الصوفية العميقة التي تستكنه وحدة الوجود، ليس بمعنى الكل في واحد وإنما بمعنى آخر يجعل الذات امتداد للوجود والوجود امتداد للذات كوجهي ورقة واحدة.
"وجذلين أشاعوا الصياح والأحاديث الصاخبة في جهات جذلة اعتادت أن تبسط المكان للفوضى، وأن تنتخب العرائش للهرج، وتستضيف المرح."
إذا فالوجود يستجيب للمشاعر الجماعية أو الفردية لا فرق، بينما يمكن لقارئ الرواية ملاحظة الكثافة الكبيرة لشاعرية اللغة التي تبدأ في الانحدار نحو التركيب المعتاد للغة كلما اتجهنا نحو نهاية الرواية.

ظل الحوار

لعل السؤال عن أهمية الحوار في الرواية يحمل أبعادا طالما جلبت الكثير من الحوار والجدل، ويبدو لنا أن الحوار يشكل تلك النقطة التي يتماهى فيها السرد في انسراب زمنه ويتطابق تماما مع زمن القراءة، وزمن القراءة هو زمن مفترض بالضرورة، كما هو زمن الحوار، ولكن عندما تتحدث شخوص الرواية فإنما هي تقوم بفعل القول إذ تحكي مباشرة، وبالتالي كلامها يأخذ من الزمن ذات المساحة التي يقرأ فيها المتلقي النص:
"ـ اسمع يا زكريا. . إذا تناهي إلى سمعك صوت حوافر، حتى لو كان حمارا حقيقيا، لا تنظر لتتأكد بل سارع إلى رفع طرف ثوبك وأطلق ساقيك للريح..
(قالها عزوز ضاحكا ثم أضاف)
_ أما أنت يا كريم فيسهل صيدك، لذا حاذر الظلمة وارفع مصباحك عاليا حتى يحسب القمر أنك تغيظه بضوئك المزور..
ـ أخوك حمزة لا يعرف كوعه من بوعه.
ـ المس الشيطاني يطال حتى الأطفال. . هذا ما يقوله أبي.
ـ أبوك مخرف يا كريم." صفحة 233.

ويستهوي كثير من الكتاب المبتدئين كتابة الحوار باللهجة العامية وربما تقليدا للكتاب العرب الذين قاموا بكتابة حوار الرواية باللهجة العامية، وحقيقة يتبادر إلى ذهني عدد تلك اللهجات التي يجب أن تكتب بها حوارات الرواية خصوصا حين يتعلق الأمر بمنطقة غنية باللهجات في مساحة ضيقة مثل البحرين ودول الخليج العربية، ولقد قرأت بعض من تلك التجارب، والتي وقعت في مشكلات متعددة في هذا الصدد، فلو كل شخص كتبنا حواره بلهجته العامية وكان هناك تجمع للعرب في المهجر، ودخلوا مطعما فهل نكتب ما يتلوه النادل باللهجة العامية؟ وهل تخدم اللهجات في كتابة الحوار تقريب النص للقارئ؟ أم ستخلق مشكلات في طريقة كتابة اللهجة العامية من جهة، وماذا عن القارئ المستقبلي الذي نفترضه باعتبار أن الفن يشكل حالة عبور زمنية للنص ويفترض القارئ المستقبلي، هل نضع مع الرواية قاموس للمفردات العامية التي ترد فيها؟ وهل على الرواية أن تقوم بذلك الدور؟؟
ثم ما هي المساحة التي يجب أن يحتلها الحوار في الرواية؟ ولماذا يكتب كثير من المبتدئين وكتاب الرواية البوليسية حوارات طويلة؟ هل يمكن أن يكون استطالة الحوار نابعا من عدم تملك الكاتب للغة السرد بحيث يصعب استخدمه لتقنياتها المختلفة، وهل يعبر الحوار عن تحول الراوي من كلي المعرفة إلى رواية الشخوص ما يقولونه؟ أم تبقى تلك العلاقة الملتبسة بين الراوي والشخوص مستعرة إلى درجة لا تتيح المجال أمام التمييز بينها.

في المجابهة

يمد عنق الريح، كصقر يمتشق ضوء الكلام، من زمن الوجد إلى زمن يركض موغلا في بعده، حي واحد وأرواح يعبث بها قدر الصراع الإنساني على بسيطة لم تعد ملكا له، هكذا يهتك أمين صالح أسرار برار لم نعشها، يوصلنا عبر تلك اللغة المتجددة كمجاديف جلجامش وهو يلقيها في بحر الظلمات درأ للموت، وإبقاءا على مكان لم يكن إلا ذاكرة لقاطنيه، ليظل في القلب شيء من محاولة نبش قديمه عن جلوة لم اصطدها من قبل، عن طلال تحمل في داخلها معرفة مكتنزة كسترات الكرز، أسائل درب الكلام عن علاقة واهمة بين معرفة محايدة ومعرفة مؤدلجة، بين قطبها السالب وقطبها الموجب، وحركة الأفلاك حول القطب، وحركة الأرواح حولها، عل فيما يأتي من يطرق هذا الباب، عل يفتح، عل نعرف شيأ جديدا حتى لو بعد حين.

ثبت المراجع و المصادر

أولا الكتب:

  • أمين صالح: رهائن الغيب، ط1،الدار العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004م.
  • بول وست:وترجمة عبد الواحد محمد، سلسلة الألف كتاب (الثاني)، عدد 19،القاهرة ط1،1967م.
  • جابر عصفور: زمن الرواية، دار المدى، دمشق، ط1، 1999م.
  • جعفر حسن: تمنع الغابة الطرية، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2005م.
  • جورج لوكاش: الرواية التاريخية، ترجمة صالح جواد الكاظم، ط 1، ، دار الطليعة، بيروت، 1978م.
  • هربرت ريد: وترجمة سامي خشبة، بغداد، ط2، 1986م.

ثانيا المجلات والدوريات:

  • جابر عصفور: مقالة بعنوان "شـجاعة الاعـتراف"، مجلة البيان، 6-سبتمبر- 2001م.
  • فيصل دراج:رواية التنوير وتنوير الرواية، كتاب قضايا وشهادات، العدد 6، 1992م.

ثالثا:صفحات الانترنت.

علاء اللامي: مقالة "مغامرة التأسيس والريادة في رواية السيرة العراقية"،موقع http://www.hamza.ws/allami.htm،16-2-2002م.

******

شهادة:

شعرية الرواية

أمين صالح

شعرية الروايةتتساءل سوزان برنار في كتابها الهام "قصيدة النثر":
هل الشعر، أو الطاقة الشعرية، موجودة حصريا في القصيدة فقط.. القصيدة كلغة، كقواعد، كنمط، كعناصر، كطريقة كتابة أو طباعة؟ ألا يوجد الشعر في أشكال وأنماط أخرى كالنثر والتشكيل والموسيقى والنحت والفيلم والمسرح؟ أليس بإمكان النثر أن يكون مشحونا بالشعر، حيث الكلمات مكتنزة بطاقة سرية، وحيث التيار الشعري الغامض يسري على امتداد العبارات غير المنسجمة،ظاهريا، وغير الموزونة؟

من الأخطاء الشائعة في الأوساط الثقافية العربية اعتبار الشعر ملكية خاصة يتوارثها كتّاب القصائد، ولا يحق لروائي أو تشكيلي أو سينمائي انتهاك هذا الحق والسطو على المخزون الشعري الذي يحرسه كتّاب القصيدة ببسالة. هكذا يظنون، هكذا يرون، هكذا يريدون احتكار (أو بالأحرى استعمار) الشعر وإغلاق منابعه عن مبدعي الأشكال الأخرى.
لكن الشعر، في جوهره، لا يتصل بالقصيدة وحدها، فالطاقة الشعرية كامنة في السرد، في الصورة السينمائية، في اللوحة، في الطبيعة، في الحياة اليومية. ولا يمكن لجهة ما أن تحتكر ما لا يمكن تحديده وتأطيره، وما لا يمكن أسره.
في الماضي، كان هناك تمييز بين الأجناس الأدبية، مع إنكار حازم لإمكانية وجود نثر شعري، فالشعر –حسب التعريف القديم - هو فن نظم الأبيات، حيث القافية والوزن من الشروط الضرورية، حيث الميل إلى الألفاظ الصاخبة الفخمة والاحتفاء بالغنائية الصوتية، حيث الحشو والخطابية وتقييد الصورة ضمن متطلبات الوزن والقافية.
لكن مع نهاية القرن الثامن عشر والعصر الرومانتيكي بدأ التمرد على كل ما يكبّل روح الشعر، على التصنيفات الجامدة، وعلى الفصل بين فكرة الشكل وفكرة الجوهر الشعري، مؤكدين أن الشعر لا يكمن في أي شكل محدد سلفا، ليس له مفهوم واحد أو لغة واحدة، ليس قالبا لأي شيء موجود، وأن باستطاعة النثر أن يصبح شعرا، وأن فن نظم الأبيات لا يكفي لصنع شاعر.. ذلك لأن إيقاع الجملة، العلاقات الصوتية، المعنى، الطاقة الإيحائية للكلمات والجمل، حدود الإيحاءات التي تضاف إلى مضمونها الواضح، الصور.. كلها تكون مستقلة عن الشكل المنظوم.
الشعر، في جوهره، يفلت من أي قياس ومعيار.
إذا كانت القصيدة هوية شكلية، أي مجرد شكل محدد ينهض على عناصر الشعر، فإن تحديد جوهر الشعر، ماهيته وشكله، هو أمر صعب، إن لم يكن مستحيلا. الشعر ليس له وجود ثابت ومستقل وقائم بذاته، ليس مجموعة من القوانين والقواعد والمقاييس والقيم والأشكال والأنظمة، وهو غير محدد وغير مرتبط بشكل ما، إنه يوجد في كل مكان، أشبه بأفق مفتوح.
لقد اتسع مفهوم الشعر وأصبح كل شيء مادةً للشعر.

هناك نماذج وأمثلة كثيرة تعبّر عن التمرد على المفاهيم التقليدية والنظر إلى النثر من زاوية مختلفة:
شاتوبريان جعل من النثر أداة شعرية جديدة، ذات توافقات جديدة.
بودلير، الذي وجّه هذه النصيحة "دائما كن شاعرا، حتى في النثر"، أراد أن يخلق شكلا جديدا لشعر قابل لاستقبال كافة الأصداء.
رامبو منح النثر طاقة شعرية كانت مجهولة آنذاك. وقد نجح، هو وبودلير ولوتريامون، في خلق اتجاه شعري جديد، ولغة شعرية جديدة، من خلال توظيف مغاير، وخلاق، للنثر.
نرفال أعلن أن الشعر يهرب من القصيدة، ويستطيع أن يوجد بدونها.
مالارميه خلق لنفسه، حتى في النثر، لغة شعرية متميزة.
والت ويتمان تنبأ باتساع النثر كشكل شعري حديث وصرّح بأن اللحظة قد حانت لإسقاط الحواجز الفاصلة بين النظم والنثر، بل وذهب إلى أبعد من ذلك عندما أعلن أن الشعر الحديث، شعر المستقبل، ينحو إلى النثر على نحو لا يقاوم، وأن الأوان قد حان لتحطيم حواجز الشكل بين النثر والشعر.

إن الكثير مما يسمى اليوم شعرا هو، في جوهره وحقيقته، ليس شعرا.. مجرد كتابات موزونة أو خاضعة لبنى جاهزة أو لأشكال مألوفة. إذ غالبا ما يتم الخلط بين القصيدة والشعر، ويتم إطلاق صفة الشعر على كل قصيدة مهما اتسمت بالضعف والفقر، وتجردت من الطاقة الشعرية.
ثمة قصائد عديدة مفرّغة تماما من الشعر. الساحة الأدبية مليئة بالتجارب التي تدّعي الشعرية لكنها ضحلة، تتسم بالإسفاف والاستسهال، وتفتقر إلى الحساسية الشعرية.. بينما نجد في النثر شاعرية أصدق من الكثير من القصائد.

بخلاف النظرة التقليدية التي ترى بأن النثر نقيض الشعر، نعتقد بأن الشعر يتجلى في كل مظهر، في كل شكل، في التعبير كما في الرؤية، والروح الشعرية توجد في كل الأشكال الفنية. ليس هذا فحسب، بل أن الشعر "يهبط إلى الحياة اليومية" على حد تعبير الشاعر نرفال.
لقد أراد النقاد، المتأثرين بتقسيم أرسطو وأفلاطون للأدب إلى أنواع مستقلة، وضع حدود فاصلة بين ما هو شعري وما هو نثري رافضين أن يكون بينهما جسورا للتلاقي والتواصل.
مثل هذه النظرة المحافظة تدحضها الكثير من النصوص النثرية التي تصل إلى مستويات عالية من الشعرية. إذ يمكن للنثر أن يفيض بالشعر من خلال الصور المشحونة بالطاقة الشعرية، والتراكيب ذات الكثافة المدهشة، والموسيقى الداخلية الخاصة بها والتي تختلف عن الموسيقى الخارجية التي يشكلها الوزن والقافية كما في القصيدة. إن شعرية النثر تكمن في اللغة، الصورة، السرد، الوصف، الحالات، الإيقاع.. لكن دون صياغة متعمدة وقسرية، دون تكلّف وادعاء. أيضا تكمن الشعرية في الموضوع والبنية والأسلوب.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر برزت الحكايات الفنتازية المتحررة من التزامات السرد في التسلسل الخطي والزمني للأحداث، متخذةً طابعا شعريا سواء في تعدّد الأصوات، أو معالجة الموضوع، أو تشظي السرد، أو الاعتناء بالصورة. كذلك ظهرت الرواية الغنائية والرواية – القصيدة.
قديما قرأوا رائعة دانتي "الكوميديا الإلهية" بوصفها قصيدة – قصة رمزية. وعندما كتب لوتريامون "أناشيد مالدورور" بلغة نثرية فإن هذا لم يمنع الشعراء السورياليين من الاحتفاء بالكتاب بوصفه شعرا عظيما، والبعض اعتبره "رواية شعرية" بسبب كثافته الغنائية ولغته الشعرية الجديدة.
أيضا رواية مثل "مرتفعات ويذرنج"، لإميلي برونتي، تحفل بالطاقة الشعرية، حيث شفافية النثر الأكثر امتلاء بالشعر. كذلك روايات جوستاف فلوبير الذي يرى بأن النثر يتطلب "إحساسا عميقا بالإيقاع".
عربياً، نجد هذه الطاقة الشعرية في الأعمال الروائية التي كتبها سليم بركات، حليم بركات، إلياس خوري، فاضل العزاوي، إدوار الخراط، وآخرون.. حيث نلاحظ الشعرية في الرؤية، في اللغة، في استخدام المجاز والتشبيه، في الوصف، في توظيف المخيلة والحلم.
لم نجد الشعر في الرواية فحسب بل أيضا في الملاحم والقصة والسير الذاتية والاعترافات والمراسلات والمشاهدات.. كما في الكتب المقدسة والأساطير (ملحمة جلجامش كمثال). فالنثر منذ أقدم العصور، وفي مختلف اللغات، يزخر بالشعر.. هذا الشعر الذي كان مرتبطا على نحو وثيق بالدين والأسطورة والفنون الأخرى.

لم يعد صحيحا، أو مفيدا، التفريق بين القصة أو الرواية ككيان نثري، والقصيدة ككيان شعري. هناك قصائد نثر تشبه القصة، وتخلو من الإيقاع أو الموسيقى الخارجية التي يشكّلها الوزن والقافية، معتمدةً، هذه الكتابات، على عمق الرؤى ورحابة التجربة وجدّة اللغة وشفافية الصور والوحدة الكلية للعمل.. حيث أدوات أو عناصر النثر، من سرد ووصف، تتخلى عن وظائفها التقليدية في سبيل تحقيق غايات شعرية، دون الخضوع لأي شروط أو قوانين مسبقة.
تقليديا، القصة والرواية كانت محكومة بالسرد المطرد والحبكة التي تنعقد بالتدريج ثم تنحل، معتمدةً على القوالب الجاهزة والسائدة في التيارات الواقعية أو الرومانتيكية، ومعتمدةً أيضا على العناصر الكلاسيكية في السرد والوصف والحوار وتفاصيل الحكي الأخرى.
مع بروز الاتجاهات الحديثة في القصة والرواية (عند مارسيل بروست، كافكا، جيمس جويس، فولكنر، وآخرين) نشأت حساسية فنية جديدة بدأت في فرض تقنياتها، وفي اختراق أشكال النثر: تحطيم السياق الزمني المتعاقب، انتهاك الترتيب السردي، كسر الوحدة المكانية والزمانية، إلغاء العقدة، تفجير اللغة وتكثيفها وتحميلها بطاقة شعرية عالية، التوكيد على تداخل حالات الوعي واللاوعي ومظاهر الحلم والواقع، تعدد الأصوات والبؤر، التفاعل مع الأشكال الفنية الأخرى والاستفادة من منجزاتها في التقنية، هدم الحدود بين الأنواع الأدبية. تقديم رؤية جديدة للواقع، أو بالأحرى خلق واقع مواز له قوانينه ومنطقه الخاص.
بالتالي لم يعد النثر محض وسيلة لتحقيق غاية إخبارية أو وعظية أو ما شابه، حيث الاعتماد على اللغة الإنشائية المباشرة، والاستطراد والإسهاب والشرح.. بل تم اكتشاف عناصر شعرية جديدة في النثر، وتبيّن أن في السرد شحنة شعرية كثيفة، وفي الإيقاع والحوار إحساس شعري عال.. لهذا تم اعتبار النثر شكلا من أشكال التعبير الشعري.

اللغة الشعرية تكمن في إخضاع الكلمات المعروفة إلى غايات جديدة. الطاقة الشعرية لا توجد في المفردات ذاتها بل في طريقة استخدامها وتوظيفها وتفجيرها، بحيث تتخطى المعنى المباشر للمفردة إلى ما هو أبعد وأعمق. إذن هي ممارسة فعل اكتشاف وخلق مزدوج. هنا تنحرف اللغة عن مسارها المألوف في التعبير والدلالة لتكتسب خاصيات غريبة ومدهشة. وتبدأ الرواية في خلق عالم شعري محكوم بالصور والمجازات التي هي ليست نتاج الغنائية والفخامة اللفظية بل نتاج مناخ شعري.

اللغة ليست وسيلة للاتصال أو لنقل معلومة أو في خدمة غايات وعظية وتقريرية، بل هي أداة استقصاء وبحث واكتشاف، من أجل سبر ما لا يُدرَك وما لا يُرى.
ينبغي أن تكون اللغة موظفة شعريا وإلا سقطت في العادية والتقريرية والرتابة.. وهذا ما نجده عند كتّاب لا يعتقدون أن للغة طاقة تفجيرية هائلة

السرد تعرّض لتحولات جادة وإيجابية من الإنشائية البسيطة إلى التركيبات التي تحمل نفساً أو بعداً شعرياً. السرد قابل للتحول والارتقاء إلى مستوى شعري مدهش. إنه السرد الذي يمتلك خصائص شعرية حيث لا يروي أحداثا ووقائع، لا يدور فيه شيء أو لا يفضي إلى شيء، لا تتوفر له بداية أو نهاية. حيث السرد يكون مركّزا أو محصورا حول نواة شعرية، أو مجزءا إلى مقاطع وفصول يشكّل كلّ منها وحدة كلية مستقلة. الكاتب هنا يعتمد في سرده على الإيحاء لا الحكي، على التعبير عن تجربة ذاتية أو حالة شعورية لا نقل أفكار محددة، خالقا المناخ الشعري القائم على الأحلام والرؤى والاشراقات والانطباعات بدلا من التعامل مع الواقعي والتحليل النفسي، وباستخدام تقنية الانتقالات الفجائية وتفكيك الوقائع، بدلا من متابعة الأحداث المتعاقبة كرونولوجيا حتى تصل إلى نهايتها المنطقية.
التحولات مسّت أيضا اللغة والصورة والحالات والشخصيات. القصة أو الرواية صارت تعبّر عن عوالم خاصة برؤية أعمق وبأشكال أكثر جدّة وجمالا.
المهم هنا أن لا يبدو التعبير متكلفا، زائفا، مجانيا. إنك تسعى إلى التعبير عن الحالة بصدق وعمق وجمال، وفي هذا تسعفك اللغة لأنها تمتلك الطاقة التي تحتاجها.
اهتمامك باللغة، واعتناؤك بأدواتك، لا يعني أن ثمة تخطيطا مسبقا لكل شيء، فالتخطيط يقيّد حريتك و يضيّق أفق التجربة.. إلى جانب الوقوع في الافتعال والآلية.
في الكتابة ينتفي القصد، ويكون الحَكَم اللحظة الإبداعية ذاتها، والتي هي مزيج من الوعي واللاوعي والذاكرة والمخيلة. الكاتب يخلق صوره دون أن يحدد، أو يقدر أن يحدد، التخوم بين الشعر والقص. إنها جوهريا عملية عفوية ولا شعورية. بمجرد أن يكون الكاتب واعياً لهذه التخوم، أو يضع الشروط لها، فإنه يقع في التكلف و التعسف.
الحالة هي التي تخلق لغتها الخاصة وليس العكس. بمعنى أني لا آتي إلى مقطع معين وأقرر أن أكتبه بلغة نثرية سردية أو بلغة شعرية. الحالات والصور تفرض لغة متجانسة معها. ومثل هذه الأمور ليست مقررة سلفا بل إنها وليدة لحظة التعبير.

الشعر، إذن، ليس مقصورا على شكل ونوع خاص، بل هو مفهوم أرحب وأكثر شمولية من أن يكون مجرد صفة لشكل أدبي. الشعر رؤية شاملة للحياة والوجود، موقف من العالم والوضع البشري، تعبير عن التجربة الحياتية والروحية، طريقة خاصة في المعرفة.
الشعر يمدّد تخومه وراء حدود الاتصال اللفظي ليشمل أشكالا وطرائق من التعبير الفني. ثمة علاقة عضوية بين الشعر والأشكال الفنية، بل ومختلف أوجه الحياة والفعاليات الإنسانية. فالشعر نجده في السرد والدراما والتشكيل وكل طرائق التعبير المختلفة.
الأنواع الأدبية والفنية لم تعد منفصلة عن بعضها البعض بشروط وقوانين مصطنعة وكابحة تميّز نوعا عن آخر، وتبعد شكلا عن آخر، بل صارت تتداخل، وتتفاعل في ما بينها، وتمارس تأثيرها المتبادل بحرية ورشاقة. الحساسية الجديدة، في الكتابة وفي الأشكال الفنية الأخرى، نجحت في تحطيم الحواجز والتخوم التي نصبتها النظريات والمناهج النقدية القديمة، وأتاحت للنص الجديد أن يتحرك بحرية وعفوية في الحقل الإبداعي.

أعتقد أن الشيء الأساسي لكل كتابة أو نتاج فني-أدبي هو ضرورة توفر الحرية الإبداعية، وحق المبدع في الخروج عن كل الأطر التي تحد من حرية المخيلة، والاقتراب أكثر من الجوهر الفعلي للإبداع بدون الاحتكام إلى شكل أو نوع أو صنف أو ما شابه.

*****