عم ظلاماً أيها الحجر

نعيم عاشور

إلى الحبيب فريد عاشور

كيف تسنى لك الدخول في الهدوء
كيف تسنى لنا الهدوء
هل كانت الدهشة في اسودادها
أم سويداء القلب في اندهاشها ؟
ريما، و ربما لا ،
فلقد كنا نرقب نبض القلب ونغفو قليلاً على أحلامنا،
علّ هشاشة اللحظة تغفو مثلنا.
فلا نراك إلا رائقاً مثل الماء
أليفاً مثل همس
كنا نداعبك متدارين بعجزنا، فتفضحنا ألوان الكلام.
كنا ولا نزال،
وذهبت أنت في سيد الألوان كلها،
وحيداً وفريداً ، مثلما ....

29 فبراير 1996

وحده المحب عاجز عن الكتمان
نون عين

الدخول في مرايا المطر ..

مسترخ على أريكتي وفوقي مظلة .. ملتف بعباءة وثيرة وحولي فضاء بسعة ذاكرة شبقة . مسترخ وأمامي شاشة تومض بالفضة والآلام .. مسترخ والزمان يمر أمامي ساحباً جثثاً وأشلاءً وبعض دماء .. ومطر .

مطر يشخَبُ . يحفر في المظلة صدوعاً فتأخذ رأسي .. تأخذني في تمتمة الشخيب ، وتشيلني على ترهات وجيب القلب ...

يا قلبي !

يا قلبي الذي يبتل بماء يجيء نقاطاً مضيئة كأغنية لها في الجسد مسارب وشقوق ،

فأريد ولا أريد !

ولها في العينين قنوات ، فأتدفق في راحة صقيلة ، وأقرفص وسط أنامل مفتوحة كوردة تمتص رحيقي ،

وقوارب فضة تعبر من أمامي : أقمار في موج الضوء تتقاطر في رأسي ، وحليب مسنون الغبطة يتقطر في حلقي .. تتحلق قطرات الماء الفضية ، وينشنش مصهور الفضـة في منقلـب العالم فلا أدري : أيام تمضي ، بل تجري ، وقطرات الماء الآبق تتلصص من قلبي ، على قلبي ... تكسر قلبي ، تنحتني ، فكأني ، وكأنها ؛
سيد الصبح
وإزميل الحجر !

الدخول في مرايا الأسئلة بصحبة ذات الأسئلة ..

من ذا الذي سيداهمه الفرح فلا يفرح ؟

تخيّلي ؛ أن أصابعك المرضوضة بالفرح تضغط على أزرار التلفاز فتندلع الشاشة الصغيرة ، فإذا أنتِ هناك ، في داخلها صغيرة صغيرة وبلا ضفاف ...

ثم تخيلي أنكِ تبتعدين فتبتعد الصورة عنكِ . تقتربين ، فلا تقترب . تظل بعيدة هناك حيث كل شيء بلا أستار ولا علائق ، لكنها واضحة كل الوضوح : أنها أنتِ أنتِ وليست من تشبهكِ .

الفرق بينكما ، أنها هناك بينما أنتِ هنا .

وحتى لو أطفأتِ التلفاز ، ستظلين هناك ، معلّقة مكشوفة ، منزوعة القدرة على الاختباء ، وعلى التنامي في ظل زاوية مكنونة ، أو على إلتماس العزلة والأصابع السرية التي تفتّق في ظلمة الروح ، ينابيع الفرح ...

تلك هي السعادة التي طاشت أو تكاد تطيش الآن !

تخيلي ، وأدخلي معي في خبايا الجنون ..

لا !

فأنا هو ذلك الآخر ، الذي يخرّب نمنمات الطريق فينزلق وينزلق حتى الانمحاء ..

إذن ، أدخلي وحدكِ ، وسأدخل وحدي ، وإذا ما الـتـقـيــنـا ، أديــري وجـهـكِ وسأديـر وجـهـي .. حـاولــي ألاّ تلمحيني ، وسأفعل الشيء ذاته .. سنكتسي بالغبار حتى تنقطع بنا السبل ، ثم نلتفت معاً في ذات اللحظة ، فلا يرى أحدنا الآخر ، وينبثق من تعبنا ذات السؤال ...

السؤال الذي يتعلق بالآخر دائماً .

ذلك الآخر الملعون المبجّل
ذلك الذي كأنه ليس فريسة .
ذلك الذي يستدرك الجنون . يدركه . يعبث به . يدمره . فيصير الذات والآخر معاً ، ويكتوي بناره في زمان محدّد بحدود مبهمة ، بدأت بصرخة من بين فخذين متورمين وتنتهي في محفل من فجاءة .

في أنين مسكون بالخوف
في فرحة طائشة
في رعدة منسية

تخيلي ذلك كله ، وستكتشفين ، وتكشفين أغطية لا تخبّئ شيئاً . أغطية لا تعبأ بالسرية ، لكنها في السرمد تدوخ وتنتشي ، لأنها هي !

هي هي بكل دقة بغيتك التي تثيرين حولها دائماً نفس السؤال ؛ الخلود ..

وهي بغيتي أنا أيضاً ... بغية من يستدرك الجنون فيدركه ، ومن يرحل إلى أقصى الحدود حيث لا حدود ، وإلى الطرف الأقصى من النار ، حيث تموع الخلايا فلا خلايا ، وحيث يستحيل الكون إلى ضوء متفلت يأكله الزمان الفلكي فتتكون صورة نقية غنية بماء لا شوائب فيه . ماء لا يتكدر ولا يضطرب .

الدخول في بوابة النسيان

لم يكن البيت واسعاً ، غير أن القميص كان مهلهلاً ومخرّقاً ..

تقمص جبران العمى السائد وإرتدى حلة من مسامير .. تلبدت رؤيته للأشياء بعتمة مستديرة وخانه الوقت المستطيل ؛ علّمه أن السراب حقيقة وأن الماء كلّ شيء ، أما المجرّة ، فلم تكن بعيدة عن متناول يديه . نظراته كانت قلقة ، وكان قلبه نهشاً للدقات الخائفة . أفرغ حقيبته وخلع قلبه ، وتهيّأ للهجر وزيوغ البصر : كانت اللعبة أن ينسى . أن يسحق مواطىء الماضي ، ثم يقفل عائداً من طريق لا وجود له . كانت اللعبة أن يبدأ من وهم ، وأن يجوس في وهم ، ثم يعود واهماً مجندلاً باللاحقيقة ، ومحفوفاً بكوكبة من الأوهام الراسخة ...

الرحلة طويلة ؛ إذ هي تبدأ في النفس ولا تنتهي إلاّ بضياع النفس .. وحده ذو البأس ، سيستطيع عبورها إن هو تجلل بالنسيان ، الشرط الأوحد والوحيد ...

أن تنسى وأن تستقبل ما يأتي ، بالإمعان في النسيان . أن تهدر في صمت منسي هو الآخر . لا أحد يرنو إليك ولا ترنو إلى أحد ... بل تنسى الآخر والنظرات . ولا يجوز لك التظاهر أو الإدعاء ، بل فعل النسيان الساحق الماحق والتحول إلى البياض .. إلى الأصل .. إلى المبتدأ الذي بلا بداية ، لأنك من هناك ستبدأ الرحلة مُفرّغاً من الذكريات ومن خيالات الوجوه الحبيبة ... من خربشات الأظافر الطرية ودغدغات الأنفاس اللاهثة ...

وهكذا ،

قسوة ناصعة البياض . انسحاب كلي إلى الكلي العدم .. ثم تبدأ مسيرتك دون أطراف أو ملامس ،
ودون آذان أو أعين . كأنك كنت أعمى منذ البدء ، لتبصر في النهاية ما لا يُبصر وما لا ينبغي أن يُبصر . من العماء إلى العماء وما بينهما ماء لا يُجتاز ولا يَبلّ الصدى ولا يؤذن إلاّ ببدء خالٍ من الأحباب والزوايا الأليفة والذكريات التي ستغدو مائعة باهتة تستعصي على الثبات .
وآنذاك ، ما عليك سوى أن تؤمن بأن الدائرة هي أقصر المفازات لبدء رحلة كهذه ، ففيها دوار للدماغ وإعادة ترتيب لخلاياه ، وفيها طرد لفلول الذكريات وإعادة صياغتها من جديد ، أو قذفها خارجاً في اللامكان ؛ مثل انقذافك أول مرة في رغوة الأبدية وجفاء الزبد ... وأن المكعب وسط الدائرة هو أكمل الأشكال . إذ كيفما قلبته ، لامستك أطرافه . وأينما نظرت إليه ، دار معك بفعل مغنطة العيون التواقة وضربات مئات الألوف من الأقدام العارية التي يأكلها الحنين .
وعندئذ ، فقط عندئذ ، سوف تلامس كل أطراف الكون ، المنسية والحاضرة ، إذْ ها هو اللاممكن يغدو ممكناً ، وها هي الجدران العتيقة والصخور التي تشوبها الخضرة وذكريات الدم ، والسواد ... تدحضك وتشكك في قدرتك على النسيان الذي هو شرط الرحلة الوحيد . كل هذه الإشارات سوف تعيدك إلى الماضي وتستحوذ عليك باستيهامات وهواجس تبلبل الأمنيات في قلبك وتنتئ الأفكار في دماغك ، فتحرضها على تمزيق ستارة النسيان أمام عينيك ، في فضاء لا يقدر على الخيانة ويخون ، لتصير عارياً أمام ذكرياتك وحسراتك .

ثم تبدأ الدوران من جديد . تحاول عبثاً أن تهزم الذكريات . أن تخلعها كما خلعت ثيابك . أن تنسى جسدك الذي يحتك بك من كل جانب . أن تتواطأ مع روائح العالم كله . أن تصرخ ؛ خذوني ! قيدوني بصمت اللاوجود ! إضغطوا على لحمي العاري وأذيبوني في عرق لا هوية له ! صيّروني فكرة منسية ، ثم الصقوني على جدارٍ ، بضعةً من دم ، قرباناً لصيرورة لا تصير !

كنت تود أن تقول ذلك وأن تصرخ ، لكن صوتك كان ضائعاً منسياً ، رغم أنك ما تزال تتذكره بكل تفاصيله : .. دفء يتغلغل سماعة الهاتف ، مغموس في حزن وحشي . وعلى الطرف الآخر أذن بيضاوية صغيرة ملهوفة ومشتاقة لشبق ذكوري مدجج بكثير من الذكريات ، لا النسيان . وحين كان الوقت يتمغط وتعرق يدك القابضة على السماعة ، تنسى أن لك يداً أخرى ، وأن كلماتك الصاخبة إنما كانت تحفر في الجسد الصغير على الطرف الآخر مسارب لذة خفوت تفعل فعلها في صمت وسكون مبجلين ..

تود لو تصرخ وتفعل ، فيضيع صوتك كما تضيع روحك ، وتئز الشمس عمودية على رأسك فتبدد الأوهام الكبيرة الحقائق الكبرى ، وتصطلي روحك المعذبة منذ إبتكارها ، بعذاب أصيل يذكرك بالعيون الصغيرة التي ودعتك . يتفصد الدمع من عينيك ، وتتجلّى الوجوه الحبيبة أمام ناظريك الغارقين في سخونة مائهما ، كأوضح ما يكون ... تعالي أُعانقكِ .. تعالي أحفر الذكرى في هذا الرأس العنيد قبل أن أبدأ رحلة النسيان . تعالي ألمس الأعضاء الطرية ، وأشم رائحة الجسد الذي جعلني عبداً للذكريات وألبسني حلّة الرحمة والشوق بكثير من العذاب والتوحش .

غير أنكَ وحدكَ من يدنو ووجهك غارق في توسلاته : إختبىء ! تظاهر باللامبالاة ، واحذر كي لا ترى قبرك مفتوحاً وروحك هشة طائرة ، حائرة ومقبلة على مزيد من الضياع ...

فأنت ما أن وطأت قدماك قلب الشارع ، حتى باغتك السواد فاستسلمت وقبضت على قلبك المدمّي .
حاولتَ أن تقذف به من نافذة السيارة المسرعة . قلت له ؛ إذهب ! إبق مع تلك العيون الحبيبة . عانقها وإمنحها شيئاً من رائحتي وشبقي في محبتها .

وقبل ذلك كتبت وصيتك . قلت فيها ؛ أما أوراقي ، فأعطوها لذلك الحبيب . سيتذكرني . واثق أنا من محبته . سيبكي ! لا بأس ! لكنه سيتأملها بكثير من الحنان ، وسيحرص على ألا تسقط من بين يديه ولا من قلبه .

كتبت كل شيء ، واعترفت بكل شيء . لم ترد لأحد أن يشقى من بعدك ، غير أنك لم تجد دواءً للحنين . هززت كتفيك وإمتلأ حلقك بالدموع ، وقلت لنفسك ؛ سينسون ! ثم سطع في ذهنك فجأة كومض البرق ، مغزى أن يكون شرط الرحلة الوحيد هو النسيان !

وهكذا ، كان حتماً أن يستمر الدوران ، وأن تظل السيقان الزيتية شاخصة شاهقة ، مشهرة عباءتها وكاشفة عن لطخات من الأسى واللوعة ، تتحسسها أنوف وشفاه وأصابع متوفزة مغروسة في الحواف ،
ومعلقة في الجدائل المرخية ، ويظل الأسودُ مصقولاً مجللاً بالفضة تتلاقفه الأيدي ويكتسي بالعرق الصبيب ، فيزداد الدوار وتزوغ النظرات ، وتسبح في لحم طري ودم . أما الأبيض من تحتك ، فقد كان زلقاً رجراجاً ، وكان الصوت كتلة واحدة : .. خطاب آبق متشرد يلملم شعثه فوق الرؤوس اللائبة مشكلاً نصوصاً طلسمية تحار في قراءتها وهي تنثال سريعاً كسيّال من حمم ثقيلة يكتنفها دخان ورائحة كبريت ...

تقول ؛ لبّيك أيها المطلق ! أغثني من ذاكرتي ، فتأبى روحك النسيان . عنفوان اللحظة الحاسمة يبتعد . يفر من بين أصابعك ويتفلت من قلبك ، ثم يتمرد عليك ويسحقك سبع مرات ، فترى إلى السحر ذليلاً غائباً وقد عقد يديه خلف ظهره ووجهه ميت الملامح لا يحمل من قسمات سوى الهباء وقسوة اللامعنى !

دوران ، دوران ، دوران ...

تُمعن في التذكّر وتُعاند إعادة الصياغة . تركض هارباً بين قمتين ، ويُحاصرك الجحيم من جميع الأركان . تصرخ في الفراغ الملىء ؛ هلمّي يا طيور أنقري قلبي ، أنقفي حدقة عيني ، أزيلي لبابة روحي ، علقيني في خيط لا يُرى ، وادعي الجوارح إلى مأدبة هزيلة من الألغاز والأسرار ...
دحرجيني في هاوية من صراخ هادر لا يُصغي إليه وزمزمي .. شدّي إليك يدي وداعبيني ، فهنا مكمن اللذة ، هنا المطلق ! ثم استبيحي جسدي المجنون . اعجنيه بعمود من رخام صقيل ، وانشريه قرطاساً لنص أهوج خطابه النسيان .

الزمان مدى واحد ممتد من ظلمة إلى ظلمة ومن نـور إلى نـور ، والقـلـب سابح في لـجـّـة من الـدوار والضجيج ، وكان حتماً عليك أن تخـرج من حمأة الجسد ، من جلبة الأعضاء ، ومن أتون الرغبة وتوهج الخلق ، إلى عذاب المعرفة .. إلى الشمس المقدسة .. إلى نقطة البدء التي ما أن ينصب أوارها في جوفك ، حتى تكتشف عريك فتمعن في مزيد من الغياب .

غير أن للمعرفة قربـان يُجتزّ من خـلايـاك المشرّشة ، ومن انصهار روحك في قلب الحريق ...
فأن تعرف ، يعني أن تكتمل دائرة النسيان . ولكي تعرف لا بد أن تدنو سريعاً لتهبط روحك قبل انقضاء الوهج ، وإلاّ فاتك أن تعرف أنك كنت تعرف وأنك كنت قد اصطليت بلهب المعرفة منذ زمان بعيد ...

لهذا السبب ، لم يطرق الذهـول شعر رأسك المشعث ، ولم يهتز بدنك المتهالك ، عندما ولجت موقف اكتناه الأسرار وفك الأحاجي ، لكي تتم الدائرة .

ولهذا السبب كان القلب ضجراً ، عندما كان النور المتساقط يراوغ العقول المفتوحة على الفراغ ، وكان المكان المحدد بعلامات ومفاتيح ، قمعاً هائلاً ، والعقول كانت غرابيل .

وفي غمرة اليقين الرجراج ، تلفتّ حواليك ، فوجدتَ الذين يعرفون لا يكترثون ، والذين يكترثون ، لا مسارب للمعرفة إلى عقولهم : ذات البؤس .. ذات الغياب منقول بكلماته وحروفه من محفل الأرض إلى محفل السماء . أما المعرفة ، فقد كانت منيعة محصنة في عليائها ، تقصر عنها أذرع المنسيين وتطالها أيدي المدهونين ، والمحبويين بقدرة مذهلة على النسيان .
أنت وحدك ، اكتشفت عريك بالمعرفة الخالصة ...

أما هم ، فقد اكتشفوا ، بالمعرفة الأرضية ، مزيداً من السياط ، وكثيراً من صور البطش والعذاب ، فكان عذابك أسمى ، وكان بحثك عن معرفة ضائعة مبعثرة في فضاء غير محدد بعلامات وقيود ، أكثر دأباً وإخلاصا . أما البكاء المرير الذي تسفحه العيون المتضرعة المحدّقة في الشمس المتعالية تتوسل سبيلاً متواضعاً إلى سعادة زائغة ، فقد كانت تنطق به ألسنة شتى ، وتهتف بصبيبة أياد مضمومة تتحدث أحاديث مسهبة وهي تحفر في السماء الصافية قنوات كثيرة لخطاباتها ، تستحثها في ضراعة تشبه الموت كي تتوغل صعداً في السماء ؛ قبل أن تضرع الشمس أو تكاد ، وتعلق في شِبَاك الفضاء غبّ انقضاء الأجل .

كان الكل لاهٍ . كان الكل مشدوداً إلى خيوط الشمس الآفلة ، ومشغولاً بتدبيج الرسائل والشفرات ، وتدبير مسارب الوصل قبل أن تصرّ مغاليق الأبواب وينقطع الرجاء .

أما أنت ، فقد كنت ترنو إلى داخلك . ترى إلى نفسك ممعناً في الغياب . يداك لا ترتفعان رغم خيوط النور الأخيرة التي تهزّ أذيالها معلنة قرب انقضاء الأمل . لاهٍ كنت عن أولائك الجموع .
مشغول بتنور كنت إختبرته ولم تزل ، والزُّهرة فوق رأسك تبرق وتومض وتناديك ، فتحلّق في قماش أبيض ، أعضاؤك منثورة كالهباء والأرض تحن إليك وتدعوك : رحم مخبول مكتظ بجثث لا حصر لها .. صراع ضارٍ تفوز فيه فيُكتب على جبينك أنك أوّاب وتواب يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الأرض كالعهن المنفوش ... وأنت مشتبك بالثريا ، وبنات نعش يخطن الكفن ويضمخنه بزيت حار يُقطّر من خشب مسحور ...

واجماً كنت ، بينما كان الذي بجانبك يدفع برغباته قبل أن تفور الشمس ، فتفور عيناه بدمع سخين . والظلمة تزحف سريعاً معلنة النهاية فيزداد لمعان الزُّهرة فوق رأسك المزدحم بالعيون الحبيبة ... بالطرقات المتربة ... بالضجر والثرثرة ... باليأس والتغيرات الهائلة ... بدفء اللمسات ، بالهمس الفاضح ، بالرغبة تطل من عينيك ، بالدم يدور في حلقة مفرغة ، وبالفزع من مجهول مخبّأ خلف ستارة هائلة لا ترى أطرافها ...

ثم يأتيك الأمر المسلول !

إصدح يا الضارب في البرية .. اقبض على أطراف الرؤوس الدائخة ، وقارع الحجة بالحجة .. امتطْ اللحم المنثور واسحق جسدك المبهوظ ... غِبْ في غيابة الحاضر ، و أشعل في قلبك ناراً مراوغة ... توشّح عريك وأطلق العنان لرغباتك الدفينة ، فأنت قاب نارين أو أدنى من لحمـة السماء المرسومة بدقـة والمشغولـة بعناية . اخلع نعليك وعفّر قدميك بحصباء مغسولة بتعب طالع من بؤس الجموع الغفيرة .. وببياض تراه من بعيد متشابكاً على صخور صلدة في جبل صغير ، فكأنما هو قسوة عارمة تسبق رحمة ليس لها منتهى .

آنذاك كنت أنت واقفاً على رأس الشارع ، تمد بصرك إلى البحر القريب ، فيما الأوز البيض يتطايرن في الهواء ويرسمن أشكالاً هندسية ، والرذاذ يشكل غمامة شفافة من نقاط زجاجية مضيئة ، والولد الصغير يقف قبالتك ويمد نحوك يده بعلبة العلكة ، فتضع يدك في جيب سروالك ، لتؤكد أنها حتماً ستأتي سـاحبة معها الشمس الدافئـة كحضن الأم البعيد المنال ، وعلى وجهها مهرجان من الفرح . انتظار لذيذ يدغدغة صفير الريح وأصوات احتكاك الأواني في المطعم القريب .. فأنت تعرف أنها لا تخلف موعداً ، وأنها تمنح المعرفة دفعة واحدة . يدك تندس في جيب معطفها وتقبع هناك دون حراك . وأنفك يحتك بقطيفة الكتف اللينة حتى يعلق شاربك الكث في تخاريم النسيج ...

البحر كان هناك ، وكان الشارع بحراً من الضياء والبهجة .. رائحة الإسفلت المرشوش بماء البحر تغزو شعر رأسك ، وتنتقل إلى مناطق الشم في دماغك مباشرة ... أنفك للاحتكاك والحيرة فقط ، ووجهك مخلوق للحبور والدعة . لا هوامش لليأس ولا كلمات ملعونة ، والوقت كله سجادة طويلة مشغولة من أبيض لين رحيم ، وأصوات أبواق السيارات نغمات متخمة بخمرة مقدسة تمنحك الدوار اللذيذ والسرور المجيد ... تتعالى ، كأنك هو . تتسامق ، كأنك الكون كله .

والدنيا كلها تقول لك ؛

دع عنك التنائي واقترب ، فلحظة الفوز دنت . نم في البرية والتحف بغطاء اللازورد . أخرقه بأنفاسك ، لترى الكواكب تحف بك من كل جانب . واهمس بضراوة ذوي البأس ؛ زلفى إليكِ يا مُنيتي ! زلفى إليكِ يا منيتي ! واترك لأعضائك الحرية كي تقوم قيامتها . وافتح عينيك جيداً كي تدوزن النبض الذي يسري في ليل يعجّ بالكائنات وبالشبق والروائح والمرح .. أطلق يديك لا تشبكهما خلف ظهرك ، واحذر لئلا ينتعل الحزن قلبك ، ففي هذه الليلة بالذات دنوٌ واقتراب نحو معانقة المرح .. في هذه الليلة بالذات تسري الأبـدان نحو بعضها في عربـات ممهورة بالتعازيم ، طافحة باللذائذ ، تحرسها الكواكب السكرى في أفلاكها ...

وها أنت تتذكر الآن ، أنك في تلك اللحظات من سريان النار ، كنت بعيداً . كنت وحيداً ، وكانت الغيرة تأكل كبدك . كنت سجيناً في فضاء يتدفق كالماء . كنت محبوساً في قبضة سبع نيازك صغيرة تتفلت أضواؤها من بين أصابعك ، وكانت المحبوبة على بعد خطوات منك ... تسحبك النار وتنخس قلبك الحصباء المسننة ، فتقسم أن تهرق دمها . أن ترصع جسدها بالحصى المنثور كله .. بشواظ النجوم الهاوية .. بانتهاكات جنونك ، وبسخونة الدمع المحبوس في زوايا العيون ..

(يا غوث أغثني ! ، ويا دم انتظرني لأسبح في مائك ، ويا منيتي هاأنذا أتدحرج إليكِ . أتوضأ بترابك ، وأدكّ أدكّ عظامي بين خشيتين ؛ خشية الاقتراب ، وخشية اللقاء) . لكنكَ في الطريق قبضت على يدها بيدك العطشى ، وركضتَ بها نحو حارسك المبجل .. نحو عبثك الباسق . كنتَ حريصاً على ألاّ تفلت منك ، أو تتفلت أصابعها الرخوة اللينة من حمّى جسدك .. ثم قذفتَ بالنيازك وأنت تهتف في أعماق قلبك المرتج : "قفي يا ابنتي .. إدني .. اقتربي مني .. لامسيني ، وادخلي عباءة جلدي" . كنتَ غير مصدق أنها قريبة منك ومتدلية عليك ، وأنك مدلّه برائحة يدها ودفء قامتها ! ..
كنت هائل السعادة كأنك التقيتها للتو ، وكان صوت النيازك وهي تنهال كالمطر على العمود الأصم ، شبيهاً بقرقعة الأواني في ذلك المطعم الأثير ، وكانت الأضواء شموساً صغيرة تفتك بالنعاس ولا تبالي ... حبور ينصب كانهلال المطر ، وغناء يغزو المكان الصغير .. جزر تتلاقى ، وينابيع عذبة تندفع من قيعان ملحها أجاج ..

وفجأة ؛ تطاير القسم الملعون وثارت الدماء وتعلّق اللحم النابض في كل مكان .. أصبح قديداً مشرّطاً بالسكاكين ومليئاً بالملح ، وكنت تقبض على التي في حضنك وتتقي الضربات . يمتلئ قلبك حقداً وكراهية وتنوس في حمّى الأبدان . تحاول كسر القيود العتيقة فتغرق . لا أحد يسمع صوتك ..
مقيداً كنت ، ولا يراك أحد . كلّ كان لاهياً بآلام جسده وبالخلايا التي تبغي الفرار ، وبوعود اللذائذ التي تنكؤها الأوهام ، وبالرغبات المتدافعة لحظة اندفاع النصل في النحر وانبثاق النوافير مقذوفة إلى أعلى عليين ، ثم وهي تندلق على الأرض التي دكتها الأقدام المتشققة وأنهكتها الأمنيات المستحيلة .

وتحت الطاولة المستديرة تلامست أقدامكما العارية . قلت لها ؛ سأقضي عليك هذه الليلة ! سآكل هذا اللحم الرجراج ! فابتسمت بعينين مغمضتين ، ودبت في عروقك أصوات قرع طبول مدوية .. كنت تتظاهر بالتوحش والقسوة وأنت ترنو إلى حضن عصيّ وثدي مليء بالحليب . كنت مذعوراً وأنت تلتقط السكين والشوكة بأصابعك المرتعشة ، وكانت هي شامخة طاغية تدمر فيك العنفوان والمقدرة ...

وحين خلعت إزارك ورنوت إلى جسدك المنهك الضامر ، تواريتَ عن عينيك ، وتداريتَ خجلاً من ذلك الذي أنت ، وأرسلت أصابعك المتشققة ضراعة إلى الزمن الغادر ... سألته أن يعيد إليك جلدك الغض ورغبتك العارمة ... ولكنك في تلك اللحظة ، أدركت أنك لم تكن وحيداً وسط الزحام . لقد كان هناك ، فأفضيت إليه :

"كنتَ شغوفاً به ومتعالياً عليه . كنتَ كلِفاً به وسئِماً منه . كنت مخلصاً له ومتمرداً عليه ، وكان هو يختبرك بالأسرار وينأى عنك حين يداخلك الفزع . كان واحداً ويتبدى لك في وجوه كثيرة ... كان أسيراً وكنت آسراً . كان شحيحاً وكنت معطاء ... أما الآن ، فهو سيد وأنت عبد .
تطؤك الأقدام الغريبة . وتدوس عليك النعال الغليظة عمداً لا سهواً ، وتقذفك الأيدي بملايين من الحصى المسنن فلا تفعل سوى الوقوف صامتاً ، صامداً يملؤك الكبر وتغزو قلبك ضحكة مكلومة ، وبين حين وآخر ، تفضي بالأسرار العظمى ، وتطلق الخطب والحكم ...

لك المجد أيها المتعالي . لك المجد يا من تسمعك القلوب لا الآذان . لك المجد يا الصابر والطائع والمذعن . يداك مغلولتان وفمك مغلق بسبعة أقفال ، وقدماك مزروعتان منذ الأزل وإلى الأبد . رأسك الشامخة تعلن السرمدية ، فيهفو إليها عجين من اللحم والدم والدموع ... أما أنا ، فهاأنذا أفارقك أيها المفارَق ، لأعود إليك بعد لثم أردان القارّة فينا .. المتلبثة في دمائنا ... أعود إليك لأصغي إلى خطابك وأزدهي بحضرتك الموغلة في الوجود ، المستعصية على العدم والرابضة على تخوم جوارحنا ...

أعود إليك لأرقص في الهجير على أكتاف الذكريات التي تولجني فيك فأقبض الزمان من طرفيه اللذين بلا نهاية" .

وأنا وحدي تشملني الكثرة التي بلا حدود .

أهبط في الوادي ، يشرئب عنقي إليها هناك ، فأتدحرج ثم أقترب ، وأهتف فيها ؛

يا بنية انزعي رداء الحزن فهاأنذا أمضي إليك ويخطف بصري ذلك المجلّل بالفضة فيك .. أفخاذك المدهونة بالعنبر والمدهوكة بالأيدي الشبقة تأخذني إلى سحر لا تُفكّ طلاسمه ، وتنبت في حلقي صرخات لا يسمعها أحد .. أحد ، أحد ، أنا المتوحد في الصراخ الهادر . أنا المعتزل في جمهرة الأجساد . أنا المتيّم بالتي بين ذراعي ولا أراها . أنا الموسوس بالجنة والنار ، يشتعل رأسي ويحرقني دمع لا يغادر الحدقتين .. أفيض إليك يا امرأة كما أفيض إلى أجلي ، وفي الغيبوبة لا أطلب الحياة إلاّ لأموت فيك .. أدور حولك ، بقوة الطرد المركزية ، فأنداح ملتاثاً ، متطهراً متنائياً ، متقرباً ، قد تشققت قدماي وخانتني الذكريات .. وأعود ...

في معنى الهلاك

إلى هنا ! .. إلى هنا ! .. صرخ الطريبي ، وكانت العلامة ليمونة مغروسة في سن مظلة .
وعلا الهتاف مع انطلاق دوي الانفجار إيذاناً بالاندفاع . ونسينا - لحظتها فقط كان النسيان حقيقة لا وهماً - أن لنا أطراف ، وأن روائحنا تختلف عن روائح الآخرين ، وضاع صوت الطريبي . صار غمغمة منقوعة في بحيرة من صراخ وهتافات مجلجلة ... "لعلكم هناك" سمعنا الصوت قادماً من بئر سحيقة ، ثم تقطعت الأوصال واندفعت القلوب تسد الحناجر وجاست العيون في طبقات من البشر واللهب والرغبات العارمة بالفرار .. فرار حيث لا مفر .. عجينة تتلاطم حوافها .. تنّور تفحّ نيرانه .. ورحم يبتلع كل شيء ..

أ غ ي ث و ن ي ! خرجت أحرفاً من رئتي وفقدتُ كل أطرافي . رأيت الجنون ماثـلاً أمام عيني الملتهبتين . التفتُّ نحوه ، فرأيته ذهلا ، حائراً وحزيناً . عندها اتخذت قراري المجيد : لا بدّ أن أنجو . لا بدّ أن أخرج من هذا الهول . لا بدّ أن أسترد أطرافي وأعيد قلبي إلى مكانه ! نظرت إليه ثانية ، فصرخ فيّ من فوق رؤوس لا حصر لها : أخرج أيها المجنون ! أنج بنفسك يا السادر في خيالاتك وأوهامك ! ..

وكنتُ في ذات المـوت ، أسمع الكلام الأليف والضحكات المشرقة .. كنت أسمعها وأحس بها تدفعني وأنا أناضل الأيـدي الممتدة عكس اتجاهي . تكاد رئتاي تنفجران ، وأكاد أصير جزءاً من العجين . أحاول الانبثاق فأخفق . أستمد من الحجارة الطالعة صبراً وأرنـو إليه فيهزأ بي ويبتسم في ازدراء وكبريـاء ، ثم يعتدل . يمـد ذراعيه بأبهة وصرامة ويُلقي إليّ بصوته المعّبأ بالجنون :

"أنا السرمدي الاحتمال ، فاضربوني بنعالكم ! أنا الجذل والبهجة والمرح .. أنا أيروسكم الذي تخشون قمعه وإظهاره .. أنا أنتم حين تنزعون رداء قرون السلب والامتهان .. حين تلوذون بجلود نسائكم وتبدأون رحلة العودة إلى غيبوبة الأزل ...

أنا البداية والنهاية ! رأيتكم حين إنبثقتم كالحشرات من الشرانق فألقيت عليكم حبّي .
أدفأتكم حتى نضجتم ، وزرعت فيكم التمرد والأمل ... أردت أن أنزع الدمار من قلوبكم .. دغدغت مكامن الشهوة في أجسادكم الهشة لأراكم شعوباً وقبائل تهفو إلي وتلتف حولي ..

وهاأنذا أوصيكم يا أبناء الغبار والهباء : نقّبوا عن كل لذة تحت جلودكم ، فإذا ما أخفقتم ، تعالوا إلي .. سأعلمكم كيف لا تندمون ، وكيف لا تقرعكم الوحوش الصغيرة التي ربيتموها في قلوبكم ، وكيف لا يأخذكم الهلع وأنتم تُطوّحون بتيجان وكراسٍ وكراسات ..

سأُطوّبكم كلما اقتربتم ..
وأبكي حين تبتعدون ..."

وعندما نزّت الصخور القديمة ماءاً مالحاً وتفتقت فيها عيون أبية تنظر إلى أفق بعيد مترهره بفعل سخونـة الـماء ، عـاد صوت الطريبي ساخناً لزجاً : ".. شكلوا كتلة واحدة واندفعوا !" ، وكنت أنا أصارع كرنفال الكتل والروائح ، وأرى إلى ثغـرات الضوء تطل من بعيد : تناديني ، فأحبو نحوها .. نحو المغارة التي كـانـت تلســعـنا رطوبتهـا ، والمـاء المثلـج الـذي كان يسيل من تحت أقدامنا بخرير لا يزال يتدفق في أذني ...

في كيف أن الجحيم غاية المراد

نور خافت يتفصد من شقوق ترهقها همسات غامضة ، ودفء يسدل غلالة رقيقة على بلورات ضخمة ، صاعدة وهابطة ، ونحن ندكّ الممرات المتعرجة بأقدامنا الفتية . تحتك أفخاذنا وتتشابك أصابعنا ، ونتلمس طريقنا تهدينا أضواء كاميرات العشاق المندسين خلف البلورات النديـة . عبثاً يحاولون القبض على لحظات لا تعوض ولا تستعاد . وكان الماء لامعاً وصقيلاً لا تحركه سوى الأنفاس المبهورة والشهقات العجولة ، فيخبط الصخور الزيتية بتحنان ، ويغسل البلورات الطالعة للتو لتعلو البهجة ويرتفع ضجيج القلوب الصغيرة وهي تقترب نحو شمس رؤوم وعناقيد مدلاة يعبث بها هواء خدر مسكون بحفيف الأشجار ...

قلت لها وقد نامت يدها في يدي ، سأشرب العرق المتجمع في راحة يدك ! نظرت إلي باستغراب ثم أشاحت ببصرها عني ! قلت سآكلك فيصبح دمك دمي وجلدك جلدي ويبطل مفعول سحرك ، فنزعت يدها من يدي واندلق الماء . أحسست بعطش شديد .. ظمأ خرافي حاصرني وجفف أوردتي ، فسحبتها بعنف وأجلستها في حضني . سلّطت عليها حمّى جنوني وارتشفت العرق الطافح في نقرة الترقوة بين كتفها المدور ونحرها المتوتر المذهول ...

"الصلاة يرحمكم اللّه" مطّ الطريبي صوته كي يتيح الزمن للذين لم يتوضأوا بعد . كانت الخيمة كرنفالاً من الألوان واللهجات ، وكان القادمون الجدد يتوكأون مظلاتهم ويلهثون ، وقناني المياه الباردة تنتقل بين الأيدي المعروقة ، فينساح صوت الطريبي الرخيم ؛ اللّه أكبر .

في تلك الليلة تحدثنا عن كل شيء . حاولنا هندسة الأوهام وترميم العبث ... كنا مسترخين متهالكين ، وفجأة هب السهيلي واقفاً وقد انقلبت سحنته جداً وصرامة ! دوّم شفتيه فانعقف شاربه الأبيض . قال وهو ينكسر ؛ "لقد كنت هناك . نعم ، كنت هناك وشاهدت كل شيء ... منذ اللحم الراهش ونأمة النار ، حتى قيامة الفلزّات وصخب الأعالي ... شاهدت المطلق مغتبطاً بهشاشة الكائنات ، فأدركت .. نعم ، أدركت الخديعة الكبرى وأنا قاب رعبين أو أدنى من مطلق الزمان وعلى التخوم القصوى من الفاجعة ... نعم لقد رأيت ولم يك من مفر ، فكأن كلُّ شيء قد دُبّر بدقة وعناية منذ الأزل" ! ثم بدأ صوته يخفت قليلاً قليلاً ، وارتخت شفتاه وتهدل شاربه ... اعتراه شحوب شديد ، وبدأ جسده الكبير يهتز وترتعش أطرافـه ، وهو يتراجع إلى الـوراء كفـأر مذعور !

تلبد الجو في الخيمة المبرقشة بالألوان المتنافرة ، وغشي الجميع صمت ثقيل ... كانت العيون المحدقة تقول أن ما حكاه السهيلي ، كان قد مثل أمامها مثل الفضيحة ، في ذات اللحظة .

لاذت الأجساد المنهوبة ، بالحشايا الأسفنجية والتصقت الأفخاذ بأعمدة الخيمة الملتوية ...
توقفت الحوارات كلها دفعة واحدة .. ولم يجرؤ أحد على قول شيء .. فكأن صمت السهيلي كان ختماً طبع الأفواه والقلوب . لكنه ما لبث أن انهار بعد قليل ، هو وصمته ، مثل ثوب مهلهل ، فاضطررنا تلك الليلة إلى السهر حتى الصباح ونحن نرقع هذياناته ونحاول إفهامه أنه ليس وحده ...

قال : أنا لست هو !
قلنا : بل أنت هو !
قال : قتلتموني !
قلنا : هوّن عليك ، فأنت لم تقل إفكاً !
قال : يكفي أنّي فكرت في ذلك !

وفجأة مدّ يديه وأطبق بهما على شيء ما في الفضاء العالق بين رؤوس الأوتاد ، ثم قربهما
مضمومتين إلى عينيه وحدق ملياً في ثغرة بين الأصابع ، ثم همس بتضرع فأبكانا : إليكَ .. هناك ، أتوسل إليكَ ..
أفرغني في طاعتك !
أمتني .. !
جرّدني من جلدي !

ثم انكب على وجهه وصار ينتحب ..

احتضناه جميعاً .. حاولنا إقناعه أنه لم يقل شيئاً خطيراً ولم يرتكب ذنباً ، لكنـه فاجأنا عندما انتصب واقفاً .. عيناه ذاهلتان وجسده نار حارقة . وبنفس الفخامة السابقة ، تحدث وكأنه يحاول أن يستنفذ كل ما تبقى من طاقة في جسده . قال ؛ لقد رأيتُ الحق !

الموسوسون يندبون رعباً !

والضالون يعدّون الدراهم والدنانير !

والصغيرات تطل سيقانهن من خلف الأعمدة الرخامية !

الوقوف .. الوقوف .. يا سفلة !

لم تعد الرحاب خالية !

بل يملأها الأنين والصهد !

والحمام المدملك يتطاير بين أيدي فتية خارقين !

وذوو الأسمال تقطر عيونهم !

يستبدلون بالتي هي أحسن ، التي هي دم ودمع !

يأكلون التراث !

يحثّونه على وجوههم !

أما أنا ، فلست هو ،
وفي خيمتنا هذه باطل الأباطيل !!

كنا ننصت بخشوع ، وكان الفجر يتفجر بتؤدة وهدوء . أما الطريبي فقد كان ما يزال واقفاً ، ينادي وتعتريه رجفة "الصلاة يرحمكم اللّه ..." .

تركنا السهيلي نائماً وهو يرتعش ، ووقفنا حيارى خلف الطريبي الذي كان ينتحب ، فلا نكاد نتبين تلاوته ...

في الضياع مرة أخرى والبدء من جديد

دفء الجو أغراني ، وانحدر في رأسي فأغواني . تواطأ معي فأبقاني في المقهى الخشبي الصغير . قلت للنادل ؛ أُنشدك فتسقيني ! فأشاح بوجهه عني ، ورأيته يهمس إلى زميله في استياء وسمعته يقـول ؛ هـذا الدميـم كيـف لـه بقول الشعر ؟! ناديته ، فجاء . لم يكن خائفاً ولم أكن غاضباً . لوحتُ له بمحفظتي . قلتُ له : أحضر لي ما يجعلني أبدو جميلاً ، ويملأ قلبي بالقصائد . قذفتُ بالكلمات وانحنيت أربط خيط حذائي فتدحرجت على رأسي ! قال النادل ؛ سقط الشاعر ! نفضتُ ثيابي وأشعلت سيجارة . تطلعتُ حوالي . كان المقهى خالياً وكان جدول الماء الذي يشقه نصفين يوشك على التجمد . حرّكتُ يدي بإشارة بذيئة نحو النادل وخرجت . كان غاضباً ولم أكن خائفاً . وبعد قليل توقفت ، التفتُّ نحوه وكان مستنداً على باب المقهى . صرخت بحدة والذهب يحيط بي من كل جانب وفي حلقي ينمو غصن الزمن اللذيذ ... : أيها النذل ! أنا أعرف الحقيقة التي ستذيب عقل السهيلي عندما يذوب هذا الجليد ، ويعم الظلام !

الجبل
يمتد إلى الأعلى قدّامي
ويشدخ رأسي دوار لذيذ . لا بد أنهم
تركوني متعمدين . أو ربما نادوني فلم أسمع .
قالوا ؛ دعوه لسباته هذا الغرّ المجنون ! سيجترح الأعاجيب عند سفح الجبل ! تركوني وكنت في الباص أغني ... شايفه القمر شو كبير ، كبْر القمر بحبِّك .. شايفه السما شو بعيدة ، بعدْ السما بحبِّك ... ، وأتحسس جبهتي فتضيع مني . أتطلع إلى وجهها المدور ... الأنذال ! تركوني وحدي وأنا ما أزال أتلمظ حليب أمي .. تركوني والحليب ينصب أمامي .. شاهقاً كان الثدي ، وكانت يداي قصيرتين وسروالي مبللاً بندوف الثلج ، فأركض فيه وحيداً محتاراً ؛ كيف أصعد إلى هناك حيث المتعة والبهجة .. وحيث تتساقط على رأسي ضحكات وأناشيد .. وأنا أنشد ثغرة أطل منها ، ثغرة أتشبث بها ، فيستجيب الجبل الشامخ لي ويميل منبسطاً لتركبه قدماي المتجمدتان ... صهيل الحزن لا ينفك يُوغل في صدري ، وأنا أتقدم فأرى سيقاناً مشدودة سروايلها تطلع من ثدي أمي ، ملونة كأقواس قزح ، مرسومة بدقة متناهية ، موجودة وغير موجودة .. سراب كالذي قبلها والذي بعدها .. أرجوحة يهتز فيها الزمان بلا ثقة ، وأنشوطة يتدلى منها المكان مخنوقاً ومحدداً بأفكار وتواريخ وثورات مجهضة ...

كانوا كثيرين وأنا صحت فيهم ؛ دثروني ، عندما أدركت أنني وحدي ، لأن صاحب الزلاجات لم يرني ، ولم ير الليرات الممدودة إليه . خانتني عزيمتي كما خنت الوطن وخنت أمي . دسست الليرات المطوية في جذع الصنوبرة الطالعة من جدار الدكان العتيق ، وسحبت زوجاً من الزلاجات وزوجاً من الأحذية الثقيلة .. حاولت ربط الخيوط فتدحرجت على رأسي ، وسمعت صاحب الدكان يقهقه وهو يعلن ؛ سقط الشاعر !

كان أبي مندساً بين أجساد تفح نيراناً من اللهفة .. كانوا جميعاً ينتظرون أدوارهم للصعود إلى أعلى . أما هو ، فقد كان يدخن سيجاراً ضخماً ويدس إحدى يديه في جيب بنطاله . كان يتلفت بحذر شديد دون أن يركز نظره في جهة محددة ، وكانت سلسلة ذهبية تتدلى من عقدة في الحزام الجلدي اللامع ، ينتهي طرفها الآخر في جيب البنطال الفضفاض . كان أنيقاً رغم الكرش الناتئ ... صديرية من القطيفة السوداء وبنطال حالك السواد ومعطف رمادي قصير . أما ربطة العنق ، فقد كانت حمراء فاقعة شبك في منتصفها دبوساً على هيئة سعفة ذهبية .

كان الشعر الأكرت القصير مفروقاً في الجهة اليمنى بخط لا يشوب استقامته شيء ، وكان سواده يتماهى مع الزرقة السحرية لجليد تسكنه أقدام ممسوسة بالمتعة .

شغلني المنظر عن كل تاريخي !
لماذا يأتي أبي إلى هنا ؟ لماذا الآن ؟
هل كان ينتظر دوره للصعود إلى القمة ؟
لكن ، كيف وحذاؤه كان ما يزال لامعاً فكأنه لم يطأ به أرضاً قط ؟
وكانت يداه عاريتين إلاّ من لمسة حانية .
أمّا عدة التزلج ،
فلم تكن ..

ترى ، هل أخطأ المكان ، أم أنني أنا الذي أخطأت الزمان عندما التفت ، فرأيته في وقفتـه المتعالية ولفتاته الحائرة ؟ ربما ، فلقد كانت الجهات كلها مضاءة بلون الجليد المشوب بزرقة خفية ، وكنت أنا منهمكاً في تثبيت الزلاجات في الحذاء الثقيل ...

نجحت في الأولى ، وفي الثانية سقطت . حاولت مراراً ومراراً سقطت ، والسيقان المشدودة تحتك بي وتغادرني ، وأبي لا ينظر نحوي ، غير أني لمحت شبح ابتسامة يطوف على شفتيه وهو يتلفت يمنة ويسرة دون أن ينظر إلى أحد ! فهل كان يراني ؟!

لم أشعر باليأس ، رغم أنّي أعدتُ الزلاجات والحذاء الثقيل إلى صاحـب الـدكـان المـزروع في كتـف الصنوبرة . كانت الليرات المطوية قد اختفت ، ولكن العجوز لم ينظر نحوي بل أشار بإصبعه نحو الحذاء ، وسمعته يداعب فتى صغيراً جالساً بقربه . كان يتوسل إليه كي ينشده قصيدة ، والفتى يتأبّى ويمانع . يلح العجوز ويبكي ، فينهمر الثغر الفتيّ ، وتنصت الأذن القديمة ، في خشوع ؛

كان الصبح حليباً ،
فأتاه الدفء يزنّره
ويشاغبه
بفحيح ولهاث ...
وأنا كنت غريباً ،
فأتاني الصبح حبيباً
بقوارب تلسع روحي .
كان الدفء جليداً ،
فأتيت إليه أدثره
وأنا أسكب روحي ،
مطراً مطراً ،
فيبلله ويبللني
وأصير نحيباً .

..... يتدحرج قلبي من مرقده
ويصير الدفء عصياً
فأساومه ،
وأجوع إليه .. فيأكلني ،
يتدارى عنّي
أناديه ،
يتوارى عني
ويخذلني ،
وأنا مخدع روحي فارغة ..
أشتاق إليه
فيخدعني ،
وأنا كنت
وكان
عصياً
فأتيت إليه وروحي
تسكب روحي ...
قلتُ تعالَ ، صرختُ ،
فما جاوبني .
وفجاءة جاء ومني استلّ الدفء
وخلاّني ،
نهباً للريح وللخوف وأغصاني ،
وأقصاني .
في العزلة
دبر لي شركاً
في التيه ،
وأغراني .
لم يدرِ أن
العمر هباء ،
وبأني
أنا
مَنْ حزني أغواني .
أبكاني منظره ؛
معزول مثلي
ويشبه حزنه
أحزاني

أخذت أردد الكلمات بلا اكتراث ، وأنا أشعل سيجارة لأدفئ يدي ببقايا الحريق . غادرني الاضطراب . أحسست بأني قد تحررت من هم ثقيل تربع في صدري زمناً طويلاً . رحتُ أراقب الصغار وهم يتزلجون بزحافات على شكل كراسٍ بلا أرجل ، أما أبي فقد نسيته تماماً ...

كان ذلك منذ زمن بعيد رغم وضوحه ، وسينقضي سواد كثير منذ أن قيل لي أنه مات . أحسست بالقهر والاحباط حين أدركت فجأة أنني لن أراه أبداً وأنه لن يستطيع بعد الآن أن يضغطني إلى صدره ويلفني برائحة السيجار المميزة ثم يجهش بالبكاء ، كما حدث حين ودعني أول مرة ... كتبت له ذات رسالة وشبهته بالعكاز الذي سأستند عليه في شيخوختي ، لكن دمعي كان عصياً !

كان الصبح حليباً ... ! يا لها من أنشودة ! عندما أتذكرها الآن ، تنهمر عليّ السنوات كلها .. الماضي كله يجئ دفعة واحدة .. فأراني وقد سحبتُ ساقي وأسندت ظهري إلى الحائط ، ثم زممت شفتي وتظاهرت بالحزن ! كان اللون رمادياً قاتماً ، والرذاذ يتطاير خلف لوح شاسع من الزجاج ، وشراشف بيضاء ووسائد وثيرة ... تك .. تك .. تك ، ولون اللهب الذهبي يشيع جواً من الألفة وصورة كبيرة للينين تتوسط الجدار العاري ، وأنا أدندن بلحن قديم ... أدوزنه مع صوت الرذاذ وأستعيد ذلك الإحساس العميق بفرحة تتملص ما أن يشتد المطر وتتقافز قطرات الماء الجذلى ، والحلزونات الدبقة تتشبث بالأوراق الخضراء الغضة وأنا أنحدر على الدرجات الزلقة نحو قاعة الدرس .

كنا نشترك في الأكل ، ولكن الطريبي قلما كان يجلس معنا . كان يستند إلى أحد الأوتاد المغروسة في الأرض السبخة ، ويسبّح في صمت .. ينتظر موعد الصلاة ، فإذا انتهت نام . وكنا نتوجه إليه بأسئلتنا الفقهية فيجيب عليها بخوف وحذر .. كان أحياناً يدّعي النوم بيد أن أذنيه تظلان ساهرتين تسترقان الكلام والحكايا الماجنة التي كانت تدور في أرجاء الخيمة كما تدور أكواب الشاي الأحمر وفناجين القهوة بين أيدينا وأفواهنا ... ولم يكن أغلبنا يجد رغبة في النوم رغم التعب والمشقة ، إذ كان الفزع قد سرى في أوصال الجميع ما أن بدأ الكشف المحموم عن الأسرار والحقائق ، الواحدة تلو الأخرى ..
شيروفوبيا ! شيروفوبيا !

"هل تدري ؟" مال قليلاً فانحدر الصوت من حلقه مفكوكاً من وحشة ذات سطوة وبأس ... قال : "لقد رأيته . تماماً كما أراك الآن . كنت جالساً على كرسي عالٍ . قدماي تتدليان ولا تصلان .. وكان هو واقفاً أمامي ، رأسه ملفوفة بعمامة خضراء كالبقل ، ويده اليمنى تقبض على مقص كبير يعمل به تقصيراً في شعري الكثيف ... وعندما ملأ قبضته بخصلة من الناصية ، وشدها إلى أعلى ، التقت عيناي بعينيه فانفتحت هوة عميقة سحبتني بعيداً عن الكرسي والعمامة والمقص ! صرخت فيه : كنت هنا سيداً ! فأخذني في غيبوبة وراء حجب وراءها حجب . ومن هناك ناديته . قلت له ؛ لقد نسيتنا يا أبتِ ! فأشار إلى كوة في جدار لا أول له ولا آخر . أدخلت رأسي الحليق فذهلت : كان الظلام عميماً خلا بقعة دائرية على سطح رجراج ، وكنا هناك جميعاً ندور راقصين في دائرة مكتملة . وجوهنا مبلولة بالضوء وعلى شفاهنا تتردد أغنية رتيبة لا مرح فيها ... هل كان نواحاً ؟! ربما ، غير أني عندما عدتُ ، ظلت رأسي هناك معلقة بالدائرة وكان شعري طويلاً يلامس الكتفين ! لم يداخلني الرعب ولم يرتعش صوتي ، بل انطلق عميقاً من قبضة الصدر الهزيل : لقد نسيتنا يا أبتِ ! .

كررتُ ذلك مراراً ، وكان الصوت خلواً من أي رعب ، متنامياً كنار في هشيم ، مخيماً ، عذباً ، لجوجاً ... ... لقد نسيتنا .. زرعتنا وزرعتَ السواد في أركان القلوب .. فهل كان الأمر كله مجرد لعبة ؟ خديعة ؟ نحن مهجورون ، لا ظهر لنا وما حياتنا بدونك سوى توازن مرعب على نصل مفتوح .. ظلمة يبتزّها ذوو البأس في سكة لا نهاية لها ... أبتاه ! أعطنا زاوية .. نتفة من ثنية من ثنايا ثوبك العتيق لنودع فيها قلوبنا ونبث فيها أنفاسنا المتقطعة .. إهجرنا ، لا بأس ، ولكن اترك لنا يدك المباركة تجسّ نبضات أصابعها جروحنا .."

وشيئاً فشيئاً ، علا نحيبه ، فأدركت لحظتها أنه لن يتوقف .. كان التذبذب واضحاً في الأفق ، وكانت رائحة الشمس المخفية تدغدغ أنفاس الرماد التي خلّفها السواد المهزوم إلى حين .

أما أنتَ ، فقد كنتَ سادراً في أغنية يرقّع لحنها ندى الفجر البهي الطالع من شبّاك قصي ومضيء ... ومن الشباك ، ذات الشباك ، إنما لمحتَ الثديين ملفوفين بقمعين من النايلون ومحاطين بتمائم من الدانتيلا فاشتبه الأمر عليك ! أيهما انبثق إلى الوجود أولاً ؛ تورُّد الثديين أم قمع النايلون المتعتع بالانتشاء ؟ ... وبين يديك أنتَ إنما تفرفر الثدي وأنّت أصابعك فوق الحلمتين الأرجوانيتين ، فاختلطت عليك الذكريات وخانك حسن التقدير : أيهما أشهى ؛ الحليب أم البرقوق ؟!

أتراك تذكر ليلى وقميص النايلون وهو يتمغط ليحتوي اللحم المتفلت ؟! أتراك تذكر الوجه الأحمر المدور والفخذين تفصلهما ضلفة الباب الموارب في صهد الزقاق وسكون الهجير ؟ أم أنك قد نسيت كل ذلك وتناسيت الرطوبة والهدوء المسكون بروائح الطبيخ وقرقعات المعدن المضطرب فـوق نيران تضطرم !

ستظل أنت كما أنت فلا تفرح ، ويظل قلبك عاجزاً عن النسيان ...

... فمن خصاص الباب ، كان ردفها الملوّن يطعن طفولتي عندما انطلق الموسى كاشطاً جزءاً من سبابة اليد اليسرى .. تدفق الدم غزيراً ، ونجمة أشارت إلى الدانتيلا حول خاصرتها المتثنّية ، فانطبعت في ذاكرتي المربعات الحديدية الزرقاء والإفريز المدهون بالجير ... ولكن لماذا لون البرتقال يقفز إلى ذاكرتي الآن .. لون برتقالي فاقع ، وقشرة كروية مليئة بالنتوءات والحفر .. يا اللّه ! الحريق يحيط بي من كل جانب وليلى ترفض الابتعاد عن باب الحديد ، والدم لا يتوقف نزيفه ... الآن فقط أدرك أن الزمان لم يكن سوى برتقالة ، وكان المكان بضع لحظات برتقالية مرسومة أمام ذلك الباب ! أمّا ليلى ونجمة فقد كانتا تضيقان بثيابهما ، وكنت أنا أضيق بالكون الذي لم يكن يأبه بي !

أحاول النسيان ولكن هيهات ، فأنا ما أن أتذكر الملمس الصلب المشبع بالندى حتى تلتوي رقبتي ويحتك وجهي المجعد فوق المنزلق الخفّاق ...

وأنا كلما أحرقت حزني ازددت حزناً وتنامت في الحلق أشواك وفي العين مفازات تحار الأقدام فيها . وتغلي مراجل القلوب ما أن تلمح على البعد أنهاراً من السكينة تترجرج مثقلة بماء ثجاج ثبجت ينابيعه على حين غرّه وباغتت الظمآى فأنستهم ظمأهم ... هيهات أن أنسى ذلك الحزن الحريق .. ذلك الألم الأليم الذي ينز من جدران تلك المدينة القاسية ، ثم يرتسم على الوجوه وينطلق من العيون أسهماً من نار تفقأ عيون الآخرين وترديهم بشواظها . تعلقهم من عراقيبهم ، فيقتلون ويُقتلون .. يفتكون ويُفتك بهم ، حتى يصبح القتل والفتك خبزاً يومياً لا تستقيم الحياة بدونه ... "لن ينجو أحد !" هكذا صرخ الطريبي ، فنهره السهيلي صارخاً "بل قل لا أحد بناجٍ الآن ، فالماضي لم يكن والمستقبل لن يكون .. نحن هنا وهناك ، والآخرون لا وجود لهم ... أفيقوا !" .

كنت أتحسس مسامات جلـدي التي انفتحت كأفواه حين تناهى إلى سمعي صوت السهيلي ، فحار القلب بين القبول والرفض ، وتحشرج الزمان في حلقي ، إذ كيف يمكن أن أنسى أنا المهموم بالماضي .. أنا الذي تدكني مطارقه وتحضني على التذكر وعلى تقميش المصادر الأولى والأصول بحثاً عن معنى لما جرى وسيجري .. عن سر هذه الكينونة العجيبة .. كيف يمكن أن أنسى أنا الهارب من مجهول تحف به الصخور

وطمي الأنهار وتعربد فيه صرخات وحشرجات كائنات دقيقة آن تطلع من البحر وحين تزحف على رمل مهووس بالتوحد والوصل ومحفور بالكلمات الأولى .. وبخربشات النزع الأول وهزهزات الكائنات حين تتخلق وتقول ... كيف ؟

كيف ، وقد أعاد الدوران ترتيب خلايا دماغي وفتّح فيه الثغرات المكنونة ، فانطلقت الذكريات هادرة تحكي تاريخاً مجنوناً بأفكار وكلمات لا مخيلة لها ...

في اجتراح المعاني المستعصية

كانت أوهام تدور في فراغ . تصورات جذورها من هباء ... لا يصطادها إن هي انطلقت سوى وهم مثلها ، ومع ذلك فقد كنت أجاهد كي لا تفلت مني .. كي لا تغيب عن عين قلبي ، فأنا ما أن اقتربت من الباب الساكن ثم انحنيت قليلاً لتنطبق عيني على ثقب المفتاح ، حتى كان علي أن أتماسك حد العذاب كي لا يموت هدوئي وتتناثر أنفاسي ، إذْ في تلك اللحظة من الوهم ، كان الوهم خلف الباب ساطعاً ، وكانت الحقيقة ملأى بالخداع حين انبثق اللهب المجنون فجأة وشق عيني ، فأدركت لحظتها أنني إنما استيقظت من موت حقيقي ، وانطلق لهاثي كله دفعة واحدة فاهتز الباب الساكن بعنف قبل أن تشيلني قدماي وتقذفان بي خارجاً ..

كان الشارع خالياً إلاّ من بضعة أطفال يتلهون بسلحفاة في بركة صغيرة من مياه المطر ، وكنت متواطئاً مع عجزي حين لم أستطع أن أفسر كيف يكتسي اللحم بلون أرجواني ، وكيف تتقلب أوراق المجلات دون مُقلّب ، بل وكيف يصبح للهاث تلك القوة الدافعة فيضطرب القلب ويتواطأ السكون مع العتمة ودفقات المشاعر والانفعالات ، وكيف تزهر الارتباكات الصغيرة ما بين نمنمات الشراشف ورياح الأنفاس اللائبة ... وكيف تشترك كل هذه جميعاً في إزاحة الحقائق وتدبير الأوهام والمصائر ودغدغة المناخر بروائح مجنونة وهمسات وهمزات ونيران ؟!

غير أنني حين أُطفئت الأنوار ، وشَقّ دراكولا الصمت المطبق على صالة كلمنصو بصوته النازف وقامته المـديـدة ، أدركت أن كتفها الأيسر يطعـن صدري ، فاحتويتها . لملمتها لأحميها من إيقاع الرعب وصفير الرياح الموحشة ، فكان أنين صدرها ينتقل عبر ذراعي إلى صدري ، وكنت جاداً في محاولة حمايتها من مصاص الدماء ! تماماً مثلما حدث عندما دخلنا صحن كنيسة صغيرة مزروعة في أعلى الجبل ورأت يسوع عارياً معلقاً تنزف الدماء من أطرافه ومن قلبه ، فانثنت نحوي خائفة وجلة ، واحتويتها في صدري وتطلعت حولي صارخاً ؛ أنزلوه عن صليبه وضمّدوا جراحه !!

كان الدم لحظتها يتدفق من جراحي ، وكنت صغيراً أدفع أمامي عجلة من حديد بعصاه قصيرة ، وأعبّ الهواء المندفع نحو رئتي وأبكي ، فيبتل أنفي ويغرق فمي ... كانت رأسي خالية من أي سوء . فرغم الزقاق الضيق ، كان الأفق رحباً ومتسعاً لأحلامي الصغيرة ... لم أكن قد ابتكرت الأمنيات بعد ، ولا عرفت الأوهام . كانت الصور تتبدل أمام ناظري .. تضيّعني ولا أضيّعها .. تدركني ولا أدركها ، تماماً مثلما لم أدرك خطورة الضحى ، ووهج الظهيرة حين قبضت بيدي الصغيرة على يد الصغيرة التي ابتسمت لي ببلاهة وصعدتُ بها إلى غرفة السطح التي يحتلها سرير كبير مدهون بأخضر باهت ... كانت أصابعنا ملوثة بلزوجة المانجو عندما اعتلينا السرير الوثير وقبضنا على الأعمدة الممتدة نحو السقف ثم صرنا نتقافز في الهواء فرحين بلذة الانعتاق من سطوة الأرض وجاذبيتها . ومنذ أن سقطت إعياءً وحتى هذه اللحظة ، ما يزال الفخذان الصغيران الطائران في الهواء معلقين في ذاكرتي يستعصيان على النسيان !

أخضر ، وعواميد مزخرفة ، وشبابيك صدئة ، وعتمة خفيفة ... وسرير ، غير أن الدم وحده يظل فاقعاً في الذاكرة . والصراخ الذي سمعته عالياً فجعلني أنطلق مسرعاً نحو عتبة الباب ، أذهلني ! وقفت مرتعباً وأنا أرى الـدم يتطشر من جسد حمود ... ويدان غليظتان تتلقفانه وتقذفان به في كل جانب .. كان والده ضخماً وفظاً ، وكانت كفّه السمينة تهوي كالمطرقة على صدغ حمود الذي لم يكن يصدر عنه سوى أنين خفوت . لم يكن يبكي . كانت عيناه فارغتين حتى من الذهول ، وكان وجهه المتورد مثخناً بالجراح والأسئلة ، وحين قذفت به الضربة الأخيرة نحو دكان النجار العجوز ، تشجع هذا الأخير فوضع يده المعروقة حائلاً بينه وبين أبيه ...

وفي عتمة الليل ، تطلعت حولي وداعبني النسيم وحيرتني نظراتها البلهاء . استنبطت سريرتها ، وأدركت سر البريق في عينين ذابلتين .

كان الحارس بعيداً يجـوب بسلاحه مسارب الحديقة ، وكانت الشبابيك العالية خالية إلاّ من بضعة أضواء متطشرة لا تزال تعبث بعيون الطالبات وأوراق الكتب . جهّزت كفي الكبيرتين ووترت ذراعي . قبضت على خصرها النحيل ورفعتها إلى أعلى ... ثم دفنت رأسي في حضن أمي ، وأجهشت بالبكاء ...

توترت يداي وأنا أعلن البراءة وأعبث بالأغراض في دهليز البيت .. وقررت أن أقتل ، لكن الأمور لم تكن مواتية ! كانت الرياح تمور في صدري ، والفيلم الذي في أوربي كان مملاً رغم المشاهد الجنسية الصارخة .. لا أدري ، ربما كنت ثملاً قليلاً آنذاك ، فلم أستطع فتح عيني . كان ظهر الكرسي الذي أمامي بعيداً ، فاستطالت ساقاي ، .. وكان العجوز الأرمني منكباً على كتاب قديم يتفحصه بنظارة سميكة ، وصور ماركس وإنجلز تملأ المكان ... همس في أذني ؛ هل أنت ماركسي ؟! تطلعت إلى العتبات الأربع ورأيت أقداماً تتقاطع .. تزداد ، تتفرق ، تتوقف ، تركض ... أقدام لا حصر لها .. صغيرة كحبات السمسم وغليظة كأقدام فيلة .. شعرت بالخوف ، وداخلني اليأس حين أدركت أنني لست فقط عاجزاً عن الخروج من المكتبة وحسب ، بل ومن هذا النص الذي اقتحم مخيلتي !!

اشتقت إلى القامة المديدة والإضبارة التي تندس تحت الإبط وتتوسد الثدي الصغير المزروع في أعلى عليين ! ..
قال لي ؛ أنت مراهق !

قلت له ؛ أنظر أمامك وحاول أن تضبط دقات قلبك وساعات تاريخك البائس .. ديدان تمخر الشاطئ مذ كان الصمت المريب يخيم على المكان ، وكانت الشمس الجبارة تسوط طحالب تتثنى من ألم ولذة ، فتجعلها تغذ السير ساحبة عربة الحياة ... عري مقدس يرصع صخوراً نبتت في راحة الفضاء العظيم ... نيران تضطرم وانفجارات هائلة في كل مكان ... كان المشهد مهيباً ، وانحنيت على طحالب كالهلام . ساررتها فابتسمت وقدمت لي خاصرة مبتلة بنعومة كالحرير ، ثم التفت فلم أر صاحبي ... لمحته في البعيد يصارع الهواء ... يفتك به فيفتك به !
انكسار اللحظة اليابسة

عدنا إلى المخيم فداهمنا أذان صلاة العشاء يرفعه السهيلي بصوته الرخيم ، وأصداء حزن تتناوش المكان . تساءلنا معاً ؛ أين الطريبي ، فساد صمت ، وعبث الهواء أمامنا بقماشة بيضاء تلتحف جسداً مسجى قرب الوتد الكبير !

وقفنا جميعاً صفاً واحداً وتعالت التكبيرات مخنوقة بدموعنا ودموع السهيلي ... كان الطريبي يهتز في سرواله الواسع وهو يسهب في وصف جثة المرأة التي عثروا عليها في برميل القمامة ملفوفة بثوب ناصل اللون ... "كانت شابة . جفناها المسبلان لم تطأهما الوحشة بعد ، وخاصرتها الرقيقة مليئة بكدمات وآثار أقدام ..."

كان خائفاً . نفض الإزار الأبيض الكبير والتحف به . سحب ركبتيه حتى ألصقهما بصدره ، ثم بدأ يهتز بعنف ، وإنخرط في بكاء طويل ...

"اللّـه أكبـر" كـررهـا السهيلي خمس مـرات قبل أن ينعقـد لسانـه ويضطرب كيانـه ، فيلتفت مسرعاً جهة اليمين . لقد كان الطريبي ماكراً حتى وهو في بياضه وغيابه ...

كان الشماعي مسجى على مصطبة من سعف النخيل ، وكان رأسه الذي كأنه زبيبة ، في مواجهتي ، فلم أر سوى بضع قطع من القطن تسد عينيه وأنفه ، وشممت رائحة غريبة ما تزال تصيبني بالشلل كلما تذكرتها ، وما تزال عيناي تطوفان على فضاء وسيع يخلخله الهواء وتبرز منه أحجار صغيرة وعظام بيضاء ، وأزيز في أسفل البطن ، وصغيرة مدللة تبرز من خلف ستارة ثقيلة ، فيقسم أبو سمرة أنه هالك لا محالة !

دوران . دوران في كل مكان . حركة متصلة خلف الجدران .. في الحارة الصغيرة ، في المدينة القاسية الملامح .. وفي الزوايا المنسية .. ، وفطوم السمراء اللذيذة تتألق سمرتها وتقتنص أذناها الهمسات والتموجات ، ثم تختار بجرأة وثبات لتربك وجه حسّون المعلق على قامة فارعة وقميص مشجر ، فتصبغه بحمـرة قانية . يتطلع نحونا في صمت وخجل ، أما هي فلا تكترث . وفي الليالي المعتمة ، يكتب أوراقاً صغيرة يدسها في يديها أو تحت إبطها ، ثم ينطلق خلف الملعب الكبير ، ليتحسس الزند البرونزية وتوغل يده في الظهر المعروق ، ثم يلف الشعر الفاحم على وجهه ويحتوي السمراء بذراعيه ، ليمتص رائحتها حتى الإعياء ! ومن ناحية الشرق يتساقطان وهما يجرّان أقدامهما بإيقاع واحد . يده مغروسة في خاصرتها ومنخراه الواسعان يطلان على قمة رأسها الصغيرة . وما أن تلتمع في أعينهما أنوار البيوت الخافتـة ، حتى يطلقها وهو لم يـزل بعد متوهجاً ، والدبيب لا يفتأ يعبر تضاريس قامته المديدة ، فتعود فطّوم نشوى ومشتاقة .

انمحت تماماً تفاصيل الزمان .. تحول إلى ظلمة ونور فقط . يندلق أحدهما على الآخر حتى لم يعد هناك ما يميزهما عن بعض ، سوى غلبة الظلال . سقطت جميع الساعات في بئر عميقة من اللامبالاة ، ولم يعد للأحاسيس والمشاعر مواعيد .. حركة دؤوبة داخل المخيمات وخارجها . ضجيج كأنه صمت مطلق ، وحركة كأنها سكون أزلي . عري معربد يفترش الأرض ويلتحف السماء ، وأحلام تتطاير وتندس بين الأجساد التي لا يسترها شيء . تشتبك بالسائرين والواقفين والصاخبين . لا مكان للأسرار ولا مكانة . كل شيء مباح للهواء الشحيح وأصوات الضجيج وروائح العفونة ... تتشابك الأيدي فتضطرب القلوب . تزداد ارتعاشاتها كلما ازدحم المكان واصطدم اللحم باللحم ، ودوّم القلق الدفين في مراقد القلوب ثم انتشر على حواف الجلد حتى تتوفز الأعضاء وتنفك الأصابع المتشابكة وتنفلت كلّ في اتجاه مغاير .. عندئذ ينتفخ الصدر بعويل الفقدان ، وتدمدم الحناجر بصراخ وحسرات .. يا ليتني كنت هناك ! يا ليتهم كانوا هنا ! يا ليتني أعرف ! يا ليتني أنسى !

عاوده الحنين إلى الذكريات ، فاندفع مندساً في الكتل المتراصة ، ووضع رأسه مع الرؤوس الذاهلة وامتدت نظراته كشعاع لا ينكسر ، ثم جاء غسان . بل جئ به ... أُُخرج من سيارة نفطية اللون ، وقد أُلبس ثوباً أبيض نظيفاً ولُفّ وجهه بوشاح دموي . يداه مزنرتان خلفه بأصفاد ، وعنقه نحيلة كعصفور . قدماه الموضوعتان في حذاء اسود لامع تخبطان أرضاً نفطية انبثقت منها ساعة يابسة كئيبة ... وكان طبيب في ردائه الأبيض يتكئ على رفرف سيارة إسعاف ، يتثاءب ويعرك عينيه . كان الجنود منتشرين في كل مكان . يحتضنون بنادقهم الرشاشة وتضرب أعينهم في كل اتجاه ... وفجأة ، يزعق مكبر للصوت بكلام ملئ بتواريخ وأرقام ، فتتحرك عقارب الساعة اليابسة تكة واحدة ، وفي ذات اللحظة ، ذات التكة ، تنعكس أشعة الشمس عن سطح صقيل بارد ، ويترجع صدى الماضي السحيق كله دفعة واحدة ، فيكتسي نفط الساحة بلونه الأصيل ... أحمر أحمر أحمر .. تماماً كلون وشاح رأس غسان الذي سقط بلا رأس ...

من الخلف ، بدا رأسه متدلياً ، وكان صدغه مستنداً على وسادة سميكة تستند بدورها على ذراع كرسي خشبي .. انه يتفحصها بدقة ونهم ! هكذا خُيّل لجبران ، فغلى الدم في عروقه وأسرع الخطى .. صار يركض ، وكانت نوارة ملتحفة بعباءة ملفوفة بإحكام حول جسدها الفاره . لم تكن تنظر إليه . كانت تسند ذقنها على ركبتيها وأصابعها اللذيذة تنكش الأرض المحصبة .. جن جنون جبران ، وقال في سره ؛ سألقنه درساً ! كاد يطير ، بل أنه طار وصار الآن أمام الرأس المدلاة والعينين المغمضتين ، وسمع شخيراً خفوتاً ذكّره بطفله الذي هناك ، فانفرط في البكاء !

نوّارة ! أمسك بيديها وساعدها على الوقوف ، فاستيقظ الرأس المتدلى .. سقاهما ماءاً مثلجاً في وعاء من التوتياء وتمنى لهما السلامة !

نوّارة ! اشتقتُ إليك كثيراً .. قال لها ذلك وهو يضغط على أصابعها بقوة ، ثم همس في أذنها بصوت كالحفيف ؛ إني مكتظ بالرغبة فيك ! ضغطت على يده بإشارة فهم منها أنها هي أيضاً تكابد مشقة الصبر ، فاطمأن قلبه وخفت نحيبه ، وراح يعد على أصابع يده الأخرى ، ورائحة الدم الفائر تطيش فتغزو منخريه وتزلزل كيانه !

ما يزال يتذكر تلك الرائحة حتى هذه اللحظة ! ما يزال يشم باطني كفيها الممزوجين بنثيث الخشب العتيق في صحن الكنيسة .. كان مغرماً بها حد الجنون ، وكان يود لو يدسها في صدر قميصه ثم يجري بها إلى غرفته البعيدة . يغلق الباب خلفه ويطفئ الأنوار . يقرفص في إحدى الزوايا حتى يطمئن قلبه وتسكن روحه ، ثم يفتح حضنه على اتساعه . وبكل عناية ، يستلّها من صدره إلى حضنه ... وعلى ضوء قنديل الشارع الخافت ، يقبل وجنتيها الناتئتين ويحكّ أنفه بأنفها ... يجذبها نحوه بقوة ، ويهدهدها بكلمات يبتكرها في التوْ ...


كلما جُنّ جنوني
وسرى في الكون لحني ،
غرّني أني جميل !
وجمال الكون مني !
كلما فاجأتها ذاكرتي
داهمتني :
لم تكن ،
لا ولن تغدو سوى ظل لها ،
رغم كل العي
رغم أوهام التمني !

بدموع وبلا دموع ، وبإشارة غامضة من فزع متكوّم قرب القلب وفي الرئتين ، تكوّم جبران حتى صار كالكرة ، ثم تدحرج حتى سقط على الأرض ...

... وحين مـد يـده ليحتوي خصرها استعدادا للتصوير ، ضغط بأصابعه على بطنها ، وأشار بسبابته نحو سرتها ، فابتسمت دون أن تلتفت ، وكانت تلك هي ذات اللحظة التي ضغط فيها المصور على زر آلته فحبس الزمن بآنيته وبرائحته الغضة واستعصائه على النسيان ..
في مديح النطفة الأخيرة
وهكذا ..

كانت الأرض فوقهـا طاولـة ، وفوق الطاولة شرشف ، والشرشف أبيض مدعوك فوقه زجاجة ، والزجاجة مشغولة بزخارف وفي باطنها ماء ، والماء متطشر ، مترذرذ ، متلوٍ ، وطائر في الفضاء ...
وكنت أنا في زاوية خارج المشهد ...
وهكذا ..

كان الهواء مخلوطاً بعناية من اكسجين وثاني اكسيد الكربون ونيتروجين وبخار ماء ، والماء يدوّم في الفضاء ، وسكين نائمة على الخليط وعلى النصل غبش أصفر ، وورقة عنب تستر جزءاً من الأبيض المدعوك ، وذؤابة غصن متقصف تكاد تمس المقبض المألوف ..
أما أنا ، فقد كنت في زاوية خارج المشهد ...
لكن الطائر كاد ..

يفر لحظة ارتطام مجمل الأشياء بضجيج الطبيعة ، فتنقذف التفاحة اللطيفة ، وتتعلق حبة الكرز في أهداب ذرات الأكسجين التي يصيبها الذهول والعطب .. ولا كذلك البحر ، إذ كان مرتباً بعناية ، ومهموزاً برفق ، فلا يستجيب لتوسلات اليد المنقبضة والقمع الانسيابي الخرْط ...
أما أنا ، فقد كنت في زاوية داخل المشهد .. ولم أكن !

وكانت الطحالب دبقة وتنمو .. تنمو وتلتف بإصرار مثل حيّات تنزلق دون هدف .. تحيط بالساعدين والقفص الصدري .. تزيد اللّف فيزداد الضغط ، وتزيد فتزحف نحو العنق والفم ... ثم تتوقف لتلعق الوجنتين النافرتين .. أما العينان ، فتدوران في محجريهما . تغصّ بهما نظرة بلهاء .. مصعوقة ، لا تفكر في النجاة بقدر ما تحنّ إلى المعرفة !

لماذا ؟! حزن ثقيل .. حزن أسود .. حزن مهين .. حزن ناغل لا في القلب وحسب ، بل في الكيان كله .. في الجسد المبجل .. الجسد الذي تستهدفه ضربات صغيرة شاسعة ولا نهائية عدداً وزماناً ...
لماذا ؟!
طوفان ، والجسد ملقى على حصيرة من عدم ، تتقاذفه موجات ضوء مخبوء في روح .. وأنا أنادي ؛ أيتها الروح المتعالية ، تعالي . أعبري بي هذا الوحل ، وهذه الكثافة المتنامية .. فأنا تتكوم تحتي الأصفار فأصير لا متناهياً ، والسابق الذي لا سابق له لا يعيرني التفاتة ...

متروك أنا
مغادَرٌ
ملعون
كريح تصنعها البرودة والحرارة
كثغاء يضيع عند حد النصل
كدم تتعاوره الصفائح لتلجم دفقه وطزاجته ...
ولكن ، رغم كل ذلك ، كان الكون صغيراً
وأنا كنت صغيراً ... ذرة ملقاه على قارعة درب الحليب ...
ولكن ، رغم ذلك ،
كان الكون كله ،
بكواكبه ونجومه وأقماره
بحزنه وصخبه
بلآلئه المصفاة
بجبروته وضعفه
بنقائه وتلوثه ...
كلّه ، كان مضموماً بداخلي
وكنت أنا هو !

* * *

طي البوح الكتمان

كنت سأطوي أوراقي وأفارق كلماتي ، فلقد أخفقت في جعله نسياناً بالقوة ، ورضيتُ أن يكون نسياناً بالفعل ، وبالفعل بدأت في لملمة أوراقي ونثار حروفي ...
مليئاً بالإحباط ..
والزهو ..
غير أنها بزغت فجأة من بين نثار الحروف وغسق الكلمات ... برزت كأوضح ما يكون ..
... بأكمام قصيرة وجونلة واسعة وشعر غلامي ، خرجت عنوة من بين ثنايا عقلي المكدود . حزينة كانت ، لكن حزنها كان ماكراً ...
لا نسيان بالقوة ولا بالفعل !

حزيناً كنت ، لكني نطقت اسمها كاملاً . ناديتها فجاءت كالربيع .. مددتُ يدي . بل هي فعلت ، بل أنا .. وأطبقت بكفي الغليظـة على نمنمـة كالقلـب ، فضج قلبي ، لكنها بعد قليل غادرتني . سحبت قلبها وغادرتني ، فمشيت على هامشها أرقبها ؛ مطأطأة الرأس وصامتة . حزينة عـادت ، ولا كذلك حين طالعتني . لمعت عيناها وأنّت الأيام في مقلتيها فقالت وقلت أنا .. قدمت وعودي ؛ لن أنسى ! .. لن أنسى ! ومشيت على هامشها ممتلئاً حسرة ، فأنا لم أعد قادراً على احتضانها رغم كل الجنون ، ورغم رائحة كفيها التي ما تزال عالقة بجحيمي ...

وها هي ذي تعود .. فجأة ، مثل رعشة في صباح ، على حين غرّة ، غرّة في جبيني ، مثل صهيل ينطق به ولهى ، وصراخ حجري يترجّع في جنباتي ، وتدمدم في أصابعي نشوة الخلق ..
فأنا إزميل في دومة الصخر ،
وأنا سيدُ ُ ، فتعالي ..
داعبي خصلات شعري
ومَسِّدي بأصابعك جلد عنقي
وانفحيني قبلة فوق جبيني ...
داعبيني مثلما تفعل أمي
وعندما تنبو عروقي
إنزوي في ركن قلبي ، وارتعشي ،
رعشة الخوف
لا رعشة الصباح ...
فأنا وحدي
سيد الصبح وإزميل الحجر .
في لملمة الأوراق والعودة إلى الإنبيق

أنتَ لا تفقه كلمات الأغنية ، ولكنك تسمع الرائحة تطن في أنفك فتتذكر الحليب . إنه حليب خاص ذو نكهة خاصة . حليب زهرة تموت آن يولد النهار ...

ولكن ما علاقة كلمات الأغنية برائحة الحليب ؟ تحيّرك هذه المعضلة وترتاب في حواسك . تشك في اضطراب شفتيك فوق الأسنان النافرة ، وتكتشف في التو أن ما يشوبها من اصفرار يشبه لون الحليب ، وتتشابك المرئيات أمام عينيك فلا ترى سوى الرائحة تدور وتدور ، فيصير نغم الأغنية دائرياً لا مبتدأ له ... وتشك أن أنفك كان يرى تلك الدائرة حين بضبضت تحته شفتان كوردة ! آه ! هل هما ؟ لا ، فأنت تتحدث عن زهرة ، ولا بد أن لونها كان أبيض مشوباً بصفرة ، ورائحتها فاغمة ! نعم ، كانت رائحتها فاغمة ! هذه الكلمة وحدها هي التي تليق بتلك الرائحة التي تقودك إلى كنْه ذلك الدم الوحشي المعبّأ داخل غشاء رقيق ، يرتعش كقلب تملأ شفتيك به فيمنحك الرائحة والدفء آن تقول كلمات الأغنية التي لا تفقهها ؛ أن الحياة عبث وزمان فقط !

تلك كانت لحظة حاسمة ، إذْ اختلطت الحواس عندما بدأت تمتص الرائحة الفاغمة بشفتيك وتهرق زهوراً كثيرة لا تعدها بصباحات أبداً رغم حبك للصباح ...

لحظتها كان قلبك المتعب يرتعش أيضاً ، وكان الكلام الكثير ينصبّ على معنى الأبدية ، وكنت تعتقد أنك كذلك منذ الأزل ولم تزل ، وأن حواسك وحدها كانت ولا تزال تقاوم الفناء والانمحاء ...

لحظة مبهرة فعلاً ، حين تكتشف فجأة أن حواسك عاجزة بمفردها ، وأن عليها أن تلتحم بحواس الآخر كي تستطيع أن تمسك برائحة الزمان من طرفيها ، لتقاوم وتقاوم ... وتضحك كثيراً ، فلا تسمع لك صوتاً ، وأنت تقاوم في داخلك خدر الرائحة الفاغمة لتقبض عليها بشفتيك أطول مدة ممكنة ...

آه .. أيتها الزهرة التي لا أعرف لها اسما وأود لو أرسمها على الورق بكامل هشاشتها ورائحتها ولؤلؤها الأصفر في الأحشاء ...

لا تزال كلمات الأغنية تتداخل مع بضبضة الأحمر وبصبصة النور الأصفر ، وتتنغّل الرائحة لتنقل إلى العقل المشوش خليطاً من الأحاسيس الفائرة وسيلاً من الصور الغريبة ... صور ترتدي قبعات من ريش ، وكائنات غريبة تصب كلها في الأنف والشارب المتشابك مع أثلام وردة جورية قانية ، ولثة عربيدة وأسنان لها رائحة حليب تلك الزهـرة الوحشية الغريبة .

آخر الحريق ، أول البريق

- 1 -

انت البلكونة بعرض الجدار والستارة السميكة منفية فيه ، وكان القمر بحجم الغرفـة ، وأنا ضالع فيها ...
فهل كانت تشاهدنا ؟
كان السريـر الحديدي الضيق يضيق باللون الأصفر ، والقمر يتوسط نقرة النحر ، والظلال تجنّ بالثديين المتلعين ...
فهل كانت تغار منهما ؟
لم أعرف كيف أبدأ ، من أين ، ومتى ... فكرت قليلاً ، ثم دفنت رأسي في سرة مدقوقة في حشاشة البطـن وتواريت ، إذ في الوسط يقـرأ المـرء كل الاتجاهات ، فيحتار ويختار .
تظاهرتْ بالنوم ، فتظاهرتُ بالعمى ، ثم لم أعد أرى ، والتقطت أذناي أنيناً يمخر الهواء القادم من الضفة الأخرى ...

- 2 -

على طول الطريق من ستاركو إلى أديسون ، كانت أصابع يدي ترتعش على كتفها ، وفي ركن من ماي فلاور ، دفنتُ رأسي في حضنها وسكنت .
لملمت شوقي كله . تداعيت أمامها مثل كلام وصار جسدي كله بضعة حروف ، ولم تكن عين المريسة بعيدة عنا حين تساقطت أصابعي المرتعشة على وجنتيها . لحظتها أدركت أنّي هالك لا محالة ...

كان الوجـه بين يـدي ، وكانت العينان تعبران كلماتي ، ولم يتبق أمامي سوى إستيهام الحقيقة ، خلسة أو علناً . لم أعبأ بالتماع العينين ولا بالكلام الذي لا يقال . أخذتني رطانة القلب التي لا تني تزداد ارتجاجا فيُرتج علي . أدمنتُ الغفلة حتى لم يعد أمامي سوى أن ألوذ برئة الأرض أو أيمّم شطر سواد يعتقل القلب أو صوب كلام مثل ظهيرة فلا أنجو .

- 3 -

َنفي قلبي ، وأنا في أنفي تتغلغل رائحة الوهم الشبقي وتدنو فتندُّ الآهات تُدين فراشكِ ، فكيف أتوب ورائحة الجسد المشحون تشع مثل حريق ، ومثل يقين ، تتحقق فجأة .

- 4 -

مكنون ولهى ، ومواراة آصرة التحنان تتصرم مؤمئة نحوي ، وأنا أنفيكِ وأنت شفاعة مقتول ينتظر النصل ، فتدنين وتدنين وأذوب أنا . أتمثلك ، وأطعن قلبي بأضلعك وحنين صراخك لا ينجيك ويقتلني ..

- 5 -

يكسرني الموت . يغيب ، فلا هنا ولا هناك . ظل وحسب ، يضحك ملء الشدقين ، وعيني فارغة من البكاء ، تبحث عن تلك الضربة الباطشة ، عن ذلك الصليل ، والطعم المكدّس بالهزيمة يتنامى في حلقي ... يعلّقني من شعر رأسي في فراغ الوجود والعدم حتى لم تعد للمكان قدرة على الاحتضان ، ولم يعد للزمان علاقة بترتيب تلك الحركات الحبيبة ..

لم يبق هناك سوى تلك الرائحة الفذّة ، وذكرى الضحكات والهزائم الماحقة شامخة تهزأ بالفراغ ، والغدر النافر في هسيس فجر معبّأ بالنحيب والفجيعة والسكون المرّ والخطوات الثقيلة والذهول .

- 6 -

قلت لها ؛ سأنكث بكل وعودي ، فها هي مصائرنا يتناهبها ملائك يتوركون مصاطب الغيب ، وها هي أحلامنا تتذرذر مثل أهداب يابسة ، وحكاياتنا تتدحرج مثل فكاهات سمجة .

- 7 -

عبثاً أحاول التماسك فيندلق من صدري شهقات ونشيج . أحبس المـاء الـفـوار في قلبي . أخادع عواطفي ، دون جدوى ، فأتهاوى في بكاء خرافي يزلزل التي بين ذراعي ... ويتسرب إلى جوفها تمتمةً مخيفةً ، معضلةً موحشةً ، وحنيناً لابداً تنفطر منه الجوارح والجهات ، فلا أسلو . مثل باصرة تنتقي منظرها ، لا أرى سوى كلفها بي وهي تؤثثه ركناً ركناً ، وتخيطه غرزة غرزة .

- 8 -

نأى بناظري فلا تجتفيني ، بل تجتبيني من بين ركام كل الأقدار ، ناصعاً متألقاً رغم العي الذي في لساني والحجاب الذي يخفيني . جوارحها كلها كانت تلهج بمجدي بلا كدر ولا تورية ، حتى صرتُ تعلّة لوجودها ذاته .

- 9 -

تحسستُ كلماتي . تحسستُ روحي . قلت لها تعالي ، وهي بيني وبيني وأنا عين لا ترى . حاولت ولكن محاولاتي لم تفد ، بل وفدت عليَّ الآلام زاهية خضراء كأنّما انتزعت للتو من لحم الأرض .

كآبة التراب تنزعني من ضراوة الحلم وينزّ الخوف في حلقي قطرة قطرة . يعزّ الإياب حتى ليغدو منزوعاً من غرابة المكان إلى غرابة المكان ، حيث الوحشة تتغلغل جذورها في العديد من الصور ، وحيث الظلمة تؤطّر أبدان الكلمات بألوان تتراوح ما بين الأسود والأسود ... حنين ، شك ، حنين ، شك ، .. أسود ، أسود ، أسود ، أسود ، .. من يتلهف على دمي ؟ من يتوق إليّ ؟ مطـر كثير ولا يكفي للبكـاء على هذه اللعـبـة التي تلعب بي .

- 10 -

نا عين وامقة تدخل من باب الصفاء وتخرج من باب المنايا ، وهي أيدٍ لها ملاسة الجدران الباردة الصقيلة ، ولذوعة البرد في بكارة الشتاء ، وجموح رغبة مبهمة كهذه اللعبة . ندخل معاً في اخضلال كل الألوان حتى تتحلب ، وتتقطر من دمنا ، عميقة البياض .

- 11 -

تـدور الهنية الشاخصة ويعتري السعدانة لون الدم ، وأنا أهبط على اللوعة ، كل اللوعة ، بكل اللوعة ، وبجمع شفتي ، فتطرق خدّي حلمة ملآى بماء الكرز ، وتغرقني ، فلا أرتوي .

نعيم عاشور

مؤلفاته :

  • دفء لا وصف له - قصص- 1985
  • حالات العبء الأول - قصص - 1986
  • ذاكرة الماء - قصص - البحرين - 1989
  • آرتو - جسد يختبر العالم - (ترجمة) 1993
  • عم ظلاماً أيها الحجر - نص - دار الكنوز الأدبية - بيروت - 1998