خلف أحمد خلف

تطامن منه الرأس و زاغت العينان فيما كان الخدر يصعد إليه من قدميه اللتين انعدم فيهما إحساسه بالأرض ، واقف هو أم محمول ؟ خدر يحس سريانه كسائل يملأ وعاء ، ذراعاه لا زالتا تطوقان صدره و تمنعان طوفان الأجساد عن اختراقه و هرس قفصه الصدري و طحن قلبه الذي تسارعت خفقاته ضاخة دفعات دم متتالية في محاولة مستميتة لتغذية دماغه بالأكسجين و الحيلولة دون حدوث (الصدمة ) و دخوله في غياب الوعي .

تنفس بإجهاد و اقتصاد و استدعى كل حصيلته في الإسعافات الأولية التي يعرفها ، و واصل تجذيفه يصد عنه كتل الأجساد التي يتداخل لحمها و عظامها وأعضاؤها و أنينها و لهاثها و بصاقها وعرقها و صرخاتها الخرساء و توهان نظراتها بتوسلات لا مجيب لها ، سانداً ظهره إلى الجدار بقوة رافضاً التزحزح من موقعه ، حيث من حوله تتهاوى قامات و هي تدور حول نفسها منزلقة إلى الأسفل كما لو دوامة تدومها تشدها تسحبها فتنفلت الأيدي من عقال الأيدي ويختفي أمام بصر الأحبة أحبة بالتياع موجع يائس و يستعر النفس تنازع مرير بين حب الآخر و حب الأنا ، بين مد يد العون اللامجدي و المهلك ، و بين تسوير الذات و الاستبسال في الدفاع عن بقائها منتصبة واقفة مغروزة مصلوبة ..

موجات تتدفق تتلاحق تتلاطم في مدد لا ينضب ، تنعصر و تصهر و تنصهر الأجساد فيها ، و تتشقق الثياب و تنسحق و تتمزق و يبزغ العري من بينها ثم يسطع وينتشر و يعربد فلا تقوى عليه مقاومة و لا ترنو إليه التفاتة وسط هذا التراص والتلاحم اللاحم، إلا هو الذي يعي عريه الآن رغم كل ما فيه ومن حوله و من بينه تندلق كتلة لحمية لا هوية لها تنطلق مخلفة على أضلعه مواضع مواجع المزاحمة فلا يقوى على متابعتها ، بالكاد يتنشق نفساً مثقلاً برائحة الاختناق ..

هلع و فزع و صراع دائر من حوله ، و رجل عظيم الجثة بالقرب منه تعتريه هستيريا مفاجئة يحرر ذراعيه الضخمتين المعروقتين فيهوش بهما دافعاً مبعداً عنه بلطمات مدوية دموية الأجساد المحيطة به فيما تتلقى الوجوه صفعاته القاتلة بعضها باحتجاج ضاج عاجز و بعضها باستسلام و انصياع صامت فتتكاثر من حول الرجل الأجساد المثقلة بالموت والإغماء و الانهيار فيخور هائجاً رافضاً حتفه الماثل و هو يعتلي فراشاً من الجثث ممدداً جسده عليها مجاهداً بضراوة المحافظة على توازنه فوق أمواج اللحم المتكسرة المتهالكة التي سرعان ما انهارت و انفتحت من جديد دوامتها تحت الرجل الذي بدأ ينزلق فيها رغم تشبثه بما يعتليه ويحيطه من أجساد غدت رخوة لزجه بنزيفها و شهقات نزعها الأخير ، ينتفض الرجل انتفاضات عنيفة يلوح بذراعيه لاطماً هذا و ذاك فتناله هو المراقب المتمرس بسكونه و جلده لطمة تدمي له شفتيه فيكاد يفقد وعيه فيعاود أخذ نفس عميق هادئ و هو يشهد ذبول الرجل و هموده ودوامة الجثث تحف به و تغيبه في ثناياها الآدمية . ..

يغالب رغبة الاستسلام العارمة التي تدمدم في أوصاله المتعبة المخدرة ويشرأب ملتفتاً متطلعاً إلى الاتجاه الذي لازالت تتوافد منه الجموع بلا انقطاع متعاصرة متآصرة، مسوقة مجروفة بشهوة الالتصاق و الانسحاق ، يدير وجهه بالكاد نحو الاتجاه المعاكس فإذا برائحة حبيبة للقلب مسكونة في أعماق النفس مغرقة في دهاليز الذاكرة العتيقة تلفحه و تحتويه .. وجه من خلف الغمام يستبين و يتشكل رويداً حتى يشعّ حضوره و يتسع وجوده ويغيّب كل ما عداه فتنفتح دروب الطفولة على صوت أمه و هي تحتضنه ، تشرع له صدرها يهمي على ثديها الذي ما شبع من حليبه قط و لا انفطم ..تمسح بيدها الحانية جبينه و تمسد خصلات شعره مترنمة بتهويمة خالطها الأسى منذ أن رحل عنها الزوج ، و تيتم الابن ..

يرفع ناظريه ليتملى من وجهها الحبيب فإذا هي زوجته فيخاصرها ويطوقها بساعديه مرتعشاً بريح إلهية و لذة مفعمة فائقة يستشعرها حين يكون في حضنها ، لاجئاً إليها من العالم ، خالعاً ملقياً على أعتابها ثياب همومه ومشاجب كدره و دفاتر شواغله ، مستدفئاً بأنفاسها مستظلاً بوارف أعضائها مستبرداً بشلال عطاياها وحناياها ، مرتحلاً أبداً إليها متوحداً فيها .. فما أن يهم بتقبيلها حتى تتناءى عنه الوجنتان و الشفتان و تتماوج هيئة الوجه فينفلق عن ابنته بهجة مهجته و خفقة فؤاده و نشوة وجوده و تجسد أمله وتفاؤله و مرآة مستقبله و عنفوان حياته ، فيرتجف فرحاً وحبوراً إذ تلامس أناملها دقيقة التكوين وجهه ، و تجتاحه طمأنينة غامرة عامرة : أن لا شيء بعد الآن يهم ....

ينتبه على صوت الصمت السائد ، يلتفت حوله فإذا بالمكان خال تماماً من غيره ، مقفر من سواه على امتداداته في كل صوب ، يحاول أن يمد ذراعيه فيصدم فراغات مليئة بالأجساد التي غادرت و بقيت أمكنتها مشغولة بها ، يتلفت فإذا تحيطه و تلم به من كل حدب حدقات مشرعة بنظرات استغراب و دهشة وفضول و استنكار واحتقار و ازدراء و ريبة و اتهام و سخرية وإشفاق واشمئزاز و غضب ولا مبالاة و لا رؤية ، و إذ يعي عريه الفاضح يطأطئ برأسه هارباً متجنباً النظرات المحدّقة به ، مفكراً أن يتكوم حول نفسه و يتكور كالجنين ، يلحظ كتل الأجساد ملمومة في الجزء السفلي من الساعة الرملية العملاقة التي تحتويه و إياهم، و الدوامة تحت قدميه ما زالت تدوم دائرة فاغرة فاهها بانتظار سقوطه فيها .. يستجمع قواه و يفرد ناشراً ذراعيه بعزم كما لو كان سيطير ، فيسمع صوت تحطم الزجاج ...

البحرين

فصل في راوية لم تنته
من كتاب (فزنار)

شاعت في خياشيمي الرائحة التي أحب، رائحة البحر، انحنيت أقبل رمال الشاطئ (هل يبدأ البحر من هنا) ضحكتها الجذلى عند مؤخرة
عنقي أيقظت على جسدي آلاف الحبيبات. لاحظت في الصباح آثار أقدامي ذاهبة في اتجاه البحر ولم أرها عائدة فتوقعت رؤية جثتي حيث انتهت الآثار، تراودها الموجات. مشيت في محاذاة البحر، مشيت بجوارها، اعترتني الرغبة، سحبة من يدي وهروب فجاءت كلها في حضني، ضحكتها صافية اخترقت السماء الخالية تماما من الغيوم، عبثت يداي، صرخت: - ماذا تفعل؟ - أريحك منه. - ليش الآن. - لم لا؟ بدا أنها لا تملك ردا فتضاحكت، فقط تضاحكت ثم قامت وأخذت تجري مبتعدة، أصبحت تناوشها المياه حتى ركبتيها، تأملتها لحظة ثم قمت. هي قذفت بفستانها وكنت أعلم أن لا شيء غير فستانها، فخلعت

ما ألبس ورحت أركض، البحر يحتو 3صا، يحتويني، الشمس في المغيب تخالسني النظرات المتواطئة، (قال لي الأبعد: قد لا تطول بك الرحلة، س عان- ما تضيق بالأوضاع هناك، أنت لم تخلق للمشقة، ستود لو تقدر لك العودة- يصمت لحظة- أنى أعرف عنادك، قد تصر ولكن ستبقى تعيش على أمل الفكاك.. آه أيها الأبله، أين تكون الآن)؟ أمسكت يدها وسحبتها، هوووب، جاءت كلها في حضني، ثدياها صلابة لينة ينسحقان على صدري، وتتناثر على جسدي تلك الحبيبات الإلهية، في كل مرة ارتجف ارتجافة المرة الأولى. تراخت وتركت لمياه البحر، الذي تحبه هي أيضا، أن تطفو بها، راح جسدها يخرج فن العمق، بياضه يبين، يشع، فيغشى عيني الذاهلة، بدأت تعلمني ما أفعل: - فقط عليك أن تثق بأنه لن يغدر بك، كما يشاع عنه. صاغت لي يدها وسادة فراح جسدي يخرج من العمق.. (انتساب في درجة اليأس ليكن، لم تكن الثورة إلا في آخر سلم أولوياتي ليكن، يأس أخفر هو، ويبقى السؤال ما هو فعلي الآن، مع من أقف!، وهذه الثورة من هم وقودها)؟ . كركرت ضحكا وتملصت من يدي المشبكتين حولها طوقاً، وراحت ترشقني بالماء، تصفعني به لكني أتقدم، توقفت فجأة

وأشارت لي أن أهدأ، سمعنا هدير طائرة قادمة، خرجت أجري من الماء إلى أقرب كهف، صرخت بي: - لا تخرج من البحر.. لا... لعلها قالت أكثر، لكن هدير الطائرة ولهاثي.... ركضت، ركضت، تعثرت بثيابي الملقاة وانكفأت على وجهي، دخل الرمل خياشيمي فالتهبت مرحبة به، سمعت صوتها (كانت تكركر ضاحكة ويدي تعبث) قريبا ظلها يمر علي، وجه الطيار الذي لا أراه يضحك وهو يرى انكفاءتي، يدرز الأرض بالرصاص فتمر الدرزة على ظهري، انتفض مرات ثم أسكن، تسكن كل الأصوات من حولي، حتى كركرتها لم أعد أسمعها (بدا زبد البحر يجمع زهراته، يفرشها قاربا أركبه، لا بأس إن كان مصراً على أن يحملني ويتجه بي صوب الجهة التي أهفو، يد الشفق المستكينة على طول الأفق أشعرتني بالأمان هكذا لن يستطيعوا العبور مثلنا، زبد البحر أخذ يرغي مشيرا، نكست له رأسي فراح يغسلها فجاء الصمت وأطبق على ذرات الرمل والموج والصخور وفتحات الكهوف صارت أفواه! للدهشة، لاح لي الخاطر ثم ترسخ: إن هذا العالم لن ينخدع بعد اليوم، لن تنطلي ا لأكاذيب والوعود المعسولة، وأن النيران تحرق كل حبال التدجيل، اطمأننت إلى هذا الخاطر، وأغمضت عيني المغمضة).

تجيء قدماها هسيساً حبيباً، تقف عند رأسي، تنحني، تمسح بباطن كفها على صدغي الملتهب فيهدأ، أرفع لها عيني فتمد يدها (شهقت لمرآى حمامة تهدل بحزن في القرب) قمت، التفت إلى حيث كنت منكفئا: لا زالت هناك ثمة جثة تشبهني، لا أستطيع الجزم إن كانت جثتي، فأنا لم أر نفسي منكفئ! من قبل، لكنها لم تعلن الدهشة وإنما التقطت يدي المدلاة وبدأنا نمشي، تاركين الجثة مكانها دونما التفات، ويحتويني رويدا، ولكن بتصميم، إحساسي بالقوة، والصفاء، واللاتناهي، أحس أن جسدي تقشرت عنه بشرته الأولى واكتسى بشرة جديدة، فآخذ يدها وأمررها على جسدي لتشاركني إحساسي بالجدة الفائقة التي لبستني.

خلف أحمد خلف
    اللعبة - مسرحية - وزارة الثقافة و الاعلام - بغداد -1982
    العفريت ووطن الطائر -مسرح أطفال- اتحاد الكتاب العرب- سوريا- 1983
    فيزنار - قصص- دار الفارابي - بيروت - 1985

يناير 1976