بول شاوول
(لبنان)

بول شاوولربما هذه المرة الأولي التي يخصص فيها شاعر ديوانا كاملا للسيجارة‮. ‬هذا ما فعله بول شاوول‮ ‬الذي‮ ‬يفتتح الصباح بسيجارة ويودع الليل بسيجارة أيضا‮. ‬
‮ ‬100‮ ‬سيجارة يوميا يدخنها صاحب‮ "‬كشهر طويل هو العشق‮" ‬كونت مقاطع ديوانه المائة أيضا،‮ ‬فالسيجارة لديه هي‮ "ملاكه الحارس‮”. ‬ولذا نادرا ما تجد بول بدون سيجارة مشتعلة أو مطفأة،‮ ‬ونادر ما تجد له صورة بدون تلك‮ "الشمس التي تشرق بين أصابعه‮" ‬كما يقول‮. ‬
عبر مقاطع الديوان الذي عنونه‮ "دفتر سيجارة‮" ‬يتذكر بول سيجارته الأولي،‮ ‬أمه وهي تحتضر وتطلب قبل أن تغيب أن تمس بشفتيها‮ "‬سيجارتها الأخيرة‮"‬،‮ ‬النساء التي عرف،‮ ‬وكل قبلة منهن مثل كل سيجارة‮ "‬لكل واحدة طعم مختلف‮"‬،‮ ‬يتأمل الشوارع والناس،‮ ‬والمقاهي،‮ ‬ليتسع المعني‮،‮ ‬ربما نجد أنفسنا أمام ما يشبه سيرة ذاتية للشاعر‮. ‬
إنها سيجارة بول شاوول لا تشبه المرأة‮ ( ‬تأتي وتذهب‮) ‬ولا الوردة‮ ( ‬تذبل‮) ‬ولا الصداقة‮ (‬لا تدوم‮) ‬ولا الموت يأتي مرة واحدة‮).. ‬السيجارة هي السيجارة‮. ‬

هنا مقاطع من‮ ( ‬دفتر سيجارة‮). ‬

***

دفتر سيجارة

بول شاوول

1

كان المقهى مكتظا،‮ ‬والكراسي كلها مليئة‮. ‬والطاولات أيضا،‮ ‬وكذلك فضاء المقهى بغيوم دخان السجائر،‮ ‬وحثي الزجاج واللمبات،‮ ‬كان كل شيء مكتظا‮.‬
ومع هذا كان كل الموجودين في المقهى يتكلمون،‮ ‬حتى الصامتون منهم‮. ‬كأنهم ينافسون دخان السجائر‮.‬

2

كان يفتتح الصباح‮ »‬أو الفجر‮« ‬بسيجارة،‮ ‬بعدما كان يودع الليل بسيجارة أيضا،‮ ‬توقظه السيجارة صباحا،‮ ‬توقظ عينيه وحواسه وأصابعه وأنفه،‮ ‬والغرفة،‮ ‬وفنجان القهوة‮. ‬كانت المنبٌه الدقيق الذي لا يخطئ رنينه الصامت‮.‬
كانت بمثابة الشمس التي تشرق بين أصابعه،‮ ‬وإذا شئت أكثر‮: ‬كانت الشمس التي تبقي مشرقة حتى في الليل‮ »‬كشمعة أخري‮« ‬ربما في سهره أو فوق نومه‮. ‬وهو يتمدد حالما‮ ‬بشموسي‮ ‬أخري قد تأتي وقد لا تأتي‮. ‬أو ربما أتتْ‮ ‬ثم لم تأتي‮. ‬أو ربما كالسيجارة أّتّتْ‮ ‬وذابت في دخان جاحد‮.‬

3

كان يدخٌن مائة سيجارة تقريبا‮ ‬في اليوم‮. ‬مائة شمس تشرق وتنطفئ بين أصابعه‮. ‬مائة سيجارة من صنف واحد‮. ‬وكل سيجارة بنكهة مختلفة‮. ‬فأول سيجارة ليست كالثانية ولا كالثالثة ولا كالأربعين أو ما بعدها‮: ‬كل سيجارة تأخذ طعمها من كل شيء‮: ‬تأخذ من الصبح نقاءه،‮ ‬ولا مانع عطر زهرة أو هديل اليمام‮. ‬وتأخذ من الظهيرة قوتها وعنفها وإصرارها كميزان عدالة معلق في القبة السماوية‮.‬
ومن الليل هدوءه‮. ‬طعم العتمة أو عبق الكتب أو شميم النساء العابرات في المقهى،‮ ‬ومن الشارع‮. ‬روائح الأصوات والجلبة والسوق وحتى الخضار والواجهات والملابس‮: ‬شميم الشارع عندما تختلط روائح الأرصفة بروائح الناس‮. ‬وتّنّنّشقّها كلها في مجة سيجارة أشعلتها وسط الرصيف وأبقيتها في فمك على امتداد خطاك‮.‬

4

يحس أحيانا‮ ‬أن سيجارة لا تريد أن تنتهي‮. ‬أن تبقي مولعة أكبر مدة ممكنة بين أصابعه أو شفتيه أو حتى في المنفضة‮. ‬وفي مثل هذه الحالات يتركها على هواها‮. ‬يمجٌها بهدوء ويرخيها في المنفضة هكذا لتعيش بصمت انطفاءها البطيء

5

لم تتخلف السيجارة كثيرا‮ ‬عن مرافقته‮ »‬كأنها ملاكه الحارس‮«. ‬لم تفارقه على امتداد سنواته من المراهقة المبكرة وحثي المشيب‮. ‬نجحت معه في السرتيفيكا ثم في البكالوريا وتظاهرت معه في الجامعة وحزنت معه عندما‮ ‬غادره الأحباب والأصدقاء‮. ‬وهربت معه من منطقة الى منطقة أثناء الحروب وخطِفتْ‮ ‬معه عدة مرات وكتبت معه وقرأت معه وسقطت معه في الخيبات،‮ ‬وهاجرت معه ونّجّتْ‮ ‬معه عدة مرات وعادت معه‮...‬
لم تتخلٌف السيجارة كثيرا‮ ‬عن مرافقته،‮ ‬ولا هو تخلٌف عنها‮.‬
إثنان في الطريق الطويل‮.‬
في الطريق المجهول‮.‬

6

لم يكن يهون علىها أن تراه حزينا‮ ‬أو أن تلمح‮ »‬أحيانا‮« ‬دمعةّ‮ ‬في عينيه‮. ‬وتتمنى لو تمسح دمعته أو تشربها أو تمتصها أو تكفكفها أو تلامسها‮. ‬حزنه يزيدها أحيانا‮ ‬اشتعالا‮ ‬ويزيدها أحيانا‮ ‬أخري ندما‮: ‬في الحالة الأولي تستنفر جميع نارها لتشاركه‮. ‬وفي الحالة الثانية تغفو وحدها في المنفضة لكي تتجنب رؤيته حزينا‮. ‬على أنها كانت في جميع الأحوال أقرب الى عينيه من الدمعة،‮ ‬وأقرب الى أصابعه من الهواء‮.‬

7

تعرف السيجارة‮ ‬ومن مجرد تحسسه العلبةّ‮ ‬بمزاجه‮. ‬فعندما يعدٌها واحدة واحدة تدرك أنه مفلس‮. ‬وعندما كان يضعها أمامه على الطاولة ويتأملها بشرودي‮ ‬قاسي‮ ‬تدرك أنٌ‮ ‬شخصا‮ ‬عزيزا‮ ‬عليه فارقه أو ابتعد عنه‮. ‬وعندما كان يسحبها وعلى مهل ثم يطرق عقبها على طرف الطاولة أو ظاهر كفه،‮ ‬تتكهن بأنه متوتر أو قلق‮.‬
ولهذا كانت تستسلم سلِسّة‮ ‬أمامه وتنفخ دخانها بهبات خفيفة بطيئة‮. ‬وعندما كان يضعها‮ ‬بين شفتيه ويرفع الوّلاعة أو عود الثٌقاب ولا يشعلها،‮ ‬تعرف أن أمورا‮ ‬عويصة تدور في ذهنه‮. ‬وعندما يشعلها ثم يطفئها قبل أن يكملها ثم يمعسها ليشعل سيجارة أخري تلقي المصير ذاته كانت تدرك أنه مقبل على خطوة صعبة أو‮ ‬غير واثقة‮. ‬هي ربما ومن المرات النادرة لا تحب أن توضع في مثل هذه المواقف الحرجة‮. ‬ولهذا كانت تود لو تنطفئ قبل أن يشعلها‮. ‬أو تسقط من أصابعه قبل أن يرفعها بعنف الى فمه‮.‬

8

أشعل السيجارة وسجٌاها في المنفضة‮. ‬دخانها نحيل‮. ‬ووحيدة جدا‮. ‬وكانت أصابعه بعيدة‮: ‬يقرأ الجريدة أو يكتب أو ينظف النظارات‮.‬
كانت وحيدة تشتعل على طرف المنفضة‮. ‬في ذلك الصباح والأسباب‮ ‬غير معروفة،‮ ‬تركها هكذا مشتعلة،‮ ‬تشعل نفسها بنفسها‮. ‬تدخن نفسها بنفسها‮. ‬تحرق نفسها بنفسها‮.‬
وعندما تدارك الأمر كانت على آخرها‮. ‬وصلت الى شحبار الفلتر وصلت الى نفادها عندها شعر بذنب ارتكبه في حقها‮: ‬بأن يهملها هكذا على حافة المنفضة البعيدة عن أصابعه كأنما كان يعاقبها ربما على شيء لم تقترفه‮. ‬أو ربما اقترفته من دون قصد،‮ ‬أو ربما على ذنب اقترفه ولا يريد لا أن يتذكره ولا أن يعترف به‮.‬

9

يتذكر أنه كان يعرف أن الفجر قد شعشع عندما تشعل والدته أول سيجارة لها،‮ ‬كان يعرف وهو نصف نائم من‮ »‬شحطة‮« ‬عود الثقاب ومن ضوء السيجارة أن نهار والدته ابتدأ ولهذا صار كلما رأي عودّ‮ ‬ثقاب يشتعل حتى في النهار يتذكر والدته وهي تشعل النهار من أول أطرافه بأول عود ثقاب وبأول سيجارة‮.‬

10

لا يعرف لماذا يستهويه أحيانا‮ ‬النظر الى الأشياء من خلال دخان السيجارة‮ »‬لعبة أطفال‮«. ‬هكذا يشعل واحدة ثم يرفع رأسه وينفخ الدخان أمامه مرات متتالية فينتفخ ما يشبه الغيوم الشفافة الخفيفة المشٌّوشةّ‮ ‬أمامه‮. ‬وعندها يكون له أن يري الهواء‮. ‬الدخان جسم الهواء‮. ‬ثم ينفخ على كل ما أمامه‮: ‬الطاولة البنية فيتغير لونها لحظة هي والمنفضة والولاعة وفنجان القهوة ثم يغبش اللون الى ما يشبه اللالون ليتلاشي بين ألوان الطاولات واللمبة والجرائد والناس‮. ‬آه عندما يخترق الدخان بخفة السحرة الوجوه والأنوفّ‮ ‬والملابسّ‮ ‬وحثي الكلام‮. ‬ليجلس لحظة كطيف عابرِ‮ ‬الى كل الطاولات ويغادر‮.‬
مرات عديدة يشعر أن الدخان الذي أطلقه كعيون محجبة يتعثّر بالهواء‮. ‬ويكاد يعرج أو يلتوي‮ »‬كغيمة تغّيٌر مسارها ‮«‬،‮ ‬وكأنه لا يريد ‮. ‬أن يتجمٌّد هكذا فوقه‮. ‬ربما احتجاجا‮ ‬على أمر لا يعرفه‮. ‬أو عنادا‮. »‬والدخان يعاند ككل الكائنات الحية والميتة«وعندها بالذات يتراجع الدخان عدة دوائر أو عدة ألوان،‮ ‬وكأنه نسي شيئا‮ ‬وراءه،‮ ‬ثم يتقدم تاركا‮ ‬وراءه خيطا‮ ‬رفيعا‮ ‬يحط على شعره أو على أنفه أو جيبه أو أذنه‮.‬
وعندها يشعر عندما ينفخ هذا الدخان أنه قد يكون خسر شيئا‮ ‬لا يستطيع أن يحدده‮ »‬والدخان رحيل أيضا‮«. ‬ولهذا يتبع المجةّ‮ ‬بأخرى فمجة أخرى لعله يستبقي شيئا‮ ‬ينظر من خلاله الى الأشياء العابرة حوله‮. ‬الى ظله على الطاولة البنية اللامعة في المقهى‮.‬

11

عندما سّحّبّ‮ ‬آخر نّفّسي‮ ‬من السيجارة ورمي عقبها،‮ ‬شعر بشيء من الحزن‮. ‬لطالما تمني لو انه لا يرمي الأعقاب‮: ‬أن يحفظها كما يحفظ البوم الصور أو الطوابعّ‮ ‬البريدية أو بطاقات المعايدة‮.. ‬أو حتى الرسائل القديمة،‮ ‬ولهذا ربما عندما يطفئ السيجارة بعد السيجارة في المنفضة وتمتلئ بالأعقاب والرماد وأحيانا‮ ‬بأعواد الثقاب يطلب من النادل أن يتركها عندما يأتي ليفرغ‮ ‬المنفضة‮ »‬من باب النظافة‮«. ‬ولذلك ربما لا يحب المنافض النظيفة‮ »‬كأنها بلا ذكرى‮« ‬ويحبٌ‮ ‬أن يري فيها شيئا‮ ‬مما يتركه في السيجارة كالرماد أو أعواد الثقاب‮. ‬ولهذا كان يحتفظ بتلك المنافض القديمة‮ »‬المحروقة‮« ‬بأطراف السجائر،‮ ‬وما التصق في قعرها من آثار رماد‮.‬
هذا يشبه أن تحتفظ بشيء تركه عزيز لديك وتولي من دون أن تعرف ولا وجهته ولا مصيره‮.‬

12

قبل أن يشعلها رفعها أمام عينيه‮. ‬ثم قلبها ثم حطها على الطاولة بين المنفضة وفنجان القهوة الأبيض والولاعة الزرقاء والورقة والقلم‮. ‬وضعها بين كل هذه الأشياء وراح يستمتع بالمشهدية الجميلة‮. ‬هذا هو المتاع الدائم الذي يحمله منذ مدة طويلة‮: ‬لوحة حية لم تعبث يدج‮ ‬بألوانها أو بأشكالها‮. ‬لكن عندما راح ينظر الى هذه الأشياء التي وزعها بطريقة فنية ارتجالية بدا له كم أن طريقه طويل،‮ ‬وكم أن متاعه قليل‮. ‬وشعر بأنه إذا نقص شيء من هذا المتاع‮ »‬المنقول‮« ‬فسيصيبه خوف‮ ‬غامض‮. ‬لأنه أحسٌ‮ ‬عميقا‮ ‬أنه أيضا‮ ‬جزء‮ ‬من هذا المتاع،‮ ‬وإذا سقط شيء من هذا المتاع كأنما سقط منه الى الأبد‮.‬

13

السيجارة في فمه،‮ ‬يتأمل ما حوله‮: ‬المقهى،‮ ‬الشارع،‮ ‬الناس،‮ ‬الباعة‮ ‬،‮ ‬السيارات،‮ ‬السيجارة التي وضعها في فمه مشعلة بقيت مدة طويلة من دون أن يسحب منها نّفّسا‮ ‬واحدا‮. ‬تركها تشتعل وحدها من دون أن ينفض رمادها‮.‬
كانت الأشياء في ذلك اليوم‮ ‬غائبة كثيرا‮ ‬كأنها لم تكن في أمكنتها أو ربما هو أيضا‮ ‬لم يكن في مكانه‮.‬
والسيجارة مثله،‮ ‬لم تكن أيضا‮ ‬في مكانها‮.‬

14

كان يدخن السيجارة،‮ ‬أمس،‮ ‬ويراها جميعها‮. ‬يتحسٌسها‮: ‬تبغها،‮ ‬لونها،‮ ‬رأسها،‮ ‬عقبها،‮ ‬ويمررها على أنفه‮. ‬كان يحس بها في فمه،‮ ‬وبين أصابعه،‮ ‬يحس‮ »‬بزرزورها‮« ‬ورمادها وحتى بأعقابها في المنفضة‮. ‬وعندما يرفع يده ويضعها في شفتيه ويقيس تلك المسافة بينهما،‮ ‬كان يراقب الدخان الذي ينفثه وهو يأخذ كل الألوان التي يمرٌ‮ ‬بها‮.. ‬والدخان أيضا‮ ‬لون‮ ‬وعدة ألوان‮.‬
بعد كل هذه السنوات،‮ ‬بات يحس كأن السيجارة هي التي ترفع نفسها الى فمه،‮ ‬وتدخن نفسها وحدها‮. ‬أو أن شخصا‮ ‬آخر بات يدخنها،‮ ‬ويتذكره بكثير من الحنين‮.‬

15

مات والده بسبب السيجارة‮. ‬ووالدته أيضا،‮ ‬وشقيقتاه،‮ ‬وعدة أصدقاء‮.. ‬كلهم ماتوا بالسيجارة،‮ ‬مع هذا فعندما حضر جنازات هؤلاء،‮ ‬كانت السيجارة في فمه،‮ ‬وكأنها تشارك في التعزية‮. ‬عزي وعانق وأدمع وحزن وضاقت به الدنيا والسيجارة في فمه‮. ‬وعندما كان يغادر تبقي السيجارة في فمه‮. ‬يفتح باب منزله والسيجارة في فمه‮. ‬وعندما يضع رأسه بين يديه ويجهش ويأسف ويغضب ويخاف كانت السيجارة دائما‮ ‬تنفث دخانها بهدوء مضطرب‮.‬
كل هؤلاء الذين فقدهم أحبوا السيجارة مثله‮. ‬وماتوا بها‮. ‬هو أيضا‮ ‬كلما تّذّكٌّرهم وهم يدخنون يسحب سيجارة ويحييهم وهو يشعلها بين التذكارات والأسف والاشتياق‮.‬

16

كان يخطر له أن يشبٌه السيجارة بالمرأة،‮ ‬لكن المرأة تأتي ثم تذهب‮.‬
كان يحِبٌ‮ ‬أن يشبه السيجارة بالوردة لكن الوردة تذيل كثيرا
كان يحِبٌ‮ ‬أن يشبه السيجارة بالصداقة،‮ ‬لكن الصداقة لا تدوم‮.‬
كان يحِبٌ‮ ‬أن يشبه السيجارة بالموت لكن الموت لا يأتي سوي مرة واحدة‮.‬
عندها لم يكن له سوي أن يشبٌه السيجارة بالسيجارة‮.‬

17

لا يميٌز أحيانا‮ ‬ما إذا كان يفكر لكي يدّخٌن أو يدخن‮ ‬لكي يفكر‮.‬
أكثر‮: ‬لا يميز أحيانا‮ ‬ما إذا كان يفكر لأنه يدخن،‮ ‬أو يدخن لكي يفكر أكثر،‮ ‬لا يميز أحيانا‮ ‬إذا كان يدخن من دون أن يفكر أو يفكر من دون أن يدخن‮.‬
هذا الالتباس تنافي الى حد جعله لا يميز دائما‮ ‬من يدخن الآخر‮:‬
هو يدخن السيجارة أم أن السيجارة هي التي تدخنه‮.‬

18

كتب هذا الصباح في المقهى خمسين سيجارة ثم محاها كلها بلا أسف يذكر‮.‬

19

رماد السيجارة سرٌها الدائم‮.‬
أمامها

20

لكنه السرٌ‮ ‬الذي يفوح علىك ولا تعرفه

21

يتذكر أن صديقه وجيه عندما منعه الطبيب عن التدخين بإلحاح بعد عملية قلب مفتوح عمد الى وضع السيجارة في فمه من دون أن يشعلها‮. ‬بقيت هذه السيجارة في فم وجيه سنوات عديدة‮. ‬وعندما مات وجيه بهدوء بقيت السيجارة في فمه‮ ‬غير مشتعلة‮.‬
وكان وجيه،‮ ‬كما يروي،‮ ‬سعيدا‮ ‬جدا‮ ‬بهذه النهاية التي بقيت فيها سيجارته‮ ‬غير المشتعلة آخر شيء لمسه في هذا العالم‮.‬
آخر رفيق ودٌّعه بعناق طويل‮.‬

22

قد لا يتذكر دائما‮ ‬السيجارة الأولى التي دخنها‮. ‬لكن من يعرف متى سيدخن السيجارة الأخيرة؟
تساءل وهو يتذكر الأصحاب الذين لم يتذكروا السيجارة الأولي ولم يعرفوا متى سيدخنون سيجارتهم الأخيرة‮.‬
مع هذا رحلوا وهو يرجون أن تكون أمنيتهم الأخيرة سيجارة توضع بين شفاههم ولا يدخنونها‮. ‬هكذا ربما كزهرة توضع على صدورهم‮. ‬أو كمنديل في أيديهم،‮ ‬أو كقبلة على جباههم‮.‬

23

أيهما يتناوله قبل البحر في الصباح الباكر‮: ‬أي ما هي أول‮ »‬شّفٌّة‮« ‬يأخذها‮: ‬من القهوة أو من السيجارة؟ المسألة‮ ‬غير سهلة‮. ‬فالصبح يحتاج الى ما يليق بتدشينه‮. ‬والقهوة والسيجارة كلتاهما تليق به وأكثر‮.‬
ولهذا ومن باب التوازن وربما التراضي قسٌم الصباحات بينهما‮: ‬يومٌ‮ ‬يشف السيجارة قبل القهوة وآخر يشف القهوة قبل السيجارة‮. ‬لكن ماذا يفعل عندما يؤخذ أحيانا‮ ‬بسحر الصباح الطازج الباكر‮. ‬وبسمائه والبحر المترامي أمامه من شرفته العالية وحديقته المليئة بالشجر والورد وهديل اليمام على أسلاك الكهرباء والسطوح‮.‬
في مثل هذه اللحظات تختلط الأمور وينسي الاعتبارات فيحمل السيجارة بيد وفنجان القهوة بالأخرى وهكذا تتوازن الأمور في مخٌه جيدا‮ ‬من دون أن يعرف ما إذا افتتح الصباح بالقهوة أم بالسيجارة‮.‬

24

يلاحظ أحيانا‮ ‬أن السيجارة في فمه تتقدم الى الأمام أكثر مما يتقدم‮.‬
تسبقه بجمرتها وبدخانها أحيانا‮ ‬الى حيث لا يريد أن يذهب‮.‬

25

يحس أحيانا‮ ‬وهو يشعل السيجارة وكأن أجراسا‮ ‬بعيدة تحترق علىها،‮ ‬وكأن دخانا‮ ‬عميقا‮ ‬آتيا‮ ‬من الحفر‮. ‬والطفولة،‮ ‬والموتى يتلاشى أمامه وهو جالس وحده يشعل السيجارة من السيجارة‮. ‬وتحترق وراءه أجراس‮ ‬بعيدة وضباب يطلع من كل الأودية والأحراش التي عبرها ذات زمن وتٌّولّتْ‮ ‬إلى الأبد‮.‬

26

شي في مؤخرة الجنازة‮. ‬رآهم كلهم‮. ‬والنعش المحمول على المناكب أيضا‮. ‬وملابسهم الداكنة،‮ ‬ربطات عنقهم همسهم،‮ ‬صمتهم‮.‬
كانوا يودعون الميت برؤوس هادئة‮. ‬هو سحب سيجارة وأشعلها وراءهم جميعا‮. ‬ونفخ دخانها فوق رؤوسهم وتنهد‮: ‬كان ذلك أجمل ما يمكن أن يقدمه في وداع الصديق الذي سّبقه وربما طويلا‮ ‬ومبكرا‮ ‬تماما‮ ‬كدخان السيجارة الذي يّتّبٌّدد بصمت فوق الرؤوس وفوق النعش المتهادي‮.‬
كانت السيجارة التي دخنها آخر دمعة يذرفها على صديقه الراحل‮.‬

27

عندما تشعل سيجارة تحس أن شيئا‮ ‬منك يرحل بهدوء مع دخانها‮.‬
وينساه‮.‬

28

شعر بأن أفكاره تأتي دائما‮ ‬متأخرة تلهث بعرقها البارد خلف دخان سيجارته‮.‬

29

الشفاه الباردة لا تجيد التدخين‮.‬

30

الشفاه الحارة تحرق السيجارة قبل أن تشعلها بعود الثقاب‮.‬

31

عندما قالت له‮ »‬انزع السيجارة من فمك لكي تقّبٌلني‮« ‬نظر إليها طويلا‮ ‬وقبٌّلها بعينيه‮.‬

32

مازلتّ‮ ‬بعد أكثر من‮ ‬40‮ ‬سنة من أول سيجارة أشعلتها بطريقة سيئة،‮ ‬تشعلها اليوم بطريقة سيئة أيضا،‮ ‬ذلك أن السيجارة كالشعر خطأ جميل‮.‬

33

كانت ثقيلة أول سيجارة حملتها قبل أكثر من أربعين عاما‮. ‬وكانت أثقل عندما وضعتها بين شفتيك وأثقل عندما أشعلتها وأثقل عندما نفخت دخانها‮.‬

34

تلك السيجارة الأولي التي أشعلتها مازالت على عهدها الأول ثقيلة ثقيلة لكن أيضا‮ ‬بخفة كل السنوات التي انقضت بلا طائل‮.‬

35

مجٌ‮ ‬مجٌة عميقة من سيجارته ونفخها على وجه تلك المرأة حتى تغلغل الدخان في شعرها الطويل وعبقتْ‮ ‬رائحته في ثيابها وصدرها وعنقها،‮ ‬فكأنما استسلمت لتلك الملامس وكأنها أيقظت فيها أعشابا‮ ‬محترقة نامت طويلا‮ ‬على جلدها وشفتيها‮.‬

36

عندما رفع السيجارة أمامه وتملاٌها بجميع عينيه تذكر بعد أكثر من أربعين عاما‮ ‬سيجارته الأولي‮.‬
ابتسم وكأنه يقول‮: ‬كّبرت السيجارة كثيرا‮ ‬لكنها مازالت أصغر مني بكثير‮. ‬لكنه تدارك وكأنه يقول‮: ‬مع هذا مازلت أكبر منها بسنوات كثيرة‮. ‬وعندما أراد أن يعدٌ‮ ‬على أصابعه الأيام والسنوات،‮ ‬وضع السيجارة في فمه وأشعلها وتركها تعدٌ‮ ‬وحدها كل تلك السنوات التي رافقته فيها‮.‬

37

ماذا يمكن أن تفعل عندما يلتقي صمتان‮: ‬صمتك وصمت السيجارة‮. ‬ربما لا شيء وربما الكثير،‮ ‬لكن الأرجح أنك كلما ازداد صمتك ازددت تدخينا‮.‬
الفارق أن صمتك واضح كالطاولة أحيانا‮ ‬وصمت السيجارة مجهول الإقامة كالدخان‮.‬

38

يحب دخان السجائر أن تلاعبه،‮ ‬وتمازحه،‮ ‬كأن تنفخّ‮ ‬دوائر متتالية منه في الهواء دوائر كالأساور والخواتم بشكل الشفاه التي تطلعها‮. ‬أو كأن تنفخه كبالونات تتلاشي فور استدارتها مثل تفاحة أو كرة،‮ ‬أو كأن تنفخه بقوة نحو الأسفل أو نحو الأعلى أو نحو قميصك،‮ ‬ويكون له أن يشبٌه نفسه بالهواء أو حتى بالنظرة‮ »‬والدخان عين أيضا‮«. ‬أو أن ترسله هبات هبات خفيفة هشة بالكاد تراها كغيمة على آخرها‮. ‬ذلك لأن دخان السجائر يحب أن يشبٌه نفسه بالغيمة‮. ‬لكن،‮ ‬ربما أكثر ما يستهوي دخان السجائر أن تنفخه بهدوء على الأصابع أو الوجوه أو حتى الشعر لكي يحلم أحيانا‮ ‬أنه يستطيع أن يصير شيئا‮ ‬من الحواس والثياب وخصوصا‮ ‬الشٌّعر‮.‬
ذلك أن دخان السيجارة لا يريد أن يصدٌق أنه فقط مجرد دخان سيجارة‮.‬

39

عندما يشعل سيجارة في‮ ‬غرفته الضيقة وهو ينفث دخانها بين الستائر والجدران والأبواب المغلقة لا يعرف لماذا يتذكر الشاعرة الأمريكية أميلي ديكنسون‮. ‬تلك التي كأنها احتفظت بسيجارة واحدة في حياتها في‮ ‬غرفتها المنعزلة،‮ ‬ولم تشعلها أبدا‮. ‬أو كأنها خبأت طويلا‮ ‬سيجارتها وراء عينيها وهي تنظر على امتداد ثلاثين عاما‮ ‬من الاعتزال من خلال زجاج النافذة العالم الذي أمامها كخيالات طويلة من دون أن تعرف لا من حيث أتت هذه الخيالات ولا الى أين تمضي‮. ‬خيالات تطلع من‮ ‬غرفتها التي خبأت فيها سيجارتها الى ذلك الشارع المكتظ بنهاياته الدائمة‮.‬

40

يحس أحيانا‮ ‬وفي لحظات قاسية كأنه يدخن سجائره دمعة دمعة‮.‬

41

المقاهي تشبه السجائر التي يدخنها‮. ‬هذا ما خطر له عندما أصابه الحنين الى المقاهي التي تردد علىها في صباه وفي مختلف السنوات اللاحقة‮. ‬تذكر مقاهي البرج والروشة والحمراء وسن الفيل والحازمية‮. ‬تذكرها واحدا‮ ‬واحدا‮. ‬واستعاد بذلك ما كان يدخن من سجائر‮: ‬مقهى اللاروندا يطل على ساحة البرج‮. ‬في تلك الفترة كان يدخن اللاكي سترايك‮ »‬يشتريها بالمفرق،‮ ‬فلت من رصيف الكريستال أو من أحد المحال في العاصمة‮«. ‬ولهذا عندما خف به الحنين من رؤوس دخان سيجارته الى ذلك المقهى ذي الطابقين والدرج اللولبي،‮ ‬فاحّتْ‮ ‬في أنفه رائحة اللاكي سترايك التي صارت رائحة المقهى،‮ ‬وبدا له أن هذا المقهى‮ »‬وغارسونه الرائع محمد‮« ‬يشبه السيجارة التي كان يدخنها

42

آنئذي‮ ‬كأنٌّ‮ ‬دخان السجائر كان يرسم شكل المقهى‮. ‬والدرج والبار والغارسونية والطاولات والكراسي‮: ‬مقهى يشبه اللاكي سترايك وعبقه‮. ‬المقهى عبق قديم مازال يفوح كلما تذكر تلك السيجارة في فمه وهو ينظر من خلال الزجاج ساحة البرج والترامواي وقهوة القزاز ومسرح فاروق وسينما ريفولي وسوق المتنبي‮ »‬الغانيات‮« ‬ومقهى الجميزة‮. ‬كأن دخان السجائر الذي كان ينفثه يغطي تلك الساحة التي كان يحصي بلاطها وسينماها ومقاهيها ومحالها وساحتها الشهيرة‮. ‬خطوة خطوة وسيجارة سيجارة‮.‬

43

عندما بدأ بارتياد الهورس شو في الحمراء كان حسم اختياره‮.. ‬نهائيا‮: ‬الغولواز بلا فلتر‮. ‬وفي ذلك المقهى اختلفت وتنوعت كل أشكال السجائر وروائحها وألوانها‮: ‬من المالبورو والكانت والجيتان و»إل‮. ‬ام‮« ‬وطبعا‮ ‬الغلواز تماما‮ ‬كما كانت تختلط وجوه النساء والكتٌاب والرواد بأعباقهم وأشكالهم وألوانها‮. ‬ولهذا اكتشف بعدها أن رائحة الغلواز كانت الأضعف بين روائح السجائر والعطور و»الإفتر‮« ‬شيف‮ »‬بعد الحلاقة‮«. ‬وهذا ما جعل المقهى بلا رائحة طاغية بل مقهى الروائح كلها‮. ‬ولأن المقهى كان صغيرا‮ ‬الى حدٌ‮ ‬ما،‮ ‬فقد بدا أحيانا‮ ‬وكأنه ومن كثرة المدخنين يعوم على‮ ‬غيمة ملونة من دخان السجائر‮. ‬بل كأنه كان‮ ‬غيمة صغيرة،‮ ‬وسط منفوخِة بكل الشفاه والوجوه التي كانت تدخن أيامها وكلماتها وصمتها وقبعاتِها وأوراقّها في فضاء واسع امتص ما امتص منها‮. ‬وابتلع ما ابتلع منها،‮ ‬في تلك اللحظات التي كانت تشبه،‮ ‬كالمقهى،‮ ‬كل سيجارة أشعلت وأطفئت على وقع الأيدي والرؤوس التي نفخت دخانا‮ ‬كثيرا‮ ‬لم يتبق منه شيء بعد كل تلك الحروب والحرائق‮... ‬والسنوات

44

ذلك أن المقهى يتلون أيضا‮ ‬بنوع السيجارة التي يدخنها‮... ‬
واكتشف كم أن المقاهي كانت تتغير ألوانها مع تغير أنواع السجائر،‮ ‬ولكل دخان ينفث فيها شكله‮ ‬الخاص،‮ ‬وفضاؤه الخاص وكرسيه الخاص‮. ‬فالمقاهي تشبه السجائر‮. ‬تماما‮ ‬كما تشبه ناسها وأرصفتها وأسرارها‮. ‬ولهذا كان يري أن الدخان يغّيٌر أحيانا‮ ‬ألوان الحيطان وكأنها تشارك بالتدخين،‮ ‬وتحسها ستسعل أو ستكح كأي مدخن‮. ‬ولهذا أيضا‮ ‬يمكن إضافة ألوان دخان السجائر الى قائمة الألوان المعروفة‮: ‬من أزرق إذا هبٌ‮ ‬من الشفتين عرفتّ‮ ‬أن الأفكار زرقاء،‮ ‬ومن أحمر منفوخ عرفتّ‮ ‬أن المشاعر خاصة جدا‮. ‬ومن أخضر إذا توقف على الأنف عرفت أن‮ ‬غابة شفافة تطلع بكل هدوء‮.. ‬ويمكن أن تتحري بشيء من الفضول الأشياء الموضوعة على الطاولة لتري مشهدية ممتعة من قوس قزح يغمرها بلا إذن ولا اعتذار‮.‬
ذلك أن الأشياء والمقاهي تصبح من ألوان السجائر وشميمها وأنسابها‮.‬
ذلك كأن السيجارة قد تصير ذاكرة متجولة تبدأ بالدخان وتنتهي بالدخان‮.‬

45

يتمازج دخان السيجارة والبخار المتصاعد من فنجان القهوة‮.. ‬كما يتمازج النوم والغياب‮.‬

46

الوالدة رأت آخر سيجارة على سريرها الأخير‮. ‬مستها مسٌا‮ ‬بشفتيها واطمأنت‮. ‬تماما‮ ‬كما يطمئن المحكوم بالإعدام الى آخر سيجارة يطلبها ويمجها قبل أن ينسدل الستار الأخير علىه‮.‬

47

والوالد أيضا‮ ‬عرف كيف يخبئ تحت الوسادة سيجارته الأخيرة‮.. ‬ويشعلها وينفخ دخانها أمامه وهو يغمض عينيه الى الأبد‮.‬
كأنما رحل وبقيت السيجارة على نصفها مشتعلة بين شفتيه‮. ‬كأنما كان له ما أراده‮: ‬أن يسبقها ولو بلحظة الى ذلك الانطفاء الدائم‮.‬

48

‮... ‬وما نّغٌّص رحيل صديقي نبيل أنه لم يرّ‮ ‬بين الذين وّدٌّعوه من يحمل ولو سيجارة في فمه‮.‬
ولو سيجارة مطفأة‮. ‬فعمد وبطريقة سينمائية‮. ‬وهو يحب السينما،‮ ‬الى سحب سيجارة من تحت شرشفه الأبيض‮. ‬وبابتسامة خافتة وقدمها الى أحد الذين انحنوا علىه لتوديعه‮.‬
وكانت ابتسامته الأخيرة مقابل دمعة صديقه التي سقطت حارة حارة على جبينه‮.‬
السيجارة كانت ابتسامته الأخيرة،‮ ‬مشهده الأخير‮.‬

49

في بعض التقاليد يدفنون مع الجنود البواسل سيوفّهم وأوسمتّهم تكريما‮ ‬لهم‮. ‬تساءل‮: ‬لماذا لا يدفنون معه ومع أصدقائه،‮ ‬ولو علبة سجائر واحدة ولو سيجارة ولو عقب سيجارة ولو عود كبريت ولو نفسا‮ ‬عميقا‮ ‬من مجة سيجارة على ملابسهم ووجوههم وصورهم‮.‬

50

يدفنون أوهام الجنودِ‮ ‬البواسل معهم من أوسمة وسيوف وإشارات،‮ ‬فلماذا لا يدفنون أجمل أوهام الذين لم يرموا السيجارة حتى آخر نفس من أنفاسهم حتى آخر وهم في دخان سجائرهم‮.‬

51

‮.... ‬إنه الوهم الذي تراه،‮ ‬تضعه في جيبك‮ . »‬وهل أجمل من وهم تضعه في جيبك‮«...‬
يشبه الهواء أحيانا‮ ‬أو الرماد أحيانا‮ ‬أخري أو الظل‮. ‬وّهْمج‮ ‬بحجم الإصبع‮. ‬وأرق‮. ‬أو أغلظ‮. ‬تسحبه تشعله،‮ ‬تمجه،‮ ‬تطفئه،‮ ‬ترميه،‮ ‬ثم تتكرر اللعبة‮: ‬تسحبه،‮ ‬تشعله،‮ ‬تمجه،‮ ‬تطفئه ثم ترميه‮.‬
الوهم الخالص يستوطن أصابعك وصدرك ورئتيك وشرايينك ليجعلها وهما آخر‮.. ‬يجعل الحياة كلها وهما آخر‮.‬
وهما‮ ‬قاتلا‮ ‬ككل الأوهام الجميلة‮.‬
‮- ‬الى متى‮!‬
‮- ‬لا أعرف
‮- ‬ربما حتى النهاية؟
‮- ‬لا أعرف
‮- ‬ربما قبل النهاية؟
‮- ‬ربما تسقط من يدي
‮- ‬وتلمْها‮!‬
‮- ‬ربما‮!‬
‮- ‬ربما تسقطها من يدك‮.‬
‮- ‬ربما
‮- ‬ربما لا تسقط من يدك ولا تسقطها من يدك؟
‮- ‬ربما‮.‬
‮- ‬ربما انتزعت من يدك
‮- ‬أشعل‮ ‬أخري
‮- ‬ربما احترقت على شفتيك‮.‬
‮- ‬أشعل أخرى
‮- ‬ربما سبقتك بدون إنذار
‮- ‬ربما أسبقها بدون إنذار
‮- ‬ربما تخلٌت عنك قبل فوات الأوان
‮- ‬ربما لا أتخلي عنها بعد فوات الأوان
‮- ‬حتى النهاية؟

52

يبتسم عندما يلتقي البخار المتصاعد من فنجان القهوة الساخن دخان‮ ‬سيجارته‮. ‬ويبتسم أكثر عندما يتمازجان ويتلاشيان معا‮ ‬هواء‮ ‬في هواء أو صمتا‮ ‬في صمت ورحيلا‮ ‬في رحيل‮.‬

53

لا يعرف لماذا عندما رأي دخان السيجارة يمتزج ببخار القهوة‮... ‬أحس بحنين‮ ‬غامض‮. ‬ذلك أن الحنين أحيانا‮ ‬يشبه تمازج دخان السيجارة ببخار القهوة الساخنة
لحظة لا تعرف الراحة‮.‬

54

أين يذهب دخان السيجارة عندما تبتلعه؟ كيف يشق طريقه في الزلعوم وكيف يتوزع في الصدر وصولا‮ ‬ربما الى البطن والكلي‮. ‬في أي شريان يعلق ويقيم‮. ‬أيٌّ‮ ‬رئة يختار‮: ‬اليمني أو اليسرى هل تجري يتوقف في الحنجرة‮. ‬هذا الدخان الشفاف الرقيق أيٌ‮ ‬منطقة سيخترق في هذه السيجارة التي تمجها بقوة اليوم،‮ ‬في أي منطقة قد تصير محظورة علىك ذات يوم أو ذات صباح أو ذات‮ ‬غياب طويل‮.‬

55

ربما عرفتّ‮ ‬متى دخنتّ‮ ‬أول سيجارة لكن من سيعرف متى ستطفئ آخر سيجارة قد ترميها في المقهى أو في الشارع أو في السيارة أو‮ ‬من على حافة سرير‮.‬
آخر سيجارة كأول سيجارة طازجة في مجيئها وأكثر طزاجة في رحيلها‮.‬

يصدر الديوان خلال أيام عن دار النهضة العربية

أخبار الأدب
30 نوفمبر 2008