الطاو

ترجمها عن الصينية مباشرة: د. محسن فرجاني

الطاولم يكن في الأرشيف الحكومي التابع لبلاط مملكة 'تشو' من يتقن أصول المراسم والعلاقات العامة مثل 'لاوتان'، (أو لاوتسي أو لاوتسو.. حسبما يرد في مختلف الترجمات الصوتية لاسم هذا الفيلسوف) ذلك الذي ذكرت المدونات التاريخية أنه كان أحد مواطني مملكة تشو، وأنه عاش في القرن الرابع قبل الميلاد: ورغم أنه لم يكن كاهنا ولا وزيرا ولا أديبا لامعا، بل مجرد موظف أرشيف بسيط، إلا أن الباحثين وطلاب العلم قصدوا إليه لتحصيل مستويات أرقي في المعرفة حول كل ما يتصل بموضوعات المراسم الإمبراطورية والشرائع والعلاقات العامة: وذلك لخبرته النظرية وعبقريته الفريدة في هذا المجال: حتى إن كونفوشيوس نفسه، وهو فيلسوف الأخلاق وراهب الكهنوت الإمبراطوري، ذهب إليه ليتعلم منه، ولم يكن اللقاء وديا بالمرة: فقد ثار لاوتسو وانتقد كونفوشيوس بعنف.. وافترق الرجلان ولم يلتقيا بعدها، مثلما لم تلتق المدرستان الفكريتان الكبيرتان: الكونفوشية والطاوية: هذه تري الأخلاق في العودة إلى النقاء الطبيعي الأول، وتلك تري الفضيلة في إرساء قواعد المعاملات على أساس من الاحترام والود المتبادل.

وازدادت الهوة عمقا بينهما، لكنهما بقيتا على ساحة الفكر ، كفرسي رهان، تتسابقان وتتنازعان (فترات التفاهم كانت قصيرة!) وتحتفظ كل منهما بمكانتها باستمرار.

عند تحليل الشخصية الثقافية للحضارة الصينية، لابد من الوعي بالكونفوشية (الفضائل، النظام الاجتماعي، السياسة، القانون...) جنبا إلى جنب الفهم الكامل للطاوية، (الفنون، الآداب، العلوم، الطب....).
والنص الطاوي، بطبيعته مشحون بالتجريد الهائل والإشارات الرمزية الغامضة، بوصفه كتابة صوفية قديمة، لدرجة أن فقرات مطولة منه كانت تتحول في المدونات الكهنوتية إلى تمائم وأحجبة وطلاسم سحرية ذات طاقات خارقة.

والحقيقة أن الطاوية ظهرت فكرا يتأمل أسرار الطبيعة بحثا عن أجواء تعيد إلى الإنسان قيمته وحريته في زمن اضطراب وقلق كان يهز أعماق الروح الصينية بعنف. كانت الطاوية تتأمل الطبيعة شوقا لبواكير بساطة الحياة الأولي، لتعود بالإنسانية إلى أحضان المجتمع الأمومي (من ثم انحيازها المطلق لدلالات الأمومة، الأنوثة) واقتربت من دائرة الاهتمام الفلسفي بمبحث الوجود، ولئن تحولت إلى ديانة رسمية فيما بعد (القرن الأول الميلادي تقريبا) فقد كان ذلك من منطلق الدفاع عن الروح الثقافية الصينية أمام التغلغل البوذي الوافد من الهند، ولم تكن الطاوية في واقع الأمر دينا يؤم جماعة المؤمنين، بقدر ما غدت لاهوتا وطنيا يحمي الثقافة القومية المهددة بالاستلاب.

وكتاب الطاو يقع في جزأين رئيسيين، مجموعهما معا يبلغ 81 فصلا، ولم تكن الفصول، في النسخة القديمة، مرتبة على أي نحو إنما أضيف إليها التسلسل الرقمي حديثا جدا: وربما أن لاوتسو لم يجد الوقت ولا المزاج النفسي ليقوم بترتيب وتنسيق الفصول والفقرات: فقد كان مكتئبا حزينا، وهو ابن أيام مضطربة وزمان متقلب، وكان قد ضاق ذرعا بالقيم الكونفوشية والطقوس والمراسم، فآثر الرحيل قاصدا العزلة: فلما بلغ احدي نقاط الحراسة على حدود المملكة، أوقفه قائد الحرس الذي سيصبح فيما بعد واحدا من أهم المفكرين الطاويين وطلب إليه أن يضع له كتابا يحوي خلاصة أفكاره (... بما أنه ذاهب هذه المرة بلا عودة!) وهكذا، جلس لاوتسو، وتناول دواة وقلما وراح يسجل في خمسة آلاف كلمة أشهر مدونة تراثية في تاريخ الصين، ثم قام وذهب في طريقه إلى منتهي غايته!

***

الجزء الأول
طاو دي

1

الطريق،

إذا ما قلت الطريق، فليس هو الدرب الذي
تعرفه من بدء الأزل،
والمعني، عند من قال بالمعني، ليس هو المفهوم الجاري على الأبد.
اللاوجود، صفة لبدء العالم،
إما الوجود، فهو أصل الموجودات كافة،
فلذلك لزم أن نبدأ من عين حال البدء الأزلي لكل موجود،
كي نفحص جوهر الطريق،
بل لابد من اقتفاء آثار الأصل الثابت،
للموجودات كافة،
حتى ندرك تمام دلالة الطريق.
بجلأ لا يشوبه كدر،
الوجود والعدم كلاهما ينبوع عين واحدة.
تشعٌبا منها اسمين مختلفين،
لكن المغزى فيهما عميق الغور، عصي الفهم،
ولطالما كان الدرب الواصل من أبطن بواطن الوجود المادي الملموس،
إلى آفاق المعاني الذهنية المجٌردة،
هو الطريق الفاتح أبواب السٌر المعٌمي،
فتتجلٌلي دفائن ألغاز كانت في حجب الاستتار.

2

لو عرف الناس الجمال في كل جميل، لتبينوا القبح جلٌيا،
فإن أدركوا الخير في كل صفات الخير، تجاهروا بكل نعوت الشٌر،
فلذلك يولد الوجود والعدم ضدين متقابلين،
ويتبادل اليسر والعسر المواقع،
ويحل الطول محٌَل القصر،
تتساند الذرى والوهاد على متكأ واحد،
وينسجم رنين الصوت في الصدى
فيسعى اللاحق في إثر من مضي،
فلأجل هذا يقيم القديسون بحال من الزهد،
يعظون بغير تراتيل،
يرضون والعالم سخط،
يقنعون والناهب ينتهب،.
إنهم الكرماء تحت بهاء العزة،
لا يتباهون بفضل إذا فاضت تحت أيديهم ساحات الرخاء
فيدوم لهم دوام الذكر خالدا خلود المدى.

3

إن تجاهل الأكفاء والموهوبين كفيل بتهدئة الأحوال..
وإزالة أسباب التناحر،
إن كنزا غالىا ومهملا، لن يغري لصا بالسرقة،
فاعلم أن حجب مكامن الاشتهاء، يصدٌ عن زيغ العقول،
فما كانت الغلبة لحاكم عاقل إلا بما أشبع من بطون..
وأفرغ من أذهان،
وما استتبت له الأمور إلا بما بني من أجساد وخرب من همم وعزائم.
فبقي الجهل أبدا، واليأس سرمدا، وذو الفطنة ذاهل الفطن.
وليس أحكم من حكمة القائل: 'ذع الأمور للمقادير'!
ففيها معقد مقام السلام ، ومستقٌر أحوال الناس جميعا
فوق الأرض.

4

اعلم آن الطاو،
معني مجرد ، لا شكل متجسد،
لكنه قيمة لا تتناهي.
دلالته تعزب على الأفهام.،
بيد أنه أصل الوجود ومجمع أسراره،
هو انثلام حدٌ النصل،
وحل أطراف الخيط المعقود.
هو صفاء لوامع السنا في شوارق النور،
وكدر العواصف في خضم رياح ورمال.
فهو المعني المجرد،
تحت ستر أسرار.
تخاله غيبا معدوما، وهو عين الوجود.
لست أعرف منشأة أو مصدر وجوده، فربما،
هو أسبق وأقدم عهدا من الآلهة.

5

ليس على الأرض رحمة.
فمكتوب على الإنسان أن يلقي صنوف الهوان،
سواء أقام في أرض،
أو حلق في سماء.
حتى الحكماء، صاروا أشبه بشياطين،
يسومون البشر سوء العذاب.
ما أشبه الخلاء الكبير بين السماء والأرض
بصندوق معبأ بهواء،
فهو فارغ وممتلىء معا،
فكلما نضب مودع باطنه،
تجدد محتوي فراغه بوافر الخلاء.
إن صخب الحياة لغو سقيم،
وكل شواغل الأيام.
ترهات منثورة في خضم فضاء من عدم:
فدع زمام الأمور للمقادير،
والزم ساحة الرضا والإدعان.

6

الطاو وجود سرمدي،
غموض أبدي،
دهاليز أسراره كخفايا أنثوية.
بواطن احتجبت وهي أصل الوجود،
بقاؤها فيض،
وعطاؤها أمد،
وسيل مدرار، لا ينقطع ولا ينفذ.

7

الكون، بسمائه وأرضه،
موجود أزلا،
لأنه لم يوجد لذاته،
فهو خالد الوجود،
كذلك الحكماء، يتبوأون مكانتهم السامية،
بما يروضون أنفسهم من تواضع.
يحيون دهورا تحت ستر العيش.
برغم إن الدنيا لم تكن قصارى أمانيهم.
ألا تري أن الإيثار والزهد
يبلغ بالمرء مقاما أرفع مما تبلغه مقاصد الأنانية!

9

العاقل من يسلك مسلك حياته،
كمسيل نهر جار،
فهو كالماء، مطواع،
لا يتحرش ولا يأبه،
بقصد القاصد خيرا أو شرا.
فيلبث راكدا بأدنى الجداول.
فيمكث مكث الطاو.
فالخير لمن اتخذ لنفسه مقاما راسخا،
كأنه قطرة ماء في جوف بحر ساكن،
كأنه كلمة طيبة في حديث ودي عابر،
أو يد عادلة تحت سطوة أحكام جائرة.
أو بصيرة ثاقبة بشاهد الهدي
تضيء مسري السالكين.
فما كان للطاو أن يقرب مواطىء الزلل أبدا.
بما اجتنب من مزالق المشاحنة واللغو والجدل.

9

مقام القعود والخذلان، أفضل من حال السعي الدائب.
لأجل نفس لا تشبع.
إن كأسا مترعة،
خليقة بأن تنسكب،
لكن كوبا فارغا.
يستقر ثابتا فلا يضطرب.
إن أشد النصال حدة ومضاء،
أكثرها عرضة للانثلام
وأشد الخزائن إثارة لغواية السرقة.
أكثرها امتلاء يأثمن الودائع،
كما إن مظاهر الترف المجللة بأردية الغرور.
مدعاة لاجتلاب الفتن.
فالعاقل من داري نفسه ستر الخفاء.
وهو في سطوة المجد
وبهاء النجاح والفوز.

10

أيمكن إن تخلد خلودا روح في جسد؟
ويلتقي روح طاهر ، بلهث أنفاس خبيئة طي الصدور،.
فيمتزجان ويبرآن من اغتراب،
براءة طفل لا يأثم؟
هل تجلو مرآة نفسك.
فينبثق صفاؤك، رائقا بغير كدر؟
أيمكن إن تحب شعبا وتحكم وطنا
دون بطش ودهاء وأكاذيب ملفقة
أيمكن أن تحني رأسك أمام عاصفة عاتية؟
أيمكن أن تنصاع لسطوة الطبيعة،.
وتتنازل ، وتتراجع، فاهما، أمام هوي الطبائع.
وقد استفاق لديك الوعي وانجلت البصائر؟
ما أنبل يدا أعطت فأغدقت،
ثم تناءت عن المنٌ بالإحسان.
وما أعظم طليعة قادت،
ومهٌدت دروب الحياة،
ثم توارت بأذيال الركب،
في إباء شريف
فذلك من سر النعت بعميق غور الخلق الأصفى،
وباطن أبطن منبته.. الدفين

11

ثلاثون عصا خشبية.
ملتفة حول استدارة مركز دائرة.
تصنع عجلة داورة
أتعرف أنه لولا الفراغ ما كان يمتلىء المكان.
لولا فضاء حول قطب مركزي.
ما التأمت هناك العصيٌ والإطار والدوران
كذلك لا تصير قطعة من صلصال
إناء صالحا للاغتراف
إلا بقلبها الفراغي الباطن.
ولا يقوم في جدر باب،
أو تطل على الإفناء نافذة.
إلا بما انتقب في الجدران من مساحات فراغية.
فالإخلاد ألعدمي شرط بدء الوجود.
فلذلك. صار للموجودات ، يد العطاء
وللمحجوبات طيٌ الغيب، مأمول الرجاء.

12

ما زاغت الإحداق،
وتاهت في العين البصائر.
إلا بساطع النور الوهاج.
ولا ارتجت أسماع وصمت آذان،
إلا بصاخب اللهو ودويٌ المجون.
كم من وليمة دسمة.
عمرت بها الموائد،
ولم تشبع منها البطون.
كم للصيد من لٌذة
وللافتراس من هوي جامح،
لكن بقلب الصياد خوفا، مقيما،
وبين جوانح المفترس أشباح رعب جاثم.

13

الفوز لمن نال حظوة.
والخزي لمن تردي في حمأة الهوان.. لا ظل ولا اثر
والعاقبة ، سواء بالفوز أو الخسران ، مكمن خوف مقيم، ..
كالمصير.. كالقدر
أتعرف علة خوف النائل حظوة؟
تلك أمور بديهية،
الفائز.. دوما، يخشى أن تلحقه إهانة،
.. أن تفلت من بين يديه مقاليد الظفر،
الفائز، كالمخذول، كالخاسر، كطبيعة غرائزنا البشرية.
يشقيه الروح الأناني، ألطفلي، بنوازعه الحسية.
أما رأيت أنا نتحرر من قبضة خوف 'تصاريف القدر'
كلما تخطينا عتبات الذات الفردية.
فلذلك ، لن تجد في العالمين أحدا
يصلح لإدارة شئون مملكة مترامية الأطراف،
مثل الباذل نفسه،
الخارج من أسر أناه الذاتية.
لن تجد يدا تقطر ندي،
مثل يد قانعة.. مثل كف راضية.
عطاؤها فيض غامر،
فوق الممالك والبشر.

14

كل ما لم تبصره العين، وهم مكنون
كل ما لم يدركه السمع، زيغ زائل،
كل ما لم تبلغه مدركات الحس، هباء معدوم
تلك ثلاث لا يقف عليها استقصاء.
تلك ثلاث مطويات بستر غطاء واحد،
تلك ثلاث تترادفن بذات المعني،
سامقها ، شحيح، النور،
أدناها قاتم حجاب الظلمة.
فتلك حال لا يحيط بها وصف،
ولا يتجلى بها إدراك مادي ملموس
(وإنما هي) محض خيال سد يمي في فضاء
خفاء لا يتبدى للناظرين.
ودرب لا يتجلى للسالكين.
فاهتد بهدي الطاو التليد،
وتأمل بدء كينونة الوجود.
تملك مفتاح مغاليق الكون،
تتسع بآفاق وعيك أقطار البصائر
وينطرح لقدميك مسار الطريق.

15

كان الراسخون في الفكر الطاوي قديما
يحملون في قلوبهم أسرار المعني وخبايا التأويل
وكانت الكلمات مكامن دلالات،
واجتهادات رؤى بعيدة الغور،
وكان حملة أسرار الكلم.،
أشق من أن يحيط بأطوارهم الفهم،
أو يدور بأطياف ألغازهم المعني.
ولئن حاولنا إن نصف لك شيئا من أحوالهم،
فلن يسعنا إلا القول بأنهم،
مترددون، كمن يعبر نهرا من جليد،
حذرون، كمن يتقي عاجل البلاء،
مهذبون ، كضيوف مأدبة ملكية عامرة،
وادعون، كمسيل قطرات من ثلج مذاب،
مخلصون، طاهرون طهارة عود نبات أخضر.
واضحون، كأودية منبسطة للناظرين.
محجوبون، كأسرار مسربلة بالغموض.
كتيار نهر دافق،
كثيف الجريان،
غائم مورد الباطن،
فمن ذا يكبح دفق شلال جارف (... سوف الطاوي)
ومن ذا يقدر أن يصفي كدر بئر آسنة.
من ذا يجسر إن يزلزل أركان أجواء ثابتة الرسوخ.
من ذا يفكر بأن يلهب بواطن بركان محموم.
في تقلب نيران جمره الدفين.

16

كابدت عناء مجاهدة النفس،
فحفظت نقاء جوانحي،
وأرخيت لروحي ستر السكينة،
ونظرت، فإذا الناس فيض حياة لا تفني،
أفواج تأتي وتروح،
وأزمان تتعاقب
الكل، مزيج من ألوان شتي،
لكن..
على البدء دوما، تعود الدوائر،
والى المبتدأ يعود كل آخر،
فالرجوع إلى الأصل طمأنينة،
والطمأنينة عود بدء،
وعَوْد البدء قدر دهريٌ،
فمعرفة السرمد ألدهري هي عين جلاء البصيرة.
فمن لم يعاين طبائع الأشياء
ورد موارد الهلاك،
أما من أدرك جوهر الطبائع،
فقد أعطي مفاتح الرضا،
ومن رضي فقد عدل،
ومن عدل فقد حكم،
ومن حكم فقد اهتدي هدي الطبيعة،
ومن وافق الطبائع فقد سلك في الطاو،
ومن سلك في الطاو فقد امتدت به الآماد..
وطال به البقاء..
وانعقدت له معاقد السلام والسكينة.

17

أعظم عهود الحكم السياسي هي التي،
تمر كنسمة هادئة لا يكاد يستشعر أحد ثقلها!ف
تليها عهود رضا المحكوم عن الحاكم،
ثم عهود إجلال الحاكم، توقيا لبطشه،
وآخر درجة منها،
زمن يسقط فيه السادة من عين رعاياهم.
فمن لم يصدق قومه، كذبته المقاصد،
واجترأ عليه المجترىء،
فأفضل الولاة طرا،
من تدبر الأمور مليا،
فأبصر طبع الطبائع،
وأرخي للحلم عنان الإمهال،
فتدبر وتفكر،
قبل الشروع في تصريف جريان الأحوال،
حتى إذا دعا داعي الجد والعمل،
قال الناس،
تلك أمور،
أيسر من الماء والهواء.

18

ما تأسست الفضائل إلا لرأب صدع الأخلاقيات المتداعية،
ولا أطلت مخايل المكر والدهاء،
إلا من ثنايا الوعي والحكمة والنجابة،
فلولا العقوق والجفاء والشحناء،
ما كان البر والود والتراحم.
ثم إن أجواء الفساد والخيانة والفوضى،
هي التي ألهمت نفوس الوطنيين،
إرادة النقاء والإخلاص والنظام

19

انزع قناع الفطنة،
وحجاب الكياسة،
كي تصبح أكثر نفعا للناس.
دع مظهر الرحمة،
تتجلي لعينيك حقائق الطاعة والبر الجميل.
تجنب مخايل الحرص والتدبر واللياقة،
تتناءي عنك حجب الأنانية.
وأعلم أن محض التكرار النظري لتلك المبادىء الثلاثة،
لن يجدي شيئا،
فالعبرة بالتطبيق العملي المشهود بتمام النفع،
لكل سالك بيقين.
فليكن المظهر المتواضع البسيط،
موصولا بالجوهر النقي الأصفى،
ثم انزع عنك أنانيتك،
تتجافي عنك غواية الأماني
وألق زخرف الزيف
تصفو في ساحتك منازل الكدر

20

تري ما الفرق بين رفض وقبول،
بين الخير والشر.. ما الفرق؟
والخوف الذي تفزع منه الصدور،
كيف لي أن أهرب منه،
تلك أفكار تراود النفس منذ الأزل.
أفكار قديمة، طريقها ممدود بلا أمد،
والناس قلوب عامرة بالفرح،
وخطوات لاهية،
ترقص، تعبث،
تتدافع صوب مآدب عامرة،
تتسلق أدراج ليل ربيع ساحر،
فتلتمع أحداق مفتونة بمرأى مطالع النور الوضاء،
وتلتوي في طي الأعناق أعناق،
الكل ابن شقاء وهناء عيش،
سوي أني غدوت غير مكترث بحال
كطفل بليد تعانده ابتسامة،
كغريب، ابن خلاء وطريق، لا مقام ولا مسعى،
تصفو أحوال الناس، وتتكدر أيامي،
بيد أن مدار الأمر وقطب العلة،
يرد إلى غفلة غمرت مجامع أفهامي،
فالكل وقدة ذهن شرير ماكر،
ووحدي، بساذج إخلاصي ألطفلي،
أصيخ أذان الصدق لدنيا من أكاذيب،
وأمد الكف اللين ضراعة لقلوب قدت من حديد.
آفاق شطأني فوق المدى،
لكن الأعاصير لفح نزق ثائر طي الأبد،
الكل جاني صيد،
ووحدي، ساحتي خلاء،
فمن ثم، تناقضت بيني وبين الناس المقاصد،
ولاغرو أن يصير إلى تلك الحال،
كل من سلكت به إلى الطاو المسالك

21

أكمل الصفات، تنبع مع 'الطاو' من قلب معين واحد، فكأنهما عين النعت بتمام مطابقة الحد على الحد، لكن الطاو بعض من أسرار الوصف المكنون،
في حجب المعني،
غيمه حالك، بيد أن غوره قبس من ألمع إشاراته، وإشاراته رسل أشرف مقاصده، في كسوة أخفي دلالاته،
ودلالاته أمينة الغرض، كريمة الإفادة،
راسخة الإخلاص، وافرة النقاء.
إن للطاو منهجا محفوظا في لوح الدهر،
تداولت به الأيام طرائق الأفهام،
فهو الدليل المعهود في معرفة كل ما تجلي به الوصف،
ولئن أردت سبيلا لمعرفة مبتدأ الكون،
فالطاو، هدي السالك طريق العلم وسبل الرشاد.

22

قيل قديما:
'طوبي لمن وجد مع الظلم انتصافا،
وفي طي الاعوجاج مديد استقامة،
ويا حظ من تجدد مع قديم الاهتراء،
واغتني مع الزهد،
وتساءل مع ثبات البرهان'،
لذلك،
فالعاقل من جمع إلى الطاو،
منثور تلك المبادىء الخالدة،
وتمثلها جميعا،
قبلة مثل قويم،
وموثق أزكي هداية،
غ... فهو إن اقتدي بها..ف
فله المقام الراسخ في جنبات الأفق الشريف،
بينما هو في حال الإعراض عن لفت الأنظار،
يتجلى مبرزا في أتم بهاء،
بينما هو قابع في الركن القصي،
يدرك ذري النجاح،
وهو عائف عن خيلاء الزهو،
يترقى في مدارج المجد،
وهو في ذليل التواضع،
يترفع عن الخوض في ساحة اللجاج والجدل،
فيتناءى عنه مبغضه،
وقد دار القول في المثل السائر:
'الدوام لمن استنام'
غ= حرفيا: البقاء في احتمال البلاء
فما أصوب القول وأصدق المقال!
فذلك هو المبدأ الجالب للنفس وقت المحنة
أخلد الأمان وأثبت المقام

23

الزم حد الصمت والسكينة،
تتقدس خصالك،
فتسلك مسلك الطبيعة الدهرية.
قد عصفت العواصف،
فلم تلبث غير برهة،
وأرعدت البروق،
فما سطعت إلا طرفة عين.
أما قد عرفت أنها فطرة الوجود،
وطبع الموجودات في أنحاء السموات والأرض،
أما تجلت لناظريك منها شواهد العجز عن الثبات،
أما لاحت لك منها نعوت التقلب المستدام،
فكيف تتجاهل طبع الطبائع؟
ألا إن غاية المنتهي هي عين المبتدأ،
فالسالك هدي الطريق وارد قصد الهدي،
والقاصد طريق الحكمة واصل إلى مقصده،
والساعي إلى الخسران بالغ مبتغاه
إن السالك إلى الهدي يجتمع إليه الهدي في غاية مسعاه،
والقاصد إلى الحكمة تتوافد إليه مراتب الحكمة،
.. في متكأ جليل.
والساعي إلى الخسران تتوارد عليه موارد الخسران،
.. تجري إليه جريان مشتاق.
إنه لا يحيق المكر إلا بقلب واجس بالظنون،

24

كادت خطوة الواثق تتعثر،
ثم كادت وثبة اللهفان تتقهقر،
وأوشك دعي الجاه أن ينخسف
.. في حضيض المذلة.
فما بال المختال يزهو بغير تيجان،
وما بال المغتر يتشامخ بغير صولجان،
فدونك قسطاس الطريق والهداية،
فما ربحت للضالين كفة ميزان،
ولا قام لهم في أعين الناس مقام صدق،
إنه لا يفوز إلا السالك هدي الطريق،
الذي تفكر، فأبصر، فاستقام عن الميل،

25

ثمة غيب في خفاء مستور،
حاز كمال بدء الوجود،
قبل شهود السماء والأرض،
فذلك الغيب فيض أسرار،
محجوب بشطآن الصمت،
مشهود بعين السكون.
مقامه مخصوص بنعت الكلي ألأحدي الجامع
ليس له من ورائه إرادة غيرية
.. غ= فلا مبدل له غير ذاته
غ.. ذلك الغيب:ف دورة البدء إلى المنتهي،
دورة دائرة سرمدية،
عودها أبد على بدء،
بدؤها عود إلى أزل
غ.. فذلك الغيب هو مبتدأ الوجود،
ومبدىء الموجودات كافة،
لا يحيط باسمه مسمي،
غير أني أشرت إليه رمزا ب 'الطاو'،
ووصفته والوصف مجازي ب 'العظيم' الذي،
ليس لواسع أقطار مداه حد،
وليس لقديم دوران مجري بقائه منتهي.
دفق أبديته، مبتدأ جريانه،
وذروة اكتماله، بدء دائرة رجوع لعين المتبدا،
فالطاو والسماء والأرض والملوك والأباطرة جميعا،
حازوا جلال النعت بالتعظيم،
ذلك أنهم أقطاب ملكوت الكون كله،
ولا يعدو جلالة الإمبراطور سوي أن يكون،
أحد المنسوبين إلى الوصف الجليل.
ولطالما كانف الإنسان بميثاق الأرض يهتدي، والأرض بسنن السماء تسترشد، والسماء لشرائع الطاو حافظة، وكان الطاو لأحكام وجوده بارئا ومقيما.

26

من جذر العزم الراسخ،
يتفرع النزق الطائش،
من عين الرسوخ المتين،
ينبثق شعث أحوال الرهج المنفلت المجنون.
فالعاقل من إذا هام في دروب الترحال،
كانت خزائن أحماله أثقالا،
وكانت مؤنته كفاية الطريق،
نزل أسفاره رغد،
لكن مكثه ظل زائل،
فلئن كان الأمر هكذا
تري إذن كيف يستهين جلالة الإمبراطور،
بأخطر شئون البلاد،
ألا إن الاستهانة غ... في مثل تلك الأمور،
نزق طبع يضيع راسخ الحكمة،
وخطل رأي يبدد جلال سؤدد المجد،
وسطوة تاج الملك والسيادة.

27

أمهر السائرين من إذا مشي،
لانت خطوته، فعبر بغير أثر،
وأفصح المتكلمين من إذا تحدث،
بانت فصاحته فأفحم وظهر،
إن من تجلت عبقريته في حسابات الأرقام،
لم تعوزه آلة الحساب،
وكذلك حارس الأبواب الذكي،
أبوابه مصونة مغلقة بغير أقفال،
وعاقد الحبال الأريب،
بضائعه معقودة بغير أربطة،
وجدائل خيوطه موثقة بغير زمام،
لذلك، فالعاقل من بسط لكل الناس،
سرادق عنايته،
وحفظ في ذخائر النفع خير الوسائل،
لم يغادر وسيلة إلا أحصاها،
فذلك من جلاء الفهم ونافذ الحكمة والبصيرة،
إن الأخيار للأشرار مناهل علم وهداية،
وإن الفجار للأخيار ساحة موعظة.
فإياك واحتقار أقطاب الهداية،
ثم إياك وإياك من امتهان قداسة السالكين،
فإنه لا فضل مع احتقار سبيل الرشاد،
ولا هداية مع استصغار شأن الضالين،
إن في ذلك أسرارا من الحكمة،
ولطائف من بواطن الدلالة.. فتأمل!

28

اعرف صلابة صخور التل،
واسكن في رخاء أعطاف الوديان المخملية،
فلئن عرفت مدارج سطوة القوة (... الذكورية)،
في غليظ قسوتها،
فالزم موطن الخذلان (... الأنثوي) إذعانا وتسليما،
ولتكن كمجري نجهير في أدني سفح جبال مشيدة،
تتقدس خصالك أبدا مؤبدا،
وترد إلى ديمومة صفاء ميلادك الطاهر،
فيشهد شاهد قلبك، قلب طفل وليد،
في مبتدأ حصول الخاطر
اشهد طوالع النور،
وابق في مكامن الغيم الحالك،
ابق مثالا تتمثلك الجموع،
تتسرمد خصالك،
وتستقيم، عن ميل، حقيقة طريقك،
ويرجع مبتغي قصدك إلى غاية باقية بقاء الأبد،
أبصر سؤود المجد،
ثم اسحق أنفك في حضيض المذلة،
فكن كرديم أخدود في أدني الوادي،
يكفيك زادك ويكثر وافر خصالك على المدى،
وترد إلى نقائك الأصفى،
فتعود بادىء مبتدأ جوهر ماديٌ.،
ثم ينحطم مجمع جوهرك،
ويتفرق شظى منثورا،
فتمتلىء به الأفنية،
ويجمعه العالمون الحكماء بأيديهم،
ويشيدون به مشيد العروش والممالك،
وتصير لهم الولاية فوق كل والى،
ذلك بأن الحكمة التي عليها مدار صلاح الكون،
تنطق عن مبدأ جوهريٌ كليٌ،
لا مفرق لجامع مجمع أحديته.

29

تعس من ابتغي امتلاك الدنيا،
بمجمع قبضته،
ضل من تصور أنه مسيرها،
وفق هوي قلبه.
الدنيا ملكوت قاهر يتأبى عن أن يذعن
لعبث الأهواء.
من تسلط على الدنيا بالقهر،
نازعته بالخسران،
من نازعها بالغلبة،
ناوأته بالخذلان،
ذلك بأن غالبها مغلوب،
وآخذها مأخوذ بضياع جني مسعاه.
للدنيا سرمد طبع جار لا يتبدل:
إقبالها إدبار،
الهمس في كهف أسرارها،
دوي عاصف ملء الأقطار،
مكمن قدرتها عين بلاء أقدارها،
وافر كثرتها نقصان،
لذلك،
ينبغي على العاقل أن يلزم مقام الاعتدال،
دون شطط أو إفراط.

30

في الطاو ما يغني رجال البلاط عن تسليح جيوش،
وأستنفار حشود،
فمع كل قوة ظافرة،
بطش جبان،
ووراء كل حربي،
ساحات مريرة وزمان في ذل الحرمان.
فلئن اشتد ساعد المقاتل بعزة النصر،
فليمسك عن المقهور يد الامتهان
غ=المقاتل المظفر لا يسرف في البغي والقهر
وليحفظ وجهه من سيماء الغرور،
ولينزع عن قلبه هواجم الطغيان،
وينقي سرائره عن سطوه الرضا الواثق بدوام الفوز،
وليزعم تواضعا¬ أن النصر قدر مقدور،
وأن الغلبة تأتي أحيانا عفو الخاطر،
فبذلك، يصير النصر شرفا كريما في ساحة نزال،
فلا يتدنى لعار البغي على خصم ذليل في حمأة الهوان،
(... ولقد جرت العادة في طبائع الأشياء أنه:)
ما من ظافر بمعارج الفوز،
مكين المرتقي، نافذ الوسيلة،
إلا نكص على عقبيه،
ودارت عليه الدائرة،
فتلك حال لا تتأدي بها للطاو،
صلة موصولة،
فمن تناءي به النعت تباعد،
ومن تباعد هلك.

31

الحرب نذير شؤم،
رعب نافذ في قلب لحي بسكين،
فما كان لعاقل أن يسلك إليها سبيلا،
إن الدروب السائرة بالناس ذات اليمين،
تنقلب في موكب الحرب طريقا حذو اليسار،
الحرب آلة مشوؤمة،
لا يمد الماجد الكريم إليها يدا،
وإن ألجأته إليها الضرورة،
فإذا ما اقتضاها، بالحتم ، اقتضاء،
فلتنطفىء في غمرها ضراوة الافتراس،
ولنتثلم حراب القتل المسعورة،
وليحذر المنتصر مغبة الغرور،
فالمغتر، كالقاتل، نشوان بسفك دماء،
وسافك الدم محتوم بالخسران (=مغلوب بقاهر الخسران)
(.. ولقد جرت العادة من قديم بأن:)
الشمال علامة الفرح،
واليمين مشأمة تنقبض منها الصدور،
(... في الحرب،) تصطفي الجنود إلى اليسار،
فدليل الميمنة، يومئذ، بيد كبار القادة..
.. سادة الموت والبطش الرهيب،
فلا غرو أن تصير يد الحرب العليا،
نذير شؤم منحوس المقادير،
الحرب أشلاء وضحايا،
ومواكب جنائزية
في الحرب تسقط البشرية،
ويصير المهزوم والظافر جميعا
أسري موكب جنائزي
تجلله الأحزان

32

كم التبس على الأذهان معني الطاو،
كم تاه به الوصف،
وتحيرت الإشارة،
كم بقي الحرف تحت حجب الفهم،
محض رسم بغير دلالة،
وما كان الاسم سوي الرمز
في أبسط وأيسر معانيه،
لكنه المعني الذي،
يدرك كل أقطار الدنيا،
ولا يحيط بمداه وصف،
هو المعني الذي إذا فقه الملوك
بواطن حكمته،
انقادت لهم الدنيا بأسرها
على قدم الامتثال،
وتعانقت به شوارق أنوار السماوات،
مع مسارب أغوار الأرض،
وتدلت ثريات من أزكي قطوف وثمرْ،
وصار لكل يد طالبة،
كفاية مؤنتها بالعدل،
والعدل حينئذ¬ ميثاق معهود بين الناس،
والمواثيق متون معاملات،
اشتقت من طول التجربة الأسماء
وصارت كلمات ومعان في قبضة تصريف النبلاء
فاعرف، وتبصر ، والزم حد الأشياء،
ففي لزوم الحد،
تنجيه من الخطر،
ولو جاز، في هذا المقام، مضرب للأمثال،
(.. فربما أقول:)
إنه ما كانت نسبة الطريق (الطاو)
إلى سائر الدنيا،
إلا كبحر هادر أشتقت منه الجداول.

33

من تجلت له دفائن النفوس،
فهو الذكي ذو الفراسة،
أما من كشف خبايا نفسه التي بين جنبيه،
فهو الفطن البصير.
الظافر في ساحة القتال باسل ذو بطش،
أما قاهر شرور النفس،
فهو الأصلب عزما وإرادة
القناعة غني،
لكن شريف السعي بمجاهدة النفس،
أعلى وأنبل همة وكرامة.
صون الخاطر عن ضلال الرأي
سند لخير الرجاء،
أما خلود النفس بعد فناء الأبدان،
فهو البقاء السرمد.

34

الطاو فيض وجود غامر،
ظل ممدود في كل الأرجاء،
كل الآمال ترنو إليه،
وهو قصد كل رجاء،
كلما لاذ به مستجير،
انفتحت منه أبواب العطاء
فإذا بلغ منه الفضل تمام الجود،
ترفع عن استجداء العرفان،
بسط على الدنيا سحائب عنايته
فلم يتسلط بجبروت الولاية
ولم يتدنَّ إلى حال اشتهاء
ولا نازعته رغبة (... مما تعانيه النفوس)
حتى تحقق به الوصف بأنه بسيط،
قد تمحض عن الرهبة والخطر،
الكل تحت عزة سلطانه (... ليس لهم دونه سند)
لكنه عائف عن جناب الاستكبار،
فاستقم له النعت بأنه عظيم القدر،
فلهذا، يبلغ القديسون المقام الرفيع،
بما اتخذوا من ذليل التواضع،
بديلا عن ظاهر سطوة الولاية

35

من فتحت له خزائن أسرار المعني الطاوي،
ملك زمام الدنيا بأسرها،
وقصدته أفواج السالكين،
والقلوب ¬حينئذ¬ رائدها السلام والمودة،
والحياة رغد عيش تحت سماء الرخاء والسكينة،
غير أن لذيذ الحياة ليس إلا،
رحلة قصيرة، لا تمضي أبعد من منتصف الطريق..
= كم استولت ملاذ الطريق،
بمآدبها العامرة، وأغانيها الصادحة،
على قلب مسافر،
في بعض منازل الترحال الطويل.
الطاو، مجرد لفظ سقيم، على لسان الناطق،
والطاو، في نظر الناظر، محض خيال باهت تنكره العيون،
وهو في الأسماع وقر،
ثقلت منه أصداء الصوت المبين،
لكنه لمن شمر عن سواعد العمل الدءوب،
مدد بعزم وافر،
وهمة قائمة على المدى،

36

إن أردت أن يجتمع في قبضة يدك شيء،
فاطرحه.. لأجل معلوم،
وإن طلبت أن تذل لك أعناق الأمور،
فأطلق لها في البدء،
عنان السطوة والجبروت،
شمر عن أكمام البناء والتشييد،
إذا نويت آجلا¬ أن تضرب بمعاول الإزالة والهدم،
مجدٌ يد العطاء،
إذا نازعتك نوازع الاستيلاء والنهب،
وأعلم أن من لطائف التدبير،
أن تعاني¬ في مبتدأ الأمر¬ مشقة الأحوال،
حتى يصير زمام الأمور،
ويكمل لك منال الفائزين.
(.... ومن ثم فإن) أوهن الضعف غالب
على شديد صلابة الفولاذ،
(....)
ليس للأسماك أن تغادر حضيض الأعماق
(... وهو حصنها المكين)
شوقا لساطع النور عند رؤوس الشطآن،
(... حيث مقتلها الوشيك)
لا.. ولا ينبغي استعراض أمضي أسلحة القتال (... عبثا)
سعيا للتباهي بقوة الجيوش والممالك.

37

مابرح الطاو يترك الأمور تجري مجري هواها،
فلا يقحم نفسه فيما استقر به طبع الطبائع
فكل شيء يسلك وفق طبيعته،
وما من شيء إلا ملتئم بعقد نظيم،
لو تواصي الملوك جميعا بميراث الطاو،
وعدا وعهدا لا يتبدل،
لأوفي الزمان بعهده،
وانتظمت شئون الدنيا (... بمن فيها وما عليها)
بنظام طبيعي فريد في جوهره،
نظام.. لم تخترعه الظنون،
ولم تسنح به خيالات الخاطر،
فإذا تسلط على القلوب،
غرض من أغراض النفس الأنانية،
بسطت على الأفئدة مشملة مما يعز على الوصف،
من أدني نسيج طاوي طاهر الصفات،
فسكنت به النفوس ، وقنعت،
فإذا التأمت شوارد النفس،
تحت سطوة ما يعز على النعت،
من هدي الطاو،
صفت أوصافها من كدر الأنانية،
فإذا تنقت من نوازع الميل الأناني،
ولجت باب السكينة،
وصارت الدنيا بأسرها،
تترقي في معارج الرضا والطمأنينة.

الجزء الثاني
داجين

38

من حاز أسمي مراتب الخلق والمجد،
وتبرأ من زيف التسامي المظهري،
استتبت له جدارة الوصف بأنه الشريف الأكمل:
أما صاحب الخلق الدنيء،
ففي أسر مظاهر الزهور والخيلاء،
ومن ثم، تبرأ منه الخلق الكريم:
المهذب الفاضل، تنقت أسراره من كدر التدبير
فهو موكول إلى تصاريف القدر،
أما الدنيء،
فهو الساعي لكسب حظوظ النفس،
ذخره فَقْد،
وفعاله محو وفناء:
مريد الإحسان، متبرىء من هوي النفس،
لكن السالك بالعدل، مدفوع بغلبة إرادة ذاتية،
(=الساعي إلى العدل،
مدفوع بغرائز التكفير عن الإثم)،
فقيه المراسم والشرائع،
هو الفصيح المفوه، المتكلم بالحسنى،
وسط الخاشعين المنصتين:
فإذا ضجت، من حوله، ساحة العصيان،
شمر عن سواعد القهر،
آخذا بناصية المارقين:
... أما دريت أن
الفضيلة ما قامت، إلا بعد ضياع الطاو،
وما نودي بالإحسان إلا بعد ذهاب الفضائل،
وما استقامت العدالة إلا بعد انحسار الإحسان،
فما جاءت المراسم والشرائع إلا بعد فقدان العدالة
ثم كانت الشرائع رأس الفساد،
وأجلي دلائل النفاق،
وما من مقولة عرضت على الطاو،
أكذب من مقولة:
'استجلاء أسرار الغيب
بثاقب التفرس والبصيرة':
لذلك، يلزم العاقل حد الإخلاص الصادق،
دون ساذج الإذعان للشرائع والمراسم،
ويحفظ خاطره من أن يسنح فيه،
إلا الدستور الطاوي،
دون استباق عابث لكشف حجب الغيب
دع 'السطحي'، 'الزائف'،
إلى 'الجوهري'، 'الأصيل'

39

صارت الأشياء من الأزل،
سائرة في فلك القانون الطاوي،
دائرة في مدار الواحدية،
فما كان يسطع لساطع السماء بريق إلا في أزال الواحدية،
وما كان يستقر للأرض قرار إلا ببقاء الواحدية،
وما كانت تتقدس أقداس الروح (=الآلهة)،
إلا في سرمد الواحدية،
وما كان يفيض فيض النهر الجاري،
إلا في مستدام جريان الواحدية،
وما كان يحيا الحي، ولا تتكثر الكثرة،
إلا بمدد من أزل الواحدية،
ثم ما كان يتولى الوالي ولاية،
أو يملك الممالك ملك متوج،
إلا بدوام حفظ الواحدية،
فاعلم انه لو حادت الأشياء عن قانون الواحدية،
هلكت، وفني عنها شاهد الوجود،
كادت السماء، بغير ميثاق أحديٌ،
أن ينحطم قائم عمدها،
ويخمد بارق سنا أنوارها،
وكادت الأرض تتداعي خرابا منثورا،
منكوب المقام والمسعى،
وأوشكت الأرواح (= الآلهة) أن تتردي
في مهاوي الفناء وتصير إلى العدم،
وكاد ينقطع جريان الجداول،
ويجف الينبوع والساحل،
وقرب إن يفني الوالد والمولود،
ويحصد الموت كل نسمة حية،
ثم كادت الملوك تزول عن عزيز المجد والسطوة،
وتسقط عن عروشها أمم وتيجان،
=فلابد من مرجعية قانون أحدي: ذلك أنه:
لا يستوي للجليل عود أخضر، إلا كان الذل منبت جذوره.
ولا يرتفع للعالي ارتفاع،
إلا بانحطاط أسفله الخفيض،
ولقد جاء على الملوك حين من الدهر،
كانوا يلقبون أنفسهم بألقاب، من نحو:
'المتواضع'، 'الفقير'، 'الزاهد المسكين'
أفما رأيت أن كل جليل،
مستنبت جذوره في ذل الحضيض؟!
أليس صحيحا أن الذل،
مدار ترجع إليه أجل الدوائر؟!
إن الساعي إلى قمة المجد،
خاسر¬ لامحالة¬ رفيع مقام المجد،
فلا تكن تاجا ذهبيا مرصعا باليواقيت،
وكن حبة رمل منسحقة في جوف التراب.

40

تدور الدائرة (... في الطاو) خلافا للمشهود
في دوران الدوائر:
فمن بدء ترجع،
والى بدء تعود، تواصل دائرة الرجوع،
للطاو دقائق إشارات تؤثر الرجوع
إلى مقام الذلة والانكسار،
موجودات الدنيا مبدؤها عين الوجود،
والوجود من عدم

41

... الناس في فهم الطاو ثلاثة أصناف:
العبقري، الذي
تفتحت مداركه،
على دقائق أسرار الطاو،
فصار وعيه،
هاديا لأفعاله
(.... والثاني:)
النجيب، الذي
أنصت، فتيسر له من الفهم شيء:
وانغلقت عنه أشياء.
(... والثالث:)
الساذج، الذي
احتجبت عنه المقاصد،
فتسفهت أحلامه:
فهو لا يذكر الطاو إلا هازئا ساخرا،
لكنها السخرية التي استصفت للطاو مشربه،
فأزالت عنه كدر شوائبه،
فمن ثم جري القول القديم،
من الأزل:
بأن أوضح سبل الطاو،
هي أخفي سراديبه،
وساطع أنواره،
هو أحلك دفائن أسراره،
مسعى الرجاء في تطلعات آماله،
هو مسري الخذلان في ذل نكوصه،
أسهل دروبه هي أوعر المسالك إليه،
وأعلى مقامات نعوته،
هي أدني ينابيع خصاله،
أكرم صفاته لا تفي بأدنى حد الكفاية،
وأصلب عزائمه إرادة مهزولة،
دب في أوصالها الوهن،
صادق إخلاصه هو أخبث سرائره،
وأطهر أثوابه هو أردأ أسماله،
أقوم أركانه ركام مائل،
وأعدل أحكامه ظلم جائر،
أثمن طاقاته هي أقصي مبلغ جهده،
أجهر أصواته هو أخفت رجع أصدائه،
أعظم دلائله إشارات زائلة بغير أثر،
... ذلك هو شأن الطاو دائما:
فهو مستور بأبطن بواطن الخفاء،
محجوب الاسم، خفي الإشارة،
ليس سوي الطاو (... الذي بهذا المعني)
هو الذي أبدع الأشياء كافة،
ثم أتم كل شيء على وجه الإحكام.

42

1 يفيض الوجود، من الطاو،
كيانا واحدا (.... بادىء الأمر)،
ويتفرق الواحد،
وجهين متقابلين،
ثم يأتي كيان جديد آخر،
ومن هذا الأخير،
تتكثر كثرة كل شيء:
ففي الأشياء جميعا،
اثنان متقابلان (... الذكر والأنثى)،
ثم أنهما يستدمجان،
فيلتئم منهما كيان واحد.
2 لم يبغض الناس في حياتهم شيئا،
قدر بغضهم ألقاب تحقير الذات،
تلك التي تقال على سبيل التواضع،
مثلك 'المسكين' و'يتيم الزمان'،
'فقير العصر والأوان'،
ثم إن الملوك يتخذونها، رغم ذلك، ألقابا رسمية:
(..... فلذلك أقولك) قد يزيد الشيء بما نقص منه،
وقد ينقص ويتلاشى بما زاد فيه:
(.... ذلك أن) ما تعلمت إلا بما زاد لدي،
من فيض المعرفة،
(.... وإذا كان لي أن أنصح بشيء في هذا المقام، فلن أزيد عن أن أقولك)
'الطغيان بدايته غلبة بالقهر،
وعاقبته سوء الخاتمة'
فذلك هو المبدأ الأول الذي،
أتخذه في باب العلم دليلا ومرشدا

43

أذل الأشياء خضوعا،
أصلبها مناوأة وعنادا،
ألين الأشياء، أقدرها على النفاذ في قلب الحجر الصلب،
ثم إنه لا ينفذ إلى أدق المسام إلا ضئيل الفراغ:
فمن ثم، وجدت برهان الحقائق،
واعتبرت بأحسن العبر: ذلك أني،
سأدع الأمور تجري وشأنها:
فالفوز دائما في مطاوعة المقادير،
والعبرة دائما فيما تخطه يد الزمان،
وليس فيما ينطق به الفم واللسان،
ألا إن القليل جدا من الناس،
هم الذين يبصرون باطن أسرار تلك الإشارات.

44

أحيانك أحب إليك،
أم شهرتك الذائعة؟
ما الأجدر باهتمامك، الحياة أم المال؟
أيهما أعظم خطرا: المكسب أو الخسارة؟
إن البخل الزائد مسلك تتهدده،
نوازع التبديد والإسراف،
وشطط الاكتناز مجلبة للخسران.
(... ومن ثم)،
فالقناعة تغني عن سخرية المصائر وذل الأقدار:
وفي الاعتدال (.... بين التقتير والإسراف)،
نجاة من الخطر،
ومستقر حياة هادئة،
ناعمة بطول البقاء.

45

كادت الكفاية تشبه النقصان،
غير أن عطاءها موصول أبدا.
وأوشك الاكتمال أن يضاهي امتحاء الحال،
لكنه موفور المنال للطالبين،
مديد الاستواء،
كدوران دائرة الانحناء،
وشدة الذكاء،
كمنتهي البله والغباء.
قوة الفصاحة والبيان،
كمعقود العقدة في اللسان.
إن نسمة دافئة تذيب جبالا من جليد،
وجلسة هادئة تكتم لفح القيظ،
ثم إن صرف الخاطر عن التدبير،
(.... ترك الأمور لطبائعها= التسليم بطبيعة الأشياء)
يقيم الإنسان سيدا
فوق ملكوت الدنيا بأسرها

46

إذا صلحت سياسة الممالك،
(=إذا سلكت وفق منهج الطاو)
صارت الجياد تحرث الأرض وتحصد الغلال،
فإذا فسدت السياسة وحادت عن الطريق القويم،
أصبحت الأفراس تذهب للحرب،
وصغارها يتعلقون بذيولها،
إنه لا جريمة أبشع من الجشع والفساد،
ولا كارثة أفجع من الطمع الجائر،
ولا مصيبة أنكد من نهمة لا تشبع:
فلذلك، كانت العفة عين القناعة،
وكانت القناعة مددا من الرضا إلى آباد الأبد

47

يستطيع المرء أن يعرف أحوال الدنيا،
دون أن يتخطى عتبة بيته،
ويمكنه أن يستطلع حركة الأفلاك ومدارات الكواكب،
دون أن يفتح نافذة،
أو ينظر إلى الفضاء،
وكلما أبحر السالك يريد علما،
تناءي عنه شاطىء الغاية
(=من مشي كثيرا، عرف قليلا)
إن الراسخين في الطاو،
يدركون بغير استقصاء،
ويبصرون بغير مشاهدة،
ويبلغون قصد الغاية وعين المراد،
دون أن يتحرك لهم ساكن،
أو يخطر لهم خاطر السعي والاشتغال

48

طالب العلم مشغول بسعة الإطلاع،
في كل يوم تزداد حصيلة معارفه:
وطالب الطاو مشغول بصفاء الوعي،
في كل يوم يصفو كدر خاطره:
فهو في خاتمة المطاف،
بالغ حد التبري من منازعة الطبائع،
(=واصل إلى درجة التسليم المطلق)،
فيثبت له، هنالك، راسخ المقام،
حتى يصير إليه زمام كل الأفعال،
ثم إن الدنيا تنقاد لمن زهد في تصريف أحوالها،
فأما من نازع الطبائع،
فسيري منها وجه العناد،
ويقف له كل شيء منها بالمرصاد

49

العاقل من تنقي خاطره عن نوازع الأنانية:
فهو يطلب حيث تطلب الناس،
ويريد بمراد نفوسهم،
ثم إنه كريم مع الكرام،
وكريم أيضا مع اللئام:
فهو على ذلك حتى يطوف به الأثر الجميل بين الناس:
بيد أنه مؤتمن مع الأمين،
ومؤتمن كذلك مع الخائن،
فهو على ذلك حتى يطيب عرف إخلاصه في كل مكان،
لابد للقديسين (... الطاويين) الذين صارت لهم
سطوة الولاية فوق الممالك،
من أن يخلصوا النفس من أكدارها،
فلا تسنح في النفوس إلا سوانح الوجدان الطاهر،
إن الناس تقتدي بكلمة ينطقها القديسون،
وتهتدي بإشارة من نهج شعائرهم،
فلابد للعاقل (... الطاوي) أن يسلك مع الناس،
على نحو ما يسلك مع طفل في براءة التكوين:
احتجب عنه العلم،
وانغلقت دونه الإرادة

50

الناس في حظ البقاء على ظهر الحياة،
ثلاثة أصناف:
الصنف الأول، المعمرون:
الصنف الثاني، قصيرو العمر:
وثالثهم، الحريصون على البقاء،
الذين أذهلهم الحرص على الحياة،
فأرقت خواطرهم، فماتوا قبل الأوان.
لكن لماذا يدركهم الموت،
وهم الحريصون على الحياة؟
لأنهم تجاوزوا الحد، حتى أسرفوا
في اختراع أساليب النجاة،
وكنت سمعت القائل يقول،
إن المنعمين بطول البقاء (... الحريصين الأذكياء)
لا يهابون أن يلاقوا في طريقهم، إذا مشوا،
نمورا ولا أسودا (=نمرا أو وحيد القرن)
ولا تمسهم الحراب، إذا حاربوا،
بأدنى أذي:
فلا النمور تتنمر بهم،
ولا الأسود تنشب فيهم الأظفار،
ولا الحراب تنوشهم بقاطع نصالها،
فكيف، ولماذا، لا تفتك بهم كل تلك المهالك؟
لأنهم جبنوا عن اقتحام مواطن الهلاك،
وجردوا نوازعهم عن ملاقاة وجه الخطر.

51

الطاو هو الذي أحيا حياة كل شيء:
فالطاو مبدع كل الموجودات،
والفضائل منبت نمائه الوافر،
جسومه المتعينة هي رسومه البادية للأنظار،
وواردات أحواله هي علة بلوغه تمام كماله،
(... فلهذا ف..) ما من شيء إلا يعظم سامق قدره،
وما من شيء إلا يحفظ جلال فضله،
وما كان ذلك بسطوة الأمر النافذ،
الذي تذل له رقاب الخضوع،
وإنما بجريان الفطرة في الطبائع،
وغلبة سرمد الطبع المعهود،
فلهذا كان الطريق (...الطاو)
واهب الحياة لكل شيء
فهو القائم بقيومية الولاية لكل شيء،
والعناية بكل شيء،
والحماية لكل شيء،
يمد كل الأشياء بمدد ينتعش به الأجل،
ويسبل على كل شيء أستار الوقاية،
ثم إنه يحيي الحياة، ولا يتسلط على الحي بالجبروت،
ويمد يد العون: فلا يكترث بمن شكر وحمد،
أو سخط فتنكر وجحد،
يتصدر عظيم مقام الوجود:
فلا يملي مشيئة بسطوة القهر،
فوق هوي الأهواء وقصد المقاصد:
فذلك هو المسمي،
بأمجد مجيد النعت الذي
يقصر عنه الوصف،
لاحتجابه بأبطن حجب الإشارة

52

لكل الأشياء التي تحت السماء،
نقطة بدء أول،
فهذه النقطة أول أصل الأشياء:
فمن وقف على مغزى الأصل الأول (=الأم)،
انفتحت له أبواب الباطن (=الابن)،
فإذا أحاطت المعرفة بكل دقائق الباطن،
امتلك زمام الفهم ناصية الأصل الأول،
ونجا نجاة الأبد.
أغلق أبواب الحس (=أعضاء الحس)،
ومسارب المعرفة،
تحفظ باطنك من تشوش الخاطر،
وتأمن لواعج الكرب مدة حياتك،
أو افتح بابك،
لوارد ما احتجب عنك،
وتقلب في ساحة شغلك الشاغل،
واتبع في اشتهاء قصدك كل مسعى،
تكتنفك البلايا،
فلا يبرح عنك سقمك،
ولا يشفيك دواء،
(....)
مراقبة دقائق الأحوال،
مما لا تقع عليه الأنظار،
أمارة من أمارات جلاء الأبصار،
ومقامك في ذل الخضوع،
جسارة.
فاقتبس قبسا من أنوار الطريق (... الطاو)،
والحظ تجليات البصر،
واحفظ نفسك مما يوردك موارد المحنة،
ترسخ بك رواسخ الفهم (... الطاوي)،
ويثبت لك دوام شهود الطريق.

53

حتى أقل قدر من البصيرة،
لا يشجعني إلا على السير،
في أوضح مسالك الطريق،
بعيدا عن التواءات الدروب الجانبية:
فليس أسهل من طريق قويم.
إلا أن بعضا من الناس،
يهوي السير في منعرجات الدروب،
(...)
(... لو تأملت لرأيت)،
قصور الأمراء والأباطرة،
مشيدة في غاية البهاء والجلال،
متناسقة البنيان، رائقة المنظر،
لكن الحقول والمراعي
مجدبة كالحة شوهاء،
وخزائن الغلال، جدران مغلقة خالية،
في حين أن الأردية الملكية الفاخرة،
تنسدل فوق أعطاف الجلال الأفخم،
في أروع طرز، وأثمن يواقيت:
بسيوفها الذهبية المدلاة،
فوق أبدان متنعمة ببهجة الأيام،
ورغد العيش،
فأولئك هم كبار رؤوس النهب:
شيوخ المناسر، وزعماء اللصوصية،
فدربهم حيد مائل عن هدي الطريق.

54

لا زوال لما استقر منبت جذوره،
ولا انفلات لما عانقته السواعد،
هي أشياء تتوارثها الأجيال،
ويسير بها موكب الأحفاد في إثر الأجداد،
ميسرة دهرية لا تتبدل،
مسلك خلق فاضل
فاتخذ لنفسك معيارا تصلح به شأنك:
تري الناس سمت خلق واحد،
من معدن أصفي، ومشرب أنقي وأطهر:
ثم اتخذه نموذجا يحتذيه أهل بيتك،
تجد الفضل فيهم بالغا حد التمام:
واتخذه مرشدا لترتيب أحوال عشيرتك،
تجد الفضل فيها مكتنفا كل ساحة:
واتخذه مفتاحا للخير في مدينتك،
تجد الفضل فيها رائجا في كل ناحية،
واتخذه سياسة تسوس بها،
شئون مملكتك المرامية تحت السماء،
تجد كريم الفضائل في كل ربوعها:
لذلك فمعيارك للحكم على أخلاق الفرد،
هو مجموع فضائل الفرد نفسه:
ومعيارك للحكم على أخلاق أسرتك،
هو مبلغ الفضائل السائدة فيها:
ومعيارك للحكم على أخلاق عشيرتك،
هو ما استقر فيها من فضائل:
ومعيارك للحكم على أخلاق مدينتك،
هو جملة الفضائل المعهودة فيها:
ومعيارك في مراقبة أخلاق مملكتك،
هو المبدأ الأخلاقي الذي جرت عليه طبائعها.
فما وسيلتي إذن،
في معاينة الطيب والخبيث،
من أحوال الدنيا؟
فالوسيلة في ذلك
هي عين ما تقدم لك ذكره أنفا
(... فتأمل ذلك!)

55

مثل الفرد الفائق تمام الوصف،
بما حاز من وافر مدد الأخلاق،
كمثل طفل طاهر في براءة الميلاد:
لا تتخطفه مناقير النسور،
ولا تنهشه مخالب الافتراس،
ولا تناوشه أذناب الأفاعي:
كمثل طفل في المهد،
غض الأطراف، طري القلب،
لكن أصابعه راسخة القبض بإصرار:
كمثل طفل (... قبل تمام النضج)،
يدرك أشواق الذكر للأنثى،
لكن إطلالة شبقه الأولي
(حرفيا= انتصاب قضيبه ألذكوري (الصغير)
علامة على وافر مكامن طاقته،
كمثل طفل ينفطر بكاء،
وترتج الأسماع لصراخه:
فلا يذبل جهير صوته،
ولا تنثلم حدة نبراته،
(... فذلك) بما انتعشت روح حياته:
فاعلم إن موفور طاقته،
وقوة عنصر حيويته،
أمور يجري بها سريان الطبع في الأشياء:
فإدراك الطبائع هو عين البصيرة.
إن الإسراف في اشتهاء لذة الحياة،
استعجال لشؤم العاقبة:
والتسلط بالقهر على إرادة الروح،
استكبار مرذول،
يضيع بهجة الروح،
ويزيغ فطنة الرأي،
ألا إن كل بالغ مديد القوة والاقتدار،
ناكص إلى حضيض الوهن والانكسار:
فذلكم مما يخالف معهود الطريق (.... الطاو).

56

من عرف الطريق (.... الطاو)،
أمسك لسانه عن هذر القول،
فما عرف الطاو،
من تبعثر الكلام بين شدقيه،
يثرثر كيف شاء.
(.... إن الطاوي الحقيقي)
يقطع موصول الصلة،
ويسد أبواب الوسيلة:
فلا هو في أذن السامع،
ولا في فم الناطق نطقا:
قد ثلمت نصال عبقريته،
(... فلا يتفرد دون الناس بميزة)
فصفي كدر خاطره،
(... مما كان يقلقه من مشاحنات مع الآخرين)
وانطفأ وهج بروقه،
واندثر في رديم التراب كنز يواقيته:
فذلك مما جري به الوصف بأنه،
الانمحاق في كل الكل،
(... تعين الفرد بالمجموع)،
فلذلك، فلا هو الداني القريب،
(... فيغشاه ما يغشي الناس في قربهم)،
ولا هو القاصي البعيد،
(... فيتفرد بالبعد،
وينتعش إحساسه بذاتيته)
لا ينفعه أحد بنفع،
ولا يؤذيه ضار بضر،
تناءت مرتبته عن كريم الإجلال،
وتنقت هيبته عن وضيع الإذلال،
فلهذا، تمجد غاية المجد
بين الناس أجمعين

57

في الطاو صفوة التدابير وأدق المعايير النافعة،
في سياسة شئون الممالك:
وفي فنون الحرب، طرائق متنوعة للقتال،
تضمن تحقيق النصر:
وفي (... فلسفة) العمل بمقتضي أحكام الطبيعة،
ما يصلح لإدارة شئون الدنيا بأسرها،
فما السبيل لبلوغ تلك الغايات؟
فانظر الآتي تبلغ غايتك:
(...اعلم أنه) كلما زادت النواهي والتحريمات،
في مملكة من الممالك=،
ازداد الناس بؤسا وفقرا:
وكلما حرص الناس على اقتناء أسلحة حادة النصال،
تفشت الفوضى والجريمة:
وكلما ازداد الناس فطنة وذكاء،
تعددت ألاعيب الدهاء والغش والحيل الشيطانية:
وكلما صارت اللوائح القانونية أكثر صرامة،
وتغليظا للعقوبات،
استفحلت الجريمة وتعددت وقائع الجنايات:
فلذلك يقول العاقل:
'لن تنزع بي إرادة نحو أي شيء،
(... بل سأدع الأمور لمواقيتها)،
فالناس هم الذين ستتبدل بهم الأحوال حتما،
ولئن لبثت بمقام السكينة،
(... فلعلها تخمد ثائرة كل اضطراب).
فستستقيم أحوال الناس عن عوج،
ويرجع إلى جادة الصواب كل ميل:
ولئن أحجمت عن التدخل فيما يناقض مساق طبع الطبائع
فسيطيب العيش،
وتزدهر الحياة لكل حي:
ثم إني سأحفظ أهواء نفسي،
عن أن تسنح فيها غوايات اشتهاء:
وحينئذ، تصير كل نفس،
نقية نقاء طهر،
طاهرة طهارة قبس من نور.

58

إذا كان الحاكم طيبا متسامحا،
صار الناس أغبياء ساذجين:
فإذا كان فظا قاسيا،
ألفيت الناس خبثاء محتالين،
(... فتأمل ذلك):
إنها لا تأتي النكبات،
إلا وجرت في أذيالها بشائر الفرج:
ولا يرد وارد السعادة،
إلا جالبا، طي أكمامه، علقم الشقاء:
(... هي دائرة أزلية دائمة الدوران)،
فمن ذا يعرف حد النهاية؟
من ذا يملك معيارا،
نعرف به تبدلات حظوظ النفس من تلك الأشياء!
(... فافهم ذلك!)،
الاستقامة وصف لا يتسر مد:
فمديد الاستقامة يتبدل يوما،
عوجا شاءها:
والصلاح، لابد منقلب يوما
إلى شر الفساد:
قد طال على الناس أمد الحيرة،
وغاب الفهم في غياهب الغفلة:
لذلك، فالحكيم العاقل،
هو من استقامت وجهته بغير تزمت،
واحتدت نصال أرادته:
شحذا للعزم،
لا جزرا للرقاب:
قد تنزه نعته (.... عن كل حد أقصي)،
فلا هو حائز أتم السجايا،
ولا هو موصوم بأخس الخصال:
ساطع أنواره ضياء مشرق،
في جلاء البصيرة،
وليس وهجا باهرا،
يخطف الأبصار.

59

اعلم أن الادخار،
أفضل مسالك الطريق:
سواء كنت ترفع قربانا للسماء:
أو تقوم على شئون الممالك،
فوق الأرض:
فذاك هو المسلك الذي،
يهدي خطاك إلى أول الطريق،
ويمنحك السبق والريادة،
فلئن كنت الأسبق:
فالمثابرة دأبك،
فإذا ثابرت،
تذلل كل صعب،
فإذا انمحقت الصعاب،
اتقد باطن قدرتك وقدة،
تخفي أسرارها عن كل ذي فهم،
فإذا كمنت طاقتك عن كل رصد،
ملكت زمام أمرك،
وانعقد بك رجاء مملكتك:
وحينما يدعوك داعي الحفظ والرعاية،
لن تجد أطوع ليديك شيئا،
مثل هذا الواجب:
ثم إن من زال به بلاء الأوطان،
وأقيلت به عثرات المحن،
دام له دائم الوقت والزمان،
خالدا سرمدا:
فذلك مما يوصف في باب الوصف:
بأنه (... الادخار)،
الأساس الراسخ،
والبناء الرصين،
الذي ينبني به مشيد العمر (... الطاو)،
الباقي بقاء الأبد.

60

مثل تدبير شئون مملكة مترامية الأطراف،
كمثل الطاهي يقلي سمكة رقيقة الجلد،
في إناء شديد الغليان،
(=إن أمهلها احترقت، أو عاجلها تقطعت)،
فاعلم أن منهاج الطريق،
في سياسة الدول والممالك،
يبطل كيد الشياطين:
ثم إنه فيما يبطل كيد الشياطين،
لا ينزع الكيد من جوف الشر،
وإنما يحجب عن الناس أذاه،
وفيما يحجب عن الناس كيد الكائد،
يحفظهم¬ كذلك¬ من زلل القديسين الأطهار،
فلما كان خبيث الروح وطاهرها،
(=الجن والملائكة)،
لا يملكان أن يضرا الناس بشيء:
(...وقد أدبر أمرهما)،
فقد أقبل قابل النفع،
وزاد مزيد الخير والفضل،
حتى عم أهل الممالك جميعا،
دون أن يستثني منهم أحدا..

61

على الممالك ألكبري ذات القوة والسيادة،
وبهاء الملك والسطوة والسلطان،
أن تتواضع حتى تحاذي أدني مقام،
بين البلدان:
فهي بمثابة البحر الكبير الواسع،
فكأن البلاد تعاريج أنهار تركض،
نحو أدني مصابٌها:
وكأن الممالك شطآن بحر،
تراجعت فتدنت حتى استوت،
عند أسافل مصب الأنهار:
فلا بأس من ضِعَة تذل لديها الذري
ولا ضير من تدني تبوء إليه العوالي
'حرفيا ولطالما استكانت الأنثى وخضعت
لامتلاك سطوة آجلة'،
ومن ثم.. فوقوف الممالك العظمي،
موقف التواضع إزاء البلدان الصغيرة
برهان للثقة،
ثم إن التقدير بذات المعيار،
بإظهار وافر الاعتبار،
نحو طواويس المجد العالي،
أباطرة التاج وسادة الممالك،
خليق بعقد مواثيق الأمن والاستقرار:
فلذلك، يصير ما بين الطرفين،
مساجلة في تبيان الثقة:
فهذا متوسٌِل بخفيض جناح العزة،
وبطلبه آخذ:
وذاك مستوثق بجناب التوقير،
ولشرف عٌزته مقيم:
ثم إن الممالك ما فتئت تسعي لمن يمشي في ركابها،
والنصرة مبتغاها في كل حال:
وصغار البلدان ما برحت تتطلع لمن يحميها،
والأمن رجاؤها في حين بعد حين:
'... وباستدامة الاحترام المتبادل بينهما،
فكل بالغ مبتغاه،
غير أن الوقوف موقف التواضع،
هو أجدر ما ينبغي،
ألاٌ تحيد عنه الممالك كلها.

62

كان الطاو،
ومن البدء إلى الأزل يكون،
مطيٌة الراكب،
ومحطٌ الراحل:
حصن الرٌضي للصالحين،
وأمل المثاب للظالمين،
'......'
الكلمة الطيبة تطوي لك الأعناق،
في تقديس وإجلال،
المعاملة الكريمة تضيء أنوار محبتك،
في القلوب،
فيتجلٌي باهر مجدك للناظرين،
ويطيب بك مطاب الذكر،
في أسماع الذاكرين:
أقِلْ عثرة من أساء،
ولا تخاصم من لم يتٌق الزٌلل،
فما الذي تجنيه من اجتنابك إياه؟
' ما ضٌرك لو هديته للرشاد '.... الطاو'؟'
ثم إن مَلِكَ الملوك،
يأتي في بهاء الملك،
يتقلٌد تيجان العرش،
ورجال البلاط بين يديه صاغرون،
ويمضي حفل التتويج في أبهي زينة:
تنبسط الولائم،
وتتناثر العطايا الملكية الثمينة،
فوق الرؤوس:
غير أن عطاء الطريق،
أسخي من كل عطاء،
وأذخر من كل كنز،
فما الذي أبقي الطاو ذخرا على المدى؟
أما دريت أنه مدجج للخير،
بمزيد الخير،
ومثاب العفو،
عن الآثمين،

63

أغلل يدك،
عن أن تفعل ما أنت فاعل،
ففعلك.. لا فِعْل.
احفظ خاطر قلبك،
أن يسنح فيه شاغل يشغلك،
فمبلغ همك.. ألا تهتمٌ.
انزع من فمك،
مستساغ اللٌذة،
وقابض المجرٌ،
فمذاقك.. لا مذاق.
أرأيت،
لو جعلت القليل كثيرا،
والصغير كبيرا،
وجازيت المسيء إحسانا،
'.. أما كان ذلك يزيدك استبصارا؟':
إنما تجتث الصعاب في بدء نبتها،
وتبدأ صروح الهمم والآمال ألكبري،
بوثبة من وثبات الخاطر:
إنه ما صار الصعب صعبا،
إلا لأن السهل كان أول مبتدأ إنشائه:
فلذلك، لا تبلغ عظام الأمور،
غاية المرتقي،
إلا بما ابتدرت من أدني خطي،
في مبتدأ تعٌينها،
ثم إنك تجد العاقل،
في حال التواضع أبدا،
بينما حظوظ المجد،
تسلك إليه كل سبيل:
'...'
الوعد السهل،
مشقة عند الوفاء:
من رأي الأمور في مرايا اليسر،
باغته العسر في أنكد خبايا المقادير:
فلذلك، ينظر العاقل مليا في وجه الصعاب،
ثم إذا احتدٌ منه البصر،
انجلت الحيرة وسقط القناع:
فزال كل كدر،
وانفرج كل كرب.

64

ما أطوع الأمور لبنانك وهي في مستقر الحال،
وما أيسرها على التدبير، وهي في بدء تعيٌنها:
ثم ما أحطمها وأيلها صبرا على الخطر،
وهي في هشاشة الضعف:
بل ما أسرع تلاشيها وفنائها عن قيود الوجود،
وهي، بعد، أضأل من خردلة متناهية الصغر:
أضأل، حتى، من أن يصفها الوصف،
أو تلحظها العين:
صد عنك الخطر،
قبل أن يحين بك الحين:
واحزم أمرك،
قبل أن يتفرق بك شتات الحال:
إن الشجرة السٌامقة،
تنبت من بذرة ضئيلة:
والبناية الطالعة للسحاب،
تتأسس على رمال وحصى:
وطريقا مقداره ألف لي '= ألف ميل'،
يبدأ بخطوة واحدة:
اصنع صنيعك الذي تحادٌ به الطبائع،
تفسد من صنيعك الأشياء:
تسٌلط بسطوة قهرك فوق الرؤوس،
تنحطم بك الأعناق،
وتبوء ببطلان:
لذلك، لا يطيش قلب العاقل،
فلا يفشل سعيه:
ثم إنه لا يقيد مراد النفس،
بما لا ينبغي له:
فلا يحزنه فقد،
ولا يصيبه خسران،
قد نظرت فما رأيت أغرب ولا أعجب
من صنيع الناس وأفعالهم،
فما يكاد يبلغ بهم القصد منتهي الغاية،
حتى يخيب رجاؤهم:
وما يكاد يتم لهم مسعى،
حتى تسقط حظوظهم:
إن استدامة الحذر،
من البدء إلى الخاتمة،
وقاية من الخسران:
ما كانت للعاقل أمنية،
سوي أن تزول عنه الأماني:
وما سنحت له،
إلا رغبة الحَيْد عن كل الرغبات:
ولا تحصٌلت لديه معرفة،
إلا فيما زهد الناس فيه من العلوم،
ثم إنه يصلح بعلمه،
كل ما أفسده الناس،
ومراده في كل ذلك،
تبصير معمٌيات الأفهام،
كي تلحظ مدارج السنن الطبيعية،
التي تجري كل الأشياء بمقتضاها:
فمن وَعَي وأدرك،
تبرأ من معاندة الطبائع.

65

لم يكن العالمون الحكماء،
شيوخ الطريق '.... الطاو'،
فيما سلف من الزمان،
يتخذون الطاو،
سبيلا لإيقاظ الفهم،
وتهيج كوامن الفطنة لدي الناس:
بل كانوا يحجبون به الأفهام،
فيصٌدون عن خبث القرائح،
اتقاء لصولات الذكاء،
وشرور العقل النابه،
إنه ما استعصي إخضاع شعب،
إلا بما حاز من عبقرية ودهاء ونبوغ:
فلهذا، لا يتسلٌط سلطان الحكمة،
إلا ابتليت الأوطان بالمحن والكوارث،
ولا يسلك السالك،
ببراءة ساحة الوجدان،
وساذج القلب الغفل،
إلا فاضت على البلاد حظوظ الرخاء:
فتأمل هاتين الدلالتين،
تجد فيهما حد المعيار،
فالزم ذلك الحدٌ،
فهنالك أسمي الفضائل،
وأخفي خزائن المعني،
في خبايا كنز أسرار.
فإذا السٌر تجلٌي،
لاح طريق لا يطرقه السائرون،
طريق، غير الطريق،
رجوع إلى المبتدأ:
فكل طريق واصل
وكل خطو عابر،
وكل دربي بالغ
قصد المني

66

ما صار البحر مصبٌ أنهار شتٌي،
إلا بما احتشد لديه من دفق الجريان،
وهو في أدني مقام،
'.... هكذا' لا يتسٌيد العاقل،
ولا يتقلٌد سطوة الحكم في الممالك،
إلا بما استنزل نفسه منازل الهوان،
ونطق عنه لسان التواضع والخذلان.
اعلم أنه لا يقود الحشود،
إلا من سار خلف صفوفها:
وأن العاقل من إذا،
وقف، حتى، فوق الأعناق،
لم تستشعر الرؤوس عبء ثِقَلِهِ،
فإذا تقدم الصفوف،
تواثبت في إثره جحافل التأييد:
فلا معترض ولا ساخط،
فلذلك، تمجٌده الجموع،
عن طيب نفس،
فلا يسأم منه البقاء،
ولا يبتذله طول الأبد:
ثم إن العاقل،
لا يطأ ساحة نزاع،
ولا ينزل منزل شاحنة،
فلهذا، لا تجد له على وجه الأرض خصيما

67

قال قائل الناس،
إن الطريق '.... الطاو'،
الذي تحدثت عنه،
ليس إلا محض عماء،
مديد الأرجاء:
فليس له في شاهد الوجود نظير
متعٌين بالحس المادي الملموس،
'... وبالطبع' فهو محض امتداد،
بغير مدي،
لأنه غير متعيٌن،
بجرمي مادي محسوس:
أمٌا لو كان متجسدا،
حاضر الهيئة،
مشهود القناع الحسي الماثل
لجري عليه جريان المقادير،
واستهلكته الأوقات،
وصار أضأل من أحقر خردلة،
ما اكتنزت سوي ثلاثة كنوز باقيات:
أولها: الشفقة في قلب رحيم:
وثانيها: الكفٌ عن الإسراف:
وثالثها: الخشية من استباق الخطي،
'= الثنائي عن جموح الوثبة إلى مقدم الصفوف'،
فالرحمة مستهل الشجاعة،
والاقتصاد أول الكرم،
والخشية من استباق الناس،
مبتدأ التسيٌد والزعامة:
أما وقد صار الطالب يطلب الشجاعة دون الرحمة،
والتوفير دون السخاء
والسيادة دون الإيثار،
فما أسوأ العاقبة:
وقد دنا داني الموت،
وأحدق الهلاك:
ثم إن وارد الرحمة،
مدجج بالنصر في ساحات
الحرب الهجومية،
ومدجج بتحصين قلاع الدفاع الراسخة،
وإذا قيضت السماء،
لذي الشقاء نجاته،
أسدلت عليه ستر الرحمة والوقاية،
وأرخت له عنان البقاء.

68

القائد المحنٌك،
لا يتيه فخرا بشجاعته،
والمحارب المقتدر،
لا يشتعل قلبه بالغضب،
والبطل المظٌفر،
الظاهر على عدٌِوه،
لا يتمادى في الفتك به،
ولا يمعن في القتل:
والسيٌد الذي يتخذ عمالا،
من بين الناس،
يتٌرفق بهم، بل يتواضع لهم:
فذلك مما تواضع عليه النعت
بوصفه الخلق المنزٌه عن التنازع والمشاحنة
وذلك هو ما يصفه الواصف،
بأنه أمثل طرق الاستفادة،
من طاقة عمل الإنسان،
وذلك أيضا هو الذي،
تَسمٌَي باسم المطاوعة لأحكام الطبيعة:
فثم هو المعيار،
من أزال الأزل.

69

داهية الحرب يقول لك:
'لا طاقة لي بالهجوم:
فإنما أنا متعٌين بالموقف الدفاعي،
وإنه أهون على،
أن أنسحب ذراعا،
من أن أتقدم شبرا واحدا،
فإذا أصبح الهجوم عبثا،
والتخطيط ارتجالا،
فما ثمٌ إلا،
حشود بغير حشد،
ويد ضاربة بغير ذراع،
واشتباك مع أشباح وهمية،
وسلاح كأنه لا سلاح:
فليس أفدح من الاستهانة بعدوي
فاعلم أنه لا يكاد المرء يستصغر
شأن أعدائه،
حتى يضيٌع كنز يواقيته الثلاث،
'.... الادخار، الفضل، الإيثار'،
واعلم أنه إذا ما التقي،
جيشان متكافئان،
عدة، وعتادا،
فأشدها غضبا وأسي،
'= بما أجبر عليه من موقف دفاعي'
هو المنتصر نصرا مؤزٌرا.

70

ما نطق عنٌِي البيان،
إلا بما فصح به اللسان،
فانبسط في أودية المعاني،
لفظا ميسورا:
وانطرح لعزم السواعد،
منهاجا سديدا:
لكن العقول تبلٌدت،
والعزائم بادت:
فما فهم عنٌِي السامع،
ولا تأيٌد بي المسعى:
اعلم أنه لابد لكل قولي،
من مبتدأ مقال،
يدور عليه الكلام،
ولابد لكل فعلى،
من سيد بيده زمام كل الأحكام:
غير أن أبواب الفهم انغلقت،
لكثرة ما ران على العقول،
من صدأ الجهل:
فما أقلٌ من استفاق لديه الفهم،
وما أندر من تحقٌق منه الإقتداء،
والتعلٌم والعمل،
لذلك، يرتدي الحكيم أخشن ثيابه،
ويلتف بأردأ أسماله،
ويطوي بين حناياه،
أثمن قلائده،
وأخفي جواهر قلبه.
تابع البستان/ الجزء الرابع

71

أفضل شيء،
أنك إذا عرفت،
وأشرقت فيك تجليات الفهم:
تواضعت، فأنكرت،
وأقبح شيء،
أن تزعم مع الجهل معرفة:
فأن استطعت،
أن تري القبح عيبا يعيبك،
فقد برئت من كل عيب:
وقد تنقي كل عاقل،
عن مثل هذا العيب،
لأنه قد عرف الباطل باطلا،
فتبرأ من البطلان.

72

إذا رأيت الرهبة سقطت،
من عين الناس:
وقد استمرأت بطش جلاديها،
فاعرف أن مزيدا من التنكيل
واقع بها، لا محالة:
ولسوف يتنغص عيشها،
ويضيق بها المقام في رحب أوطانها،
وينزع وارد الحياة عنها كف العطاء:
ثم إن النفوس لا تتجرع مرارة الذل،
إلا بغلبة سطوة القهر:
فالعاقل من استضاء،
بمعرفة ذاته،
فعاين رفيع منزلته،
وسامق قدره،
فلم يستكبر،
والعاقل من عانق لذة المحبة،
في نفسه، لنفسه،
فلم يستأثر:
غ... فمن ثم،
انزع عن نفسك
الاستكبار والأثرة،
وأقم قيومية المحبة والمعرفة لذاتك

73

المجترىء بقوة الجسارة،
هالك،
المتريض بملاينة الطبع،
محفوظ البقاء:
كلاهما مقتحم جسور،
لكن النفع مجلوب لأحدهما،
مسلوب من الآخر،
والسماء،
حتى السماء،
تبغض ما تبغض،
أيدري أحد
سبب بغض السماء؟
فهو ذا يحار فهم الحكيم،
ويذهل الخاطر،
ويدور مدار ميثاق السماء،
وتجري به سنن الطبيعة،
قانونا سرمدا:
فتغلب دون منازعة،
ويتجاوب منها الصدى دون نداء،
يجذب إليها جواذب السعي،
دون طلب:
وتمكر أدهي التدابير،
بقلب تطهر من خبث المكائد.
فكأن السماء شبكة،
واسعة هائلة،
امتدادها لا يحد،
انتثرت فيها من الأفق إلى الأفق
ثغرات ليس لها عد،
غلكن مهما اتسعت
الثغرة، فقانون الطبيعة
'الأزلي' يضبط كل معيار،
فلا تنفذ القطرة،
إلا بمقدار،
ولا ينسرب شيء عبثا.

74

إذا كانت الناس لا تهاب الموت،
فما جدوى تخويفهم بالموت!
وهب أنهم يخافون الموت حقا،
أما كان يكفيك إعدام عتاة المجرمين
فتقطع دابر الشر والجريمة
كان القصاص قضاء طبيعيا،
جرت به الطبيعة،
وكان هناك دوما،
العاملون المكلفون بقطع الرقاب:
فليس لمن تسلط،
بسطوة القوة،
أن يرفع السيف
فوق الرؤوس:
فمن قام مقام قصاص،
كمن حل محل قاطع الأشجار،
دون إجادة،
ومن هم بقطع الأشجار دون دراية،
فنادرا ما سلم،
من قروح دامية،
أو جروح قاتلة.

75

هو ذا تجوع الناس:
بما أثقل كاهلها من ضرائب فادحة،
ولا تثمر فيهم سياسة،
أو يرجى لهم صلاح،
لأن كل تصاريف الأمور،
معقودة بيد الأباطرة:
ولئن حميت سورة غضب الشعب،
واستمرأت الناس الموت والهلاك،
غ... فتمردت وأظهرت وجه العصيان:
فلأن حياة الأباطرة وحدهم،
صارت أغلي من كل حياة.
وليس أحكم ممن هانت عليه الحياة.

76

كل حي رطب لين،
فإذا مات يبس وجف،
وكذا النبات غض طري،
بنضارة الحياة،
وفي الموت يذب،
فتتصلب منه الفروع والأوراق:
فالصلابة والجمود والخشونة،
من الموت:
أما اللين والطراوة،
فمن قوة الحياة:
فهو ذات لا ينتصر جيش،
قوته في مظهر صلابته:
عتاده هو كل عدته،
فما حصدت المناجل،
سوي أزهي وأنضج الثمر،
وما وقع صريعا،
سوي أعلى أغصان الشجر.
فمآل القوة إلى حضيض الهوان،
وموطن الضعف الذليل،
هو أرفع وأمجد الأوطان.

77

أما رأيت وجه الشبه،
بين طاو السماء وهيئة القوس والوتر:
أما رأيت إلى وجوب تخفيض الرمية،
إذا علا القوس،
وضرورة الارتفاع بها إذا تدني
مستوي المرمي:
ألا ينبغي بسط الجذبة،
إذا انحني قاب القوس جذبا،
وإشباع الوتر شدا،
كلما تراخت القبضة ووهن الساعد:
فكذلك طاو السماء،
ينقص من الزيادة،
ليزيد ما نقص نقصانا:
أما طريق الناس،
فينهك النقصان نقصانا،
ليزيد ما زاد فوق الزيادة.
فمن ذا يستطيع،
أن ينقص الكثير ويزيد القليل؟
فيأخذ ممن يملك ليعطي من لا يملك؟ف:
ليس سوي الطاوي،
الراسخ في معرفة الطريق،
غ... هو الذي يقدر على ذلك.
فلهذا، يجود العاقل بفضله،
ولا يتيه مَّنا واستكبارا
يتمجد في معارج الشرف والعزة،
ولا يركب مركب الغرور:
فهو يتنكب عن مظاهر التقديس،
ويحبس كنزه،
في محابس الخفاء:
ذلك شأنه المعهود.

78

لا شيء على الأرض أوهن من الماء،
ثم إنك لا تجد شيئا أنفذ
في الحجر الصلد،
من الماء:
فليس له نظير ولا بديل
في ذلك:
أما إن الضعف يغلب القوة،
وطراوة اللين،
أقوي من صلادة الصلب:
تلك مقولة يفهمها كل الناس،
لكن أحدا لا يملك أن،
ينسج على منوالها.
لذلك يقول العاقل:
'إن من يتحمل إهانة أمة بأسرها،
فهو سيد الأمة كلها،
ومن تجلد أمام كارثة بكل أهوالها:
فهو ملك ملوك الأرض جميعا'،
أنصت جيدا إلى الكلمات،
تجد صحيح اللفظ كنقيضه:
ذلك أن وجه المعني الذي يتبدى هنا،
يحجب نقيض الإشارة في الوجه الأخفى..
هناك..
... دونك فتأمل!

79

مهما تصالح الخصمان،
تظل في مكنون النفوس،
بقايا عداوة وثارات وضغائن:
صلح الغرماء،
لا يصفٌي كل الدين مرة واحدة:
فكيف نعد مثل تلك التسوية
منتهي الخير، وغاية المني؟
إن العاقل الحكيم،
لا يطالب بتسوية دين قديم،
حتى وهو يملك سندات رسمية
واجبة السداد:
إن الكريم الفاضل،
ليفعل فعل العاقل الحكيم،
المشار إليه عندك:
فأما غير الفاضل،
فيسلك سلوك جباة الضرائب،
ووكلاء تحصيل الديون.
إن طريق غ... طاو) السماء،
لا يحابي أحدا،
لكنه، مع ذلك،
مدد وعطاء لا ينفد،
للطيبين المحسنين.

80

ليكن ثم وطن أقل مساحة،
يسكنه شعب أقل عددا:
ولتكن في كل الحوانيت،
آلات من كل نوع،
تزيد على قدر الحاجة:
وما أجمل أن تحلو الحياة لكل حي
مقيم هناك:
حتى يخشى إذا ارتحل،
مات واندثر:
ليكن بحر وساحل،
وسفن راسيات،
ولا بحٌار أو مسافر.
وفي الخزائن أسلحة مكدسة:
وقد زالت دواعي الحرب والعدوان،
ولتكن شارات تأريخ الحوادث،
عقدا مسلسلة في جدائل الكتان:
إقتداء بسنة الأقدمين في سالف الأيام:
وليكن رغد عيش ولذيذ حياة،
ومآكل ومشارب ورخاء أيام باقية:
ولتكن ثم أوطان أخرى قبالة حدود الوطن،
يري منها ما يري الرائي بأدنى البصر،
ويسمع منها صوت كل صائت،
ثم يبقي كل مقيم بأرض هو ساكنها،
فلا غريب يأتي،
ولا يرحل إلى هناك مهاجر،
وليكن ذلك هو دأبهم دائما أبدا.

81

الكلمات الصادقة.
ليست جميلة،
والكلمات الجميلة،
لا تقول الصدق:
لسان الطيبين غير معسول،
وليس في فنون الكلام،
أطلق من لسان الخبثاء:
العالم النابه،
لا يحيط بكل شيء معرفة،
والمتصفح أشتات المعارف:
لم يدقق، فلم يحدق:
فلم يبصر ببصيرة العالم،
العاقل يجود بما لديه،
لأن مودع خزائنه،
هو ذخر عطائه،
وكلمات وهب اكتسب،
وكلما أعطي،
فاضت لديه الودائع:
كلما دار مدار طاو السماء،
دار به النفع لكل حي،
وامنحي الضر عن كل شيء:
فكذلك العارفون الحكماء،
يسيرون على هدي الطريق:
عيونهم تري المنهاج،
وقلوبهم تحفظ المواثيق:
بيدهم معيارهم،
وعطاؤهم فيض لكل آخذ،
وقد صفا موردهم
وتنقي نقاء طاهرا
لا يشوبه كدر

هناك من يترجم 'الطاو' بهذا المعني، لكن الطريق، في الطاوية جاءت بمعنيين: 1 جوهر الروح. 2 قانون تطور الموجودات، فهما معنيان يكثران في أقوال لاوتسو بغير صياغة محددة، وهذا أمر لافت للنظر، خصوصا لأن الطاو يجعد ركيزة البناء الفكري كله عند لاوتسو.. قل كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، بتعبير 'النٌفٌري'، الصوفي الشهير.

بستان أخبار الأدب
الأحد 24 من ابريل 2005