عزت القمحاوي
(مصر)

غواية الحذاءالحذاء باختصار هو النعل، ولكن معاجم اللغة تتوسع في ألعابها التي تجعل للحذاء معان وأضدادها: فتتحدث عن المحاذاة والحذا،أي قعد أو وقف بحذائه، وأصلها من النعل أيضا (حذا النعل بالنعل أي قدر كلا منهما علي صاحبه) وحذا حذوه أي فعل مثله، لكن حذا الجلد قطعه، وحذا فلانا بلسانه أي عابه، وتحاذي القوم الشيء أي تقاسموه، وأحذى إحذاء أي : أعطاه قسما من الغنيمة. لكن الكلمة تعود فتحمل معني مضادا وهو: طعن طعنة.
وهؤلاء الذين يتحاذون في مصر الآن، طعنا وتقاسما للغنائم، حملونا حملا إلي هذا الملف عن المراكيب أعز الله قراءنا وإن كنا لانستطيع أن نوقف تحاذيهم، فإننا نحاول، علي الأقل، أن نرد الاعتبار للحذاء المتعدد الفضائل، الذي يحاول مناخ الاحتباس السياسي احتكاره وتوظيفه في وظيفة واحدة.

*****

فضائل النص المفتوح

عندما تحولت العديد من المكتبات الشهيرة وسط القاهرة إلي محال للأحذية مع منتصف سبعينيات القرن الماضي كان ذلك إيذانا ببداية انهيار مجتمع بدأ في وضع قدمه مكان الرأس. أو كما في المثل الشعبي (مطرح ما يحط راسه حط رجليه)!
وكان من الطبيعي أن يتقدم الحذاء خلال مسيرته الظافرة ليصبح علي ما نراه اليوم: وسيلة للحوار السياسي، مما يؤذن بمرحلة في لون الصباغ!
الدلالة مخيفة لكنها لاتنفي أن بعض الأحذية أكثر نفعا من بعض الكتب، وأكثر نبلا من بعض الأيدي التي ترفعها ومن بعض الرؤوس التي تستهدفها. ويمكننا في هذا السياق أن نثق في تقدير عبدالسلام النابلسي الذي تولى الإعلان الكاريكاتوري عن استمرار الأرستقراطية البائدة بعد التأميم عندما أشار إلي أحدهم في فيلم لا يحضرني اسمه: شايف الجوز الجزمة ده؟ دا أحسن من جوز خالتك!
والعنف في الحوار السياسي ليس جديدا وقد سبق أن هدد العقاد تحت قبة البرلمان بسحق أكبر رأس في هذا البلد، لكنه ترك الوسيلة لخيال المتلقي، فلم يحدد إن كان سيستخدم القبقاب أو الحذاء أو يد الهون، وهذا هو فضل النصوص المفتوحة علي النصوص المغلقة، فهي تترك فرصة لعمل خيال المتلقي.
لكن العقاد رحمه الله كان كاتبا ولايمكن أن نطالب أرباب البيزنس بأن يكونوا كأرباب القلم، ولايمكن لأحد في بلد ديمقراطي أن يمنع أحدهم من حق استخدام الحذاء وسيلة في الحوار السياسي، تعويضا لنقص الشفافية أو الفاعلية القانونية.
لكن بوسعنا أن ننصح بتنويع مصادر السلاح في معارك من هذا النوع، فمن شأن ذلك أن يكسر ملل الجمهور، ويوفر للحرب أخلاقياتها: حيث يجب أن تختلف أسلحة الردع كالجزمة والبنص والصندل والبجلغة عن أسلحة الدمار الشامل كالقبقاب والنعٌال والجزمة الدبابة ذات الحدوة، كما يجب أن تختلف الأسلحة الموجهة إلي رؤوس الأعداء عن تلك التي تستخدم في التهارش والخلاف الطفيف بين أعضاء الحزب الواحد، وهو ما يصلح له المنتوفلي أوالبنتوفلي (حسب الأصل الفرنسي لشبشب المخمل الحنون)!
ولايجنح باستخدام الزنوبة أو الخدوجة حتى لايتعرض مستخدمها إلي استجواب شرعي، فهي من الإسرائيليات المدسوسة.
علي أن هذا الاستغلال السياسي، مهما كانت درجة العنف الرمزي والرغبة في الإساءة التي ينطوي عليها، فإنه لن يصل إلي الحد الذي بلغه فلاح فصيح أعرفه عاني من ظلم أحدهم، فجاءه من يطيب خاطره ويعده بأن ذلك الظالم مصيره النار بكل تأكيد. فما كان من المظلوم إلا أن تساءل باستنكار: النار؟! عادي كده؟! دا هايسيحوه ويصبوه شباشب يلبسها الكفار وهما داخلين النار!
مسخ الإنسان إلي حذاء هو الخيال الأعنف، لكن اعتبار الحذاء أسوأ من الظالم ليس سوي افتئات علي المركوب وجحود للعديد من المسرات التي يوفرها للبشرية خلال رحلة تلازم المصير منذ عرف الإنسان طريقه إلي هذه الصحبة التي لاتنتهي إلا بالموت.
ولو أن أحدا من المضاربين في البورصة والمتضاربين بالحذاء عرف الهوى لكان أرأف بمركوبه، وأنأي به عن هذا التضاد الحاد مع مستقبلنا السياسي، فالحذاء منصة إطلاق لصواريخ الجمال، علي متنه تنتصب قامة المرأة الرشيقة، ومع القبعة ينغلق القوسان الصلبان اللذان يغلفان البهجة.
حجم الغواية الكامن في خلع أو إيلاج القدم في الحذاء لايقل في رمزيته عن غواية الكشف والإخفاء التي توفرها أزياء مثل الملاءة اللف التي تجعل من الجسد نصا متعدد الطبقات.
يقوم الحذاء أيضا مقام القيد ويداعب نوازع الصيد المتوحشة النائمة في لاوعي الرجال، وهذا هو سر جمال الأحذية ذات العنق (البوت) فرغم وظيفة الإخفاء التي يمارسها عنق البوت إلا أن هذه التخشيبة الجلدية التي توضع فيها الساق تحيل إلي القيد، والأكثر إثارة منها الأربطة الجلدية علي الساق التي تزداد إثارتها كلما تزايدت تشابكاتها كعقدة من الأحبال محكمة.
وقد أدركت السينما بشكل كبير الإيروتيكية التي ينطوي عليها الحذاء، وفي كثير من الأفلام تقع الكاميرا في غرام الأحذية، بينما تتكرر في أفلام البورنو ثيمة التعري إلا من الحذاء أو الحذاء والحزام كقيدين يحكمان حصار الضحية!
وما كان لرنة خلخال بنات البلد أن تكون بذلك الإغواء الذي احتفت به الأغنية الشعبية لو كان الخلخال فوق قدم حافية.
وليست المسرات الإيروتيكية هي كل ما يقدمه الحذاء للبشرية المتعبة، فالمسجونون وفاقدو المأوي وعمال الفاعل المنهكون يقدرون حنان الحذاء عندما يتحول إلي وسادة في محابسهم وفي الشوارع والحقول.
والحذاء التميمة في السيارة والبيت باعتباره "قدم السعد" التي يتبارك بها الكثيرون ممن يحترمون فضائل الحذاء!

******

سيد الرموز المتضادة!

منصورة عزالدين

بالطبع هناك ثقافات أخري يرمز فيها الحذاء إلي الحظ السعيد أو سلطة الرجل علي المرأة، حيث كان الأب في عصور سابقة يعطي أحد أحذية ابنته لعريسها يوم الزفاف كرمز لانتقال الوصاية عليها منه إلي العريس، إلا أن النظرة المتدنية للحذاء لا تقتصر علينا وحدنا، بل تمتد لمجتمعات أخري غير عربية.
لكن بعيدا عن رمزية الحذاء التي تختلف و تتناقض من ثقافة لأخرى، بل ربما من منطقة لأخرى داخل الثقافة الواحدة، فإنه استخدم أيضا كوسيلة للتمايز الاجتماعي، مثلما كان الحال في اليابان قديما حيث كانت تصنع صنادل خاصة مميزة لعائلة الإمبراطور و أفراد البلاط، و كذلك للتجار و الممثلين بحيث تدل درجة تميز الصندل و العناية به على طبقة مرتديه.
كما كان الحذاء في القدم و قبل العولمة التي أدت لنوع من التماثل يعكس ثقافة كل مجتمع فالإغريق الذين أعلوا من شأن الفن و الثقافة اهتموا في صنع صنادلهم بالتأكيد علي روعة التصميم و جماليته، في حين أن الرومان العسكريين بامتياز اهتموا في البداية بالصنادل القوية المتقشفة التي تمكن جحافلهم من السير علي الأقدام لمسافات طويلة عبر العالم القديم، لكن ومع ازدهار الإمبراطورية الرومانية في أيام عزها انعكس ذلك الازدهار علي تصميم صنادلها التي مالت نحو الجمال و الفخامة لدرجة تزيينها بالذهب و الأحجار الكريمة في بعض الأحيان.
و إذا كانت الصنادل الرومانية التقليدية قد حظيت بشهرة واسعة بفضل السينما، فإن هناك أحذية أخري نالت شهرة كبيرة بل و دخلت التاريخ في بعض الأحيان، و من بينها و المؤكد أنه لن يكون آخرها حذاء النائب طلعت السادات الذي استغله البعض بشكل مبالغ فيه ربما لإبعاد الأنظار عن القضية الأساسية و هي الاتهامات التي وجهها لرجل الأعمال القوي و عضو لجنة السياسات أحمد عز بالتربح غير المشروع و استغلال النفوذ و تضخم الثروة.
ركز الكثيرون علي الأسلوب غير الحضاري في الحوار تحت القبة، و لم ير معظمهم من قريب أو بعيد لب القضية، كما تناسوا عمدا أن كل ما يحيط بنا الآن ينحو إلى الغوغائية و عدم التحضر، هل ما يحدث مع المتظاهرين من ضرب و سحل و هتك عرض و اعتقال أكثر تحضرا مثلا؟ و هل سحل القضاة في الشارع و إهانتهم بأحذية رجال الأمن أكثر إنسانية؟!!
خسرت الأطراف جميعها في واقعة مجلس الشعب، فاتهامات السادات جري التعتيم عليها، و سمعة عز المالية أصبحت في موضع التساؤل أكثر مما قبل، و القضية برمتها أغلقت فجأة، وحده الحذاء خرج منتصرا من هذه المعركة. خرج مزهوا بنفسه مذكرا إيانا برمزيته الشديدة، و مكانته كوسيلة للاحتجاج.
حذاء طلعت السادات يستدعي حذاء آخر أكثر شهرة هو الخاص بالزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف، ففي أوائل الستينيات من القرن الماضي، و أثناء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة خلع خروشوف حذاءه و أخذ يدق به فوق المنضدة أمامه و هو يصرخ مهددا المندوب الأمريكي في المنظمة الدولية: سندفنكم!
و بالطبع خطف الحذاء أنظار العالم أجمع وقتها بالنظر إلي المكان الذي استخدم فيه و شخصية مستخدمه، و أهمية الدولة التي يمثلها، و باعتباره وسيلة "مبتكرة" في الدوائر الدبلوماسية و السياسية.
و قريبا من عالم السياسة ارتبطت الأحذية بشخصية إيميلدا ماركوس زوجة الديكتاتور الفلبيني الأسبق، و التي اشتهرت بولعها المرضي بالأحذية لدرجة أنه تم العثور علي 3000 زوجا من الأحذية في دولابها بالقصر الجمهوري بعد خلع زوجها من الحكم.
أحذية إيميلدا نالت شهرة طاغية و تم اعتبارها كمرادف للطغيان، لكن حالة الولع المرضي بالأحذية هذه لا تقتصر علي زوجة الديكتاتور الأسبق وحدها، حيث يقال إن إيفيتا بيرون زوجة الجنرال الأرجنتيني بيرون و الشخصية الأسطورية في تاريخ الأرجنتين كانت مولعة بالأحذية هي الأخرى، و هنا لابد أن نتساءل حول العلاقة بين الولع بالأحذية و السلطة.
و إضافة إلي إيميلدا و إيفيتا هناك في وقتنا الحالي سيلين ديون التي تعشق الأحذية بشكل مرضي هي الأخرى، و يقال إنها تملك 500 زوجا منها قابلة للزيادة طبعا.
سيلين ديون و غيرها ممن يبالغون في الاهتمام بالأحذية أوفياء تماما لخبراء الموضة و الأزياء الذين يعتبرون أن الحذاء هو الشيء الأكثر أهمية للوصول إلي الأناقة الكاملة، و أنه الأهم ربما بدرجة أكثر من المجوهرات نفسها للدلالة علي الرقي و علو المكانة.
لكن الحذاء ليس فقط رمزا للأناقة و الثراء، بل و كما يخبرنا التاريخ تم استخدامه كأغرب وسائل الاغتيال السياسي و أكثرها إذلالا، حيث تخبرنا الروايات التاريخية أن "أم علي" زوجة عز الدين أيبك و ضرة شجرة الدر قد أمرت جواريها بضرب الأخيرة حتى الموت بالقباقيب في الحمام انتقاما منها لمقتل أيبك، و بالفعل لقيت شجرة الدر حتفها بهذه الطريقة المهينة.
و في ثقافتنا العربية أيضا سنجد أن "خفي حنين" هما الأشهر علي الإطلاق و الأكثر تداولا علي ألسنتنا حتى الآن للتعبير عن الخيبة و الفشل.
و إذا كانت القباقيب ارتبطت بالدموية في حادثة شجرة الدر و "خفي حنين" ارتبطا بالخيبة، فإن أجمل الأحذية و أكثرها سحرا و شهرة فيما أظن هو حذاء سندريلا، ذلك الحذاء البللوري الساحر و الصغير الذي قاد سندريلا إلي حلمها بالزواج من الأمير، و التخلص من قهر زوجة أبيها، و تحول إلي أداة لتحقيق العدالة و معيارا للجمال و الطيبة، ففي هذه القصة يبدو الجمال كأنما ينبع من القدمين، فزوجة الأب الشريرة و ابنتاها لسنا في جمال سندريلا و لا في طيبتها و عدم مناسبة الحذاء لأقدامهن هو الدليل الأوضح علي ذلك.
غير أن هذا الحذاء يستمد طابعه الأسطوري من الألق الذي يحيط بالحكايات الخرافية ككل، و حكاية سندريلا المظلومة الطيبة بشكل خاص، هذا الألق الذي ينسينا مدي منطقية الأحداث و يجعلنا نستسلم لسلطة الحكاية و منطقها الخاص.
و أخيرا و ليس آخرا فإن أكثر الأحذية إثارة للحزن هي أحذية ضحايا جسر الأئمة في العراق، و التي بقيت بعد أن رحل أصحابها إلي هاوية العدم، لتلتقطها لنا عدسات المصورين في صور بالغة الدلالة مثيرة للحسرة.

******

المسيرة الكبرى للحذاء

مرفت عمارة

وهكذا لم تكن المسيرة الكبرى نحو الحذاء سهلة كما قد يتبادر للذهن!
في العصر الانجلو ساكسوني كان والد العروس يقدم لعريس ابنته في حفل الزفاف فردة حذاء ابنته، للدلالة علي انتقال السلطة إليه، ثم ظهر الحذاء المبطن بالفراء، وفي العصور الوسطي انقسم المجتمع إلى طبقات متعددة فاستحدثت في صناعة الاسكافي، واستقطاب 'الاسطوات' من قرطبة التي اشتهرت بصناعة الجلود.
وفي القرن الثالث عشر اشتهر الوجهاء بارتداء الأحذية ذات المقدمة المستدقة الطويلة، وأدت المبالغة في طول مقدمة الحذاء إلي ربطها في الركبة بسلسلة رقيقة وفي أعقاب ذلك صدر أمر ملكي بتنظيم الأطوال الشاذة والغريبة لبوز الحذاء، يقنن طول مقدمتها.
وبنهاية القرن الخامس عشر ماتت تلك البدعة، وظهر نوع جديد ذو نعل عال من الخشب، تم تصميمه لحماية الأقدام من الشوارع الموحلة، وتم جلبه من تركيا وهو ما نطلق عليه الآن.. القبقاب، وكان أما مسطحا ومرتفعا بطول النعل أو ذي كعبين احدهما في الأمام والآخر في الخلف من نعل القدم.
أما فترة الحذاء المخصص للسيدات فلم تطرأ قبل مجيء الملكة اليزابيث فابتدعت موديلات خاصة مزركشة بالورود والأربطة ، بينما المخصصة للرجال كانت أكثر لمعانا ونعومة، بالإضافة إلي أحذية البوت التي تصل حتى الفخذ، وكلها ذات كعوب عالية، ثم ظهر البوت الصلد الخاص بعمال المناجم.
وفي سنة 1665 كان الحذاء المفضل للأمريكيين العاملين بالزراعة في المستوطنات هو ذلك البوت المتين، وبنهاية القرن السابع عشر عادت شعبية الأحذية ذات الكعوب المنخفضة الحمراء، والمقدمة المربعة ذات الفراشة الضخمة المنحنية المثبتة بأبزيم معدني فوق القدم، وجاء القرن الثامن عشر بتأثير الموضة الفرنسية للأحذية النسائية المزينة بالجلد والحرير، ذات الكعوب المستدقة، وبعد الثورة الفرنسية عاد الولع الكلاسيكي بالكعوب المنخفضة والصنادل، مع ارتداء الملابس التي تحمل طابع الريف الانجليزي، وعاد معها البوت الصلد، ثم في العصر الفيكتوري عاد التقدير للأحذية الجميلة، والصنادل المزينة بالفيونكات، وعادت النساء لأول مرة بعد مدة طويلة لارتداء البوت المرن، إلى أن طورت الثورة الصناعية شكل الحذاء، ثم حل البلاستيك في صناعته محل الجلد!
وهكذا أصبح لكل نشاط إنساني حذاؤه المناسب، وتنوعت ماركات الأحذية حتى أصبح اسم الحذاء يشير إلى مكانه صاحبه.
وتبارت شركات صناعة الأحذية في جذب زبائنها، فقد طرحت شركة رياضية شهيرة أول حذاء ذكي في العالم، وهو حذاء مخصص للجري، قادر علي تلبية احتياجات العداء، حيث يتميز بقدرته علي استشعار مستوي امتصاص الضغط المطلوب لراحة القدم، سواء كان أسفلتيا، أم عشبيا، أم رطبا، فيقوم بتعديل وضعيته تلقائيا للوصول للمستوي المطلوب لامتصاص الضغط، عن طريق قراءة المسافة بين أعلي وأقل نقطتين في نعل الحذاء، حيث يمكنه تسجيل ألف قراءة، وإجراء خمسة ملايين عملية حسابية في الثانية، عن طريقها يتم تعديل وضعيته بمحرك صغير مثبت في منتصف أسفل القدم يدور بسرعة ستة آلاف دورة في الدقيقة، ولم يتحدد سعره بعد!
كما طرحت شركة بريطانية متخصصة في الأحذية في الأسواق الألمانية حذاء جديدا ينمو مع نمو قدم الطفل، يحمل اسم 'دودة ماكس' حيث يتخذ شكل الدودة عند منتصفه، ويمكن التحكم في مقاسه بالضغط علي زر، يؤدي لتمدده مثل آلة الأكورديون، ويمكن ضبط قراءة المقاس عن طريق شاشة أسفل نعل الحذاء، كما ابتكر شخص سعودي حذاء لتنبيه المكفوفين، بإصدار صوت عند مقابلة أي عوائق.
سرعان ما أصبح الحذاء موضوعا لأخبار غريبة وطريفة، منها محاولة تقليد حذاء إنسان الجليد الذي عثر علي جثته في ثلوج جبال الألب سنة 1998، بعد أن اكتشف العلماء أن حذاءه يصلح للأقدام العصرية، قد صنع البروفيسور بيتر فشلاك خبير الأحذية في جامعة توماس باتا في تشيكوسلوفاكيا حذاء مماثلا، بعد أن لاحظ انه بالرغم من النعل غير المتقن إلا انه يؤمن احتضانا جيدا للقدم، وامتصاصا للصدمات، ولا يسبب أي متاعب للقدمين واستخدامه في السير أشبه بالمشي حافيا، وقد أطلق علي الحذاء نفس الاسم الذي أطلق علي الرجل الجليدي 'أويتزي'
وقد حرص علي صنعه بنفس مواد الحذاء الأصلي، فكان النعل من جلد الدب، والخيط من اللحاء الداخلي للأشجار، أما الدباغة فاستخدم فيها وصفة هندية أمريكية قديمة تتلخص في نقعه في خلاصة مخ وكبد خنزير لمدة ثلاثة أيام، أما البطانة فقد بحث طويلا حتى استطاع العثور علي قش لا يسبب حكة أو قروح جلدية، وتم صنع ثلاثة أحذية، أجريت عليها تجربة ميدانية بارتدائها في جبال الألب قرب الحدود الايطالية النمساوية فتفوق حذاء اوتيزي علي الأحذية العصرية، عدا القدرة علي تحمل الرطوبة.

******

البيادة و البوانت

حذاء الجيش مثل السلطة في تصلبها. يشتاق جميع الجنود في جميع الجيوش لخلعه و لبس "الحذاء الكاوتش" الذي يتسلمونه مع نوعين من الأحذية، البيادة، و هي الحذاء ذي الرقبة الطويلة المخصص للعمل بالوحدة العسكرية، و الحذاء النصف، و هو الحذاء بدون رقبة المخصص للخروج من الوحدة، أو كما يطلق عليها، "الفسح". و علي الطرف النقيض من البيادة، ذات المظهر الضخم و غير المعتني به، تقف أحذية راقصات الباليه، و المعروفة باسم البوانت، التي تتسم، علي العكس من بيادات الجيش، بالخفة المطلقة، غير أنهما يشتركان في نفس الهدف: تطويع القدم، شدها، بل ربما يمكننا عدها جزءا من النظام الانضباطي الذي يتحدث عنه فوكو، النظام الذي لا يسمح بوجود الجنون في داخله، و الجنون هنا يعني الأقدام الكبيرة، المفلطحة، أو حتى أصابع القدم العريضة، و كلا الحذاءين في النهاية يفرض سلطة الجسد، بالثقل أو بالخفة!!
الحرص علي أن تلبس البيادة بانضباط أساسي في الجيش كما أخبرني بعضهم. فالبيادة ينبغي أن تربط إلي آخر ثقب، و لا يجوز حل ثقوب و ربط الأخرى، و هذا لأجل إحكام الربط. أن تكون هي و الجندي شيئا واحدا و أن تكون جزءا من تكوينه كعسكري. و لأن الاعتناء بالبيادة هو من الاعتناء بالجسد، فإن الشيء الغائب عن الوحدات العسكرية كما لاحظ بعض من حادثتهم هو الجزمجية، برغم توافر الترزية و الحلاقين و المكوجية. حيث اعتناء الجندي ببيادته هو أمر يشابه اعتناءه بنفسه أو بجسده، فكما أن لا أحد يحممه، فلا أحد يصلح حذائه إذا انقطع. و مثلما يتم النظر إلي جسد الجندي، الذي لا ينبغي أن يزيد علي وزن معين مثلا، يتم النظر إلي بيادته. يروي صديق لي عن فترة خدمته بالجيش أن مقاس حذائه، و هو 45، كان هو أكبر مقاس موجود، كأنه لا يسمح بوجود مقاسات أكبر. هذا يحدث أيضا في بوانت الباليه، و الذي يستخدم مقاسات مختلفة عن الأحذية العادية، فمقاس 12 مثلا يساوي مقاس 38 للأحذية العادية. قالت لي أرمينيا كامل، أشهر مدربة باليه في مصر، أن مقاس 14 في الماضي كان هو أكبر مقاس، و كان وقتها شيئا مرعبا بالنسبة لها أن تكون قدم راقصة الباليه كبيرة لهذا الحد، أما الآن فهناك 15، كما تروي لي مندهشة من حجم أقدام الجيل الجديد. علي أية حال، يبدو أن كبر القدم هو تمرد تتعامل معه السلطتان علي مضض، السلطة المقاتلة و السلطة الراقصة.
لحظات الحرية
سألت صديقا عن لحظة دخول الجندي إلي عنبره. كنت أتصور أن أول ما يفعله الجنود لدي دخولهم عنابرهم الخاصة هو تحررهم من الأحذية. أجابني بالنفي. قال أنهم لم يكونوا يخلعون البيادة أثناء فترة الراحة البسيطة، وذلك لتجنب مشقة خلعها ثم لبسها من جديد. و هي وظيفة من وظائف ضخامة البيادة علي ما يبدو: تنفير الجندي من خلعها. و في المقابل، ينسي الجندي تعب قدميه أثناء لبسه البيادة، و لا يتذكره إلا لدي خلعها في آخر الليل، و شروعه في تهوية قدميه العرقانتين. كذلك لا تحس راقصة الباليه أثناء التدريب بالتعب، حيث يكون ذهنها منصبا علي آدائها. قالت لي أرمينيا كامل أن الراقصة قد لا تشعر بالتعب من ارتداء البوانت إلا لدي خلعه، حيث تكتشف حينها الدم الذي يغطي أصابعها بعد ساعات من العرض و التدريب. و أضافت أن السنة الدراسية تحوي أحد عشر شهرا و شهر إجازة، هو ما تعاني بعده الراقصة من عدم القدرة علي التكيف من جديد مع البوانت، ثم تبدأ في التعود تدريجيا. و لكن ماذا يحدث لو انجرحت قدم الفتاة أثناء العرض بسبب البوانت بشكل لا يمكنها معه الاستمرار؟ تقول هناء أبو العلا، مدربة الباليه بفرقة القاهرة، أنه يتم حينها استبدالها بأخرى، و لكن في الغالب تتدرب الفتاة علي الرقص بالبوانت لمدة ربع ساعة قبل العرض لتكون فترة اختبار، لها وله في ذات الوقت. و بدت هذه المشكلة غير مطروحة لدي أغلب من سألتهم. فهو غير وارد أن تتمرد القدم علي حذائها المؤلم و الجارح. كل شيء يحل عبر التكيف، مثلما يحدث في أي سلطة ذكية.
وسيلة التراتب
يؤكد الحذاءان، حذاء الباليه و حذاء الجيش، التراتب أيضا، فالجندي الذي يريد "التعايق" أمام زملاءه يشتري بيادة من الخارج و لتكلفه قدر ما تكلف، أو يقيم بعضهم صداقات مع الضباط و يقترضون منهم بيادات "ضباطي" لم يعودوا في حاجة إليها. البيادات الضباطي هذه ليست مثل البيادات الأخرى، هي هنا مزودة بسوستة من الجانب، بدون رباط، و هي أكثر مرونة في الحركة. يزيد بعض الضباط علي هذا كما قال لي أحدهم، حيث يلجأ بعضهم إلي محلات لتفصيل البيادات. كذلك يفعل البوانت بشكل أقل وضوحا، فيما يناسب رقة الفراشات الراقصة، و إن كان أكثر تأكيدا علي السلطة الانضباطية، حيث الراقصة المبتدئة التي لازالت في السنتين الأوليين للدراسة و تتعلم بعض الرقصات الخفيفة تلبس حذاء يسمي "ديمي بوانت"، و هو حذاء مرن و سهل الحركة، و بدءا من سنة ثالثة تكون الراقصة قد انتقلت إلي مرحلة البوانت، و هو حذاء مزود بخيش و غراء و خشب في مقدمته ليجعلها صلبة و يمكن الراقصة من الوقوف علي أطراف أصابعها. تضطر الراقصة إلي لف أصابعها بالقطن أو البلاستر لكي تتجنب صلابة البوانت الشديدة. هكذا فبينما الأفضلية في الجيش للأحذية المرنة، المقترنة بالرفاهية و الترف، فإن الأفضلية في الباليه للصلابة المقترنة بالقوة علي التحمل و الكفاءة في الآداء. قالت لي راقصة الباليه فرح وائل أنهم أحيانا ما يضطرون لتليين البوانت، الذي يأتيهن صلبا للغاية، و لو بالدق عليه بالشاكوش. سألتها: الدق عليه كله؟ فقالت لي: "نعم. ماعدا مقدمته". و هي المقدمة التي تمكن الراقصة من الوقوف علي أطراف أصابعها. هذه المقدمة هي التي تفرق نوعي البوانت عن بعضهما البعض، و هي أيضا التي تفرق البوانت الحريمي عن الرجالي. باختصار: سلطة الباليه كلها كامنة فيها.
و بالإضافة للبوانت و الديمي بوانت، ففي الباليه حذاء آخر، لا تؤدي فيه أطراف القدم البطولة هذه المرة و إنما الكعب، و هو الحذاء المستخدم في الرقصات الأسبانية و الشعبية التي تتطلب الدق علي الأرض، مثلما في باليه زوربا علي سبيل المثال، كما أخبرتني هناء أبو العلا. و الحذاء ذي الكعب لا يتم ارتداؤه مع البوانت، المزود بمقدمة صلبة لأصابع القدم، و إنما مع الديمي بوانت، حيث البطولة تكون إما للكعب أو لمشط القدم، و لا يمكن الجمع بينهما في حذاء واحد، مثلما لا يمكن الجمع بين الرقصات الشعبية، الممثلة لجنون الدق بالكعب علي الأرض، و الباليه الرصين، الممثل لخشوع الوقوف علي أطراف الأصابع، في موسيقا واحدة. و بمناسبة الكعب، فإن بعض الجيوش تطلق علي الأسلحة الأقل مشقة أسلحة "الكعب العالي"، في إشارة إلي الترف الذي تمتاز به هذه القوات و الذي يستدعي الأنوثة إلي الأذهان، و لكن أيضا في إشارة إلي نوع أحذيتها، حيث قال لي أحدهم أنها بيادات أكثر أناقة و مرونة بكثير، و هي ذات رقبة أقصر من رقبة البيادات الأخرى، و بالتالي أقل إحكاما علي القدم و أكثر تهوية لها، كما أنها أسهل في الخلع و اللبس.
الولع بالبوانت
و برغم إرهاقه و دمويته، يبدو بوانت الباليه هو الشيء الأكثر إلهاما للمرء، فلا يمكننا تخيل شخص يولع بالبيادة مثلا بينما يمكننا تخيل امرأة تدخل إلي مهنة الباليه بسبب شغفها بحذائه. قالت الباليرينا أرمينيا كامل في إحدى حواراتها أن فيلم "الحذاء الأحمر"، و المأخوذ عن إحدى قصص الكاتب الدانماركي الشهير هانز كريستيان أندرسون، هو ما جذبها إلي الباليه. الفيلم يحكي قصة فتاة فقدت حياتها تحت عجلات القطار و هي ترتدي حذاء الباليه. هذا بينما في الفيلم حبكة أخري عن بوانت مسحور يرقص من تلقاء نفسه، ترتديه فتاة بشغف لحبها لشكله ثم تكتشف أنها ترقص معه أينما كانت، ثم تموت من فرط إعيائها. سألت أرمينيا عن حذاء الباليه الذي يدفع الناس لفقدان حياتهم من أجله فحكت لي عن تدريبات الباليه التي دوما ما تسبب في نزيف أقدام الفتيات اللائي يقفن ويحملن ثقلهن كله علي أطراف أصابعهن. و مع مواصفات البوانت القاسية، نادرا ما تسلم فتاة، طوال سنوات الدراسة التسع، من الجرح. تقول لي أنها أحيانا ما تأمر بتخدير أصابع الفتاة حتى لا تحس بالألم أثناء العرض، و لكنها لا يمكنها إعفاءها من التدرب بسبب هذا، فلأرمينيا قصة أخري شبيهة، كان أول شيء حذرها منه أبواها الإيطاليان عندما أرادا إثناءها عن تعلم الباليه هو إرهاق البوانت لقدميها، قالا لها: الباليه مرهق و هو يجرح القدمين. و لكنها أصرت و نجحت. و هي الآن تملك فلسفة خاصة عن حب الشيء بجنون إلي درجة الفناء في سبيله، حتى لو كان هذا الشيء يرقصك معه بلا أي إرادة منك، يقودك بجنونه و نزقه إلي عجلات قطار مجنون لتموت تحتها.

******

أحذية للمعارك ..وأخري للشهرة!

أحمد وائل

التدقيق في الموضات الخاصة بالحذاء وطرق انتشارها تكشف أننا أمام عالم محكم النهايات تنجح أغلبية رهاناته ففي بعض الأحيان يلتقط مصمم الأحذية شكل الحذاء من أحذية نجوم الغناء، الكليبات علي سبيل المثال تعتبر ملعب جيد لاصطياد موضة الموسم، يركز المصمم علي قدم المطرب ومنها يجد التصميم الأكثر نجاحا طالما الكليب لم يتوقف عرضه علي الناس، الأمر لا يعتبر سرقة للتصميم بقدر ما هو إتجار بشهرة مرتدي التصميم، فبقدر شعبيته سيحقق الحذاء مبيعات.
يتعامل صانعو الأحذية مع الحذاء في هذه الحالة باعتباره نصا تؤخذ خطوطه الرئيسية وتطبق علي (الأصطامبة) التي يصمم عليها الحذاء فتكون النتيجة وجود تطابق بين "الأصل" والنسخة في النعل فقط، أو أن يكمن التشابه في وجه الحذاء..كما يتم وضع اختلافات بسيطة في الخامات لضمان انتشار الموضة وتحولها إلي ظاهرة، بحيث ينحاز كل فرد من المعجبين إلي الحذاء الذي يتناسب مع قدرته الشرائية، وفي الغالب يعتبر الجمهور الحذاء الأعلى سعرا هو أكثر الأحذية تقريبا لمرتديه من النجومية..ومن الأحذية التي نالت تصميماتها الشهرة حذاء عمرو دياب علي سبيل المثال.
ملاعب اصطياد الموضة قد تكون من خارج الميديا، الريف استطاع أن يحظي بأحد سرقات الموضة مثل موديل شيخ البلد..فقد استوحت من الحذاء الذي كان يظهر به العمد وشيوخ البلد، وهو من الجلد و يتسم بأنه من نوع الرقبة العالية، والجزء الخلفي من الرقبة مطاط بعض الشيء مما يسهل عملية الارتداء، كما يجعل الحذاء يحتفظ بمرونته مع كثرة الاستخدام، ويعود السبب الأساسي للتصميم هو تحمل الحذاء لغوص القدم في الطين، ولكن تلك المزايا الجغرافية لم تمنع التصميم من الانتقال إلي الشباب بعد أن حمل علي أحد جوانبه ماركة "بنستون"..أي أن عامل التميز هنا هو الماركة.
النظرة إلي الحذاء باعتباره خطوة للتميز تظهر بجانب الإتباع الأعمى للموضة في حالة الشغف بما هو إيطالي، فقد كان الحذاء الإيطالي عنوانا للبرجوازي إذا جاز هذا التعبير..ونتيجة لذلك يفضل البعض اقتنائه حتى لو كان فوق قدرته الشرائية فقد يصل ثمن الحذاء النسائي علي سبيل المثال إلي 3250 جنيه لأنه يحمل أحد الماركات الايطالية.
ومما يسر الأمر علي المنتمين إلي البرجوازية عن طريق أقدامهم أن بعض المصانع المصرية عكفت علي تلبية غريزة الارتقاء الاجتماعي بتقديم حذاء إيطالي بعض الشيء بمعني أن يقدموا حذاء مصريا بنعل إيطالي أو بإنتاج النظير المصري للحذاء الإيطالي، نفس الشكل ونوعية الخامات.
مرة واحدة و إلي الأبد
يوجد نوع آخر من الشغوفين بفكرة الانتماء للبرجوازية عن طريق الحذاء الإيطالي ..ومنهم من يشتري حذاء إيطاليا مرة واحدة ويداوم علي إصلاحه، من جانبه يتفهم "مصلح الأحذية" طبيعة العلاقة بين الرجل وحذائه، فيبذل كل ما بوسعه من أجل استمرار زهو المالك بحذائه فيركب له نصف نعل كمحاولة لإطالة عمر الحذاء، وبعدما تسوء حالة الحذاء يغير النعل بكامله، يتم العمل علي أساس أن كل الخيارات متاحة أمام( دكتور الجزم) بشرط أن يبقي لحم الحذاء كما هو..أي ليظل يخبر الناس بتميز صاحب الحذاء، علي الرغم من فقده لكامل بريقه من كثرة الاستعمال.

وبجانب الشغف بما هو إيطالي يوجد الشغف بما هو جلدي، فارتباط خامة الحذاء كليا بالجلد يعتبر مبرر مقبول لارتفاع السعر، فبالنسبة للكثير من الراغبين في التميز يكون سعر الألف جنيه معقول إذا كانت بطانة ونعل الحذاء مصنوعان من الجلد، أو أن يكون الجلد" ليزار"..وكلما تزايدت نسبة الجلد ارتفع السعر ..بما يضمن للمالك فرصا أكثر للارتقاء الاجتماعي عن طريق قدمه.

من باتا..إلي الرصيف
تنحاز الطبقة المتوسطة من جانبها للنظرة نفسها للحذاء فعلي الرغم من أن مشهد اصطحاب الممثل حسين رياض بناته السبع لأحد أفرع "باتا" في فيلم السبع بنات من أجل التسلح في مواجهة العام الدراسي بأحذية جديدة توازن بين طموحات الأبناء وضيق حال الأب، والذي يمثل رهان هذه الطبقة علي المحلات التي كانت توفر أحذية الأبناء منذ ولادتهم و حتى دخولهم الجامعة، إلا أن الطبقة المتوسطة لم تعد ببساطة اختصارها في شخصية حسين رياض، ربما لأن الرغبة في التميز تدفع أبناءها إلي التوجه إلي محلات وسط البلد لتنال الأحذية الأحدث في فترة الاوكازيونات أكثر من أن تدفعهم للتوجه إلي باتا التي يعتبرها جمهور هذه الطبقة نوع من الالتزام، وهذا ما يؤكده محمود أحمد علي _ مدير فرع باتا بعماد الدين حيث يقول "أن المشهد الذي مثله حسين رياض..لم يعد يحدث، لكن البعض لا يزال وفيا لشكل محدد من الأحذية" هذه النوعية عرفت بين الناس برقم أو كود الشركة مثل"41/7 الكوتش القماش "وسعره 15 جنيه، وحذاء باتا الجلدي "موديل 205 "وسعره35.95جنيه، ومن ناحية أخري بدأت باتا في جذب العرب..حيث يأتون لشراء( الشباشب) وقليل من الأحذية.
كما يظهر مشهد الالتفاف حول محلات بيع الأحذية وحول الفرشات بأرصفة العتبة أن رهان الطبقة المتوسطة علي محلات باتا فقد الكثير من مصداقيته، فالأحذية بالعتبة تكاد تكون محاكية لما تنتجه ماكينات الموضة وأن كانت في شكل شعبي بعض الشيء حيث يبدأ سعر الحذاء الرياضي مثلا من 45 جنيها ولا يتجاوز 80 جنيها.. يتسم العرض بعشوائيته فما يحكمه أن الأزواج المعروضة قليلة، فمن تصل يده قبل الآخر لتمسك بالحذاء يعتبر مالكه..وذلك لأن الأزواج قليلة و الفرص الأسعار جيدة.

مقاس 46 حريمي

أصحاب المقاسات الكبيرة ليسوا شديدي التطلب، فقط يريدون حذاء يمكنه إضفاء الجمال علي القدم لضخامتها النسبية يقول خالد الخولي صاحب أحد المحلات المتخصصة في تصنيع وبيع المقاسات الكبيرة :" عندما يبدأ مشتر بالتعامل مع المحل لا يهتم بشكل ونوع الحذاء، في المرة الثانية يبدأ في المفاضلة بين الأشكال" فقد أعتاد طالبو مقاسات مثل مقاس 46 للحذاء النسائي أو مقاس 52 رجالي علي التوجه إلي تفصيل الأحذية بحجم أقدامهم لهذا فهم يرون في مجرد توافرها جاهزة راحة من حرج إرتداء حذاء تقليدي في شكله.
ولكن التخصص في إنتاج هذه النوعية لم ينه الحرج الذي يحيط المسألة فهناك أشكال لا يمكن أن يصمم منها مقاس كبير مثل الحذاء ذو المقدمة الرفيعة..( حيكون طويل قوي).

جدعنة

تنقسم صناعة الحذاء إلي عالمين أو اتجاهين أحدهما يأخذ بمبدأ أسرع نجاحا وهو أن السبيل الوحيد لتوسيع تجارتك هو تحقيق نجاحات محسوسة..وبناءا علي ذلك لم تعد صناعة الأحذية حرفة تعتمد علي خبرة ودربة الصانع بقدر ما أصبحت تسعي لإنتاج أحذية متشابهة، كما لو أن الصانع واحد والمشتري واحد، و يعتبر العالم الأول هو المتحكم في صناعة الأحذية بينما يوجد عالم آخر يكاد يكون سريا من كثرة التهميش الذي يعاني منه وهو عالم الحذاء الشعبي ، فهو يخلص للصورة التي كان عليها تصنيع الحذاء في فترة تصديره إلي ألمانيا وروسيا في الخمسينيات والستينيات وهي الاعتماد الكامل علي الحرف اليدوية بمناطق "الرويعي" و" باب الشعرية"..حيث تقوم مجموعة من الورش المتعاونة فيما بينها بإنتاج الحذاء الشعبي، علي أن يكون العرض بمحلات صغيرة بنفس الأحياء في محاولة متواضعة للبقاء أمام الشكل الأكثر حداثة وآلية.
لا تنتهي التخصصات داخل صناعة الحذاء الشعبي ، حيث تبدأ عملية الصناعة بمرحلة التفصيل ويقوم بها (مودليست)، ويليه (المكانجي) ويقوم بقص الجلد بما يتناسب مع كل زوج، كما يرفع حدود و نهايات الجلد ليتم طيها وخياطتها..بعد ذلك يأتي دور (الجزمجي)..كما توجد حرف يدوية أخري في هذا العالم مثل صناعة القوالب الخشبية ..فالقالب يعتبر بمثابة قدم افتراضية لا يمكن الاستغناء عنها في صناعة الحذاء..وقد بدأ في الظهور قوالب بلاستيكية ستغير الكثير من طبيعة هذه الحرفة.
"كعب الجزمة يكشف نظرة المرأة لأنوثتها .." الجملة السابقة لعم يسري الأشول، المتخصص في تصنيع الأحذية النسائية، حيث يقول أن الكعوب مقاسات من 1 سم إلي 12 سم، وكل فتاة تأتيه تختار ما يبرز أنوثتها، ممشوقة القوام علي سبيل المثال تختار 12 سم، والممتلئة قليلا تفضل كعب أقل ارتفاعا، بينما تميل السيدة الكبيرة إلي الكعب ال 1 سم.
يقول المودليست سعيد سوكارنو أو جدعنة أن ما يقوم به معتاد ولا يوجد أي ابتكار فيه إلا في حالة أصحاب الإعاقات، مثل من لديه ساق أطول من الأخرى مما يتطلب وضع جزء حديدي علي الحذاء الخاص بالساق العليلة من أجل أن تأخذ طريقته في المشي شكل طبيعي، في هذه الحالة فقط يتطلب الأمر الاستعانة بتصميم جديد خاص بالطالب، ومع ذلك يجري "جدعنة" في أحيان ما بعض التجارب علي القالب الخشبي، وإذا أعجبته هذه المحاولات يقدمها كموديل للناس..ولكنها مرات قليلة للغاية.

******

الجنس واللون والطبقة رمز الحذاء في السينما

عصام زكريا

هل يمكن تخيل غزوات الجيوش في أفلام الحروب أو هجمات الأمن المركزي في أفلامنا الواقعية دون دبيب الحذاء العسكري الثقيل الذي يهز دار العرض ويملأها خوفا؟
وماذا عن الأفلام الاستعراضية الراقصة التي لم تكن لتوجد بدون هذه الأحذية الرشيقة التي تحمل شخصية الراقص والرقصة، أو بدون الحذاء المدبب المزود بالمعدن والذي لا غني عنه لما يعرف بالرقص التوقيعي Top Dance أو 'الكلاكيت'.
وأخيرا.. هل يمكن تخيل فيلم بوليسي تشويقي بدون اللقطات المكبرة لحذاء القاتل وهو يقترب من ضحيته تحت جنح الظلام؟
لقد دخلت الأحذية بأنواعها ودلالاتها القادمة من الثقافة الشعبية المتوارثة إلي السينما بمجرد ظهورها. وساهمت اللقطة المكبرة Close-Up بالتحديد في إبراز هذه الدلالات وتقويتها.
وإذا كانت بعض 'الإكسسوارات' الأخرى تتسم بدلالة محدودة، خاصة بالرجال مثل الغليون وربطة العنق أو بالنساء مثل الحلي وحمالات الصدر فإن الأحذية تتسم بمجالها الدلالي الواسع والثنائي.
في مقاله 'الرموز في الأحلام' اعتبر سيجموند فرويد الحذاء رمزا للمهبل.
الدراما الأكثر تعبيرا عن هذا المفهوم هي قصة سندريلا التي تحولت إلي عشرات الأفلام الميلودرامية والاستعراضية.
في حكاية سندريلا يلعب الحذاء دورا مهما وأساسيا في تحديد أنوثة البطلة. في القصة الأصلية القادمة من الصين يعتبر حجم القدم الصغير رمزا مباشرا للأنوثة. وفي الطبعات الغربية المتوالية يتطور شكل ونوع الحذاء باستمرار ليعبر في كل مرة عن الصورة الشائعة للأنوثة المثالية: ذهبي، زجاجي، أحمر.. ودائما ما تنتهي القصة بولوج القدم المناسبة في الحذاء المناسب.(*)
مع ظهور شخصية 'المرأة الفتاكة' أو 'الغاوية' Femme Fatale في العشرينيات من القرن الماضي، والتي تعبر عن الخوف من المرأة المتحررة أصبح الكعب العالي رمزا لهذه الأنثى الخطرة.. السيقان العارية أصبحت تجسيدا للأنوثة، ولعب الحذاء ذو الكعب العالي المدبب دورا في إبراز الرشاقة والجاذبية الجنسية لساق المرأة.. لكنه لعب أيضا دورا في تجسيد الخوف من هذه الأنوثة. وأبرز الأمثلة علي ذلك يمكن أن تجدها في ميلودرامات 'المرأة الفتاكة' مثل 'الملاك الأزرق' الذي لعبت بطولته مارلين ديتريش، أو في الأفلام البوليسية المعروفة باسم Film Noir التي تلعب فيها النساء الغاويات الخطرات بسيقانهن وكعوبهن العالية دورا مهما في التعبير عن الخوف الذي انتاب الرجال من المرأة المتحررة، وقد ظهرت هذه النوعية وانتشرت عقب نهاية الحرب العالمية الثانية التي كشفت في نهايتها عن خواء وهشاشة الرجال وصعود النساء في المجتمعات التي دمرتها الحرب.
في الثقافة الشعبية المصرية يعتبر شكل القدم والكاحل رمزا واضحا للأنوثة، ولا يخلو فيلم يحتوي علي امرأة جذابة من لقطات مقربة علي قدميها سواء كانت ترقص أو تسير في دلال في الحارة وعيون الرجال تحملق في ساقيها، بينما يشكل صوت الإيقاع الصادر عن 'القبقاب' أو 'الخلخال' أو الكعب العالي موسيقي جنسية واضحة. من الأمثلة علي ذلك فيلم 'رنة خلخال' (محمود ذوالفقار 1955) والفيلم القصير 'لي لي' (مروان حامد 2001) الذي تظهر فيه المرأة الغاوية (دينا نديم) أول ما تظهر من خلال لقطة مقربة علي قدميها بالحذاء العالي علي إيقاع موسيقي لخطواتها و'الملاءة اللف' تلف ساقيها وهي تدخل الحارة. ومن المشاهد الشهيرة في السينما المصرية فؤاد المهندس وهو يطارد النساء مدققا فقط في أحذيتهن ويدلي بتعليقاته حولها باعتبارها الرمز الأعلى للأنوثة والجاذبية.
يمثل الحذاء الأحمر بالتحديد ليس فقط عضو المرأة ودلالات البكارة والحيض، ولكنه يعد رمزا للنشاط الجنسي الليبيدو بشكل عام. وهناك قصص وباليهات وأفلام كثيرة يلعب فيها الحذاء الأحمر دورا أساسيا.
من هذه الأفلام فيلم 'ساحرة أوز' (فيكتور فليمنج 1939) الذي تؤدي فيه جودي جارلاند دور فتاة صغيرة في عالم سحري تتهددها الأخطار ولا منقذ لها سوي حذاء ياقوتي أحمر تهديه إليها ساحرة طيبة وتطلب منها ألا تقوم بخلعه أبدا.
كان 'ساحرة أوز' من أوائل الأفلام الملونة، والتي بهرت المشاهدين بتقنية 'التكنيكولور' الجديدة في ذلك الوقت، وهو فيلم حظي ولا يزال بشعبية طاغية، ومن أسباب نجاحه التغيير الذي قام صانعوه حيث استبدلوا الحذاء الفضي في الرواية الأصلية إلي حذاء أحمر، هذا الحذاء المستخدم في الفيلم أصبح اليوم من أهم مقتنيات متحف 'سميثونيان' لفنون السينما في نيويورك، كما كان حذاء 'ساحرة أوز' محور كتاب كامل قام بتأليفه ريز توماس بعنوان 'حذاء أوز الياقوتي'!
وإذا كان الحذاء الأحمر في هذا الفيلم يرمز إلي الجانب الإيجابي من النشاط الحيوي المتمثل في الشجاعة والمبادئ وقوة الشخصية، إلا أنه في فيلم 'الحذاء الأحمر' الذي أخرجه مايكل باول عام 1948 يجسد الجانب الخطر المدمر ل'الليبيدو' في هذا الفيلم الذي يعد من أهم كلاسيكيات السينما البريطانية، تختار باليرينا شابة بين الحياة الزوجية الهادئة وبين العودة إلي مواصلة مستقبلها الفني كراقصة باليه موهوبة، وبين ضغط الزوج من ناحية ومكتشفها وأستاذها من ناحية أخري ترتدي الحذاء الأحمر لأداء الباليه الذي يحمل نفس الاسم ولكن الحذاء يأخذها بعيدا عن خشبة المسرح لتلقي بنفسها من الشرفة وتموت!
يعبر الفيلم بوضوح عن حالة المرأة الغربية في ذلك الوقت ما بين الدور التقليدي لها كزوجة تابعة، وبين الاستقلال، والحذاء الأحمر هنا رمز لهذه الطاقة التي تدفعها إلي التحرر.
في الفيلم العربي 'حافية علي جسر الذهب' (عاطف سالم 1977) يرمز الحذاء بوضوح إلي الأنوثة والعضو الأنثوي.
يروي الفيلم بطريقة غير مباشرة قصة حياة نجمة الإغراء كاميليا التي ماتت شابة في طائرة محترقة، والتي أشيع أنها كانت علي علاقة بالملك فاروق، وتبين وفق روايات أخري أنها لم تكن تستطيع ممارسة الجنس بسبب مرض ما، ويحمل عنوان الفيلم إشارة إلي هذا التناقض، فملكة الإغراء والإثارة كانت 'حافية' بدون حذاء وفي أحد مشاهد الفيلم تقوم البطلة (ميرفت أمين) بزيارة البارون (عادل أدهم) لتعرض نفسها عليه حتى لا يقوم بإيذاء حبيبها، وتطلب منه خلع حذائها، لكن عادل أدهم المعروف بصورته السينمائية الشهوانية لا يكتفي بخلع الحذاء ولكنه يصب فيه الخمر ليشرب منه.. والدلالة الجنسية للحذاء ولعقه واضحة هنا، كما هي واضحة في العديد من اللقطات السينمائية التي تصور شخصا يقوم بإجبار شخص آخر علي لعق حذاءه، أو المشاهد التي تصور خضوع المرأة لزوجها بخلع حذائه كما نجد ثلاثية نجيب محفوظ السينمائية، أو فيلم 'لوعة الحب' (صلاح أبوسيف 1960).
الحذاء ليس فقط رمزا للأنوثة، ولكنه يرمز للرجولة أيضا.. في الكثير من الرقصات الشعبية لفرقة رضا كما نجد في فيلم 'إجازة نصف السنة' (علي رضا 1962) مثلا، فإن الحذاء ذا الرقبة العالية (البوط) رمز للرجل، بينما الحذاء الصغير الأنيق رمز للأنثى.
ومن الأساطير الشعبية السائدة أن حجم القدم يتناسب طرديا مع حجم العضو الذكري، وقد كان شائعا لدي الإنجليز في الفترة الاستعمارية أن هناك مقاسا يطلق عليه 'القدم الإمبريالية' الذي يصل فيه طول القدم إلي 304.8مم حيث كانت تعتبر القدم الكبيرة ميزة عنصرية، بينما تؤكد الدراسات أن حجم القدم يزداد صغرا مع تطور الإنسان.
في الأفلام الاستعراضية التي تعتمد علي تصوير سيقان وأقدام الراقصين يعتبر نوع الحذاء تعبيرا عن جنس وهوية الراقص أو الراقصة.
تغني الطفلة فيروز في فيلم 'دهب' وهي ترتدي حذاء الرقص الإيقاعي 'آه يا عيني علي الكلاكيت.. من راجل أو من ست'.
يشغل حذاء الأنثى مساحة أساسية من الأفلام التي تدور عن النساء والأنوثة، ويشغل حذاءي الرجل والمرأة مساحة متساوية في الأفلام الاستعراضية، بينما يشغل حذائي الرجل مساحة كبيرة في الأفلام 'الذكورية' مثل 'الأكشن' و'التشويق' و'الفيلم نوار' البوليسي.
في واحد من أوائل الأفلام البوليسية 'لا يمكن أن أكون في حذاءك' (1948) فإن البطل راقص يقوم أحدهم بسرقة حذائه وارتكاب جريمة قتل، ويتهم الراقص لوجود آثار حذائه في موقع الجريمة.
سندريلا معكوسة هنا.. لقد ظهرت نوعية 'الفيلم نوار' لتعبر عن خوف الرجال من ضياع رجولتهم ومن الخصاء الذي يتعرضون له بسبب نفوذ النساء المتزايد.. وضياع الحذاء في 'لا يمكن أن أكون في حذائك' والشعور بالذنب والإدانة اللذين يتعرض لهما البطل هو تعبير عن هذا الإحساس بالخوف من ضياع الرجولة ومن اعتبارها تهمة.
في كتابها 'أبيض، أسود، نوار: حداثة أمريكا في القصص البوليسية الشعبية' (2002)
'Black, White and Noir: America's pulp Modernism ' تخصص مؤلفته باولا رابينوفيتش فصلا كاملا عن الأحذية في ال'فيلم نوار'.
وعن المعاني المختلفة لكل من حذاء الأنثى ذي الكعب العالي، باعتباره رمزا للموت والجنس والخطر، وحذاء العمل الرجولي باعتباره رمزا للذكورة التي تم إخضاعها من قبل النظام الرأسمالي والمرأة المتحررة، وتنتبه رابينوفيتش في هذا الفصل إلي نقطة مهمة تتعلق بهوس الأفلام والنساء المعاصرات علي السواء باقتناء الأحذية، بالحذاء رمز للحركة والانخراط في المجتمع، وهو رمز للسفر والترحال.
نوع الحذاء هو أيضا تعبير عن الشخصية والطبقة الاجتماعية.
يبدأ فيلم 'غريبان في قطار' (ألفريد هيتشكوك 1952) بلقطات مقربة علي أقدام رجلين يسرع كل منهما علي حدة للحاق بقطار علي وشك التحرك. الأول يرتدي حذاء تقليديا محافظا، والثاني يرتدي حذاء لامعا مخططا بالأبيض والأسود، كل من الحذاءين وطريقة مشي الرجلين تعبر عن شخصيتيهما المختلفتين، وهو ما سيظهر بعد ذلك، الأول لاعب تنس يريد الخلاص من زوجته والثاني موظف يريد الخلاص من أبيه القاسي، يتعارف الاثنان ويتفقان علي أن يقوم كل منهما بقتل قريب الآخر، وبذلك يبعدان الشبهة عنهما، وبعد أن يقوم الثاني بقتل زوجة الأول، يتراجع صاحب الشخصية المهزوزة والحذاء المخطط عن القيام بدوره في الجريمة.
فيلم 'هيتشكوك' تم اقتباسه في ثلاثة أفلام مصرية علي الأقل منها 'القتلة' (أشرف فهمي 1971) و'مهمة صعبة جدا' (حسين عمارة 1987) الذي تم فيه اقتباس البداية ولقطات الأحذية بالكامل.
يستخدم الحذاء كرمز للطبقة والنفوذ والسلطة في الكثير من الأفلام الأجنبية والمصرية.
من المشاهد المتكررة في السينما المصرية جلوس صاحب النفوذ الثري أو التاجر أو المجرم أو البلطجي علي المقهى يدخن النارجيلة وتحته يقبع ماسح الأحذية ينظف له حذاءه.
دبيب الجنود علي الأرض خاصة جنود الأمن المركزي من اللقطات المكررة في أفلام مخرجي الواقعية الجديدة وغيرها للتعبير عن توحش وقهر السلطة.
وعلي العكس منذ أيام تشارلي شابلن ونجيب الريحاني أصبح الحذاء القذر المتهرئ دلالة علي الفقر والمعاناة.
ومن المشاهد التي لا تجنسي تشارلي شابلن وهو يضع حذاءه علي المائدة ويلتهمه لسد جوعه في فيلم 'حمي الذهب' (1925). ومن اللقطات المكررة في الأفلام الكوميدية والاجتماعية قيام البطل الفقير بمسح حذائه في أسفل سرواله قبل دخول الأماكن الراقية.
اللقطات المقربة للحذاء البالي والجوارب الممزقة كانت 'موتيفة' ثابتة في أفلام الريحاني وفؤاد المهندس وفريد الأطرش وعبدالحليم وغيرهم.. وفي فيلم 'البؤساء' (عاطف سالم 1978) يحرص فريد شوقي علي ارتداء حذاء ممزق يطل منه إصبع قدمه دلالة علي شدة الفقر والبؤس.
في النهاية يرمز الحذاء إلي الشخصية والروح.. في المعتقدات البدائية لدي بعض الشعوب كان يعتقد أن الشخص الذي تخرج روحه يمكنه استعادة روح جديدة بالقبض علي روح شخص ما، ووضعها في حذائه ثم ارتداء هذا الحذاء.
والتعبير الإنجليزي السائد 'في حذائه' أو 'حذائها' بمعني تقمص شخصية وروح شخص آخر أو التفكير بطريقته يعبر عن هذا المعتقد القديم، كما يعبر عنه القول العربي 'نفسك حيث وضعتها'.. ومن الأفلام الحديثة التي تحمل بعض هذه الأفكار فيلم 'في حذائها' أو 'في محلها' الذي لعبت بطولته كاميرون دياز وأخرجه كيرت هانسيه هذا العام 2006، والذي يدور حول أختين متناقضتين في كل شيء فيما عدا مقاس حذاءيهما.. ولكن هذا التوافق من شأنه أن يكشف في النهاية عن أنهما متوافقتان رغم التناقض الظاهري!
هوامش
* لمزيد من التعرف علي دلالة الحذاء في القصص والأفلام التي تدور حول سندريلا يمكن الرجوع إلي دراستي 'صورة سندريلا في السينما المصرية' (مجلة 'جريدة الفنون' الكويتية أبريل 2003).

******

'الحذاء' بين التسخيف والتعظيم في الأدب

شعبان يوسف

عندما قرب مسئول وموظف بدرجة مدير عام الحذاء علي شاعر ومثقف، وتبع الأمر تحقيقات أيضا وبضعة أوراق، ولم تنته بشيء، سوي المصمصمات والسخرية، هذا عدا تداول المسئولين الكبار والصغار التهديد الدائم والفظ لجملة: 'أنا هاديله بالجزمة'، ووصل الأمر إلي درجة استخدام هذه الجملة في إحدى مقالات رئيس تحرير جريدة حزبية، وسنجد الحذاء فيما بعد أو قبل كعناوين لدواوين شعر، مثل ديوان 'بلا مقابل أسقوط أسفل حذائي' للشاعر جرجس شكري، وقبل ذلك بكثير كانت رواية 'القدم الحديدية' لجاك لندن، وغيرهما من عناوين.
ولم تقتصر بطولة 'الحذاء' أو 'الجزمة' في ترجمته إلي العامية الدارجة، علي الاستخدامات الفعلية، أو عناوين النصوص الإبداعية فقط، بل امتد إلي متى هذه النصوص في أشكال متنوعة لنكتشف موهبة 'الأحذية' في ألوانها العديدة، ومعانيها الخصيبة، فالأحذية لم تستخدم للتحقير والتهديد والتسخيف طوال الوقت، ولكنها استخدمت في التدليل علي وطأة المستعمر والمحتل مثلما في ديوان 'وش مصر' للشاعر زين العابدين فؤاد، وهو يصرخ: 'أيه أتقل من جزمة غريبة
في أرض بلدنا
من إيد نجسة بتسرق زادنا'
أو عندما استهل الشاعر الراحل 'محمد مهران السيد' ديوانه 'طائر الشمس' قائلا:
ذهبت ريح الشعراء
لمٌا.. صاروا أقفية
لما التقطوا
من جحر الخصيان عطاياهم
أو
دفعوا الحرية من لحم الفقراء
لما..
صار الواحد منهم..
نعلا مهترئا
أو
في أفضل حالات البيع.. حذاء!!
وليست بعيدة عنا قصيدة 'هوامش علي دفتر النكسة' للشاعر نزار قباني في أعقاب هزيمة يونيو 1967، عندما تكون استخدامات الحذاء مكثفة في القصيدة، فهو يبدأ القصيدة ب : 'أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغة القديمة.. والكتب القديمة.
أنعي لكم
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة..
وفي موضع آخر من القصيدة يخاطب الحاكم قائلا:
'ياحضرة السلطان
لأنني اقتربت من أسوارك الصماء
لأنني
حاولت أن اكشف عن حزني وعن بلائي
ضربت بالحذاء
ثم يعود 'نزار' قرب انتهاء القصيدة، ليصفنا، ويصف هزيمتنا بقسوة فيقول:
فنحن خائبون..
ونحن مثل قشرة البطيخ، تافهون
ونحن، منخورون، منخورون كالنعال'
أما صلاح عبدالصبور فيقلب الحذاء في استخدامات عديدة، ويفتش عن إمكانية دلالاته المختلفة، ففي قصيدته 'الحزن'، يورد ما نصه: 'يا صاحبي إني حزين
طلع الصباح فما ابتسمت ولم ير وجهي الصباح
وخرجت من جوف المدينة اطلب الرزق المباح
..........
فشربت شايا في الطريق
ورتقت نعلي
ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق
وكأن 'رثق النعل' يرافق كيمياء الحزن الذي ينتاب الشاعر، فاما تخرجه عملية 'الرتق' بما فيها من تجديد، من حالة الحزن، وإما هي عملية مصاحبة للحزن كنوع من تجلياته، ومن إنتاج العلل الذي يخلفه الحزن، وتلحظ في قصيدته:
'مذكرات الصوفي بشر الحافي' أنه يقدمها بفقرة يقول فيها: 'أبو نصر، بشر بن الحارث، كان قد طلب الحديث، وسمع سماعا كثيرا، ثم مال إلى التصوف، ومش يوما في السوق، فأفزعه الناس، فخلع نعليه، ووضعهما تحت إبطيه، وانطلق يجري في الرمضاء، فلم يدركه أحد، وكان ذلك سنة سبع وعشرين ومائتين '.. ونكتشف هنا أن خلع النعلين لها علاقة بحال الرجل، التي جرت عليه فأخلفت هذه المسحة الصوفية، التي تجلت في القصيدة، والتصوف هنا معناه الخروج عن السياق الدنيوي، والمادي والملموس والتمرد علي هذه الحياة المترفة، وخلع النعلين، ما هو إلا الانفلات من الرغد والوقار الوهمي، والحياة المترفة، والدخول في عالم التقشف، والنعلان ما هما إلا علاقة علي هذا الرغد والترف والحياة الناعمة، فهما من مفردات الحياة البائسة التي يبوح بها بشر الحافي.
وتتعدد المعاني وتكثر الاستخدامات عند الشعراء، فأمل دنقل يكتب في قصيدته 'لا وقت للبكاء' التي يرثي فيها جمال عبدالناصر: 'يقعي أبوالهول
وتقصي أمة الأعداء
مجنونة الأنياب والرغبة.....
تفرش أطفالك في الأرض بساطا...
للمدرعات والأحذية الصلبة'
وكأن أمل دنقل هنا يقرن خطر المدرعات، بخطر الأحذية، وينبه 'الأمة' ألا تذرف دموعها فالأعداء متربصون، والأحذية القذرة تدوس علي صدور الناس والأطفال، والأرض الطيبة، فتأتي الأحذية مقرونة بالغلظة والقسوة والفظاظة، يعكس صلاح عبدالصبور، وعكس آخرين من الشعراء، فيعتبرها الشاعر مسعود شومان، ضمن حاجياته المهمة وبعدها ضمن مقتنياته النادرة مع مفردات أخري، فيكتب:
'دي جزمتي
أيوه
لونها غريب ورباطها بيجرجر في الأرض
ودي وش الجبس اللي خلعته العصر
وحطيته على الكرسي المكسور
أما الشاعرة 'ميسون صقر' فتؤنسن 'الحذاء' وتضفي عليها صفات عاطفية، وبشرية، وتقرنه بالسلوك الإنساني الرفيع، فتكتب في ديوانها: 'مخبية في هدومها الدلع' المكتوب بالعامية المصرية، وفي قصيدة 'قصاد بعض':
'امبارح
سكت في وسط الكلام
وسرحت وأنت بتتكلم
يا تري
القهوة الفاضية علينا
ملاها الملل!
والكراسي
مالهما ومالنا
بتتصنت ليه علي كلامنا الفاضي!
والجزم اللي في رجلينا
مالها بتقرب كمان من بعض!
ناقص هيه كمان تحب معانا
ماهية كمان جلود فيها ريحة روح
وبتعرف تتنفس
ولما نقعد قصاد بعضنا
بتفتكر أحاسيسها
وتبتدي تتحرك تجاه رغباتها القديمة
تجاه الشعور اللي وحشها'.
أما الشاعر 'حلمي سالم' فيورد 'الحذاء' في مقام من الود، وفي تجربة شديدة الإنسانية، فعندما داهمته الجلطة، كان صاحبه أول الواقفين علي سريره، مقدما نفسه مشاركا له في المحنة، ورغم مناوشة 'حلمي سالم' لهذا الصاحب، عندما يكتب: 'مزيج من المودات والمكائد
يختفي تحت هذا الشارب الكث'
إلا أنه يعترف له برقته عندما يردف كاتبا وكأنه يتدارك:
'لكنه قام من دفء الفراش في الهزيع
لكي يساعد القروي في خلع الحذاء'
هكذا يأتي الحذاء هنا مقرونا بالمودة، والتجربة الإنسانية، والأزمة الصحية المركبة، ليصبح الحذاء بطلا صغيرا في فناء المرضي، وفضاء الأزمة.
ولا تكف استخدامات الشعراء 'للحذاء' فيتلون بألوان عديدة، عند سعدي يوسف، وعفيفي مطر، وحسن توفيق، ويسري حسان، وأحمد فؤاد نجم وغيرهم.
وكما أن 'الحذاء' يتناثر عند الشعراء، فلا يستطيع المرء أن يحيط بالحصر استخداماته في الكتابات السردية،
أيضا، ودخلت الحمام علي مرآي من الجميع، وذلك في روايته (حالك الحزين)، أيضا الحذاء الذي داس علي أذن رأس العجل في التورماي، وما كان من أحد اللصوص إلا أن قطع أذن العجل، ويأخذ رأسه، تاركا الحذاء وصاحبه في حيرة وغيظ كاملين.. فالحذاء عند أصلان له عدة استخدامات، لإثارة الدهشة. والسخرية أيضا.
وفي 'ريحانة' رواية ميسون صقر، تستدعي الكاتبة مقطعا أو مشهدا من رواية 'بجعات برية' للصينية التي تسرد حكاية 'تظبيط' الأقدام، ووضعها في أحذية حتى لا تكبر .. وفي الراوية نفسها، تستخدم الكاتبة الحذاء كأداة عقاب، عندما تقذف شقيقة الرواية بحذائها شاشة التلفاز عندما تشاهد أنور السادات وهو يهبط مطار تل أبيب.. وفي قصة 'هاتان القدمان' يكتب جمال حسان عن واحد فتن حتى الجنون بقدمي حبيبته، فندر عمره كله لصناعة أحذية تليق بهاتين القدمين، أما يحيي الطاهر عبدالله فكتب رواية كاملة، وقصصا عديدة عن اسكافي المودة، وعدد له فضائل عديدة، واستخدام الحذاء وصانعه في تحميلهما جميع الصفات الإنسانية المختلفة والمتناقضة، واعتبر اسكافي المودة، نموذجا لإنسان يسقط عليه كل السلوكيات الاجتماعية.
وأود أن أنهي هذا المقال الذي لا يحصي، ولكنه يشير فقط لتنوع الاستخدامات الحذائية إلي قصة بديعة للكاتب السعودي عبدالله محمد الناصر، في مجموعته 'سيرة نعل'، والقصة تعيد الاعتبار لهذا الحذاء الذي أهين، وقررت مصائره في وظائف وصفات دنيا، فيبدأ الراوي بحيرته: 'أبيعك يا حذائي؟ لا تستغرب السؤال وأجب: هل أبيعك؟ أعلم أنك تضحك! ومتى المرء يسأل حذاءه في بيع أو شراء؟ أما أنا فسوف أسألك!!، ويدير الراوي حوار بالغ المودة والعطف والاحترام مع نعله.. ويكتب له شعرا: 'أيا نعلي الأغلى: قديتك من نعل
مكانك فوق الرأس ليس علي رجلي'
ونذكر في هذا المجال قصة 'العازف' لإبراهيم أصلان، هذه القصة الرائعة المنشورة في مجموعته الأولي 'بحيرة المساء'، وتحكي قصة 'العازف' عن متعهد يؤجر واحدا ، ويطلب منه أن يلعب دور العازف ضمن جوقة كبيرة، ويعلمه كيف يلعب الدور، ويتقن حركاته، حتى لا يكتشف صاحب الملهي، أو الجمهور زيف شخصيته، وكي تكتمل اللعبة، لابد من 'عدة شغل' وكان أول المهتمين أو أول المشاركين في هذه القضية هو الحذاء، فيسأل المتعهد الرجل: عندك حذاء؟
قلت: عندي واحد
وأسود؟
آه
الحمد لله..
ويسترسل 'أصلان' في سرد وقائع القصة، ليكون الحذاء متهما أول في عملية مزدوجة، تحتمل أن تكون عملية نصب، فضلا عن أن الحذاء لم يكن إلا عاملا من عوامل أناقة وتزويق الرجل، ولا يكف حضور الحذاء عند إبراهيم أصلان في جميع أعماله، فلا ننسي المرأة التي خلعت حذاءها علي باب الحمام، وخلعت معه سروالها .

******

مصالحة متأخرة مع أحذية الجيران

أحذية الأدباء زنازين وقصور ملونة !

******

لقطة تذكارية

للرأس القريب من الحذاء

ياسر عبدالحافظ

أحيانا ما تجد بائعين مثل هذا فتلعن في سرك أولئك الذين لا يفهمون شيئا عن التجارة وأصولها، وإما أن تتحملهم حتى تحصل علي ما تريد أو تتركهم وتبحث عن مكان آخر يعرف كيف يعامل الزبون، لكن في هذه الحالة الموقف كان مختلفا فهذا ليس بائعا ولكنه "جزمجي" وربما هذا ما جعلني متحفزا من الطريقة التي تعامل بها معي.
بحثت حتى وجدت رباطا لكن المشكلة أن واحدة منه كانت أقصر من الأخرى، فقلت له ذلك..فجاءني نفس الرد السابق بنفس درجة اللامبالاة
"عندك كل حاجة دور علي اللي أنت عاوزه"
ابتعدت عن صندوقه الضخم خطوتين ووقفت أمامه، كان يمسك بفرشاة تنظيف الأحذية ويخبط بها علي الصندوق الصغير برتابة، فكرت أن أضع قدمي علي المكان المخصص للحذاء ثم أقول له ما أشاء بعد ذلك، أن أضع الأمر في سياقه الطبيعي، هذا حذائي في مواجهة وجهك، لكني لم استطع أن أفعل هذا ربما الخوف من رد فعله، شيئا ما كان يقول أنه يدرك أبعاد ما تمثله مهنته، عبئا نفسيا يحاول طرده بذلك التعالي الذي يتعامل به مع الزبائن، حاولت إبعاد هذا عن ذهني، أن هذا يصلح للكتابة لكن الواقع مختلف، تصنعت الهدوء وأن أقول له أني لا استطع أن أجد واحدة في طول هذه وتركت فردتي الرباط يتدليان أمامه، بهدوء مماثل امسك بالفردتين شد القصيرة فطالت نسبيا ثم أعطاهما لي مرة أخري وهو يقول "أهم بقوا طول بعض..عاوز حاجة تاني"!
لا أذكر كيف انتهي شجارنا لكني أذكر جيدا أنه لم يبرح مكانه ولا هدوئه وأن أحد البائعين في الممر المجاور له وكان يتابع ما يحدث من البداية هو الذي ساعدني في إيجاد ما أبحث عنه وأنه هو الذي أخذ مني ثمن الرباط ثم أعطاه للرجل الذي لم أتعامل معه بعد ذلك رغم كل الفضول الذي بداخلي لذلك، بدا لي أنه ينتقي الزبائن الذين سيتعاملون معه لا العكس. عندما أعبر شارع الجلاء متجها إلي شارع الصحافة أتمهل قليلا أمام عشرات البضائع الرخيصة التي لا فائدة حقيقية منها، يتراص الباعة بجوار بعضهم، عيونهم قلقة علي الدوام، ينتظرون مفاجأة العساكر الذين ينقضون علي بضاعتهم بلا رحمة ليكوموها فوق بعضها في عربة البلدية، بينهم يجلس ماسحو الأحذية بلا خوف هم الوحيدون المسموح لهم بافتراش الأرض بلا مضايقة من أحد يقف أمامهم المتأنقون لتلميع حذائهم لتكتمل هيئة يظنون أنها الأمثل للقاء فتياتهم أو أنها تساعدهم علي قضاء وقت الانتظار دون إثارة فضول الآخرين! فهذا المكان ودون أن يعرف أحد السبب الحقيقي هو نقطة الالتقاء للعشاق، ربما اختاروه للانطلاق بعد ذلك إلي وسط البلد، المثير للسخرية أن كل ما يقع عليه نظرك في هذا المكان ليس له أي علاقة بالأناقة، تحولت المنطقة المسماة بالإسعاف خلال السنوات القليلة الماضية إلي كرنفال للقذارة والضوضاء يصنعها الباعة الجائلون ويشاركهم منادو الميكروباصات وفي المركز عربات الإسعاف "بالسارينة" الصاخبة وعربة تلقي التبرع بالدم التي تحول رجالها إلي متسولون يحاولون الاستيلاء علي كيس دم من العابرين بأية طريقة.
وسط هذا كله يقف شاب في نهاية العشرينيات مناقضا تماما لبقية أجزاء المشهد يشارك الباعة قلقهم غير أنهم يتلفتون بحثا عن العساكر وهو عن فتاة، الماسح لا يري من كل ذلك غير حذاء يعلوه التراب.. مهمته أن يجعل أشعة الشمس تنكسر عليه، مخلص جدا في عمله.. ليس مثل كل الصنايعية المصريين لا يعطونك خدمة كاملة، ربما يأتي إخلاصه من إدراكه أن لا شئ يبقي علي لمعانه طويلا في هذا البلد وأن الزبون الواقف أمامه سرعان ما سيعود إليه بعد جولة واسعة مع حبيبته ليسترد اللمعان المفقود.
تتباين نوعية الزبائن الذين يحرصون دوما علي تلميع حذائهم غير أن ما يربطهم دوما ببعضهم وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة أن لا شئ لديهم أهم من أناقتهم، إما لأنهم لا يعملون أو لأنهم صلوا لدرجة من الاستقرار الوظيفي تتطلب هيئة مفترضة لابد من الحفاظ عليها، بعد انتهاء الرجل من مسح أحذيتهم يرتبون ملابسهم حركة بسيطة للتأكد أن كل شئ منسجم مع اللمعة التي حصلوا عليها حالا، لا يخرج عن تلك الفئة المهندمة سوي عابر علي هذه العملية يحاول بها أن يمنح حذائه المهترئ عمرا جديدا، وهؤلاء لا يهتمون كثيرا بالطقوس، لا يستمتعون بتلك اللحظة ولا يعرفون أبعادها.. بمجرد أن ينتهي ماسح الأحذية من عمله وينقر علي صندوقه نقرتين إشارة الانتهاء يمنحوه قروشه وينصرفوا سريعا، المحترفين يتمهلوا في الخطوة الأولي، ربما ينظرون تحت أقدامهم ليروا أين سيسير الحذاء وكأنه سيارة علي الزيرو لابد من معاملتها برهافة حتى لا تنخدش، فإذا أصابها الخدش الأول راحت الهيبة والخوف وتجرأ صاحبها علي المشي بها.
"أكل العيش اللي يجي من ورا جزم الناس ما لوش عازه عندينا" هكذا قال أحمد راتب لعادل امام في فيلم الإرهاب والكباب لوحيد حامد، راتب كان يقوم بدور رجل صعيدي يختبئ في مجمع التحرير تحت مهنة ماسح أحذية فلما جاءت الفرصة لم يتردد وانضم لمن أطلقوا عليه ارهابي. الجملة ستلمحها دوما في عيون ماسحي الأحذية، هذا إذا اتيحت الفرصة ونظرت في عين أحدهم، فالعلاقة بين ماسح الأحذية وبين زبونه هي شكليا علي الأقل علاقة خضوع كامل، شخص منحني في مواجهة شخص ينظر إليه من أعلي، ليس لنا أن نتخيل غير أن ذلك الشخص الذي قدم هذا الاختراع للعالم كان يتمتع بقدر كبير من الدونية.
الحالة الوحيدة التي يتخفف فيها ماسح الأحذية من حدة تلك العلاقة المركبة هي أن يجد مكانا بجانب أحد المقاهي، فهو هنا يتخلص من مواجهة الزبون.. يكتفي منه بحذائه، بل إن المسألة تنقلب في هذه الحالة لصالحه فالوقت الذي يستغرقه في تلميع الحذاء هو دائما ثقيل علي من ترك حذائه لغريب وجلس حافيا، لم أجلس أبدا مع شخص قرر تلميع حذائه علي المقهي إلا وسمعت هذه الجملة "هو الجدع ده أتأخر ليه؟!" وأحيانا يصل القلق بالزبون لدرجة أن يطلب من القهوجي أن يستعجل ماسح الأحذية بحجج مختلفة..
ما الذي يمنع ماسح الأحذية من أن يفر بالحذاء؟
سألت نفسي ذلك في المرات القليلة التي جربت فيها أن اخلع حذائي علي المقهي وأسلمه طواعية لشخص لا أعرفه مغامرا بأن أعود لمنزلي حافيا ولأني لا أحب أن أعيش متوترا قررت أني لن أفعل ذلك مطلقا، لا في مقهى أو في شارع أو حتى في فندق حيث تجلس علي كرسي فخم والرجل تحت قدميك وكأنه مشهد ينتمي لزمن العبودية، شكرت التطور الذي وفر لنا وسائل سهلة نلمع بها أحذيتنا، عبوة بلاستيكية تنتهي بقطعة إسفنج تضغط عليها فينزلق السائل علي الحذاء، دقيقة وتجد حذائك لامعا، لم تعد هناك حاجة لأن يجلس شخص تحت قدميك، لكن ومع ذلك ستستمر تلك المهنة لسنوات قادمة فطرفيها قد أدمنا تلك العلاقة المركبة..شخص لا يري من العالم سوي شكل الحذاء يدير معه حوارا لعدة دقائق والآخر يستمتع تماما بأن هناك "من يمسح له حذائه" ربما يعوضه هذا ولو قليلا عن الأحذية الثقيلة في هذا البلد التي تستمتع بدهسه.

أخبار الأدب
الأحد 18 يوينو 2006