غبار المدائح

ا- لظل المحارب

فتاة الشاطئ اللازوردي، المعطر بأنفاس عاصفة مرت من هنا قبل ليلتين، ترش السمسم والعسل على كائنات البحر الأكثر وداعة ولسانها الطاهر يختلج بملح الغياب تحت مطر نيسان.

لمحناك مرارا ساهرة عند مداخن الشتاء تطلين في زجاج العتبات عسى أن تسمعي وهج دغل متواطئ مع الخطوة الضالة، عسى أن تقرأي هسيس شهقات حبيبة تؤانس الهواء الرفيق. نعرف حدود حزنك المقفرة يا فتاتنا الوحيدة، الغارقة في مياه الفجيعة، يا ضمير الأمس.

ها أنتِ على الشاطئ المزخرف بالنعناع تمتزجين بفقاعات الريح الذهبية وتراقبين من هودجك الأثيري جمعا من الأدلاء المثخنين بالجوع واليأس، من أرديتهم تتساقط أشواك الصبار وغبار المتاهة. يمحون بال!هياكل العظمية آثار أسلاف توغلوا في الماضي، ويقتفون مواطئ أعراق أسرفوا في الاختفاء. ينادون حبيبك الغائب فيما يمشون في إعياء بلا أسطرلاب ولا جمهور لا يبغون منك غير كلمة شكر أو تشجيع.

ها أنتِ وسط محارات عمياء تفتح أشداقها مغنية، وحفيف نجمة تهوي على مهل لترتطم بمعصمك، وسلاحف ثرثارة تتنزه بين قدميك الحافيتين، وزوجات صيادي السمك اللواتي ينسجن الشباك ويلوحن لك، والحلزون المجنح الذي يرنو إليك مفتونا بجمالك الآسر .. وأنت وسط ئ هذا، وحيدة وحزينة مثل سفينة مهجورة.

نذكر لحظة وداعكِ له: ذلك الفارس الشجاع، العنيف في الحب وفي القتال، المدهون بالمجازفات. عصرت البنفسج علي خصلاته وطوّقت وجهه بكفيك المخضبتين بندى الأنوثة ثم عس!لت شفتيه برضاب شفتيك. قلتِ "هذا ميثاق العشق احفظه جيدا. فريضتك أن تطفئ مصابيحك كل غسق وتتذكرني ". وكأن ذلك لم يكن كافيا ليجعل عينيه تغرورقان بالحب، فانحنيت تنزعين الأشواك المزروعة في طريقه وتبسطين له الأعشاب الطرية كي تميل بخفة عندما يطفو فوقها.
لكته غاب طويلا. حتى شجرة الزيتون التي كنت تسندين ظهرك إليها، أثناء ساعات انتظارك، يأست ونكست أصابعها جزعا. عودي إلى مخدعك يا فتاة حقلنا وأربحي قلبك من وجع العبء، فوالله إنا حزانى من أجلك ونعرف أن سنابلنا قد ذبلت من فرط الوجد.

أخيرا،

بعد أن عبرت الفصول الأربعة بيادرنا، جاءنا نبأ مفرح.

أسفري عن وجهك الشاحب وارفعي ذقنك العامر بالصلوات صوب تلك القمم الشاهقة، هناك حيث الجبال المتوجة بهالات ثلجية تسرح أكباشها وظباءها عند السفوح الخضراء. سوف ترين فارسك الذي تاه عنه حصانه الأصهب يمتشق قلادة- أهديتيه ذات يوم تحت شجرة الزيتون- يشق بها الغيوم الرعدية التي تهاجمه وتموه مسالكه.

لكن ما خطب هذا الفارس الشجاع، العاشق الطاهر، يتخبط في أروقة الجبل ويترنح متحسساً طريقه كأنه ثمل، أو أ!ص، أو ينوء بجراح لا تحصى. كأن الجهات تاهت عنه. ها هو يتعثر محاذيا ظله، تارة يرافقه الحجر الودود، وتارة يطارده ذئب متخم بالفرسان التائهين. إنه يعلم مدى خوفه وعزلته لكنه لا يعلم أن ظله وقع فريسة ذئب يحدق في بحيرة القمر ولا يرى سوى فارس تائه ومنهك.

أهدلي عالياً، يا فتاة رعبنا، كي يسمعك.

أكتوبر 86

2- لنزهة الطوائف

القاتل والضحية
حول المائدة
يتبادلان الأدوار.

القاتل: نخاطبكِ يا سيدة الصوْر يا الحاملة أثقال الخطيئة. إنتخبناك مدينة لنا ووهبناك الأناشيد والمخطوطات، صرت بنا الأشهى والأفخم، وما طلبنا غير الأمان. لكنك نسيت. قد نقول خنت. نعلم- من السفك الذي إنقض علينا بغتة- أنك مررت هنا وأن من مهودك المخرومة سقطت بويضات الحرب وفرخت مسوخاً تجنح إلى الاغتصاب. تبتعدين مع بغالك الدامية متحالفة مع صمت التلال وخشونة الطقس المتقلب عبر سراديب الصحراء كأن مساً من الشرود أصابك. أرسلنا خلفك المراثي والتراتيل لكن دون جدوى. أين تذهبين؟ أينما تذهبين يحذق بك صغار الثعالب وبين أسنانهم الشرهة يترذرذ لعاب الفتك. من أجل بربري متجهم الوجه، شرس الطباع، أهملت واجبك وضحيت بنا. إقتفيت آثاره. علامتك: ندوب في وجه الأرض حفرتها نباله الرهيفة. عجبنا أن تذوبي شغفا بمحارب يهوى النزال وسلخ شفاه العذراوات. أي نجاة لك وأعاصير الإبادة تداهم خصلاتك بعد كل خطوة؟ عندما يموت المطر بين ذراعيك تصيرين أرملة، لكن عندما تموت البيوت سوف تترنحين هائمة بين الأضرحة.. مفقوءة العينين، ولك رائحة الخجل. اتباعك البرمائيون- النسل الذي انتحل فيما بعد أشكال المسوخ- ناوشتهم الأشباح (موش الحروب السحيقة) عند مفترق الطرق. كانوا ينظرون في ذهول إلى الطرقات وقد تكورت مثل القنافذ. "حينذاك رفعوا أخفافهم متضرعين أن تنفخي كي تدلي الأمطار سلالمها. بعد قليل من اليأس، انشطر الاتباع إلى أحزاب وطوائف، كل طائفة مضت في طريق حبلى بالمتاريس والأسلحة. عندئذ اجتاح الرجس الأدراج وذرفت الأفاريز دماء طرية لأطفال لهم طعم الفاكهة.

الضحية :

أتكلم- أنا الطائفي الجميل- عن أعياد آكلي لحوم البشر. - أراك أيها الكولونيل تخرج من ثكنة وتدلف مستعمرة دون أن تكترث بي او حتى تلتفت نحوي مومئاً. انتظرك هنا منذ ساعات كي تدخل بيتي المتواضع لتحدثني- بالفرنسية إن شئت- عن تاريخ بلادي، وأحدثك عن الطوائف التي تتنزه مع كلابها في حلبة المدينة ليلا وتتراشق بالرصاص كل صباح. هنا، عند المدفأة، أريك ، أي فاشي جميل خلقت مني.

القاتل:

يا سيدة الصبر يا الغائبة في مدى الأرض بعيدا عن أنظارنا نحن الشعوب المنذورين للكوارث، بودنا أن نطمس بقايا خطيبك البربري في ترجعي إلينا وتحرسي عن كثب ضماداتنا. نفتح أنقاضنا كالجراح لتشهدي مسرى الآفات. آن لك، آن لك أيتها القابلة أن تلملمي الضغينة بيديك الرؤوفتين. لا مجد لنا. أن تلملمي فيالق أتباعك البرمائيين وترشديهم إلى أنفاق تهدئ من سعارهم. خذيهم بعيدا حتى يتسنى لنا أن ندفن موتانا. ويل لنا إن تأخرت عاما آخر.

الضحية:

والنساء الصبورات- حاملات الدلاء الصبورة- كن ينتظرن عند مساقط الشلالات القاحلة هبوب الماء. أيتها المعمرات، قلت، إنتخبن واحدة تمشط شعري قبل هطول الشتاء وأخرى تبيح لي وركيها. بدلا من ذلك، لذن بالفرار. على الجسر وقفت أحرس حاجز العبور أشعل لفافة وأرمي الأعنة إلى غزالات هائجة ترفس أطراف النهر. كننت الطلقة الملتهبة، المليئة بالحقد دونما سبب. وجاءت صديقتي، التي التهمت ذات عشاء جانبا من ذراعها، وسألتها إذا كانت لا تزال تطلي جسمها بالصمغ كي تحمي نفسها من هجمات المسلحين. قالت: رافقني إلى البستان. مضينا رافعين مظلة تقينا وابل الرصاص وانزوينا في ناحية شحيحة العشب. تناجينا ثم قبلتها. وجاء ملاكان أخذاني إلى باحة مهجورة كانت في الماضي روضة أطفال، ورويدا بدأت تزدحم بمسلحين من مختلف الطوائف وصرنا نتقاتل، وعندما تعبتُ خرجت- يضيئني الدوي- أفتش عن مظلة أنام تحتها. وإذ كنت ألتمس الراحة، إندفعت نحوي الأشباح الكامنة وراء النصب التذكارية وأحاطت بي، فعلمت أني المؤهل للإمارة وأني الأمير المختار وما همني أن أكون بلا جمهور ولا معاهدات.

أقول لك هذا لتعلم أي سفاح جميل خلقت مني. واذكر أني اغتصبت فتاة كسيحة وأحرقت جثة. اذكر أني أكلت ذراع أسير. وعندما اكتظ جسدي بالخطايا، آوبت إلى كثيب وبكيت.

هكذا ..

حول المائدة يتنزهان، يطويان الحاضر ويتقاذفان بالذكريات. وحين يباغتهما الضجر يتبادلان الأدوار.

أكتوبر 86

3 - للماء الناسك

صاح الشهيد بأعلى صوته: قطرة ماء لأجل هذا الرضيع.

يجيئك السهم الحي يا الرضيع المخلوق بلا ذاكرة. بدقة وإحكام : في النحر الأخضر المتغرغر بحليب كلسي. وسوف تعود موحلا مثلما أحفادك، عبر أجيال من العطش، في هذه المفاوز التي تسمى أوطانا. وسوف تكون المبكى والمأتم و- في هذا النص- الرمز الذي لا يرمز لشيء.

وكنت. أنظر أحفادك البشريين يعبرون الشارع مكسوري الأعناق ليلتحقوا بأحيائهم الآفلة. يخرج من بين صمتهم قتيل، قتيلان، أو اكثر. كيف لا ومداهمات الخيالة تزداد عنفا وغطرسة. وأنت. يجملونك بالدم غداة مولدك المرصوف بالنحيب حتى قبل أن تمتحن طراوة مهدك، حتى قبل أن تخترع لغتك وضحكتك المميزة. أتجمل بالكتابة كي اكتب عن أيامك التي لم تختبرها. أنا الذي خذلته عيناه أناشدك أن تكون البؤبؤ المغامر، الذاكرة المعبدة بالمراصد كي أرى.

قدني أيها الرضيع عبر الميادين المتشيعة حي!ث تتجمهر المظلات السوداء، الأغنام الحكيمة، الفتيات اللائى يزين أهدابهن بزمرد المنافي. حيث أقنعة المخبرين تسرف في التدفق بين رخام الأعمدة الأكثر علوا من آهات أمهات ضاعت فلذاتهن في أقبية التقويم. حيث البراءة البغي تعتقل سيدها وتمعن في إذلاله. حيث الأفيون الفقيه يسرج الأرياف بفروض الرثاء. لهؤلاء جميعا أقول إني حامل النشيد الممجد لسفر الأحجار.

ثقتي بكم لا حد لها
لكنكم خذلتم دمي.
هكذا قال الرضيع.

وأنت، يا من لا وصف له، نزحت مقتفيا موكب الماء الراهب تتبعك عشائر النجوم بحقائبها الملآى بالساعات الرملية وبأحجار العصور. تلك آبارنا المالحة، يا الرضيع الملكي، وتلك ضرائبنا وقبراتنا على شواهد المدافن تغتسل بدهن الانقراض. لا تقل بعد هذا أنك الشهيد الأنقى إبن الشهيد الأنقى. أستحضرك زائغا ونحرك البهي يتقطر حمائم وجوقة ملائكية تلاحق أجراسا ملائكية لتحل ضيفا في سريري. معأ نستطلع كيف صار حال المؤسسات المتعفنة، شاشات العهر، ثوار الكلام يسار المقاهي، الجرائد الملقحة بالرشاوي، الحشد المصاب برهاب الاحتجاز وكيف صرنا لا نبالي بالجريمة. اقبل بلا شائبة لأجعلك الرمز الذي لا يرمز لشيء، ولأعلن للجميع أني محبرة اليأس وان حديثي حديث حالم.

أكتوبر 86