جابرييل جارثيا ماركيز

ترجمة: د. طلعت شاهين  

(ما كان يجب عليك أن تفعل شيئا منافيا للذوق، حذرت العجوز ايجوشي سيدة الخان. ما كان يجب عليك أن تضع إصبعك في فم المرأة النائمة أو تفعل شيئا مشابها)
ياسوناري كواباتا
'بيت الجميلات النائمات'

- 1 -

جابرييل جارثيا ماركيزعندما أكملت التسعين من عمري أردت أن أهدي نفسي ليلة حب مجنونة مع مراهقة عذراء. تذكرت روسا كاباركاس، صاحبة بيت سري اعتادت علي الاتصال بالزبائن المميزين عندما يكون لديها شيء جديد. لم أجذعن أبدا لها ولا لأي من العروض المغرية الكثيرة، لكنها لم تكن تصدق نقاء مبادئي. أيضا من الطبيعي التفكير في موضوع الزمن، كانت تقول، بابتسامة خبيثة، سنري. كانت أصغر قليلا مني، فقدت الاتصال بها منذ سنوات عدة لدرجة أنني فكرت أنها ربما تكون قد ماتت. ولكن مع رنة الجرس الأولي تعرفت علي صوتِها في التليفون، وقلت لها مباشرة وبلا مقدمات:
­ اليوم نعم.
تنهدت هي: آي، يا حكيمي الحزين، تختفي عشرين عاما وتعود فقط لتطلب المستحيل. ثم عادت علي الفور إلي السيطرة علي طريقتها في التعامل وعرضت نصف دستة من البدائل اللذيذة، لكنها كلها مستخدمة من قبل. أصررت علي الرفض، وأنه يجب أن تكون مراهقة ولهذه الليلة نفسها. سألت هي منزعجة: ما الذي تريد أن تجربه؟. بشعوري بالمهانة في المنطقة المؤلمة، كنت أعرف ما الذي أستطيعه والذي لا أستطيعه. قالت هي بلا إحساس أن الحكماء يعرفون كل شيء، لكن ليس كل شيء: العذراوات الباقيات في العالم حضراتكم من هم في صيف العمر. لماذا لم تكلفني بذلك قبلها بوقت كافي؟، قلت لها: الإلهام يأتي فجأة. قالت هي: لكن ربما ينتظر. هي كانت دائما تعرف أكثر من أي رجل، وطلبت مني مهلة ولو ليومين حتى تتقصي أوضاع السوق. أجبتها بجدية بأنه في تجارة مثل تلك، لرجل في عمري، كل ساعة تساوي سنة. قالت هي دون أدني تردد: إذن لا يمكن، لكن لا يهم، بهذه الطريقة يكون الأمر أكثر إثارة، اللعنة، سأتصل بك خلال ساعة.
لا يجب عليٌ أن أقوله: لأنه يميزني عن بعد عدة أميال: أنا قبيح، وخجول وأعيش خارج الزمن. لكني حتى لا أبدو كذلك فقد بذلت جهدا لإبداء عكس ذلك. وحتى شمس اليوم، الذي قررت فيه أن أحكي عن نفسي بقناعة شخصية، وإنْ كان ذلك لمجرد التخفيف عن ضميري. لقد بدأت بهذه المكالمة التليفونية الغريبة مع روسا كاباركاس: لأنه بالنظر إليها منذ اليوم، فقد كانت تلك بداية حياة جديدة يكون فيها معظم البشر قد ماتوا.
أعيش في بيت كولونيالي علي طوار الشمس لحديقة سان نيكولاس العامة، حيث أمضيت كل أيام حياتي بلا زوجة ولا مال، وحيث عاش ومات أبواي، وحيث قررت أن أموت أنا وحيدا، في السرير نفسه الذي ولدت فيه، وفي يوم أرجو ألا يكون بعيدا وبلا ألم. اشتراه أبي في مزاد علني مع نهاية القرن التاسع عشر، أجٌر الطابق الأرضي المخصص لحوانيت فاخرة إلي شركة يملكها إيطاليون، واحتفظ بالطابق الثاني ليعيش سعيدا مع ابنة أحد هؤلاء الإيطاليين. فلورينا دي ديوس كارجامانتوس، عازفة معروفة لموسيقي موتسارت، وتجيد عدة لغات، كانت أجمل وأفضل امرأة موهوبة في المدينة: إنها أمي.
البيت واسع ومضيء، بأقواس من المصيص وأرضية من الموزاييك الشطرنجي الفلورنسي، وأربعة أبواب زجاجية علي شرفة ممتدة كانت تجلس فيها أمي في ليالي مارس لتغني أغاني حب بصحبة بنات أعمامها الإيطاليات. من هناك يمكن رؤية حديقة سان نيكولاس العامة والكاتدرائية وتمثال كولومبوس، ومن خلالها تبدو مخازن الميناء النهري والأفق الواسع لنهر ماجدالينا الكبير علي بعدين عشرين ميلا من مصبه. أسوأ ما في البيت أن الشمس تتنقل من نافذة إلي أخري طوال اليوم، ولهذا يجب إغلاقها جميعا حتى يمكن نوم القيلولة في الظل الحارق. عندما بقيت وحيدا، وأنا في الثانية والثلاثين، انتقلت للعيش في الغرفة التي كانت لأبوي، وفتحت بابا للمرور إلي غرفة المكتبة مباشرة، وبدأت في بيع ما زاد عن حاجتي حتى أعيش، حتى بعت كل شيء تقريبا، ما عدا الكتب والبيانولا اليدوية.
عملت لأربعين عاما نافخا في كابلات صحيفة الدياريو دي لا باث، والذي كان يتمثل في إعادة صياغة أخبار العالم التي كنا نلتقطها عبر الموجات القصيرة أو من خلال دقات مورس وإكمالها بنثر محلي. أعيش حاليا بالكاد علي معاش تقاعدي من تلك المهنة المنقرضة، وأعيش بأقل من ذلك من معاشي كمعلم لقواعد القشتالية واللاتينية، ما أتقاضاه مقابل مقال الأسبوعي ينشر أيام الآحاد ظللت أكتبه بلا توقف خلال أكثر من نصف قرن لا يكاد يساوي شيئا، ولا أتقاضي شيئا علي الإطلاق مقابل أخبار الموسيقي والمسرح التي ينشرونها لي كخدمة مجانية عندما يأتي إلي المدينة عازفون وممثلون معروفون. لم أفعل شيئا آخر مختلفا عن الكتابة، لكني لا أملك لا فضيلة ولا موهبة الروائي، أجهل بشكل كامل قواعد التشكيل الدرامي، وإن كنت قد دخلت هذه المهنة فذلك يعود إلي ثقتي في نفسي علي ضوء الكثير مما قرأته في الحياة. يمكنني القول بكل صراحة، إنني مجرد شرطي بلا تميز ولا شهرة، وليس لدي ما أقوله لو لم أكن أستعيد دائما الكثير من الوقائع التي أتذكرها عن ذكريات حبي الكبير هذا.
تذكرت يوم عيد ميلادي التسعين كما هي العادة دائما، في الخامسة صباحا. التزامي الوحيد، باعتباره يوم جمعة، كان كتابة مقالي الموقع باسمي الذي ينشر أيام الأحد في دياريو دي لا باث. علامة ظهور الفجر أكدت علي عدم الإحساس بالسعادة: عظامي تؤلمني منذ الفجر، ومؤخرتي تحرقني، وكان هناك برق يوعز بهبوب عاصفة بعد ثلاثة أشهر من الجفاف. أخذت حماما بينما كانت القهوة علي النار، تناولت فنجانا كبيرا محلي بعسل النحل مع فطيرتين من دقيق الجذور(1)، وارتديت الرداء المملوكي(2) المنزلي المصنوع من الكتان.
موضوع المقال في ذلك اليوم، وكما هو متوقع، كان عن سنواتي التسعين. لم أفكر في العمر أبدا علي أنه مثل ماء متساقط من السقف ينبه الواحد منا إلي حجم ما تبقي له من عمر. منذ طفولتي المبكرة سمعتهم يقولون إنه عندما يموت الإنسان فإن الحشرات التي تعيش في الشعر تهرب متبخرة عبر المخدات مثيرة خجل العائلة. أثٌر فيٌ هذا إلي درجة إنني افتعلت الكحة حتى لا أذهب إلي المدرسة، وما تبقي لدي من قوة كنت أستخدمه في غسل رأسي بصابون مطهر. آي، أتذكر نفسي الآن، إنني منذ طفولتي المبكرة نمٌيت إحساسي بالخجل الاجتماعي الذي هو الموت.
منذ شهور كنت منتبها إلي أن مقالي في عيد ميلادي لن يكون تباكيا خادعا علي السنوات التي مضت، بل علي العكس تماما: تمجيدا للمشيب. بدأت بتوجيه سؤال إلي نفسي عن الوقت الذي انتبهت فيه إلي أنني أصبحت عجوزا، وأعتقد أنه كان قبل قليل من ذلك اليوم. عندما بلغت الثانية والأربعين ذهبت إلي الطبيب متشكيا من ألم في الظهر كان يعوق تنفسي. لم يعره الطبيب انتباها وقال لي: إنه ألم طبيعي لمن هم في مثل سنك.
قلت له أنا:
­ في هذه الحالة، فإنَّ غير الطبيعي هو سني.
اتسم الطبيب في وجهي بأسي. وقال لي: أري أن حضرتك فيلسوف. كانت تلك المرة الأولي التي فكرت فيها في سني علي أساس الشيخوخة، لكن سرعان ما نسيت هذا. اعتدت علي الاستيقاظ كل يوم بألمي مختلف متغير في المكان والشكل بمرور السنوات. يبدو أحيانا كما لو كان إبحارا للموت وفي اليوم التالي يختفي. سمعتهم في تلك الفترة يقولون إن أول أعراض الشيخوخة أنَّ الواحد منا يبدو شبيها لأبيه. يبدو أنه محكوم عليٌ بالشباب الأبدي، فكرت حينها: لأن شكلي الخيولي(3) لن يكون أبدا شبيها للكاريبي القح الذي كان عليه أبي، ولا الشكل الروماني الإمبراطوري لأمي. الحقيقة أن أول علامات التغيير كانت بطيئة إلي درجة لا تكاد تلاحظ، خاصة إذا كان الواحد ينظر إلي نفسه من الداخل كما كان يفعل دائما، لكن الآخرين ينبهونه من الخارج.
في العقد الخامس بدأت في تخيل نفسي عجوزا عندما بدأت ألاحظ أولي علامات النسيان. في يوم من الأيام فتشت البيت بحثا عن نظارتي إلي أن اكتشفت أنني أرتديها، أو أدخل بها إلي الدش، أو أضع نظارة القراءة دون أن أنزع نظارة الرؤية البعيدة. في يوم من الأيام تناولت إفطاري مرتين لأنني نسيت المرة الأولي، وتعلمت التعرف علي انزعاج أصدقائي عندما لا يتجرءون علي تنبيهي إلي أنني أحكي لهم الحكاية نفسها التي حكيتها لهم الأسبوع السابق. إلي ذلك الوقت كانت لدي قائمة لتذكر الوجوه المعروفة وأخري لأسماء كل منهم، لكن لحظة توجيه التحية لم أفلح في مطابقة الوجوه مع الأسماء.
عمري الجنسي لم يزعجني أبدا: لأن قدراتي لم تكن ترتبط بي بل بهن، وهن يعرفن كيف ولماذا ومتى يردن. أضحك اليوم من الأولاد الذين في الثمانين من عمرهم عندما يستشيرون الطبيب خوفا من هذه المفاجآت، دون أن يعرفوا أنهم في التسعين سيكونون أسوأ، لكن هذه الأشياء لا أهمية لها: إنها مخاطر البقاء علي قيد الحياة. بالمقابل، يعتبر انتصارا للحياة أن تفقد ذاكرة الكبار الأشياء التي لا قيمة لها، لكنها في مرات شاذة تخطئ في تذكر الأشياء التي تهمنا حقيقة. عبٌر عن ذلك ثيسرون في جملة واحدة:
­لم يوجد بعد العجوز الذي ينسي أين خبأ كنزه.
بهذه الطريقة في التفكير، وطرق أخري مختلفة، كنت قد أنهيت الكتابة الأولي للمقال عندما انفجرت شمس أغسطس من بين أشجار اللوز في الحديقة العامة، ودخول سفينة البريد النهرية إلي الميناء، التي وصلت متأخرة أسبوعا كاملا بسبب الجفاف. فكرت: إلي هناك وصلت سنواتي التسعين. لن أعرف أبدا لماذا، ولن أحاول معرفة ذلك. لكنها كانت تعويذة لتلك الاستغاثة الجارفة التي جعلتني أقرر الاتصال تليفونياٌ بروسا كاباركاس لتساعدني علي تشريف عيد ميلادي بليلة متحررة. كنت قد أمضيت سنوات طويلة مع جسدي في هدوء مقدس، أقضي وقتي في القراءة غير المنتظمة لكتبي الكلاسيكية وبرامجي الخاصة عن الموسيقي الراقية، لكن الرغبة في ذلك اليوم كانت ضاغطة كما لو كانت وحيا من الله. بعد تلك المكالمة لم أستطع مواصلة الكتابة. وضعت السرير المعلق في ركن من المكتبة حيث لا تصل إليه شمس الصباح، وانطرحت وصدري يئن تحت ضغط قلق الانتظار.
أغرب علاقة في حياتي كانت تلك التي استمرت طوال سنوات مع الوفية دميانة. كانت طفلة تقريبا، هادئة وقوية وبدائية، كلماتها قليلة وقاطعة، كانت تتحرك حافية القدمين حتى لا تقلقني بينما كنت أكتب. أتذكر إنني كنت أقرأ الرمح الأندلسي في السرير المعلق بالممر، وشاهدتها صدفة منحنية علي حوض الغسيل بفستان قصير جداٌ إلي درجة أن خلفيتها المتماسكة كانت عارية. تحت وطأة حمي لا تقاوم رفعتها من الخلف، أنزلت سروالها حتى ركبتيها ودخلت فيها من الخلف. قالت هي، بتشكي حزين: آي، سيدي. لم تفعل هذا بسبب الدخول بل بسبب الخروج. ارتعاش عميق هز الجسد، لكنها ظلت متماسكة. ذليلا بسبب إهانتي لها أردت أن أدفع لها ضعف ما يدفع لأغلي امرأة وقتها، لكنها لم تقبل ولا حتى ثمن واحد، فضاعفت لها ما يوازي حساب شهر كامل، علي أن يكون ذلك دائما خلال غسلها الملابس ومن الخلف.
فكرت أحيانا أن حسابات السرير تلك يمكن أن تكون كافية للحفاظ علي علاقة بائسة خلال حياتي الضائعة، ونزل عليٌ العنوان من السماء: ذكريات عن عاهراتي التعيسات. حياتي العامة، بالمقابل، لم يكن فيها ما يثير الاهتمام: يتيم الأب والأم، أعزب بلا مستقبل، صحافي متوسط الموهبة وقفت أربع مرات علي أعتاب الحصول علي جائزة احتفالات ألعاب الزهور لمدينة كارتاخينا دي اندياس، وأنا المفضل لدي رسامي الكاريكاتير بسبب وفائي المثالي. أي: حياة ضائعة بدأتها بشكل سيئ منذ الأمسية التي أخذتني فيها أمي من يدي حين كنت في الثامنة عشرة من عمري لتري إن كان يمكن أن أنشر في الدياريو دي لا باث مقالا عن الحياة المدرسية كنت كتبته في درس اللغة القشتالية والبلاغة. نشر يوم الأحد مع مقدمة لرئيس التحرير تأمل في الاستمرار. بعد مرور سنوات، عرفت أن أمي دفعت ثمن نشره ونشر المقالات السبع التالية، وبعدها لم يعد هناك مجال للتراجع، فقد بدأت مقالاتي الأسبوعية تشق طريقها بأجنحتها الخاصة، إضافة إلي أنني أصبحت من مزودي الأخبار وناقدا موسيقيٌا.
منذ أن حصلت علي شهادة البكالوريا بدرجة ممتازة بدأت في تدريس القشتالية واللاتينية في ثلاث مدارس حكومية في وقت واحد. كنت معلما سيئا، بلا إعداد، ولا موهبة، ومعدوم الرحمة مع أولئك الصغار المساكين الذين كانوا يذهبون إلي المدرسة كأسهل طريقة للهروب من تسلط آبائهم. الشيء الوحيد الذي أمكنني فعله من أجلهم هو الحفاظ عليهم تحت سيطرة رعب مسطرتي الخشبية حتى تبقي فيهم علي الأقل القصيدة الشعرية القريبة إلي قلبي: هذا، فابيو، آي من الألم، ستري الآن، حقولا من الوحدة، وربوة حزينة، كانوا زمنا ما إيطالية شهيرة. فقط عندما تقدم بي السن عرفت صدفة بالكنية السيئة التي علقها التلاميذ علي ظهري: أستاذ الربوة الحزينة.
هذا هو كل ما قدمته لي الحياة ولم أفعل شيئا لكي أحصل منها علي أكثر من ذلك. كنت أتناول طعام الغداء وحيدا في وقت الراحة ما بين درس وآخر، وفي السادسة مساء أصل إلي إدارة تحرير الصحيفة لأصطاد موجات الفضاء الفلكي. في الحادية عشرة ليلا، عندما يتم إغلاق الطبعة، بعدها أبدأ حياتي الحقيقية. كنت أنام في الحي الصيني مرتين أو ثلاث أسبوعيٌا، ومع رفقة مختلفة، وتم تتويجي مرتين كأفضل زبون خلال السنة. بعد العشاء في مقهى روما القريب أختار أي بيت سري صدفة وأدخل متخفيا من باب الفناء الخلفي. كنت أفعل هذا متلذذا، لكن تلك العادة انتهت إلي أن أصبحتْ جزءا من مهنتي بفضل تسيب ألسنة بعض الزبائن الكبار من السياسيين، الذين يحكون أسرار الدولة لعشيقاتهم الليليات، دون أن يفكروا في أن الرأي العام يسمعهم من خلال الحوائط الكرتونية. من خلال هذه الطريقة، ولم لا، اكتشفت أيضا أن عزوبتي الأبدية تعود إلي اللواطة الليلية التي تروي عطشها مع الأطفال اليتامى في شارع الكريمن (الجريمة). كان حظي جيدا في أنني نسيتها، من بين الأسباب الكثيرة أنني عرفت الأشياء الطيبة التي يقولونها عني، وقدرت قيمة هذا.
لم يكن لي أبدا أصدقاء حميمين، والقلة التي اقتربتْ مني هم الآن في نيويورك. أي: موتي، لأنه المكان الذي أعتقد أن الأرواح الحزينة تذهب إليه حتى لا تبتلع حقيقة حياتها الماضية. منذ تقاعدي لم يعد لي سوي القليل لعمله، بخلاف أني أذهب بأوراقي إلي الصحيفة مساء كل يوم جمعة، أو أعمال أخري قليلة الأهمية: حفلات موسيقية في مسرح الفنون الجميلة، ومعارض رسم في المركز الفني، الذي أنا أحد أعضائه المؤسسين، وبعض الندوات في جمعية التحسين العام، أو في احتفال كبير مثل موسم فابريا بمسرح أبولو. كنت أذهب في شبابي إلي صالون السينما المفتوح، حيث كان يفاجئنا إما خسوف القمر أو التهاب رئوي مزدوج بسبب الأمطار الثلجية. لكن لم تكن تجذبني الأفلام في حد ذاتها أكثر مما كان يجذبني الاهتمام بفتيات الليل اللاتي كن يضاجعن بما يوازي ضعف ثمن التذكرة، أو مجانا، أو علي الحساب. لم تكن السينما هوايتي. وكان العبودية لشيرلي تيمبل النقطة التي طفحت في كأسي.
رحلاتي الوحيدة كانت أربع إلي احتفالات ألعاب الزهور في كارتاخينا دي لاس اندياس، قبل أن أكمل الثلاثين، وليلة سيئة في لنش بموتور، بدعوة من ساكرامنتو مونتييل لحضور افتتاح بيتها السري في سانتا مارتا. أما عن حياتي المنزلية، فأنا قليل الأكل وأحب كل ما يقدمونه إليٌ. عندما أصابت دميانة الشيخوخة لم تعد تطبخ في البيت، فكانت وجبتي المعتادة الوحيدة منذ ذلك الوقت هي عجة البطاطا التي أتناولها في مقهى روما بعد إغلاق الصحيفة.
وهكذا في اليوم السابق علي اكتمال أعوامي التسعين بقيت بلا غداء ولم أستطع التركيز في القراءة انتظارا لأنباء روسا كاباركاس. كانت الأجراس تقرع حتى الانفجار في حرارة الساعة الثانية، ودوران الشمس عبر النوافذ المفتوحة أجبرني علي تغيير مكان سريري المعلق ثلاث مرات. اعتقدت دائما خلال أيام عامي التسعين أنني كنت في أكثر الأعوام حرارة، وتعلمت تحملها، لكن الحالة النفسية في ذلك اليوم لم تمكٌني من ذلك. في الرابعة حاولت أن أهدئ نفسي بالسوناتات الستة للتشيلو لخوان سباستيان باخ، في طبعتها الأخيرة للسيد بابلو كاسالس. أعتبرها أنا أفضل عمل في كل الموسيقي، ولكن بدلا من تهدئتي فقد تركتني في حالة أسوأ من السابق. فقد أصابني النعاس مع الثانية، التي أعتقد أنها بطيئة بعض الشيء، وخلال النوم اختلط عليٌ أنين التشيللو بأنين سفينة حزينة قد غادرت. أيقظني التليفون في تلك اللحظة تقريبا، وأعاد لي الصوت الصدئ ل روسا كاباركاس الحياة. قالت لي: حظك من السماء. لقد عثرت لك علي بطة أفضل من التي كنت تريدها، لكن فيها عيب: لا تكاد تبلغ أربعة عشر عاما. قلت لها دون أن أفهم ما ترمي إليه: لا يهمني أن أغير القماطات. قالت هي: ليس بسببك، لكن من سيدفع لي مقابل سنوات السجن الثلاث؟.
لا أحد سيدفعهم، ولا هي بالطبع: فهي تكسب من بين الصغيرات اللاتي في سوق حانوتها، اللاتي تفتتحهن وتعتصرهن حتى يمضين حياتهن كأسوأ عاهرات متخرجات من الماخور التاريخي ل نيجرا إيوفيما. ولم تدفع في حياتها غرامة واحدة، لأن فناءها كان منتدى لرجال السلطة المحلية، من أول المحافظ وحتى آخر موظف في البلدية، ولم يكن متخيلا أن صاحبة الماخور تنقصها القدرة علي ارتكاب الجرائم علي هواها. لذلك فإن ادعاءها الشرف في آخر لحظة يعود إلي رغبتها في الحصول علي أعلي أجر مقابل خدماتها: ثمن أكبر عندما تكون الخدمة أكثر تعريضا للعقاب. تم حل الخلاف بزيادة ثمن الخدمات اثنين بيزو، واتفقنا علي أنني في العاشرة ليلا أكون أنا في بيتها بخمسة بيزوات نقدا ومقدما. ولا دقيقة قبل ذلك: لأن الصبية يجب عليها إطعام وإنامة أشقائها الصغار وكذلك أمها الكسيحة بسبب الروماتيزم.
بقيتْ أربع ساعات. كلما مرت، كان القلب يمتلئ برغوة حارقة كانت تمنعني من التنفس. بذلت جهدا عقيما لتمضية الوقت في ارتداء الملابس. في الحقيقة لم يكن هناك جديد في هذا، وحتى دميانة تقول إنني أرتدي ملابسي بشكل طقوسي تشبه طقوس الأسقف. جرحت بشفرة الحلاقة، وانتظرت حتى تبرد حرارة ماء الدش الساخنة بتعامد الشمس علي المواسير، وكان مجرد بذل الجهد لتنشيف جسدي بالفوطة يجعلني أعرق من جديد. ارتديت ملابسي استعدادا للمغامرة الليلية: الحلة الكتانية البيضاء، والقميص المخطط بالأزرق والياقة المنشاة، ورباط العنق الحريري الصيني، وأزرار الأكمام البيضاء الزنكية، والساعة الذهبية بسلسلتها المربوطة في عروة الجاكت. وأخيرا ثنيت أرجل البنطلون إلي الداخل حتى لا يلاحظ أحد إنني قد نحفت قليلا.
أنا مشهور بأنني بخيل لأنه لا أحد يستطيع أن يتخيل أنني فقير جدٌا لأني أعيش في المكان الذي أعيش فيه، والحقيقة إن ليلة مثل تلك أكبر من أن تتحملها قدراتي. أخرجت بيزوين من صندوق التوفير الذي أحتفظ به تحت السرير لإيجار الغرفة، وأربعة لصاحبة الغرفة، وثلاثة للصبية وخمسة كاحتياط لعشائي ومصروفات نثرية أخري. أي، الأربعة عشر بيزو التي تدفعها لي الصحيفة مقابل شهر من المقالات الأسبوعية. خبأتها جميعا في جيب سري بالحزام وتعطرت ببخاخة ماء الكولونيا ماركة فلوريدا دي لانمان وكيمب­باركلي وكامبني. شعرت حينها بموجة من الرعب، وعند الدقة الأولي للساعة الثامنة هبطت السلم المظلم ببطء، والعرق يتصبب مني خوفا، وخرجت إلي الليلة الرائعة قبل ليلة احتفالاتي.
هبطتْ درجة الحرارة. كانت مجموعات من الرجال في ممر كولومبوس تتدافع في نقاش بأصوات مرتفعة عن كرة القدم. بين سيارات الأجرة الواقفة في منتصف الشارع بشكل متعامد علي الرصيف. كانت هناك مجموعة موسيقية تعزف فالسا تحت ممر الأشجار المزهرة. وإحدى العاهرات الفقيرات التي تصطاد الزبائن من منتصف شارع الموثقين طلبت مني سيجارة كالعادة، أجبتها بالطريقة نفسها التي كنت أجيبها بها دائما: توقفت عن التدخين منذ ثلاثة وثلاثين عاما، وشهرين، وسبعة عشر يوما. عند مروري أمام الألامبري دي أورور نظرت إلي نفسي في الفاترينات المضاءة ولم أراني كما كنت أشعر، بل أكثر كبرا في السن وأسوأ هنداما.
قبل العاشرة أوقفت سيارة أجرة وطلبت من السائق أن يوصلني إلي المقبرة العالمية حتى لا يعرف إلي أين أنا ذاهب حقيقة. نظر إليٌ عبر المرآة بمرح وقال لي: لا ترعبني، يا سيدي الحكيم، أرجو من الله أن يحفظني بحيوية مثل حضرتك. هبطنا سوياٌ أمام المقابر لأنه لم يكن يملك عملة صغيرة واضطررنا إلي البحث عن فكة في المقبرة، كانتين فقير حيث يبكي السكارى فيه أمواتهم فجرا. عندما صفينا حساباتنا قالي لي السائق بجدية: احترس، يا سيد، لأن بيت روسا كاباركاس لم يعد كما كان من قبل. لم أملك سوي أن أشكره، مقتنعا مثل كل الناس أنه لم يعد هناك سر تحت هذه السماء يخفي علي سائقي سيارات الأجرة في ممر كولومبوس.
توغلت في حي فقراء لا علاقة له بذلك الحي الذي عرفته قبل زمن. كانت الشوارع نفسها الواسعة برمالها الحارقة، ببيوتها المفتوحة الأبواب، وجدران من الخشب غير المدهون، وأسقف من الجريد العفص وأفنية من الحصى. لكن أهلها فقدوا هدوءهم. في أكثر البيوت كانت هناك جوقات موسيقية ترن طبولها في الأحشاء. وأي شخص يمكنه الدخول بخمسين سنتا إلي الحفل الذي يحبه أكثر، ولكن أيضا يمكنه أن يواصل الرقص مجانا. كنت أسير متمنيا أن تبتلعني الأرض بداخل ملابسي الفليبينية، لكن لا أحد أمعن نظره فيٌ، عدا خلاسي هزيل كان ينعس جالسا في باب أحد البيوت.
هتف فيٌ بكل قلبه:
­في رعاية الله، يا دكتور، مضاجعة سعيدة!.
ماذا كان يمكنني أفعل سوي تقديم الشكر له؟!.. توقفت ثلاث مرات لالتقط أنفاسي قبل الوصول إلي آخر مرتفع. رأيت من هناك القمر النحاسي الكبير الذي يرتفع في الأفق، وجريان بطن مفاجئ جعلني أخشي علي نفسي، لكنه مر سريعا. في نهاية الشارع، حيث يتحول إلي غابة من الأشجار المثمرة، دخلت حانوت روسا كاباركاس.
لم تكن تبدو كما كانت في السابق، لقد كانت الأم القديسة الأكثر احتراسا ولهذا السبب الأكثر شهرة. امرأة ضخمة الحجم كنا نود أن نتوجها كعريف لشرطة المطافئ، بسبب حجم جسدها وأيضا بسبب قدرتها علي إطفاء قناديل الكنيسة. لكن الوحدة قلصت من حجم جسدها، وجعٌدت بشرتها، وحدٌت من صوتها إلي درجة أنها كانت تبدو كطفلة عجوز. لم يبق لها من السابق سوي الأسنان المتقنة، إحداها مغطاة بطبقة من الذهب علي سبيل الدلال. كانت محافظة علي الحداد علي زوج مات بعد خمسين عاما من الحياة المشتركة، وزادت عليه بشيء أقرب إلي غطاء الرأس الأسود حدادا علي موت ابنها الوحيد الذي ساعدها في تجارتها. لم يعد حياٌ فيها سوي عينيها المسطحتين والقاسيتين، ومن خلالهما انتبهت إلي أنه لم يتغير فيها شيء، ولا حتى فطرتها.
بالحانوت لمبة شاحبة معلقة في العمق ولا يكاد يوجد شيء للبيع في الدواليب، ولا حتى ليبدو غطاء لحرفة شهيرة يعرفها كل الناس، ولكن لا يعترف بها أحد. عندما دخلت علي أطراف أصابعي كانت روسا كاباركاس تلبي طلبات أحد الزبائن. لا أعرف إنْ كانت لم تتعرف عليٌ أم أنها تصنٌعت للحفاظ علي شكل التعامل. جلست في كرسي الانتظار حتى تنتهي من عملها وخلال ذلك حاولت استعادة المكان كما كان في الذاكرة. كنت قد جئت أكثر من مرتين عندما كنا أنا وهي لا نزال في شبابنا، أنقذتني هي من رعبي. أعتقد أنها قرأت تفكيري: لأنها استدارت نحوي ورمقتني بشكل مزعج. تنهدتْ بحزن: أنت لا يمر بك الزمن. أردت أنا أن أجاملها: وأنتِ كذلك، ولكنكِ تغيرت إلي الأفضل. قالت هي: هل هذا صحيح؟، إلي درجة أن وجهك الخيولي عاد إليك مجددا، ولكن بوجه حصان ميت. قلت لها بمكر: ربما هذا لأنني غيرت نوعية المطعم. تحمست هي: إن لم تخني الذاكرة كانت لديك عصا بحرية، قالت لي. كيف حالك؟، تهربت من الإجابة: الشيء الوحيد المختلف منذ أن فقدنا الاتصال أنه في بعض الأحيان تحرقني مؤخرتي. جاء توصيفها علي الفور: لعدم الاستخدام. قلت لها: أنا استخدمها إلا في ما صنعها الله من أجله، لكن الحقيقة أن مؤخرتي كانت تحرقني منذ فترة، ودائما عندما يكون القمر مكتملا. بحثت روسا في درجها المليء بالعجائب وكشفت عن علبة صغيرة بها مرهم أخضر تفوح منه رائحة ليمونية للعطاس: قل للصبية أن تدهن لك قليلا بإصبعها هكذا، محركة سبابتها بطريقة لولبية. أجبتها بسرعة إنه بفضل الله أنني لا زلت قادرا علي التعامل مع نفسي دون مساعدة من أحد. سخرت هي: آي، يا معلم، اغفر لي حياتي. ثم واصلت عملها.
كانت الصبية في الغرفة منذ العاشرة، قالت لي: كانت جميلة، ونظيفة وتربيتها حسنة، لكنها كانت مرعوبة: لأن صديقة لها هربت من سفينة جايرا ماتت نازفة خلال ساعتين. لكن حسنا، تراجعت روسا، هذا أمر طبيعي لأن أهل جايرا لهم شهرتهم في الفحولة. وعادت إلي حديثها: مسكينة، إضافة إلي هذا عليها أن تعمل في تركيب الأزرار في أحد مصانع القمصان. لم أعتقد أنه عمل صعب جداٌ. هذا ما يعتقده الناس، أجابت هي، إنه عمل أصعب من تكسير الحجارة. إضافة إلي هذا اعترفت لي أنها أعطت الصبية مشروبا مخدرا وهي الآن نائمة. خشيت أن يكون هذا من فنونها لرفع الأجر، لكن لا، قالت هي: كلمتي من ذهب. بقواعد ثابتة: كل شيء مدفوع بشكل منفرد، وبنقود نظيفة ومقدما. وهكذا كان.
تبعتها عبر الفناء، مستثارا بذبول بشرتها، وبطريقتها السيئة في السير بساقيها المتورمتين داخل جواربها القطنية البدائية. كان القمر المكتمل يصل إلي منتصف السماء، ويمكن رؤية الدنيا كما لو كانت غارقة في مياه خضراء. بالقرب من الحانوت كان هناك سقف من السعف يطل علي شرفات الإدارة العامة، وحولها مقاعد خشبية جلدية وأسرٌة معلقة في الأركان. في الفناء الخلفي، حيث تبدأ غابة الأشجار المثمرة، كانت هناك صالة تطل علي ست غرف من الطوب غير المبلط، بنوافذ متصلة. الحجرة الوحيدة المسكونة كانت نصف مضاءة، وتونيا لانيرا كانت تغني في الراديو أغنية عن قصص الحب الرديئة، تنفست روسا كاباركاس: الأغنية هي الحياة. كنت متفقا معها في رأيها، لكني لم أجرؤ حتى اليوم علي كتابتها. دفعت هي الباب، دخَلَت للحظات وعادت للخروج مرة أخري. قالت: لا تزال نائمة. من الأفضل أن تتركها تستريح الوقت الذي يتطلبه منها الجسد، ليلك أطول من ليلها. كنت كالأعمى: ماذا تعتقدين عليٌ أن أفعل؟، أنت خبير، قالت هي بلذة غير معتادة في مثل هذه المواقف، أنت خبير لسبب ما. استدارت نصف دورة وتركتني وحيدا في مواجهة الرعب.
لم يكن هناك من مهرب. دخلت الغرفة وقلبي مرتبك، ورأيت الصبية نائمة، كانت عارية وضعيفة في السرير الضخم المؤجر، كانت كما ولدتها أمها. مضجعة علي جانبها، وجهها باتجاه الباب، مضاء بالنور القادم من العمق بقوة كاشفا عن كل تفاصيل جسدها. جلست أتأملها من علي حافة السرير بانجذاب حواسي الخمس. كانت خمرية وفاترة. لقد أخضوعها لعملية تنظيف وتجميل لم تترك شيئا ولا حتى شعر عانتها. ضفٌروا شعرها، وكان في أظافر يديها وقدميها لمعانا طبيعيا، لكن الجلد الذي يشبه العسل الأسود كان خشنا ومنهكا. النهدان حديثا النبت كانا يبدوان كنهدي طفل تضغط عليهما قوة سرية علي وشك الانفجار. أفضل ما في جسدها كانت قدماها الكبيرتين ذات الخطوات الخفيفة والأصابع الطويلة والحساسة كما لو كانت ليدين. كانت غارقة في عرقها الفسفوري رغم المروحة، والحر يزداد كلما تقدم الليل. من المستحيل تخيل كيف كان شكل الوجه المدهون، وطبقة بودرة الأرز الثقيلة ببقعتين ملونتين علي الخدين، والرموش الاصطناعية، والحواجب والجفون تبدو كالمحترقة بسبب الدخان الأسود، وتم تكبير حجم الشفاه بورنيش الشكولاته. لكن لا الخرق ولا قصة الشعر تمكنت من إخفاء شكلها: الأنف المترفع، والحواجب المتصلة، والشفاه الثقيلة. فكرت: عجل صغير مولود للمصارعة.
في الحادية عشرة بدأت أنا حركتي الروتينية في الحمٌام، حيث كانت ملابسها الفقيرة مطوية علي كرسي بدقة الأغنياء: فستان ملون بفراشات مطبوعة، وسروال أصفر وصندل. علي الملابس كانت هناك أسورة رخيصة وسلسلة رقيقة بصورة للعذراء. وعلي حافة الحوض حقيبة يد بها قلم شفاه، وعلبة ألوان تجميل، ومفتاح وبعض القطع النقدية الصغيرة. كله رخيص جدٌا، ومستهلك بسبب الاستخدام لدرجة لا يمكنني تخيل أن هناك أفقر منها.
خلعت ملابسي وعلقتها علي الشماعات علي أفضل طريقة يمكنني القيام بها حتى لا أكرمش حرير القميص وكي البدلة الكتانية. تبولت جالسا، وكما علمتني فلورينا دي ديوس منذ طفولتي حتى لا أبلل جوانب القاعدة، ولا أزال، بلا تواضع، كنت أتبول بطريقة مباشرة وحادة كحصان صغير. قبل أن أخرج نظرت إلي مرآة حوض غسيل اليدين. الحصان الذي نظر إليٌ من الجانب الآخر من المرآة لم يكن ميتا بل حزينا، وعليه مسحة بابوية من البابا، الجفون متورمة والعرف هزيل وقد كان في السابق قصة موسيقي. قلت له:
­قذارة، ماذا أفعل إذا لم تكن تحبني؟.
في محاولتي عدم إيقاظها جلست في السرير عاريا وقد اعتادت عيني علي خداع الضوء الأحمر، وفحصتها شبرا شبرا. مررت طرف إصبعي علي عمودها الفقري الغارق في العرق فارتعدت من داخلها كوتر في آلة هارب، استدارت نحوي بهمهمة واحتضنتني في رائحة أنفاسها الحادة. ضغطت علي أنفها بإصبعي الكبير والسبابة، فانتفضت، أبعدت رأسها وأدارت لي ظهرها دون أن ترمش. حاولت إبعاد ساقيها عن بعضهما بركبتي في محاولة غير متوقعة. غنيت لها في أذنيها: سير ديلادينا محاطة بالملائكة. استرخت قليلا. صعدت في عروقي موجة حارة، وحيواني البطيء المتقاعد استيقظ من نوم طويل.
ديلادينا، يا روحي، رجوتها متشوقا. ديلادينا. أطلقت حمحمة محزنة، وهربت من بين فخذي، وأدارت لي ظهرها واستدارت حول نفسها كحيوان بحري في قوقعته. يبدو أن الشراب المخدر كان قويٌا بالنسبة لي كما كان قويٌا بالنسبة لها: لأنه لم يحدث شيء، لا لها ولا لأحد. لكن هذا لم يهمني. سألتني نفسي عن فائدة إيقاظها، شعرت بالذل والحزن، وببرد كوخزة.
دقٌت حينها الثانية عشرة، دقات واضحة، وبدأ فجر يوم 29 أغسطس، يوم استشهاد القديس يوحنا المعمدان. كان هناك من يبكي بصوت صارخ في الشارع ولا أحد يستجيب. صليت من أجله، لو كان في حاجة إلي هذه الصلاة، وصليت من أجلي أيضا، كشكر علي ما حصلت عليه من فضائل: لا ينخدع أحد، لا، في انتظار الاستمرار أكثر ما انتظر وظل أكثر ما رأي. حمحمت الصبية في الحلم، فصليت أيضا من أجلها: أن يمر كل شيء بأفضل ما يمكن. بعدها أطفأت الراديو والنور لأنام.
استيقظت فجرا دون أن أتذكر أين كنت. كانت الصبية لا تزال نائمة وظهرها لي في وضع جنيني. كان لدي إحساس بأنني شعرت بها قد استيقظت في الظلام وذهبت إلي الحمٌام، وإنني سمعت صوت تفريغ سيفون الحمٌام، لكن ربما كان حلما. كان شيئا جديدا لي. كنت أجهل براعة الإغواء، واخترت دائما عشيقات الليل حسب الثمن وليس حسب ما تملك من إغراء، وكنا نمارس الحب بلا حب، نصف عرايا في أكثر الأحيان، وفي الظلام دائما، حتى نتخيل بعضنا بشكل أفضل. في تلك الليلة اكتشفت لذة تأمل جسد امرأة نائمة بعيدا عن ضغوط الرغبة أو عوائق الخجل.
استيقظت في الخامسة، قلقا لأن مقالي الأسبوعي ليوم الأحد كان يجب أن يكون علي طاولة التحرير قبل الثانية عشرة. قمت بالتحلل اليومي ببعض الحرقان للقمر المكتمل، وعندما سحبت سلسلة السيفون شعرت أن كراهيتي الماضية ذهبت مع الماء. عندما عدت إلي غرفة النوم نشطا ومرتديا ملابسي، كانت الصبية تنام علي ظهرها تحت نور الفجر الهادئ، كانت ممددة علي السرير من أقصاه إلي أقصاه، والذراعان مفتوحين كصليب ومليكة مطلقة لعذريتها. يحرسك الله، قلت لها. كل النقود التي بقيت، نقودي ونقودها، وضعتها علي المخدة، وودعتها إلي الأبد بقبلة علي جبهتها. البيت، مثل كل البيوت السرية في الفجر، كانت أقرب إلي الفردوس. خرجت من باب الحديقة حتى لا ألتقي بأحد. تحت شمس الشارع الحارقة بدأت أشعر بثقل أعوامي التسعين، وأعدٌد دقيقة بدقيقة دقائق الليالي التي لا تزال باقية علي موتي.

- 2 -

أكتب هذه الذكريات بين القليل الذي تبقي من المكتبة التي كان يملكها والدي، التي تكاد أرففها تتساقط بسبب عمل العثة الصبور. علي أي حال، فإن ما تبقي لي في هذا العالم يكفيني: قواميسي التي تشمل جميع الأنواع، من المجموعات الأولي لالوقائع الوطنية للسيد بنيتو بيريث جالدوس، والجبل السحري الذي علمني كيف أفهم أحوال أمي المصطنعة.
علي عكس الأثاث الآخر، وأنا نفسي، فإن المكتب الذي أكتب عليه يبدو أفضل حالا كلما مر الوقت، لأن جدي لأمي صنعه من خشب البلوط، فقد كان يعمل نجار سفن. وحتى إذا لم يكن لدي ما أكتبه، فإنني أعده كل صباح بالحرص الكبير نفسه الذي تسبب في ضياع العديد من فرص الحب. أجد عند أطراف أصابعي الكتب المحببة إليٌ: أجزاء أول قاموس مزين بالرسوم للأكاديمية الملكية، الصادر عام 1903، وكنوز اللغة القشتالية أو الإسبانية للسيد سباستيان كوفاروبياس، والقواعد للسيد انريس بيلو، يفيدني هذا الكتاب عندما تكون لدي شكوك حول أي معني، طبقا للحرص المطلوب، فإن هناك القاموس الأيدلوجي لخوليو كاساريس، خاصة مقابلاته ومترادفاته، ومفردات اللغة الإيطالية لنيكولاس زيناريلي: حتى أنمي لدي لغة أمي، التي تعلمتها منذ المهد، والقاموس اللاتيني، لأنها تلك اللغة الأم للغتين الأخريين اللتين أعتبرهما لغتي الطبيعيتين.
علي يسار المكتب أحرص دائما علي وجود خمس مجموعات من الورق المجمعة بالخيط لكي أمارس عليها مهنتي في كتابة مقال أيام الأحد، وقرن تراب الخطابات الذي أفضله علي نشافات الورق الحديثة. وعلي اليمين هناك القلم بغطائه الذهبي، فلا زلت أكتب الخط الرومانتيكي الذي علمتني إياه فلورينا دي ديوس حتى لا أكتب الخط الرسمي لزوجها، الذي كان يعمل موثقٌا عاما ومحاسبا رسميٌا حتى آخر لحظة من حياته. فرضوا علينا منذ فترة في الصحيفة الكتابة بالآلة الطابعة حتى يمكن حساب عدد الكلمات بشكل أفضل، لكني لم أستطع التطبع مع هذا الوضع، فواصلت الكتابة بيدي ثم أعيد كتابته من جديد علي الآلة الطابعة بضربات شبيهة بنقر الدجاجة، وذلك بفضل امتيازي كواحد من أقدم العاملين. أما اليوم، فأنا متقاعد ولكن لست مهزوما، أتمتع بالامتياز المقدس بالكتابة في البيت، وسماعة التليفون مرفوعة حتى لا يقاطعني أحد، وبدون الرقيب الذي يتابع كتابتي من فوق كتفي.
أعيش بلا كلاب ولا عصافير ولا خدم، عدا الوفية دميانة التي كثيرا ما أنقذتني في لحظات حرجة، ولا تزال تأتي مرة في الأسبوع لعمل ما يمكن عمله، برغم حالتها التي هي عليها، نظرها ضعيف وقليلة الحيلة. رجتني أمي وهي في سرير موتها أن أتزوج في شبابي المبكر من امرأة بيضاء، وأن ننجب علي الأقل ثلاثة أبناء، من بينهم طفلة تحمل اسمها، الذي كان اسم أمها وجدٌتها من قبل. كنت حريصا علي تلبية رجائها، لكن كانت لدي فكرة مطاطة عن الشباب فلم أر أبدا أن الوقت قد فات. إلي أن حدث في منتصف نهار حار أن أخطأت أحد الأبواب في بيت آل بالوماريس دي كاسترو في برادومور، وفاجأت خيمينا اورتيث الابنة الصغرى عارية، كانت تنام القيلولة في الغرفة المجاورة. مضطجعة وظهرها للباب، واستدارت لتنظر إليٌ من فوق كتفها بحركة سريعة لم تترك لي مجالا للهرب. آي، معذرة، تمكنت من القول وروحي في حلقي. ابتسمت هي، واستدارت نحوي بجسد غزالة، واستعرضت أمامي جسدها كاملا. كانت اللحظة كلها معبقة بحميميتها. لم تكن عارية تماما، بل كانت تضع في أذنها زهرة سامة ذات بتلات برتقالية، مثل لوحة أولمبيا لمانيه، وكانت ترتدي خاتما من الذهب في كفها اليمني وعقدا من اللؤلؤ الصغير الحجم. لم أتخيل مطلقا أنه يمكنني أن أري شيئا مشوشا ينزع الحياة، أستطيع اليوم أن أؤكد أنني كنت علي حق.
أغلقت أنا الباب بضربة واحدة، خجلا من بلادتي، مع إصرار علي نسيان الأمر. لكن خيمينا اورتيث منعتني من تنفيذ قراري. أرسلت لي رسائل مع أصدقاء مشتركين، وبطاقات مثيرة، وتهديدات مرعبة، فيما انتشرت الشائعات بأننا نجن بحب كل منا للآخر دون أن نتبادل كلمة واحدة. كان من المستحيل مقاومة ذلك. عيناها عينا قطة برية، وجسدها مثير سواء بالملابس أم بغيرها، وشعرها ذهبي كثيف تفوح منه رائحة أنثوية تجعلني أبكي علي المخدة. كنت أعرف أنه لا يمكن أن يكون حبٌا، لكن الإغراء الشيطاني الذي كانت تمارسه عليٌ كان قوياٌ إلي درجة أنني كنت أخففه بأية عاهرة ذات عيون خضراء ألاقيها في طريقي. لكني لم أستطع مطلقا أن أطفئ نيران ذكري رؤيتها في سرير بيت برادومار، وأخيرا استسلمت لها، بالتقدم لطلب يدها رسميٌا، وتبادلنا الخواتم وقمنا بالإعلان عن عرس كبير قبل حلول عيد الأسبوع المقدس.
انتشر الخبر بشكل أكبر في الحي الصيني أكثر من انتشاره في النادي الاجتماعي. قوبل أولا بالسخرية، لكن تلك السخرية تحولت إلي معارضة من جانب سيدات الحظ اللاتي كن يرين أن الزواج مسألة غبية أكثر منه ارتباط مقدس. اكتمل عرسي بكل الطقوس الأخلاقية المسيحية في شرفة الأوركيدات الأمازونية والأشجار المعلقة في بيت أهل خطيبتي. كنت أحضر في السابعة مساء، مرتديا حلة من الكتان الأبيض، وبأي هدية من الخرز المصنوع يدويٌا أو الشيكولاتة السويسرية، وكنا نتبادل الحديث حتى العاشرة، في حراسة العمة أرخينديا، التي كانت تنام عند أول ارتخاء للجفن كقوادات روايات تلك الفترة.
كلما تعارفنا أكثر علي بعضنا كانت خيمينا تزداد شراهة، كانت تخلع صديراتها وفساتينها التي كانت تضيق بها كلما اقترب حر يونيو، وكان من السهل تخيل قدرتها المدمرة التي كانت تتملكها في الظل. بعد شهرين من الخطوبة لم يعد لدينا ما نتحدث عنه، وبدأت هي تتحدث في موضوع الأولاد دون أن تقوله بصراحة، كانت تنسج أحذية صغيرة من الصوف الطبيعي لأطفال حديثي الولادة. أنا، الخطيب المهذب، تعلمت النسج معها، وهكذا أمضينا الساعات الضائعة التي سبقت موعد العرس، أنا أنسج أحذية زرقاء للأولاد وهي تنسج الوردية للبنات، ونتراهن علي من يصدق حدسه، حتى زاد العدد عن الخمسين من الأبناء. وقبل أن تحل الساعة العاشرة كنت أصعد عربة تجرها الخيول وأذهب إلي الحي الصيني لأعيش ليلتي في سلام الله.
حفلات وداع العزوبية التي كانوا يقيمونها لي في الحي الصيني كانت تسير في عكس سهرات النادي الاجتماعي الكئيبة. إنه تناقض أفادني في معرفة أي من العالمين في الواقع هو عالمي، وحلمت بأن أعيش العالمين معا ولكن لكل عالم أوقاته، فمن كل عالم كنت أري الآخر يبتعد كزفير صفارات السفن المفترقة في أعالي البحار. وحفلة الرقص السابقة علي أعياد الأسبوع المقدس تم خلالها الإعلان عن حفل نهائي ما كان يخطر علي بال أحد سوي قس جيليقي(4) تسيطر عليه الشهوة، فقد أمر كل الفتيات بارتداء الخمار والزهور، حتى يتزوجن بي في حفل علني مقدس. كانت ليلة كبري من انتهاك قدسية الحب ووعدت اثنتان وعشرين منهن بالوفاء بالحب والخضوع وأجبتهن بالوفاء المقابل حتى ما بعد موتي.
لم أستطع النوم بسبب ما كان علامة علي شيء لا بد منه. فقد بدأت منذ الفجر في عدٌ مرور الساعات من خلال دقات ساعة الكاتدرائية، إلي أن جاءت دقات الساعة السابعة المرعبة التي كان يجب أن أكون فيها في الكنيسة. بدأ جرس التليفون يدق في الثامنة، طويلا ولحوحا، وبلا توقف، طوال أكثر من ساعة. لم أمتنع فقط عن الرد: بل لم أتنفس. وقبل العاشرة بقليل دقوا علي الباب، أولا بالقبضات، وبعدها بصرخات أصوات معروفة وبغيضة. خشيت أن يحطموه لسبب خطير، لكن مع حلول الحادية عشرة خيٌم علي البيت صمت لا يحدث إلا بعد الكوارث الكبرى. حينها بكيت من أجلها ومن أجلي، وصليت من كل قلبي ضارعا ألا ألتقي بها أبدا خلال ما تبقي لي من أيام. يبدو أن قديسا استمع إلي نصف تضرعي: فقد ذهبت خيمينا من البلاد في الليلة نفسها ولم تعد إلا بعد عشرين عاما من ذلك اليوم، متزوجة ولديها سبعة أبناء كانوا يمكن أن يكونوا أبنائي.
بذلت جهدا كبيرا للحفاظ علي مكانتي ومقالي في صحيفة الدياريو دي لا باث بعد تلك الإهانة الاجتماعية. لكن لم يكن هذا سببا في نقل مقالي إلي الصفحة الحادية عشرة، بل سببه الاندفاع الأعمى الذي دخل به القرن العشرين. فقد أصبح التقدم أسطورة المدينة. تغير كل شيء، الطائرات طارت وألقي رجل بكيس الخطابات من طائرة جونكر واخترع البريد الجوي.
الشيء الوحيد الذي بقي علي حاله هو مقالاتي في الصحيفة. وهاجمتها الأجيال الجديدة، كمن يهاجم مومياء من الماضي يجب تدميرها، لكني حافظت عليها بنفس لهجتها، دون تنازل، وضد رياح التغيير. لم أستمع لأي شيء، فقد كنت قد أكملت الأربعين، ولكن المحررين الشبان كانوا يطلقون عليٌ مقال اللقيط. استدعاني مدير التحرير وقتها إلي مكتبه ليطلب مني أن أغيٌر اللهجة حسب التيارات الجديدة. فقال لي بهدوء كما لو كان التقدم قد اخترعوه في التو واللحظة: العالم يتقدم. قلت له: نعم، يتقدم، لكنه يظل يدور حول الشمس. إلا أنه حافظ علي مقالي الأسبوعي لأنه لم يجد من يصغ الأخبار. واليوم أعرف أنني كنت علي حق، ولماذا كنت علي حق. المراهقون من جيلي تحت وطأة شراهتهم بالحياة نسوا الحلم بالمستقبل، إلي أن علٌمهم الواقع أن المستقبل لم يكن كما حلموا به، فاكتشفوا الحنين. وهناك كانت مقالات الأحد، كأثر معماري بين أنقاض الماضي، فانتبهوا إلي أنها لم تكن موجهة فقط لكبار السن بل موجهة للشباب الذين لم يخافوا من الشيخوخة. وحينها عاد المقال إلي صفحة الافتتاحيات، وفي بعض الأوقات الخاصة كان ينشر مقالي في الصفحة الأولي.
من يسألني أجيبه دائما بالحقيقة: العاهرات لم يتركن لي وقتا لكي أكون متزوجا. مع ذلك، يجب أن أعترف أنه لم تكن لدي هذه الإجابة حتى اليوم الذي أكملت فيه عامي التسعين، عندما خرجت من بيت روسا كاباركاس بالإصرار علي ألا أصنع قدري أبدا بعد الآن. كنت أشعر أنني آخر. اختل عقلي برؤيتي للناس متكئة علي الحواجز الحديدية المحيطة بالحديقة العامة. التقيت دميانة كانت تنظف الأرضية، منحنية في الصالة، وشباب سمانتيها في عمرها هذا أيقظ رعشة من زمن مضي. أعتقد أنها شعرت بذلك لأنها غطت نفسها بالفستان. لم أستطع قمع الرغبة في سؤالها: قولي لي شيئا، دميانة أي شيء تتذكرين؟. قالت: لم أكن أتذكر أي شيء، لكن سؤالك يذكرني بشيء. شعرت أنا بضغط في الصدر. قلت لها: لم أعشق أبدا. ردت عليٌ علي الفور: أنا، نعم عشقت. أنهت الحديث دون أن تتوقف عن عملها بقولها: بكيت طوال اثنين وعشرين عاما من أجلك. قفز قلبي. بحثا عن مخرج كريم، قلت لها: كان يمكننا أن نكون زوجين طيبين. قالت هي: من السيئ أن تقول لي ذلك الآن، لأنني لا لم أعد أصلح لك الآن. عندما خرجت من البيت، قالت لي بطريقة أكثر طبيعية: حضرتك لن تصدقني، أنا لا أزال عذراء، شكرا لله.
بعدها بقليل اكتشفت أنها تركت ورودا حمراء في كل البيت، وبطاقة علي المخدة: أرجو أن تصل إلي المية(5). بهذا الطعم الرديء جلست لإكمال المقال الذي كنت قد تركته ناقصا في اليوم السابق. أنهيته في نفسي واحد في أقل من ساعتين واستطعت أن ألوي عنقه ليعبر عن حالتي الداخلية دون أن تبدو عليٌ مظاهر البكاء. لكن بضربة إلهام متأخرة قررت إنهاءه بالإعلان عن أنني بهذا المقال أنهي بسعادة حياة طويلة وكريمة دون أن أرتكب سوءة موتي.
هدفي كان أن أترك المقال في بوابة الصحيفة والعودة إلي البيت. لكني لم أتمكن من ذلك. كان العاملون بكاملهم ينتظرونني ليحتفلوا بعيد ميلادي. كان المبني تحت الترميم، والسقالات والحطام الباردة في كل مكان، لكنهم أوقفوا العمل بسبب الحفل. علي مائدة نجار كانت المشروبات معدة لتناول النخب والهدايا ملفوفة في ورق ملون. ذاهلا من أضواء فلاشات الكاميرات استحوذت علي كل الصور التذكارية.
سعدت لوجود كل محرري الإذاعة والصحف الأخرى بالمدينة: لا برنسا الصباحية المحافظة، والهيرالدو الصباحية الليبرالية، والناسيونال المسائية الفضائحية التي تحاول تخفيف توتر النظام العام بحكايات عاطفية. لم يكن غريبا أن يتجمعوا معا، لأنه داخل روح المدينة كان مقبولا أن تستمر علاقات الصداقة بين جميع العاملين بينما المارشالات يمارسون الحروب بالافتتاحيات.
وأيضا كان هناك الرقيب السيد خيرونيمو اورتيجا، خارج ساعات عمله، الذي كنا نطلق عليه رجل التاسعة البغيض: لأنه كان يصل في تلك الساعة من الليل بقلمه الدموي ذي السن الحاد. يظل هناك إلي أن يتأكد من أنه لم يكن هناك حرف واحد لم يوافق عليه في طبعة الصباح. كانت لديه كراهية خاصة تجاهي، سببه كبريائي كلغوي، أو لأنني أستخدم كلمات إيطالية بلا تنصيص أو تمييز عندما أري أنها أكثر تعبيرا من القشتالية، كما يجب أن يكون الاستخدام المعروف بين اللغات المشتقة من أصل واحد. بعد معاناة استمرت أربع سنوات، انتهينا إلي قبوله كما لو كان سوء نيتنا نحن أنفسنا.
حملت السكرتيرات إلي الصالون طبق حلوي بتسعين شمعة مشتعلة واجهت خلالها سنوات حياتي لأول مرة. ابتلعت دموعي عندما غنوا لي أغنية النخب، وتذكرت الصبية بلا أي سبب. لم يكن ضربا من الكراهية بل تفهما متأخرا للإنسانة التي كنت أنتظر أن أتذكرها مرة أخري. بعد انتهاء الاحتفال وضع أحدهم في يدي سكينا لأقطع الحلوى. خوفا من السخرية لم يجرؤ أحد علي إلقاء كلمة. أنا كنت أفضل الموت علي الرد عليه. ولإنهاء الحفل، مدير التحرير الذي لم أكنٌ له أي حب، أعادنا إلي الواقع المرير. قال لي: والآن نعم، أيها التسعيني الشهير، أين مقالك؟.
الحقيقة أنني كنت أشعر به يحرق جيبي بنار مشتعلة طوال المساء، لكن الانفعال الذي تعمق فيٌ حتى لا أفسد الحفل لم يترك لي مجالا للإعلان عن رفضي. قلت: هذه المرة لن يكون هناك مقال. امتعض مدير التحرير لخطأ ما كان مقبولا من القرن السابق. وحتى نفهم الحال تماما، قلت له، لقد مررت بليلة صعبة إلي درجة أنني استيقظت مخدرا من التعب. قال هو بحسه الساخر المرير: إذن كان عليك أن تكتبه. القراء يحبون معرفة الحياة عند بلوغ التسعين من شخص يعيشها. فردٌت إحدى السكرتيرات. قالت: ربما كان سرٌا لذيذا، ونظرتْ إليٌ بدلال: أليس كذلك؟، موجة ساخنة ضربتني علي وجهي. اللعنة، فكرت، يا له من خائن هذا الخجل. سكرتيرة أخري، متألقة، أشارت نحوي بإصبعها. يا للروعة! لا تزال لديه رجولة ليخجل. أشعل تدخلها فيٌ خجلا علي خجل. ربما كانت ليلة من التهجم، قالت السكرتيرة الأولي: أنا أحسدك!، وقبلتني قبلة ظلت مرسومة علي خدي. تسابق المصورون. مختنقا، سلمت المقال لمدير التحرير، وقلت له إن ما قلته من قبل كان علي سبيل المزاح، تفضل، وهربت مصعوقا بآخر دفعة من التصفيق، كي لا أكون حاضرا عندما يكتشفون أنها استقالتي بعد نصف قرن من الإبحار.
استمر تشوقي طوال تلك الليلة عندما نزعت في البيت الورق الذي يلتف علي الهدايا. عمال التوضيب لم ينجحوا في اختيار هديتهم بتقديمهم صانعة القوة الكهربائية تماما مثل الثلاث التي قدموها لي في أعياد ميلادي السابقة. ومصففو الأحرف قدموا لي تفويضا لاستلام قط من حظيرة البلدية. والإدارة قدمت لي أرباحا رمزية. والسكرتيرات أهدينني ملابس داخلية من الحرير مطبوع عليها آثار قبلات، وبطاقة يعرضن عليٌ فيها نزعها عني. وخيل لي أن أحد امتيازات الشيخوخة هي الإثارة التي تسمح للصديقات من الفتيات أن يعتقدن أننا خارج العمل.
لم أعرف مطلقا من الذي أرسل لي أسطوانة مسجل عليها أربع وعشرين مقطوعة لشوبان بقيادة ستيفان إسكيناس. والمحررون في معظمهم أهدوني كتبا عن الموضة. لم أكد أفتح جميع الهدايا حتى اتصلت بي روسا كاباركاس تليفونيٌا لتسألني السؤال الذي لم أكن أود سماعه: ماذا حدث لك مع الصبية؟، قلت لها دون تفكير: لا شيء. فقالت روسا كاباركاس: هل تعتقد أنه لا شيء إذا كنت حتى لم توقظها؟، إن المرأة لا تغفر أبدا للرجل الذي يحتقرها يوم دخولها. أنا بررت الأمر بأن الصبية لم تكن متعبة فقط من عملها في تركيب الأزرار، وربما كانت تتصنع النوم خوفا من المرور بهذه الخطوة المؤلمة. قالت روسا: الأخطر أنها تعتقد حقيقة أنك لا تصلح، ولا أحب أن تنشر هذا في أركان الأرض الأربعة.
لم أمنحها الفرصة لتفاجئني. رغم أن الأمر كان كذلك، قلت لها إن حالتها كانت سيئة إلي درجة ما كان يمكن التعامل معها لا نائمة ولا مستيقظة: إنها كلحم المستشفيات. خفضت روسا كاباركاس من لهجتها: الذنب ذنب التسرع الذي انهينا به الاتفاق، لكن يمكن علاج ذلك، وستري. وَعَدَتْ بأن تستجوب الصبية، ولو كان الأمر هكذا ستجبرها علي إعادة المال. ما رأيك؟. قلت لها: دعي الأمر علي حاله. لم يحدث أي شيء، والعكس فقد كانت تجربة أكدت لي أنني لم أعد أصلح لأي شيء. في هذا الاتجاه فالصبية لديها كل الحق: فأنا لم أعد أصلح. وضعت سماعة التليفون، مفعما بإحساس تحرر لم أعرفه في حياتي من قبل، وأخيرا تمكنت من الهرب من قلق سيطر عليٌ منذ أن كنت في الثالثة عشرة.
في السابعة ليلا كنت ضيف الشرف في كونشيرتو جاك تابولت والفريد كورتوت في صالة الفنون الجميلة، بعزف رائع لسوناتة الكمان والبيانو التي أداها ثيسار فرانك، وما بين الفصلين استمعت إلي الإعجاب المباشر. المايسترو بدرو بيافا، مايسترو موسيقي عظيم، أخذني عنوة إلي غرف الموسيقيين ليقدمني إلي العازفين. وابهرني إلي درجة أنني حييتهم علي عزفهم لسوناتة شومان التي عزفوها، وصحح لي أحدهم الاسم بطريقة مخجلة. والخطأ الذي ارتكبته في الخلط بين السوناتتين كشف جهلي، وازداد الأمر خطرا عندما حاولت شرح الأمر في مقال الأحد التالي الذي تناولت فيه الحفل الموسيقي بالنقد.
شعرت لأول مرة في حياتي الطويلة بأنني قادر علي قتل أحد. عدت إلي البيت مهموما بالشيطان الصغير الذي ينفخ في الأذنين بالإجابات المدمرة التي لم نرد بها في وقتها، فلا القراءات ولا الموسيقي خففا من غضبي. لحسن الحظ أن روسا كاباركاس أخرجتني من الهذيان بصرخة في التليفون: أنا سعيدة بالصحيفة، لأنني لم أعتقد أنك أكملت التسعين بل مائة. أجبتها بحدة: لهذا أنا ضائع كما ترين؟ قالت هي: علي العكس، إن ما فاجأني كان رؤيتك في صحة ممتازة. إنه لأمر طيب أنك لست من كبار السن غير الناضجين الذين يزيدون من أعمارهم حتى يعتقد الآخرون أنهم في حالة جيدة. ثم غيرت من لهجتها: أحتفظ لك بهديتك. فاجأتني حقيقة فقلت: ما هي؟. قالت هي: الصبية.
لم أدع لنفسي لحظة واحدة للتفكير. قلت لها: شكرا، لكن تلك حكاية من الماضي. لم تحاول التعليق: سأرسلها إلي بيتك ملفوفة في ورق صيني ومغسولة بالصندل علي البخار، كله مجانا. تمسكت برأيي، فيما دخلت هي في شرح صعب جعلني أصدق جديتها. قالت إن الصبية كانت في حالة سيئة جدٌا في ذلك اليوم الجمعة لأنها كانت قد حاكت مائتي زرار بالإبرة والكشتبان. وأن خوفها من الاغتصاب الدموي كان حقيقياٌ، لكنها الآن معدة للتقديم علي المذبح. وإنها في ليلتها معي استيقظت لتذهب إلي الحمٌام وإنني كنت حينها أغط في نوم عميق جدٌا، وقد شعرتْ بالشفقة عليٌ فلم توقظني، وعندما استيقظتْ في الصباح من جديد كنت قد ذهبت. شعرت بالإهانةة مما بدا لي كذبا لا طائل من ورائه. حسنا، واصلت روسا كاباركاس: وإنه رغم ذلك، فالصبية نادمة. المسكينة، تقف الآن أمامي. هل تريد أن تتحدث معها؟. قلت لها: لا، بحق الله.
كنت قد بدأت الكتابة عندما اتصلت سكرتيرة الصحيفة. الرسالة كانت أن المدير يريد أن يراني في اليوم التالي في الحادية عشرة صباحا. وصلت في الموعد تماما. ضجيج ترميم المبني لم يكن يبدو محتملا، كان الهواء مزعجا بضربات الفؤوس، وغبار الأسمنت ودخان القطران، لكن العاملين في التحرير كانوا قد تعلموا التفكير في رتابة الفوضى. مكاتب المدير، كانت علي العكس، باردة وهادئة، كانت تبدو في بلد مثالي غير بلدنا.
ماركو توليو الثالث، بملامحه المراهقة، عندما رآني أدخل نهض واقفا علي قدميه، دون أن يقطع حوارا تليفونيٌا، مد لي يده ليصافحني من أعلي المكتب وأشار إليٌ بالجلوس. ذهبت في تفكيري إلي أنه لم يكن هناك أحد علي الجانب الآخر من الخط، وأنه يقوم بهذه الحركة الهزلية ليقنعني بأهميته، لكنني اكتشفت فجأة أنه كان يتحدث مع المحافظ، وكان حقيقة حوارا صعبا بين عدوين محكوم عليهما بالتفاهم. إضافة إلي، أنني أعتقد أنه حاول أن يبدو حازما أمامي، رغم أنه في الوقت نفسه ظل واقفا علي قدميه بينما كان يتحدث مع السلطة.
يبدو عليه اهتمامه بهندامه. أكمل التاسعة والعشرين قبل قليل ويتحدث أربع لغات وحصل علي ثلاث شهادات عليا دولية، بعكس أول مدير تحرير قضي حياته كلها في منصبه، جده لأبيه، الذي مارس الصحافة بعد أن كوَّن ثروة من التجارة في الرقيق الأبيض. كانت له طبائع صعبة، كان يحاول دائما أن يبدو هادئا وجاداٌ، والشيء الوحيد الذي كان يكشف حقيقته تلك الرنة المزيفة في صوته. يرتدي جاكت رياضياٌ بزهرة أوركيد في العروة، وكل ما يفعله كان يبدو كشخص طبيعي، لكن لا شئ يبدو عليه أنه قابل للحياة في الشارع بل في ربيع مكاتبه. أنا، الذي أمضيت ما يقرب من الساعتين في ارتداء ملابسي، شعرت بعار الفقر مما زاد من حدة غضبي.
مع كل هذا، فإن السم القاتل كان في صورة بانورامية لمجموع العاملين التقطتْ في الاحتفال السنوي الخامس والعشرين لإنشاء الصحيفة، ومرسوما عليها علامة الصليب علي كل من مات منهم. أنا كنت الثالث إلي اليمين، مرتديا قبعة عامل محجر، وبربطة عنق بعقدة كبيرة بلؤلؤة في المشبك، وأول شارب يشبه شوارب كولونيل مدني أطلقته عندما كنت في الأربعين، ونظارات معدنية تشبه نظارات طلاب السلك الكنسي والتي لم أعد في حاجة إليها بعد نصف قرن. كنت قد شاهدت هذه الصورة معلقة لسنوات طويلة في مكاتب مختلفة، لكن في تلك اللحظة فقط كنت حساسا لما تعنيه: من بين الثمانية والأربعين من العاملين الأصليين لم يبق منا أحياء سوي أربعة، وأصغرنا يكمل عقوبة من عشرين عاما سجنا لارتكابه جريمة قتل ذهب ضحيتها عدة أشخاص.
أنهي المدير مكالمته، وفاجأني ناظرا إلي الصورة وابتسم. وقال: الصلبان لم أضعها أنا، وأعتقد أنها تنم عن حس سيئ. جلس إلي المكتب وغير من لهجته: اسمح لي أن أقول إن حضرتك الإنسان الأكثر قدرة علي تقديم المفاجآت. وأمام دهشتي، أعلن مسبقا: أقول هذا بسبب الاستقالة. لم أكد أقول: إنها حياة طويلة. رد هو انه لهذا السبب تماما إنها لم تكن الحل المقبول. لقد رأي أن المقال ممتاز، وكل ما قلته عن الشيخوخة كان أفضل ما قرأه في حياته علي الإطلاق، ولذلك ما كان يجب إنهاؤه بقرار يبدو وكأنه موت مدني. قال: لحسن الحظ، إن رجل التاسعة البغيض، قرأه عندما كان مطبوعا في صفحة الافتتاحيات، ورأي أنه مقال غير مقبول. ودون أن يستشير أحد شطبه من أعلي إلي أسفل بقلمه التفتيشي. وعندما علمت هذا الصباح أمرت بإرسال خطاب احتجاج إلي المحافظة. لقد كان هذا واجبي، ولكن فيما بيننا، أستطيع أن أقول لحضرتك أني أدين بالشكر لتسلط الرقيب. لأنني لم أكن مستعدٌا لقبول رفض المقال. لذلك أرجوك بكل روحي... لا تغادر السفينة في أعالي البحار. وأنهي حديثة بطريقة رائعة: لدينا الكثير لنقوله عن الموسيقي.
رأيت أنه مصٌر علي موقفه، إلي درجة أنني تجرأت علي زيادة حدة الخلاف بسبب مسلٌي. المشكلة، في الحقيقة، أنني لحظتها لم أجد سببا مقبولا لأترك الساقية، وأرعبتني فكرة الموافقة مرة أخري لمجرد كسب الوقت. اضطررت إلي الضغط علي نفسي حتى لا تبدو عليٌ علامات الانفعال التي تكاد تدفعني إلي البكاء. ومرة أخري، كما هو الحال دائما، اتفقنا علي بقاء الحال علي ما هو عليه بعد سنوات طويلة.
الأسبوع التالي، محبوسا في حالة ناتجة عن التشوش أكثر منها عن الفرح، مررت علي حظيرة البلدية لاستلام القط الذي أهداني إياه عمال الطباعة. علاقتي بالحيوانات سيئة جداٌ، نفس سبب علاقتي مع الأطفال قبل أن يبدءوا في تعلم الكلام. أعتقد أن أرواحهم خرساء، وليست أسماعهم، لكني لا أستطيع احتمالهم لأنني لم أتعلم التعامل معهم. أعتقد أنه ليس من الطبيعي أن يتفاهم الإنسان مع كلب أكثر من تفاهمه مع زوجته، وأن يعلمه الأكل والتخلي عن طعامه في ساعات محددة، أن يجيب عن الأسئلة ويشاركه في آلامه. لكن عدم استلام قط الطباعين كان يمكن أن يكون كارثة، بالإضافة إلي أنه كان قطاٌ جميلا، شعره وردي ولامع وعيناه مضيئتان، ومواؤه يكاد يقارب الكلام. وضعوه لي في سلة من القصب مع شهادة بأصله وكتيب لشرح كيفية التعامل معه، تماما كما لو كان دراجة هوائية.
دورية عسكرية كانت تتأكد من هويات المارة قبل تركهم يعبرون حديقة سان نيكولاس العامة. لم أشهد شيئا مماثلا، ولا أن أتخيل شيئا قاتلا مثل علامات شيخوختي. كانت دورية مكونة من أربعة، تحت إمرة ضابط مراهق تقريبا. أعضاء الدورية من أهل الصحراء، صعبي المراس وصامتين وتفوح منهم رائحة كريهة. كان الضابط يراقبهم جميعا بوجنتين محترقتين بفعل التعرض للشمس علي الشواطئ الأندينية. بعد تفحص هويتي وبطاقتي الصحافية سألني عن ما أحمل في السلة. قلت له: قِط. أراد أن يراه. رفعت غطاء السلة بكل الحرص حتى لا يهرب، لكن أحد رجال الدورية أراد أن يري إن كان هناك شيء آخر في داخل السلة، فخربشه القط. تدخل الضابط. قال: إنه نوع رائع. داعبه بينما كان يهمهم بشيء، ولم يهاجمه القط ولا حتى اهتم به. سأل: كم عمره؟، قلت له: لا أعرف. لقد أهدوني إياه علي التو. قال: أسأل حضرتك لأنه يبدو عجوزا، عشر سنوات ربما. أردت أن أسأله كيف عرف ذلك، وأسأله أيضا عن أشياء أخري، لكن طريقته اللطيفة في التعامل وحديثه الطلق لم يجعلاني أشعر بالارتياح للحديث معه. قال: أعتقد أنه قِط مهجور مرٌ بأوضاع سيئة كثيرة. عليك بمراقبته، فهو غير مرتاح لحضرتك لكن حضرتك مرتاح له، اتركه، حتى يكتسب ثقتك. أغلق الضابط السلة، وسألني: ماذا تعمل حضرتك؟. أنا صحافي. منذ متى؟. قلت له: منذ قرن من الزمان. قال هو: لا أشك في ذلك. صافحني وودعني بجملة يمكن أن تعني نصيحة كما تعني تهديدا:
­ احترس كثيرا.
فصلت خط التليفون عند منتصف النهار لأبقي منفردا مع الموسيقي في برنامج لذيذ: رابسودية الكلارنيت وأوركسترا فاجنر، بساكسفون ديبوسي والخماسية الوترية لبروكنر، التي تعتبر فردوسا ساكنا في أعماله. وفجأة وجدت نفسي ملتفٌا في ضباب المكتب. شعرت بشيء ينزلق تحت طاولتي لم يكن يبدو جسدا حيٌا بل حضورا غير طبيعي يلمس قدمي، فقفزت صارخا. لقد كان القط بذيله الجميل المنتفش، وبطئه الغريب وأصالته الأسطورية، ولم أتمكن من التغلب علي الارتعاش خوفا من البقاء وحيدا في البيت مع كائن حي إن لم يكن بشريٌا.
عندما أعلنتْ ساعة الكاتدرائية السابعة، كانت هناك نجمة وحيدة ولامعة في السماء الوردية، وأطلقتْ سفينة صافرة وداع حزينة، وشعرت باختناق كبير في الحلق لقصص الحب التي كان يمكن أن تحدث ولم تحدث. لم أحتمل أكثر من هذا. رفعت سماعة التليفون وقلبي يكاد يقفز من حلقي، ضربت الأرقام الأربعة الأولي ببطء شديد حتى لا أخطئ، وعند دقة الجرس الثالثة تعرفت علي الصوت. قلت لها بزفرة ارتياح: حسن يا امرأة، اغفري لي سخطي هذا الصباح. قالت هي بهدوء: لا عليك، كنت في انتظار مكالمتك. حذرتها: أريد أن تنتظرني الصبية كما جاء بها الله إلي الدنيا وبدون ورنيش علي وجهها. أطلقت ضحكتها الرنانة. وقالت: لك ما تريد، لكنك ستفقد لذة تعريتها قطعة قطعة، كما يحب كبار السن، لا أعرف لماذا يعشقون هذا. قلت لها: أنا أعرف لماذا، لأنهم يشعرون بأنهم أكبر سنا. وافقت علي كلامي.
قالت:
­ حسن، إذن الليلة في العاشرة تماما، قبل أن يبرد الصيد.

1 ­ دقيق يصنع من جذور شجرة استوائية ضخمة يطلقون عليها اسم مانديوكا، قاموس ريال أكاديميا. (المترجم).
2 ­ المملوكي هكذا يسمون الرداء المنزلي في كولومبيا وهو رداء يكون عادة من القطن الخفيف (المترجم).
3 ­الخيولي: يقصد شبه الخيول تعبيرا عن استطالة الوجه عند البعض.
4 ­ نسبة إلي إقليم جليقية أو جاليثيا في الشمال الغربي من إسبانيا، ويعود هذا إلي أن معظم المهاجرين الأسبان في أمريكا اللاتينية ينتمون إلي هذا الإقليم.، وكثير منهم من المبشرين الكاثوليك (المترجم).
5 ­كلمة المية بدلا من المائة مقصودة في الترجمة ،لأن الكاتب حاول أن يدلل بها علي أن دميانة لم تكن تجيد الكتابة فكتبتها خطأ في النص الروائي. (المترجم).
 

****

 *عن ماركيز وعاهراته الحزينات
110 صفحات أصابت العالم بالفرح

عزت القمحاوي
(مصر)

هي حسب مائة وعشر صفحات القي بها جابرييل جارسيا ماركيز الكاتب الأكثر شهرة من بلده. هذه الصفحات التي تكون عمله الجديد 'ذكريات عاهراتي الحزينات' الذي يقع بين النوفيلا والرواية كانت قادرة علي إصابة العالم بالفرح حتى قبل ان تصبح متاحة للقراء!

نجوم الفن اخلوا صفحات المجتمع في الصحف الغربية الكبرى لصالح بورتريهات الكاتب النجم، الذي وفر الي جانب هذا فرصة نادرة لإراحة العالم قليلا من صور بوش وبلير ورجالهما البيض والملونين.

أخبار الرواية صارت حدثا رئيسيا: عناوين طبعاتها في اللغات المختلفة محل بحث، استعدادات المكتبات، اللعب مع القراصنة الذي لعبه ناشرو ماركيز والذي لايختلف عن ألعابه المرحة في الكتابة حيث أعلن نسخة الرواية بفصل أخير غير مكتمل ليكشفوا لهم عن الخطأ المقصود بعد ان باعت الطبعات الرخيصة المقرصنة غير مكتملة بعد أن باعت ثلاثة عشر ألف نسخة في شوارع بوجوتا وحدها. علما بان حصة وطنه الأم كولومبيا من النسخ الشرعية هي 300 ألف نسخة. فكم نسخة ستوزع الرواية في باقي العالم الأسباني وكم في اللغات الأخرى (الحية)

'رجل في التسعين قرر ان يحتفل بعيد ميلاده مع عاهرة عذراء في السادسة عشرة 'هذا هو ما تقدمه الرواية عن الراوي الذي سيستعيد في ذاكرته عددا ضخما من عاهراته الطيبات. ورغم ان عبرة الحكاية في 'كيف تحكي' وليس 'ماذا تحكي' فإن ملخصها كان كافيا للإشارة الي ان ماركيز ظل واقفا طوال هذه السنوات بجوار جميلات كواباتا النائمات، لم يبرح حتى استلهمها، لأنه لم يغفر فيما يبدو للكاتب الياباني الكبير هذه الرواية التي كتب مقدمتها في الطبعة الكولومبية مختلقا حكاية عن 'أجمل امرأة في حياته' التي جاورته في مقعد برحلة طائرة بدأتها بتناول حبة منوم وأتاحت له بكرم كبير فرصة تأملها طوال الرحلة، لكن تلك المقدمة التي تقف بين القصة والمقال لم تشف غليل ماركيز فيما يبدو.

'بيت الجميلات النائمات' الذي ابتناه كواباتا للرجال الذين وصلوا الي سن لم يعودوا فيها خطرين لم يكن يقدم لرواده سوي متعة الحلم في أحضان العذراوات المنومات. ولم يخف ماركيز ولعه برواية كاوباتا، مثلما لم ينكر أستاذية وليم فوكنز، وستعتبر سلوكه هذا درسا. مثلما تلقينا درس تسامح قرائه ومصححي بروفاته مع أخطائه المطبعية التي يعترف بها مستفيدا من نجوميته التي تجعلهم جميعا يرجعون هذه الأخطاء الي سهوه او الي تهيؤاتهم هم أو الي خذلان الأصابع لملكات الكاتب اللغوية (أصابعه إذ ترقم النص علي الآلة الكاتبة(

كم من الكتاب خاصة في عالمنا العربي تعرض لمطاردات شرطة الأدب التي تتبعت بصمات الآخرين في عوالمه وكم كاتبا تعرض للسحل علي أيدي شرطة الأخلاق اللغوية؟ هذه ليس دعوة للتأهل ولكنها مجرد تأملات لفرادة ماركيز الذي روض بألعابه حتى وحوش النقد.

ماركيز ظاهرة خاصة بكل المقاييس، فهو من الكتاب القلائل الذين يجمعون بين النجومية والانتشار الجماهيري الواسع والاحترام النقدي الأكاديمي في الآن ذاته. ورغم انه كتب في مذكراته عن بداياته الشاقة جدا في الصحافة والأدب فإن الحظ كان خلفه منذ نشر 'مائة عام من العزلة' عام 1967 والتي لم يعد بعدها بحاجة الي أكثر من كتابة كتب جديدة ينتظرها قراؤه بشغف وبالتالي كان من القلائل الذين فازوا بجائزة نوبل دون ان تكون هذه الجائزة فاصلا مهما في مسيرتهم الأدبية.

صار ماركيز عنوانا علي مجد الكتابة التي بشر بها الحكيم الفرعوني دون صدي عملي يذكر. ويكفي ان نتذكر كافكا ومارسيل بروست وفرناندو بيسوا، لكي نري كيف ظلت الكتابة العظيمة نقيضا لحيوات كتابها البائسة لكن الأمر بدا مع ماركيز وكأن القدر اختاره لتعويض كل الألم الكبار السابقين.

وهاهو يجبر العالم علي التوقف ولو للحظة ليتلقي صفحاته المائة والعشر التي جاءت بعد عشر سنوات علي روايته 'عن الحب وشياطين اخري' لكنه لم يكن عاطلا علي آية حال إذ اصدر المجند الاول من سيرته 'أن تعيش لتحكي'.

عندما صدرت الحب وشياطين اخري عام 1994 كان هناك ما يشبه الاعتقاد بأنها ستكون العمل الأخير لماركيز الذي يعاني من سرطان في الغدد الليمفاوية. وفي العام 2000 عندما ساد اعتقاد بأنه اقرب ما يكون الي الموت تسربت في احدي صحف البيرو 'رسالة وداع' قلد فيها كاتب محترف أسلوب ماركيز مودعا العالم وأصدقائه، وسرعان ما انتشرت الرسالة علي مئات المواقع بالانترنت ووجدت الطريق الي الترجمة بنفس السرعة والولع الذي تترجم به رواياته قبل ان يعلن انها مدسوسة عليه، بينما كان يقوم بزيارات منتظمة الي كاليفورنيا من اجل العلاج، ويكتب مذكراته التي لخصت حكمة وجوده: ان يروي الحكايات ببساطة أسرة أسست واقعيته السحرية الخاصة جدا داخل تيار الواقعية السحرية الذي يطبع أعمال عديد من أسلافه ومجايليه في أمريكا اللاتينية.

لم تعد الواقعية السحرية مع ماركيز بحاجة الي رجال يطيرون فالسحر موجود في الحياة بالبساطة التي تتواجد بها القوانين والظواهر العلمية. تكفي دهشة الكاتب الخاصة وحسه العالي بالمفارقة وقدرته علي اللعب التي تجسد 'خفة الكائن' تخييلا وليس تنظيرا كما يفعل التشيكي ميلان كونديرا.

هذه الخفة تتجلي في أعماله مهما كان موضوعها، حيث لايتخلي الفرح عن أبطاله في أكثر اللحظات بؤسا، لان ماركيز يعرف كيف يوقظ الأسباب الصغيرة التي تستحق الحياة ان تعاش لأجلها لهذا فإن أحدا لم يأخذ صفة الحزن في عنوان الرواية الجديدة مأخذ الجد.

اخبار الأدب- 21 نوفمبر 2004