النقد الثقافى العربى فى الفضاء المعلوماتى

(المدونات المصرية نموذجاً)

السيد يسين
أستاذ علم الاجتماع السياسى
مستشار
مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

القاهرة
يناير 2010

المحتويات

مقدمة:
القسم الأول:

صعود مجتمع المعلومات العالمى
ومنهجية التحليل الثقافى


أولاً: سمات مجتمع المعلومات العالمى.
ثانياً: الثورة المعلوماتية وإشكاليات مجتمع المعلومات العالمى.
ثالثا: النموذج الشبكى: التشكيلات الاجتماعية فى عصر المعلومات.
رابعاً: التحليل الثقافى.

القسم الثانى:

تحليل ثقافى للمدونات والمدونين

  1. محاولة لاكتشاف قارة التدوين المجهولة.
  2. لسباحة العشوائية فى محيط الإنترنت.
  3. من عشوائية التدوين إلى فوضى الفيس بوك.
  4. التحول الديموقراطى والركود السياسى.
  5. مدونون مغتربون.
  6. مدونون سياسيون يبحثون عن اليقين.
  7. انهيار المجال العام وصعود الفضاء المعلوماتى.
  8. التدوين وديمقراطية الفضاء المعلوماتى.

مقدمة:

يمكن القول أننا نعيش في بداية الألفية الثالثة عصر العولمة بكل أبعاده. والعولمة – لو شئنا أن تقدم لها تعريفاً إجرائياً – لقلنا أنها "سرعة تدفق السلع ورؤوس الأموال والأفكار والخدمات والبشر من مكان إلى مكان بغير حدود ولا قيود".
ولا شك أن هناك علاقة وثيقة بين الثورة المعلوماتية الكبرى والتى تتمثل في البث الفضائى عن طريق الأقمار الصناعية وشبكة الإنترنت وبين العولمة.
ذلك أن هذه الثورة المعلوماتية عمقت من التجليات السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية للعولمة. لأن العالم أصبح متصلاً Connected ببعضه على مستوى الدول والحكومات والشعوب والأفراد.
ونشأ ما يطلق عليه نموذج المجتمع الشبكى Network Society حيث تفيض فيه التدفقات المتنوعة وتتفاعل الأفكار والآراء، وتتبلور سياسات الحكومات، وتنمو في نفس الوقت حركات الاحتجاج الإلكترونية.
وقد برزت في إطار هذا المجتمع الشبكى ظاهرة التدوين وبرز نوع جديد من المثقفين هم المدونون.
والدراسة الاستطلاعية الراهنة محاولة أولى للاقتراب من قارة التدوين المجهولة وهى تنقسم إلى قسمين، القسم الأول صعود مجتمع المعلومات العالمى ومنهجية التحليل الثقافى والقسم الثانى تحليل ثقافى للمدونات والمدونين

القسم الأول
صعود مجتمع المعلومات العالمى
ومنهجية التحليل الثقافى

أولاً: مجتمع المعلومات العالمى:

من أهم التغيرات التى لحقت ببنية المجتمع العالمى الانتقال من المجتمع الصناعى إلى مجتمع المعلومات العالمى Global Information Society
ويمكن القول أن مجتمع المعلومات يأتى بعد مراحل مر فيها التاريخ الإنسانى، وتميزت كل مرحلة بنوع من أنواع التكنولوجيا يتفق معها. شهدت الإنسانية من قبل تكنولوجيا الصيد، ثم تكنولوجيا الزراعة، وبعدها تكنولوجيا الصناعة، ثم وصلنا أخيراً إلى تكنولوجيا المعلومات.
ويمكن القول أن سمات مجتمع المعلومات تستمد أساساً من سمات تكنولوجيا المعلومات ذاتها، والتى يمكن إجمالها فى ثلاث:

أولاها: أن المعلومات غير قابلة للاستهلاك أو التحول أو التفتت، لأنها تراكمية بحسب التعريف، وأكثر الوسائل فعالية لتجميعها وتوزيعها، تقوم على أساس المشاركة فى عملية التجميع، والاستخدام العام والمشترك لها بواسطة المواطنين.
وثانيهما: أن قيمة المعلومات هى استبعاد عدم التأكد، وتنمية قدرة الإنسانية على اختيار أكثر القرارات فعالية.
وثالثهما: أن سر الوقع الاجتماعى العميق لتكنولوجيا المعلومات، أنها تقوم على أساس التركيز على العمل الذهنى (أو ما يطلق عليه أتمته الذكاء)، وتعميق العمل الذهنى (من خلال إبداع المعرفة، وحل المشكلات، وتنمية الفرص المتعددة أمام الإنسان)، والتجديد فى صياغة الأنساق، وتعنى بتطوير النسق الاجتماعى.

ويلخص بعض الباحثين إطار مجتمع المعلومات فى الملامح التالية:

  1. المنفعة المعلوماتية (من خلال إنشاء بنية تحتية معلوماتية تقوم على أساس الحواسب الآلية العامة المتاحة لكل الناس) فى صورة شبكات المعلومات المختلفة، وبنوك المعلومات، والتى ستصبح هى بذاتها رمز المجتمع.
  2. الصناعة القائدة ستكون هى صناعة المعلومات التى ستهيمن على البناء الصناعى.
  3. سيتحول النظام السياسى لكى تسوده الديمقراطية التشاركية، ونعنى السياسات التى تنهض على أساس الإدارة الذاتية التى يقوم بها المواطنون، والمبنية على الاتفاق، وضبط النوازع الإنسانية، والتأليف الخلاق بين العناصر المختلفة.
  4. سيتشكل البناء الاجتماعى من مجتمعات محلية متعددة المراكز، ومتكاملة بطريقة طوعية.
  5. ستتغير القيم الإنسانية وتتحول من التركيز على الاستهلاك المادى، إلى إشباع الإنجاز المتعلق بتحقيق الأهداف.
  6. أعلى درجة متقدمة من مجتمع المعلومات، ستتمثل فى مرحلة تتسم بإبداع المعرفة من خلال مشاركة جماهيرية فعالة، والهدف النهائى منها هو التشكيل الكامل لمجتمع المعلومات الكونى.

وقد يبدو أن هذه الصورة التى رسمناها ليست سوى ضرب من الأحلام، غير أن مجتمع المعلومات الكونى، ليس فى الواقع حلماً، بقدر ما هو مفهوم واقعى، سيكون هو المرحلة الأخيرة من مراحل تطور مجتمع المعلومات. وهناك ثلاثة أدلة تؤكد هذا القول:

أولها: أن العولمة Globalization ستصبح هى روح الزمن فى مجتمع المعلومات القادم. ويرجع ذلك إلى الأزمات الكونية المتعلقة بالنقص فى الموارد الطبيعية وتدمير البيئة الطبيعية، والانفجار السكانى، والفجوات العميقة الاقتصادية، والثقافية بين الشمال والجنوب.
وثانيهما: أن تنمية شبكات المعلومات الكونية، باستخدام الحواسب الآلية المرتبطة ببعضها عالمياً، وكذلك الأقمار الصناعية، ستؤدى إلى تحسين وسائل تبادل المعلومات، وتعمق الفهم، مما من شأنه أن يتجاوز المصالح القومية والثقافية والمصالح الأخرى المتباينة.
وثالثها: أن إنتاج السلع المعلوماتية سيتجاوز إنتاج السلع المادية، بالنظر إلى قيمتها الاقتصادية الإجمالية، وسيتحول النظام الاقتصادى من نظام تنافسى يقوم على السعى إلى الربح إلى نظام تأليفى ذى طابع اجتماعى يسهم فيه الجميع.

غير أنه لا ينبغى أن يقر فى الأذهان، أن تشكيل مجتمع المعلومات الكونى عملية هينة وذلك أنه يقف دونها تحديات عظمى، ينبغى مواجهتها. وأول هذه التحديات المعركة الدائرة الآن حول "ديمقراطية المعلومات"، والتى هى الشرط الموضوعى الذى لابد من توفره، وذلك لتفادى الشمولية والسلطوية.
وديمقراطية المعلومات تنهض على أساس أربعة مقومات. أولها: حماية خصوصية الأفراد، وتعنى الحق الإنسانى للفرد لكى يصون حياته الخاصة ويحجبها عن الآخرين. والمقوم الثانى هو الحق فى المعرفة، ونعنى حق المواطنين فى معرفة كل ضروب المعلومات الحكومية السرية، التى قد تؤثر على مصائر الناس تأثيراً جسيماً. ونأتى بعد ذلك إلى حق استخدام المعلومات. ونعنى بذلك حق كل مواطن فى أن يستخدم شبكات المعلومات المتاحة وبنوك البيانات، بسعر رخيص، وفى كل مكان، وفى أى وقت. وأخيراً نصل إلى ذروة مستويات ديمقراطية الإعلام، ونعنى حق المواطن فى الاشتراك المباشر فى إدارة البنية التحتية للإعلام الكونى، ومن أبرزها عملية صنع القرار على كل المستويات المحلية والحكومية والكونية.
وثانى التحديات التى تواجه تشكيل مجتمع المعلومات الكونى، هو تنمية الذكاء الكونى، وهو يعنى القدرة التكيفية للمواطنين فى مواجهة الظروف الكونية المتغيرة بسرعة. والذكاء يمكن تعريفه – بشكل عام – بأنه القدرة على الاختيار العقلانى للفعل الإنسانى لحل المشكلات. ويبدأ الذكاء بالمستوى الشخصى لدى الأفراد، ثم يتطور ويتعمق إلى مستوى الذكاء الجمعى. وداخل الجماعة يفترض أن الذكاء الشخصى للأفراد سيتألف وينسق بينه لتحقيق الأهداف العامة لتغيير البيئة الاجتماعية، وهو ما يطلق عليه الذكاء الاجتماعى. وهو بذاته الذى يمكن أن يتطور ليصبح ذكاء كونياً، والذى سيتشكل من خلال الفهم الكونى المتبادل، الموجه لحل المشكلات الكونية، كما ظهر أخيراً فى الجهود العالمية لمواجهة أزمة البيئة الإنسانية، التى تشارك فيها مختلف الدول فى الوقت الراهن. ويصلح موضوع البيئة مثالاً نموذجياً لإبراز تبلور الوعى الكونى، بعدما ظهرت النتائج السلبية لمجتمع الصناعة، وما أفرزه من ضروب متنوعة من تلوث الماء والهواء والتربة. ومن المؤكد أننا سنشهد فى وقت قريب تشريعات قطرية ملزمة، وتشريعات دولية، سيكون من شأنها إدخال تعديلات جذرية على أدوات الإنتاج السائدة. ومن هنا يحق لنا القول، أنه وعلى عكس ما يبدو حديثاً نظرياً فإننا نشهد فى الوقت الراهن بدايات تشكل الوعى الكونى والذى لم يبرز فقط فى موضوع البيئة، وإنما وربما أهم من ذلك، ظهر فى موضوع القضاء على الأسلحة الذرية والكيماوية وتدميرها، خلاصاً من سيناريو فناء البشرية، والذى كان سائداً فى عصر توازن الرعب النووى. هذا الوعى الكونى الذى يتعمق كل يوم، ليس فى الواقع سوى التعبير الأمثل عن نشوء مجتمع المعلومات العالمى.

ثانيا: الثورة المعلوماتية وإشكاليات مجتمع المعلومات العالمى:

ما ذكرناه بصدد مجتمع المعلومات العالمى لا يعنى أن هناك إجماعا بين الباحثين حوله، أو حتى حول إمكانية تحقيق مجتمع المعلومات العالمى.
ويرد ذلك إلى أن هناك خلافات شتى بين الباحثين حول توصيف الثورة المعلوماتية ذاتها، وبصدد مجتمع المعلومات العالمى، وهل هو مجرد صيغة نظرية، أو هو محض إيديولوجيا يروج لها عدد من الباحثين، بالإضافة إلى الشركات الكبرى العاملة فى ميدان تكنولوجيا الاتصالات.
وإذا رجعنا إلى كتاب "الثورة المعلوماتية" الذى كتبه باللغة الفرنسية عالم الاجتماع جان لوجكين (الناشر: المطابع الجامعية الفرنسية، 1992) نجده يقرر منذ البداية فى المقدمة أن الثورة المعلوماتية، والتى ما زالت فى بداياتها الأولى، هى أساسا ثورة تكنولوجية حلت محل الثورة الصناعية، وتمثل فى الواقع حضارة جديدة ستتجاوز التقسيمات الطبقية القديمة التى سادت فى المجتمعات الطبقية،وميزت بين من ينتجون إنتاجا مباشرا ومن يديرون عملية الإنتاج.
وعلى هذا، فتقسيم العمل القديم بين من يفكرون فى سياق عملية الإنتاج وبين المستبعدين من عملية التفكير سقط، لأنه سيظهر تقسيم جديد للعمل بحكم طبيعة الثورة المعلوماتية ذاتها. فنحن الآن أمام عملية جديدة تماما ، هى إنتاج المعلومات، وهكذا نشأ تقسيم جديد للعمل بين هؤلاء المنغمسين فى الإنتاج المادى وأولئك المختصين بمعالجة المعلومات.
ويتساءل لوجكين، كيف يمكن توصيف هذه الثورة ؟
هل هى كما يتردد فى بعض الكتابات "ثورة صناعية ثانية" أو ثورة علمية وتكنيكية" أو "ثورة معلوماتية” ؟
وهو يقرر أن الوصف الصحيح لها أنها ثورة معلوماتية، وذلك بناء على تحليله المتعمق للثورة الصناعية، ومقارنتها بصورة منهجية دقيقة مع الثورة التكنولوجية الراهنة.
والواقع أن العلم الاجتماعى بكل فروعه نشط فى العقدين الأخيرين فى دراسة وتحليل كل أبعاد التغيرات العميقة فى مجال بنية الاقتصاد العالمى، التى غيرت منها بصورة جوهرية ظاهرة العولمة بكل أبعادها، بالإضافة إلى تحليلات عميقة للثورة المعلوماتية وأدوات الاتصال الحديثة.
وتبرز من بين هذه الأعمال العلمية مؤلفات تتسم بتبنى منهج علمى اجتماعى شامل، يستفيد من تعدد المداخل العلمية، ومن أبرزها كتاب الباحث الفرنسى فيليب انجلهارت "الإنسان العالمى" الصادر فى باريس عام 1996، والذى يحمل عنوانا فرعيا دالا هو "هل يمكن للمجتمعات الإنسانية أن تواصل البقاء؟" ويقصد فى ظل التغيرات الكبرى التى حدثت فى العقود الأخيرة. وهو يدرس فى قسم أول انتصار الأبعاد الاقتصادية والمالية فى المجتمع الإنسانى المعاصر، وهو الذى أدى - كما يحلل فى القسم الثانى من كتابه - إلى هبوط الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية والتى تمثل فى الواقع أزمة فى مجال الحداثة الغربية.
وهذا يدعو إلى ضرورة "إعادة بناء المجتمع" من خلال رد الاعتبار للأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية.
ويبدو عمق تحليل انجلهارت فى أن العولمة بشعاراتها الصاخبة حول حرية السوق وحرية التجارة وحرية انتقال رؤوس الأموال وضرورة الخصخصة وتشجيع الحافز الفردى إلى غير ما حدود، قد أدت سياسيا إلى الدعوة لتقليص سيادة الدولة من ناحية، ودفعها للانسحاب من مجال الرعاية الاجتماعية للمواطنين، بالإضافة إلى إعلاء الربحية على كل القيم الثقافية والاجتماعية. ومن شأن هذه التطورات تخليق مجتمعات خالية من المضمون الثقافى والاجتماعى، بالإضافة إلى عدم الاهتمام بالإفقار المتزايد لملايين المواطنين فى العالم ممن ينتسبون إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة. وهى نتيجة بائسة تدل على عقم اختيارات العولمة المتوحشة.
ومن هنا تصاعدت الدعوات لإعادة صياغة سياسات العولمة لتصبح ذات وجه إنسانى.
ومن ناحية أخرى، اهتمت بعض الأبحاث المتعمقة بتشريح "بنية الرأسمالية الجديدة" الصاعدة والتى تقع فى قلب ظاهرة العولمة، وبيان مفاهيمها وآلياتها، التى تختلف عن الرأسمالية الدولية السابقة. ومن أبرز المراجع فى هذا الموضوع كتاب الباحثين الفرنسيين بولتانسكى وشيايللو "الروح الجديدة للرأسمالية" الصادر فى باريس عام، 1999 والذى يتضمن تحليلا متعمقا نادرا لظاهرة الرأسمالية الجديدة.
غير أنه يمكن القول أن أبرز إنجاز نظرى على الإطلاق فى دراسة التغيرات الكبرى فى العالم حققه عالم اجتماع أمريكى من أصل أسبانى هو مانويل كاستلز، الذى أخرج فى عام 1996 ثلاثية فريدة تتضمن أشمل نظرية حتى الآن فى تحليل وفهم عصر المعلومات. وعنوان كتابه "عصر المعلومات: الاقتصاد والمجتمع والثقافة" ويقع فى ثلاثة أجزاء : الجزء الأول "صعود المجتمع الشبكى" والجزء الثانى عنوانه "قوة الهوية" والثالث عنوانه "نهاية الألفية".
وقد صدر الكتاب عن دار نشر بلاكويل عام 1996، وهذا الكتاب بإجماع النقاد والباحثين، يتضمن النظرية العامة التى تفسر كل أبعاد عصر المعلومات من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولذلك سنعتمد عليه اعتمادا أساسيا فى حديثنا عن التشكيلات الاجتماعية فى عصر المعلومات.

* * *

وقد يكون من المناسب قبل أن ندخل فى صميم مشكلة البحث أن نكيف طبيعة المرحلة التاريخية التى يمر بها المجتمع العالمى فى الوقت الراهن. ويمكن فى هذا المجال -كما فعل كاستلز- أن نعتمد على مفهوم النموذج Paradigm الذى ابتكره فيلسوف العلم الأمريكى "توماس كون" فى كتابه الشهير "بنية الثورات العلمية". ومفهوم النموذج لدى" كون" له تعريفات متعددة، يمكن لنا أن نختار منها تعريفا يقول أن النموذج "هو إجماع المجتمع العلمى فى مرحلة تاريخية معينة على طريقه خاصة لوضع المشكلات البحثية، ومناهج محددة لدراستها".
كان توماس كون معنيا بدراسة ما الذى يكمن وراء التقدم العلمى؟ وقد أجاب أنه هو ذلك النموذج الإرشادى أو القياسى الذى يعتمد عليه المجتمع العلمى، غير أنه بعد فترة تتآكل قدرته على التصدى للمشكلات وبحثها، فيسقط، وندخل فى مرحلة يطلق عليها "أزمة النموذج" إلى أن يصعد نموذج إرشادى جديد يتصدى بكفاءة لبحث المشكلات المطروحة، ثم بعد مرحلة تاريخية تتآكل قدرته فيسقط، ثم ندخل فى مرحلة الأزمة ، ومن بعد يظهر نموذج جديد، وهكذا يتقدم العلم.
ويمكن القول أنه منذ أن ابتكر "توماس كون" مفهوم النموذج الإرشادى، أصبح أداة رئيسية فى كل العلوم الاجتماعية لتوصيف مراحل تطورها المختلفة، بالإضافة إلى وصف وتحليل تطور الظواهر المختلفة على تنوعها، وفهم تحولاتها وتغيراتها.
ويعتمد كاستلز على مفهوم النموذج الإرشادى، لكى يحلل اللحظة الراهنة فى التطور العالمى. فيتحدث فى الجزء الأول من كتابه عن "نموذج تكنولوجيا المعلومات وسماته.
ويقرر أن الباحث كريستوفر فريمان يعرف النموذج التكنيكى الإقتصادى بأنه "مصفوفة من التجديدات المترابطة التكنيكية والتنظيمية والإدارية، والتى تتمثل فوائدها ليس فقط فى مجال إنتاج مجموعة من المنتجات والنظم، بل أهم من ذلك فى ديناميات بنية التكلفة النسبية لكل المدخلات الممكنة فى الإنتاج. وفى أى نموذج إرشادى جديد يمكن أن يوصف مدخل محدد أو مجموعة من المدخلات باعتبارها "العامل الرئيسى" فى النموذج. ومن هنا يمكن القول أن التغير المعاصر فى النموذج الإرشادى يتمثل فى الإنتقال من تكنولوجيا تقوم فى المقام الأول على مدخلات رخيصة للطاقة إلى نموذج جديد يقوم على أساس مدخلات رخيصة من المعلومات، مستقاة من التقدم فى مجال تكنولوجيا الإلكترونيات والاتصالات.
ويطرح كاستلز السؤال: ما هى السمات التى تمثل جوهر نموذج تكنولوجيا المعلومات والتى حين ينظر إليها مجتمعه تكون فى الواقع الأساس المادى لمجتمع المعلومات؟ يجمل كاستلز هذه السمات فى خمس أساسية:

السمة الأولى للنموذج الجديد أن المعلومات هى مادته الخام .
والسمة الثانية هى الطابع الإنتشارى لآثار التكنولوجيات الجديدة، ونظرا لأن المعلومات جزء أساسى فى كل الأنشطة الإنسانية، فإن كل العمليات المتعلقة بوجودنا الفردى والجماعى تتشكل مباشرة بواسطتها.
السمة الثالثة تشير إلى المنطق الشبكى networking Logic لأى نظام أو مجموعة من العلاقات تستخدم تكنولوجيات المعلومات الجديدة.
السمة الرابعة أن النموذج الجديد يقوم على المرونة Flexibilty
والسمة الخامسة والأخيرة لهذه الثورة التكنولوجية هى ذلك الميل المتزايد لتحول تكنولوجيات محددة لكى تندرج فى إطار نظام متكامل بصورة كبيرة.
إذا كانت هذه هى سمات نموذج تكنولوجيا المعلومات والذى هو الأساس الذى ينهض على أساسه مجتمع المعلومات العالمى، فإنه يلفت النظر أن بعض العلماء الاجتماعيين يوجهون النقد إلى نظرية مجتمع المعلومات. ومن أبرز هؤلاء نيكولاس جرانهام فى دراسته المثيرة وعنوانها:" مجتمع المعلومات كنظرية أو إيديولوجية: منظور نقدى للتكنولوجيا والتعليم والعمالة فى عصر المعلومات".
وهو يقرر أن مفهوم مجتمع المعلومات لا يصلح كنظرية، لأنه يتسم داخليا بعدم الاتساق، ولا تؤيده الشواهد العملية. وأن تفسير شيوعه فى الخطاب الخاص بالسياسات لا يمكن تفسيره إلا على أساس إيديولوجى. ذلك أن التركيز على مؤسسات التعليم العالى بزعم ضرورة الاهتمام بتكوين الرأسمال الإنسانى، بما يتضمنه ذلك من رفع الكفاءة على أساس نمو المعرفة، وأهمية ذلك للدخول فى المنافسة العالمية، وما يؤدى إليه ذلك من التوسع فى إنشاء جامعات افتراضية Virtual لا أساس له إذا نظرنا إلى حقائق سوق العمل.
ولن نستطيع نظرا لضيق المقام الدخول فى تفاصيل هذا الجدل الهام فى حد ذاته، وهو يستحق فى الواقع دراسة مستقلة.

ثالثا : النموذج الشبكى : التشكيلات الاجتماعية فى عصر المعلومات

سنعتمد فى عرض أبعاد النموذج الشبكى على القراءة النقدية الممتازة التى قام بها فليكس ستادلر لنظرية كاستلز التى بسطها فى أجزاء كتابه الثلاثة، والتى يمثل استخلاص معالمها الرئيسية عبئا نظريا هائلا ، نظرا لتشعب أبحاثه وتعمقها فى نفس الوقت. وقد نشر ستادلر مقالته فى مجلة "مجتمع المعلومات".
تقوم الفكرة الأساسية لكاستلز على أساس أنه نشأت صورة جديدة من صور الرأسمالية فى نهاية القرن العشرين تتسم بكونها كونية فى طابعها، عنيفة فى تحقيق أهدافها، ومرنة فى نفس الوقت، بصورة تفوق الصور السابقة للرأسمالية. غير أنه تتحداها على مستوى الكوكب مجموعات متعددة من الحركات الاجتماعية باسم التفرد الثقافى، ونزوع الناس إلى أن يسيطروا على حيواتهم وبيئتهم. وهذا التوتر بين الرأسمالية وهذه الحركات الاجتماعية هو الذى يميز الديناميكية المركزية لعصر المعلومات. وذلك لكون مجتمعاتنا - كما يقرر كاستلز - تتمأسس بإطراد حول التعارض الثنائى بين الشبكة Net والذات Self. (تراجع بهذا الصدد مقالة هامة منشورة على الإنترنت للباحث الهندى برابا هــــاران A. Prabaharan بعنوان " الشبكة ، والذات والمجتمع : نماذج ثقافية بازغة " .
والشبكة تمثل فى الواقع التشكيلات التنظيمية الجديدة المبنية على أساس الاستخدام الواسع لوسائل الاتصال المتشابكة .
والنماذج الشبكية تعد سمة من سمات القطاعات الاقتصادية الأكثر تقدما ، والشركات الداخلة فى مجال التنافس العالمى الشديد ، كما هو الحال بالنسبة للمجتمعات المحلية والحركات الاجتماعية .
أما الذات أو النفس Sell فترمز إلى الأنشطة التى يحاول الناس من خلال ممارستها تأكيد هويتهم فى ظروف التغير البنيوى الذى يمر بالعالم، والذى يتسم بعدم الاستقرار، الذى يتزامن مع تنظيم الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية من خلال الشبكات الديناميكية.
وتبرز تشكيلات اجتماعية جديدة تتمحور حول الهويات الأولية Primary identites والتى قد تكون دينية أو إثنية أو إقليمية أو قوية كمناط للتركيز .
وهذه الهويات ينظر إليها باعتبارها من وجهة النظر البيولوجية أو الاجتماعية غير قابلة للتغيير، وهى تقف بهذه الصورة فى تضاد مع التغيرات الاجتماعية سريعة الإيقاع .
وفى هذا التفاعل بين الشبكة والذات، فإن شرط الحياة الإنسانية والخبرة على مستوى العالم يعاد تشكيلها بصورة جذرية وعميقة .
ويقوم تحليل كاستلز على أساس فرض يذهب إلى "نشوء مجتمع جديد ." والمجتمع الجديد كما يقرر "ينشأ حين يلاحظ تحول بنيوى فى علاقات الإنتاج ، وعلاقات القوة ، وفى علاقات الخبرة " .
ويمكننا فى هذه المرحلة من عرض أفكار كاستلز أن نطرح سؤالا رئيسيا هو ما هى الافتراضات النظرية له ؟

  • الفرض الرئيسى عنده هو التعارض الديالكتيكى بين الشبكة والذات والذى يقوم على أساس التداخل القوى بين إفتراضين نظريين. الأول منهما يتركز حول نشأة الشبكة، حيث يشير إلى التفاعل الجدلى بين العلاقات الاجتماعية والتجديد التكنولوجى أو بمصطلحات كاستلز أنماط الإنتاج modes of production وأنماط التنميةmodes of development .
  • والافتراض الثانى يركز على أهمية الذات ، ويعنى بذلك الطريقة التى يعرف بها الناس هوياتهم مما يؤثر على ملامح مؤسسات المجتمع .

وبالنسبة للإفتراض الأول يمكن القول أن التطور الرأسمالى لأنماط الإنتاج تحركه النزعة للنجاح فى مجال ضغوط المنافسة ، وذلك فى حين أن أنماط التنمية تتطور طبقا لمنطقها الخاص ، لأنها لا تستجيب بشكل آلى للضرورات الاقتصادية .
فالتجديدات التكنولوجية تبزغ من التفاعل بين الكشوف العلمية والتكنولوجية والإدماج التنظيمى لهذه الاكتشافات فى عملية الإنتاج والإدارة .
ويشير ستادلر إلى أن هذه التفرقة بين نمط الإنتاج ونمط التنمية قريبة الشبه من التفرقة التى قال بها من قبل الفيلسوف الفرنسى الماركسى المعروف لويس التوسير حين ميز بين علاقات الإنتاج (الطبقات ) وقوى الإنتاج ( التكنيك ) .
أما الافتراض الثانى الذى وجه بحوث كاستلز فهو دور الهوية فى التنمية المجتمعية . وفى رأيه أن بناء الهوية فى ذاته واقع ديناميكى فى تشكيل المجتمع . والهوية عنده هى " عملية بناء المعنى على أساس سمة ثقافية مفردة ، أو منظومة من السمات الثقافية ، والتى تعطى بها الأسبقية على باقى المصادر المنتجة للمعنى".
وفى ضوء ذلك يصوغ فرضا مؤداه " أن من يبنى هوية جماعية يحدد إلى حد كبير المضمون الرمزى لهذه الهوية ومعناها بالنسبة لهؤلاء الذين يتوحدون مع هذه الهوية ، أو الذين يعتبرون أنفسهم خارج دائرتها " .
وتأثرا بنظريات عالم الاجتماع الفرنسى آلان تورين يحدد كاستلز ثلاثة أنماط من الهوية كما يلى :

أولا هوية إضفاء الشرعية Legitimizing identity والتى تصوغها المؤسسات المسيطرة فى المجتمع لتبسط من نطاق سيطرتها على الفاعلين الاجتماعيين ولتبرير هذه السيطرة .
ثانيا الهوية المقاومة Resistance identity وهى تلك الهوية التى ينتجها هؤلاء الفاعلين الذين يجدون أنفسهم مستبعدين بحكم منطق السيطرة . وتؤدى هوية المقاومة إلى تشكيل كوميونات Communes أو مجتمعات محلية، كطريقة للتعامل مع ظروف القهر، والتى لا يمكن أن تحتمل إلا بهذه الطريقة .
ثالثا : هوية المشروع Project identity والتى تنتجها الحركات التى تطمح إلى تغيير المجتمع ككل ، أكثر من كونها وسيلة لتأسيس الشروط التى تسمح لها بالبقاء فى وضع المعارضة للفاعلين المهيمنين .
وحين يتعرض كاستلز للمجتمع الشبكى فهو يحلل السمات الرئيسية للظرف الاقتصادى الجديد، والذى يتسم بظهور الاقتصاد المعلوماتى والكونى على حد سواء. هو معلوماتى أولا لأن التنافس بين فاعلية الرئيسيين ( الشركات والمناطق والأمم ) تعتمد على قدراتها فى توليد المعلومات الإليكترونية . وهو كونى ثانيا لأن أهم جوانبه سواء فى مجال التمويل أو الإنتاج تنظم على أساس كونى . ولعل أهم ما يميز هذا الاقتصاد الجديد " أن لديه القدرة على أن يعمل كوحدة فى الزمن الواقعى على صعيد كونى " .
ويمكن القول أن الموضوع الرئيسى الذى يكمن وراء تغلغل الاقتصاد الجديد فى مناطق متنوعة من العالم ، وفى نماذج قطاعية شملتها موجات التغير الاقتصادى، هو أنها تستخدم نفس تكنولوجيا المعلومات، وذلك فى ميادين أعمال تختلف اختلافات جوهرية فى سياقاتها التاريخية .
ويقدم كاستلز بهذا الصدد مفهوما جديدا ، حين يركز على ظهور ما يسميه "فضاء التدفقات" Space of flows ويعنى به الشبكة الكونية المترابطة . وهذه الشبكة تضم عناصر متعددة مرتبطة ببعضها البعض، مثل الشبكات الخاصة ، وشبكات الشركات ،والشبكات شبه العامة والشبكات المغلقة ، مثل الشبكات المالية ، والشبكات العامة وطبعا شبكة الإنترنت . وفى تقديره أن المنظمات الاجتماعية تعيد صياغة نفسها طبقا لفضاء التدفقات .
وفضاء التدفقات هو الذى يعبر عن المنطق الاجتماعى السائد فى المجتمع الشبكى. وعلى سبيل المثال فإن الأسواق المالية أصبحت هى الحدث المركزى فى الاقتصاد الجديد الذى تتبعه باقى الأنشطة الاقتصادية .
وتتزايد أهمية فضاء التدفقات المعقد والذى تتركز فيه القوة إلى حد يمكن معه القول أن "قوة التدفقات تسبق تدفقات القوة !".
ونصل فى النهاية إلى المشكلة الحقيقية التى تجابه الناس فى تعاملهم مع مجتمع المعلومات العالمى ، وهى أن المنطق الاجتماعى السائد تشكله " الافتراضية الواقعية " real Virtuality الذى يسم فضاء التدفقات ، فى حين أنهم يعيشون فى العالم الواقعى، أى فى فضاء الأمكنة المسكونة بالفعل. وهكذا ينشأ نوع من الشيزوفيرنيا البنيوية Structural schizophrenia ، حيث يتصادم منطقان مكانيان وزمنيان، مما يحدث اضطرابات عميقة فى الثقافات على مستوى الكوكب . وهكذا يفقد الناس إحساسهم بذواتهم ويحاولون استعادة هوياتهم من خلال صياغات ونماذج جديدة .

رابعاً: التحليل الثقافى:

يمكن القول أن التحليلات المعاصرة للشئون الإنسانية مؤسسة على هدى التجربة الخاصة ببعض البلاد، كما هو الحال حين سيطرت نزعة المركزية الأوروبية على اتجاهات ونظريات العلم الاجتماعى الغربى، بحيث كانت أوروبا هى المقياس والمعيار فى الحكم على تقدم المجتمعات ورقى الثقافات، أو على أساس مصالح بعض القوى العظمى، كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فى الوقت الراهن.
وهذا الوضع فى حد ذاته يضع تحدياً أمام هؤلاء الباحثين الذين يحسون بالحاجة إلى منظور أكثر شمولية وقدرة على أن يسع الحياة السياسية المعاصرة. وهذا التحدى يمكن مواجهته بالاعتماد على مفهوم "الثقافة" وما يستدعيه من مفاهيم تنتمى لنفس الفضاء مثل مفاهيم "التمركز حول السلالة" "القومية"، أو على مفهوم "الإيديولوجية" والذى يثير العلاقة المركبة بين خطابات محددة وأشكال معينة من القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية.
فالدعوة الأمريكية مثلاً لنظام عالمى جديد، لا يمكن – فى تقديرنا – فهم دواعيها واتجاهاتها وأهدافها، بغير تحليل ثقافى شامل، يقوم بتفكيك خطاب الهيمنة الجديد، فى ضوء الإيديولوجية التى يصدر عنها، والثقافة التى نبع من بين جنباتها.
ويمكن القول أن منهجية التحليل الثقافى لم تتبلور إلا فى العقود الأخيرة، نتيجة إسهامات مجموعة من كبار المنظرين فى العلم الاجتماعى الغربى، أبرزهم ميشيل فوكو الفرنسى، وهابرماس الألمانى، وبيتر برجر الأمريكى، ومارى دوجلاس الأمريكية الإنجليزية الأصل، ويمكن أن يضاف إليهم أيضاً دريدا الفرنسى. غير أن أهمية التحليل الثقافى لم تبرز فقط نتيجة هذه الإبداعات النظرية والمنهجية، ولكنها ظهرت لأن عديداً من المشكلات التى تجابه العالم الآن، عجزت المناهج السياسية والاقتصادية السائدة عن سبر غورها، وتفسير تجلياتها المتنوعة. ومن أبرزها حركات الاحياء الدينى، ومن بينها الصحوة الإسلامية التى تقلق عديداً من الدوائر الغربية، وانبعاث القومية من جديد، وتأثيرها المباشر على تغيير خريطة الدول، والاهتمام العالمى بحقوق الإنسان فى إطار ثقافات مختلفة، وكذلك نقد احتكار وسائل الإعلام العالمية، إلى غير ذلك من مشكلات تحتاج إلى منهج تحليل ثقافى شامل.
ويشهد على أهمية التحليل الثقافى ما يتردد فى الوقت الراهن من دعاوى تتعلق بانهيار الحضارة الغربية، وتقلص هيمنتها الثقافية على العالم، وبروز حضارات أخرى كالحضارة اليابانية والصينية، مرافقة لنهضة اقتصادية كبرى حققتها اليابان فعلاً، وتشق الصين طريقها إليها، بالإضافة إلى بروز الحضارة الإسلامية على المسرح العالمى مرة أخرى، من خلال الصحوة الإسلامية من جانب، ومشكلة الجمهوريات الإسلامية التى كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتى، والتساؤلات الغربية القلقة حول توجهاتها فى المستقبل، وهل ستلتحم بالعالم الإسلامى مما يشكل خطورة عظمى على المصالح الغربية، أم سيتم استقطابها فى إطار المشروع الغربى؟
ومن ناحية أخرى، لم يكن غريباً أن تترد فى وصف حرب الخليج أوصاف من قبيل أنها الحرب الثقافية الأولى فى العصر الحديث، والتى تتنبأ بعض الأصوات الاستراتيجية العنصرية الأمريكية بأنها الحلقة الأولى من سلسلة الحروب الثقافية المقبلة، والتى ستتوجه - فى رأى بعضهم – إلى الصدام مع الحضارة الإسلامية، بعد انهيار الشيوعية التى كانت العدو التقليدى للغرب.
وأيا ما كان الأمر، فيمكن القول أن التحليل الثقافى، بالرغم من أهميته القصوى لفهم ظواهر العالم المعاصر، إلا أنه سيدخلنا – شئنا أو لم نشأ – فى عالم نظرى معقد، ما زالت تتصارع التيارات المنهجية المختلفة فى رحابه. ويشهد على ذلك تعدد المداخل السائدة فى الميدان، والتى مازال تطبيق بعضها فى مرحلة التجريب والاختبار.
ويمكن القول – بإيجاز شديد – أن هذه المداخل المتعددة، يمكن حصرها فى أربعة مداخل رئيسية: المدخل الذاتى، والمدخل البنيوى، والمدخل التعبيرى، والمدخل المؤسسى.

المدخل الذاتى:

يركز هذا المدخل على المعتقدات والاتجاهات والآراء والقيم التى يعتنقها أفراد المجتمع. والنظرة للثقافة هنا تقوم على أساس أنها صياغات ذهنية يصنعها أو يتبناها الأفراد المختلفون، وهى تمثل الحالات الذاتية للفرد، مثل "رؤيته للعالم"، أو مشاعر القلق التى قد تصيبه، أو حالات الاغتراب التى قد يمر بها. ومشكلة المعنى محورية فى هذا المدخل. فالثقافة تتكون من معان، وهى تمثل تأويل الفرد للواقع، وهى تعطى الفرد المعنى الذى يضمن له الاتساق فى إدراك الواقع وفهمه.

لمدخل البنيوى:

ويركز على الأنماط والعلاقات بين عناصر الثقافة ذاتها. ومهمته هى التعرف على العلاقات المنتظمة والقواعد التى تسبغ التجانس على الثقافة وتسمها بسمة خاصة. مثل محاولة التعرف على العلاقات والقواعد التى تقوم عليها الثقافة العربية أو الثقافة الغربية على سبيل المثال. ويؤكد هذا المدخل على الحدود الرمزية للثقافة، وفئات الخطاب التى تعرف هذه الحدود، والآليات التى من خلالها يحافظ على الحدود أو يتم تغييرها. ولو طبقنا هذا المدخل على الثقافة العربية الإسلامية، فقد نهتم بفكرة الحق والباطل، أو الحلال والحرام، أو الملوث والطاهر، ونوعية الخطابات المتعلقة بكل قيمة من هذه القيم، وتغير معانى هذه القيم عبر الزمن. وهذا المدخل ينظر للثقافة باعتبارها موضوعاً قابلاً للملاحظة. وهى بالتالى تتشكل فى خطابات يمكن سماعها أو قراءتها، وقد تتجلى فى حركات أو موضوعات أو أفعال أو حوادث، يمكن رؤيتها، وتسجيلها وتصنيفها، وهى- على عكس المدخل الذاتى- لا تتشكل من، ولا تعكس الحالات الذاتية للأفراد.

المدخل التعبيرى:

وهو يركز على السمات التعبيرية أو الاتصالية للثقافة، وبدلاً من إدراكها باعتبارها مجرد وحدة مستقلة، فهى تدرك من زاوية تفاعلها مع البناء الاجتماعى، ليس كمظهر من مظاهر المشاعر والتجارب الفردية، كما هو الحال فى المدخل الذاتى، وإنما كبعد تعبيرى عن العلاقات الاجتماعية، فالإيديولوجية مثلاً، تصور باعتبارها نسقاً من الرموز تحدد كيف يمكن تنظيم العلاقات الاجتماعية. فى الإيديولوجية الإسلامية مثلاً يحتل الحجاب مكانة هامة كوسيلة لتنظيم العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة، وكذلك منع الاختلاط، وبطريقة عامة فالثقافة هنا تعرف باعتبارها البعد الرمزى- التعبيرى للبناء الاجتماعى. وهى تقوم بتوصيل المعلومات للأفراد عن الالتزامات الملزمة أخلاقياً، وهى بدورها تتأثر ببنية هذه الالتزامات.
إن المدخل التعبيرى لا يركز على المعلومات التى يتم نقلها للأفراد مباشرة، بقدر تركيزه على الرسائل Messages التى قد تكون مضمرة فى الطرق التى تنظم بها الحياة الاجتماعية، وفى اختيار كلمات الخطاب (يمكن الرجوع هنا مرة أخرى إلى حالة الخطاب الإسلامى المعاصر فى مجال حركات الإسلامى الاحتجاجى السائدة فى كثير من البلاد العربية الآن).

المدخل المؤسسى:

وينظر هذا المدخل للثقافة باعتبارها تتشكل من فاعلين Actors ومنظمات تتطلب موارد، وتؤثر بالتالى فى توزيع هذه الموارد. ويتم التركيز هنا على الحقيقة التى مؤداها أن الثقافة لا يتم إنتاجها فقط. أو يتم تدعيمها ببساطة من خلال إضفاء التعبيرية أو الدرامية على الالتزامات الأخلاقية، ولكنها بدلاً من ذلك تنتج بواسطة فاعلين لهم قدرات خاصة، ويتم استمرارها من خلال منظمات تعبئ الموارد من أجل طقوسية وتقنين ونقل المنتجات الثقافية. (يرجع هذا إلى مثال المؤسسات الإسلامية التى تنتج المواد الثقافية- بالمعنى الواسع للكلمة- وتبيعها بأسعار رخيصة، كالزى الإسلامى للمرأة، والكتب الإسلامية، وشرائط الكاسيت) وهذه المنظمات- أياً كان نوعها- عادة ما تنمى علاقات مع الدولة وغيرها من مصادر القوة، وقد تتحدى الدولة أحياناً، كما هو الحال بالنسبة لحركات الإسلام الاحتجاجى ومنظماتها.
ولكن نبرز – بشكل مركز- الفروق بين المداخل الأربعة، يمكن أن نأخذ مثالاً العلم باعتباره أحد عناصر الثقافة البارزة. فإذا ركزنا أساساً على القيم العلمية، أو كيف تتأثر رؤى العالم لدى الأفراد بمعتقداتهم حول العالم، فإن بحثنا يقع داخل إطار المدخل الذاتى.

ومن ناحية أخرى، إذا اهتممنا بأنماط الخطابات بين العلماء، التى تحافظ على حدود تخصصاتهم العلمية، أو تلك التى تتعلق بتقييم النتائج الصحيحة أو الشاذة، فإن بحثنا يقع داخل المدخل المؤسسى، أما إذا اهتممنا بالطرق التى يحاول بها الأكاديميون إضفاء التعبيرية أو الدرامية على قيم العقلانية أو الحداثة، فإن بحثنا يقع داخل المدخل التعبيرى، وعلى عكس ذلك كله، فالمدخل المؤسسى ينظر للعلم باعتباره أحد عناصر الثقافة، وليس باعتباره مجموعة أفكار، بقدر ما هو نتاج لتركيبة كاملة من العلماء والمنظمات العلمية، ومصادر التمويل وشبكات الاتصال التى تدخل فى صميم عملية إنتاج هذه الأفكار.

* * *

فى ضوء هذا العرض الوجيز لمجتمع المعلومات العالمى الذى يعبر بشكل عام عن اتجاه تطور المجتمع الإنسانى فى الوقت الراهن، وللتحليل الثقافى باعتباره المنهجية الملائمة لدراسة وتحليل وتفسير التغيرات الكبرى التى حدثت فى العالم، يمكننا القول أن ما أطلقنا عليه منذ البداية الثورة الكونية، للتعبير عن مجمل حركة الانقلاب فى الأوضاع العالمية، ليست ثورة وحيدة البعد، ولكنها ثورة مثلثة الجوانب فى الواقع. فهى أولاً ثورة سياسية شملت النظم السياسية المعاصرة والعلاقات الدولية على السواء، ويمكن تلخيصها فى عبارة واحدة، هى أولاً تحول من الشمولية والتسلطية إلى الليبرالية، ومن صراع الفناء إلى إرادة البقاء، وهى ثانياً ثورة فى القيم وتحول من القيم المادية إلى القيم المعنوية، وهى ثالثاً وأخيراً ثورة معرفية تنطوى على الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.
التدوين والمدنون: Blogs & Bloggers
وفى سياق مجتمع المعلومات العالمى والذى يرتكز على ما يطلق عليه الفضاء المعلوماتى cyberspace ظهرت أشكال متعددة من التفاعلات الاجتماعية والثقافية والسياسية أخذت شكل المدونات.
وقد انتقل تقليد كتابة المدونات من الولايات المتحدة الأمريكية إلى مختلف بلاد العالم، وانتشرت فى العقد الأخير فى مختلف أنحاء الوطن العربى وفى مصر.
وإذا رجعنا إلى بحث المدونات المصرية: فضاء اجتماعى جديد" الذى نشره مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصرى، نجده يحدد بدقة أنماط المدونات المصرية بناء على عينة من هذه المدونات فى إطار البحث الشامل الذى يجريه فى الموضوع.
وهذه المدونات تنقسم إلى سبعة أنواع متمايزة وإن كان يمكن أن تجمع أى مدونة بين اهتمامات متعددة.

  1. مدونات متنوعة الاهتمامات
    وهذه المدونات لا تتقيد بمجال اهتمام محدد، وبلغت نسبة تلك المدونات 30.7 من مجموع العينة.
  2. مدونات سياسية:
    ويلاحظ أن التدوين السياسى فى مصر يشكل نمطاً محدداً، ويقتصر على قطاع محدد من المدونين وقراء المدونات.
    وتحتل المدونات ذات الاهتمامات السياسية الترتيب الثانى حيث بلغت نسبتها 18.9%. إلا أن هذا النوع من المدونات هو الأعلى صوتاً فى الفضاء التدوينى بحكم ارتباطها بأحداث سياسية مصرية قد يكون أهمها إضراب 6 أبريل (عمال المحلة) وإضراب 4 مايو الذى فشل المدونون فى التحريض عليه.
  3. مدونات شخصية
    ويقصد بها التى تدور موضوعاتها حول الحياة الشخصية للمدون والانطباعات الشخصية لقراء المدونات حول الحياة والنفس والحظ والعواطف والرغبات. وقد بلغت نسبة هذا النمط من المدونات 15.5%.
  4. مدونات ثقافية.
    وهذه المدونات تضم الاهتمامات الأدبية والفنية والفكرية والصحفية وقد بلغت نسبة هذه المدونات 14.4%.
  5. مدونات دينية:
    وهذه المدونات لا تزيد عن 7% من مجموعة عينة المدونات، مما يعنى أن تعدد المواقع الدينية على شبكة الإنترنت يقابله تدوين دينى محدود.
  6. مدونات اجتماعية
    تدور هذه المدونات حول الموضوعات الاجتماعية المختلفة كالعلاقة بين الرجل والمرأة والزواج والطلاق والعنف.
  7. مدونات ذات اهتمامات علمية وتكنولوجية
    ونسبة هذه المدونات 4% من العينة. وبعض هذه المدونات يحررها مدونون يعملون فى مجالات متصلة بالتكنولوجيا والإنترنت والاتصالات والحاسب الآلى.
    وضعف هذه النسبة يعكس ضعف- انتشار التفكير العلمى، وقلة الاهتمام بموضوعات التكنولوجيا المختلفة.

القسم الثانى
تحليل ثقافى للمدونات والمدونين

(1)

محاولة لاكتشاف قارة التدوين المجهولة!
حين بدأت مسيرتى مع الإنترنت منذ سنوات بعيدة، حرصت على أن أنفذ إلى مواقع متعددة تنتمى إلى مجالات مختلفة فى العلوم الاجتماعية والإنسانية. تعددت جولاتى على الشبكة العنكبوتية كما يطلق عليها، وزرت مواقع فى ميدان التاريخ والفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم السياسة والعلاقات الدولية.
كانت هذه الجولات أشبه بدراسة استطلاعية، الغرض منها الدراسة المنهجية لهذا الميدان الصاعد فى مجالات الاتصال باعتباره نمطا غير مسبوق فى تاريخ البشرية.
غير أننى بعد فترة أغلقت باب الدراسة الاستطلاعية للإنترنت، بعد أن اكتسبت معرفة كافية بطبيعتها وإمكانياتها، وقدرتها على أن تمنح الباحث العلمى – أيا كان تخصصه – القدرة على النفاذ إلى مجالات معرفية متعددة، وبصورة مترابطة لم تكن متاحة له من قبل من خلال "النص الجامع" Hypertext ، والذى يتضمن إشارات مرجعية متعددة على المستوى الأفقى وعلى المستوى الرأسى على السواء، بصورة تسمح بإنتاج قراءة متعمقة لمشكلة البحث التى يتعرض لها الباحث.
وبحكم اهتماماتى كباحث فى علم الاجتماع، اكتشفت مبكرا تبلور علم اجتماعى جديد هو "علم اجتماع الفضاء المعلوماتى"Cyber Sociology وهو العلم الناشئ الذى تخصص فى الدراسة السوسيولوجية للإنترنت من كل النواحى، ولذلك هو يدرس فئات المستخدمين للشبكة، وأنماط شخصياتهم، والمواقع التى يزورونها، وموضوعات اهتماماتهم، إلى غير ذلك من موضوعات.
وأذكر أننى منذ سنوات قرأت على الشبكة أبحاثا متعددة فى مجال علم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا ركزت على شبكة الإنترنت. غير أن هذا النمط الاتصالى العالمى البازغ سرعان ما نشأت فى رحابه صور جديدة من الاتصال أطلق عليها "المدونات"“Blogs” ، وهى مواقع ينشئها أفراد ويحررون فيها موضوعات متنوعة، قد تكون تحليلات سياسية، أو انطباعات شخصية، أو إبداع أدبى نثرى أو شعرى. وأصبح يطلق على هؤلاء الذين ينشئون هذه المواقع "المدونون"Bloggeres ، واتسع نطاق التدوين وانتشر فى العالم كله، باعتباره فضاء عاما public sphere جديد تمام الجدة، لأنه يتم فى العالم الافتراضىCyber Space بدون رقابة من أحد. ومن هنا يستطيع المدونون أن يمارسوا حريتهم كاملة فى التفكير والتعبير معاً .
وإذا كان التدوين فى سياق مجتمعات ديموقراطية عادة ما يستخدم للتعبير عن الذات فى المقام الأول، وليس للتعبير عن آراء سياسية باعتبار أن المنابر الإعلامية مفتوحة – وان كان ذلك نظريا – لكل من يرغب فى التعبير عن رأيه السياسى، إلا أن التدوين فى الولايات المتحدة الأمريكية تحول ليكون منبرا سياسيا للآراء المعارضة للإدارة الأمريكية وخصوصا فى عهد الرئيس جورج بوش، فيما يتعلق أساسا بحربه ضد العراق والنتائج المأساوية التى ترتبت عليها، وخصوصا بالنسبة للشباب الأمريكى المجند، والذى سقط منه فى ساحات المعارك العسكرية الآلاف وجرح وشوه آلاف آخرين. وقد أدى هذا التحول فى اتجاهات التدوين الأمريكى من التعبير عن الذات الفردية والاجتماعية إلى التركيز على النقد السياسى للسياسات الأمريكية المنحرفة للإدارة الأمريكية وخصوصا فى غمار حربها ضد الإرهاب وما دار فيها من مخالفات جسيمة لحقوق الإنسان، إلى هجوم غير مسبوق على التدوين والمدونين لدرجة أن الرئيس بوش صرح فى 17 أكتوبر عام 2006 بأن هؤلاء المدونون الذين ينتقدون حربه ضد الإرهاب وأمثالهم من الصحفيين الذين يستخدمون شبكة الإنترنت، ليسوا سوى أدوات لدعاية العدو الموجهة ضد الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد أنشأت الإدارة الأمريكية شبكة خاصةCentcom لرقابة المدونات الأمريكية، بل خصصت أيضا فريقا من الرقباء لملاحقة المدونين الذين يهاجمون السياسة الأمريكية فى العراق. وهذه الشبكة الدعائية التى أنشأتها الإدارة الأمريكية تنشئ مواقع تقدم قصصا إيجابية عن الحرب ضد الإرهاب وكيف أن العراق بعد الغزو الأمريكى أصبح بلدا محررا ويتمتع بديموقراطية رائعة!
وهكذا تمضى "ثقافة الخداع" فى واشنطن كما أطلق عليها السكرتير الصحفى السابق للرئيس بوش فى كتاب له صدر مؤخرا وأثار ضجة كبيرة فى طريقها لتزييف الحقائق.
غير أن الذى يهمنا فى هذا المجال أن نشير إلى أن هامش التسامح مع المدونات والمدونين فى الولايات المتحدة الأمريكية أصبح ضيقا بعد أن اتجهت بعض المدونات إلى النقد السياسى الصريح والعنيف.
وأيا ما كان الأمر، فيمكن القول أن موجات التدوين المتدفقة فى العالم وصلت إلى شواطئ العالم العربى. وهكذا ظهرت مدونات عربية متنوعة، وبرز مدونون عرب ينتمون إلى إيديولوجيات سياسية شتى، فمنهم إسلاميون وماركسيون، وقوميون، وليبراليون. كما أن المدونات العربية – مثلها فى ذلك مثل المدونات الغربية – تنوعت أشكالها وتعددت أنماطها، وتراوحت بين التعبير عن المشاعر الذاتية والتحليلات السياسية، وممارسة النقد العنيف للأنظمة السياسية العربية السلطوية.
وهذه الظاهرة بدأت تنتشر أساسا فى المجتمعات العربية الشمولية والسلطوية التى تضيق فيها إلى حد كبير دوائر حرية التفكير وحرية التعبير لانعدام المجال العام، وعدم إمكانية إنشاء منظمات أهلية غير حكومية، أو أحزاب سياسية فى ظل تعددية معترف بها.
غير أنه فى بعض المجتمعات الغربية التى تتسع فيها حرية الصحافة إلى غير ما حد مثل مصر، برزت أيضا ظاهرة المدونات والمدونين، والذين يأخذون موقف النقد العنيف من النظام السياسى المصرى وسياساته. وفى إطار هذه المدونات تمت الدعوة – على سبيل المثال – إلى إضراب 6 أبريل والذى وافق إضراب عمال المحلة الكبرى، وتمت دعوة أخرى فاشلة لإضراب يوم 4 مايو. وهكذا أصبح الفضاء المعلوماتى من خلال المدونات ساحة للتعبير السياسى بمختلف أنماطه، وميدانا للمعارضة السياسية.
ونظرا لأن المدونات وما ظهر أخيرا من أشكال اتصالية جديدة مثل "الفيس بوك" أصبحت ظواهر اجتماعية، فقد وجدت من الضرورة بمكان أن أدرسها من وجهة النظر السياسية والاجتماعية.
وقد بدأت هذه الدراسة بصورة استطلاعية بنشر مقالين أحدهما نقدى والثانى تفسيرى.
المقال النقدى نشرته بعنوان "من عشوائية التدوين إلى فوضى الفيس بوك" وذلك فى جريدة الأهرام المسائى بتاريخ 17 مايو 2007 . وقد أبديت فيه ملاحظات نقدية على المدونات بعد أن أجريت مسحاً ممثلا لها، واكتشفت أنها زاخرة فى الواقع بتحليلات سياسية سطحية، بالإضافة إلى أنها مشغولة بدعوات غير مدروسة للقيام بإضرابات ومظاهرات، بل إن بعضها يدعو للقيام بثورة – هكذا بكل خفة وبساطة – بدون أن يعرف هؤلاء المدونون المتحمسون على غير أساس، الفروق الدقيقة بين الإضرابات والمظاهرات، والعصيان المدنى، والثورة. خلط شديد يعكس ضحالة فى الثقافة السياسية ونقصاً فى التكوين النظرى، ومزاجا فوضويا فى نفس الوقت.
وانتقلنا من عشوائية التدوين إلى الفوضى العارمة فيا يسمى بالفيس بوك، حيث تتشكل المجموعات فى الفضاء المعلوماتى وتتحلق حول دعوات غامضة بحماس يفتقر إلى الرؤية. غير أننى لم أقنع بهذه المقالة النقدية، وحاولت فى مقال آخر نشر فى جريدة "نهضة مصر" بتاريخ 22 مايو 2008 أن انتقل من مجرد النقد إلى تفسير الظاهرة.
وقد أرجعت ظاهرة المدونات السياسية أساسا وكذلك تجمعات الفيس بوك إلى سببين أولهما اجتماعى يتمثل فى أزمة اختلال القيم فى المجتمعات العربية، وخصوصا فى تقلبها بين التقليد والحداثة من ناحية، ومن ناحية أخرى فى التحول من اقتصادات اشتراكية إلى اقتصادات رأسمالية وما صاحب ذلك من حراك اجتماعى صاعد وهابط لعديد من الطبقات الاجتماعية، أو التحول من اقتصادات بدائية إلى اقتصادات نفطية فى دول الخليج العربى، وما أدى إليه ذلك من انقلابات فى مجال القيم الاجتماعية، ومن تغير هائل فى مواضع الطبقات الاجتماعية.
كل هذه الظواهر التى أدت إلى موجات قلق شديد لدى أجيال الشباب هى السبب وراء شيوع ظاهرة المدونات للتعبير عن الذات. أما السبب الثانى فى شيوع المدونات فقد أرجعناه إلى أزمة المشاركة السياسية فى المجتمعات العربية كافة، مع تفاوت طبعا بين مجتمعات شمولية وسلطوية وأخرى شبه ليبرالية.
لقد أدت أزمة غياب التعددية السياسية وشيوع مناخ القهر والتضييق على الحريات العامة وسد السبل أمام النشاط السياسى الحر، إلى بروز المدونات العربية باعتبارها منبرا للمعارضة تمارس فيه حريتها الكاملة فى نقد سياسات الأنظمة العربية.
غير أنه يمكن القول أن ما نشرناه من مقالات نقدية أو تفسيرية لا يكفى فى الواقع. ذلك أننا أمام ظاهرة إنسانية بالغة العمق، وأصبحت تؤثر فى حياة ملايين البشر فى كل أنحاء العالم، ومن أمريكا إلى الصين، ومن هنا لابد من دراستها دراسة منهجية شاملة.
وقد أتيح لى فى الشهور الماضية أن أتفرغ نسبيا لكى أحلل التراث العلمى العالمى الخصب فى هذا المجال. واكتشفت أنه أصبحت هناك فى العلم الاجتماعى ظواهر مرصودة ومقاسة كميا ومحللة كيفيا، كما أنه هناك نظريات علمية بازغة تحاول تفسير ظاهرة التفاعل بصوره المختلفة عبر شبكة الإنترنت، سواء أخذت شكل جماعات النقاش أو التدوين أو الفيس بوك.
وقد اعتبرت ذلك مرحلة أولى من مراحل البحث الشامل الذى قررت أن أقوم به لدراسة ظاهرة المدونات المصرية من جوانبها الاجتماعية والثقافية والسياسية بناء على دراسة منهجية شاملة، لا تقنع بأدوات تحليل المضمون التقليدية وإنما تتجاوزها لمنهجية تحليل الخطاب، بما يتضمنه من قدرة ليس فقط على تفسير الظاهرة ولكن على تأويلها أيضا.
وسيشارك فى هذا البحث فريق علمى متكامل يتم تشكيله حاليا ويضم تخصصات مختلفة، حتى يكون قادرا على الإحاطة المتكاملة بكل جوانب الظاهرة.
نحن بكل بساطة على أعتاب اكتشاف قارة جديدة يطلق عليها بعض الباحثين "جلوبلاند"، هى المحيط المترامى للعالم الافتراضى وأشكاله وصوره المتعددة!

(2)

السباحة العشوائية فى محيط الإنترنت !

تحتاج ظاهرة التدوين والمدونين والمشتركين فى الفيس بوك إلى تحليلات سوسيولوجية وسياسية متعمقة، لسبر أغوارها، وفك شفراتها الغامضة.
وفى تقديرى أن الخلط الشديد فى تقدير أهمية هذه الظواهر الجديدة ترد إلى عدم فهم التحول الحضارى الكبير الذى تمر به الإنسانية فى الوقت الراهن، من المجتمع الصناعى إلى مجتمع المعلومات العالمى.
ومجتمع المعلومات يأتى بعد مراحل مر فيها التاريخ الإنسانى، وتميزت كل مرحلة بنوع من أنواع التكنولوجيا يتفق معها.
شهدت الإنسانية من قبل تكنولوجيا الصيد، ثم تكنولوجيا الزراعة، وبعدها تكنولوجيا الصناعة. ثم وصلنا أخيراً إلى تكنولوجيا المعلومات.
ويمكن القول أن سمات مجتمع المعلومات تستمد أساساً من سمات تكنولوجيا المعلومات ذاتها، والتى يمكن إجمالها فى ثلاث:
أولها، أن المعلومات غير قابلة للاستهلاك أو التحول أو التفتت، لأنها تراكمية بحسب التعريف، وأكثر الوسائل فعالية لتجميعها وتوزيعها، تقوم على أساس المشاركة فى عملية التجميع، والاستخدام العام والمشترك لها بواسطة المواطنين.
وثانيها، أن قيمة المعلومات هى استبعاد عدم التأكد وتنمية قدرة الإنسانية على اختيار أكثر القرارات فعالية.
وثالثها، أن سر الوقع الاجتماعى العميق لتكنولوجيا المعلومات أنها تقوم على أساس التركيز على العمل الذهنى وتعميقه من خلال إبداع المعرفة، وحل المشكلات، وتنمية الفرص المتعددة أمام الإنسان، والتجديد فى صياغة النسق الاجتماعى.
وقد أدى ظهور مجتمع المعلومات الذى تقع شبكة الإنترنت فى قلبه، إلى زيادة التدفقات السياسية والاقتصادية والمعرفية بمعدلات لم تشهدها الإنسانية من قبل. لدرجة أن التشبيه القديم بأن العالم أصبح قرية صغيرة يقصر كثيراً عن شرح مدى اتساع المجال العالمى العام الذى فتحته ثورة الاتصالات.
العالم الآن – كما يقرر بعض ثقات علم الاجتماع – أصبح متصلاً بعضه ببعض. وأصبحت هذه "الاتصالية الكونية" - إن صح التعبير - مجالاً لتبادل الآراء وطرح الأفكار الجديدة، بل ونشر الدعوات الإيديولوجية المستحدثة، والاحتجاج بصور شتى على الممارسات السياسية التقليدية. سواء تمت فى دول ديمقراطية غربية، أو فى دول نامية سلطوية.
والمطلع على سجلات المدونات الأمريكية يستطيع أن يستخلص بسهولة أنها أصبحت منابر نشطة فى مجال نقد سياسات المحافظين الجديد، ومغامراتهم العسكرية الحمقاء فى أفغانستان والعراق.
ويمكن القول أن هناك حركة بازغة للتدوين باللغة العربية، يمارسها مدونون ينتمون إلى إيديولوجيات متعددة. ففيهم ماركسيون وإخوان مسلمون وقوميون وفيهم أيضاً عبثيون يعتبرون "حلقات النقاش" أو التدوين مجرد ألعاب عبثية! وفيهم أيضاً "عدميون"، لا يؤمنون بأى قيمة ويصدرون عن نزعات متشائمة تعكس احباطاتهم الشخصية، أو فشلهم فى مجال الحياة.
أزمة اختلال القيم
وإذا أردنا أن نحلل علمياً ظواهر التدوين وكتابات الفيس بوك فى مصر فلابد أن ننطلق من توصيف سوسيولوجى دقيق لحالة الانتقال التى يمر بها المجتمع المصرى.
وقد يكون تعبير حالة الانتقال فيه ما يبعث على السخرية، لأننا فى الواقع فى حالة انتقال دائمة منذ ثورة يوليو 1952!
منذ هذا التاريخ البعيد لم يتح للمجتمع المصرى فرصة التقاط الأنفاس، وبناء إيديولوجية سياسية مستقر، تتم عملية التنشئة الاجتماعية والتنشئة السياسية فى ضوء قيمها المتماسكة.
جاءت ثورة يوليو 1952 والتى كانت فى جوهرها انقلاباً على النظام الملكى الرأسمالى الليبرالى تم بواسطة الضباط الأحرار الذين كانوا على وعى بسلبيات الأحزاب السياسية المصرية. وبالتدريج تحول الانقلاب إلى ثورة، لأنها رفعت شعار العدل الاجتماعى وهو ما كان يتعطش له المصريون فى ظل النظام القديم.
وسرعان ما تبلورت للنظام الجديد إيديولوجية هى الاشتراكية وذلك فى الستينيات، واقتضى ذلك التغيير الجوهرى فى نسق القيم الاجتماعية السائد.
أصبح العمل شرفاً وتكافؤ الفرص مبدأ، والملكية الخاصة شراً ينبغى تقييده وتوجيهه للصالح العام.
واقتضى ذلك إعادة صياغة الطبقات الاجتماعية فى مصر من خلال حراك اجتماعى هابط نزل بالطبقات البورجوازية إلى أسفل، وحراك اجتماعى صاعد صعد بالطبقات الفقيرة إلى أعلى، ورفع الحصار عن الطبقة الوسطى التى أتيحت لها كل فرص الإزدهار.
دار إذن صراع فى القيم بين قيم النظام القديم والتى كانت تركز على قيمة الغنى والثراء والوجاهة فى مجتمع الباشوات والبكوات والذين كانوا يمثلون القدوة الاجتماعية، وقيم النظام الجديد التى ركزت على قيمة المساواة، وأن كل المصريون سادة ومواطنون.
وبالتدريج سادت قيم النظام الجديد بالرغم من بعض جيوب المقاومة البوجوازية فى الريف والحضر.
ثم جاء زلزال هزيمة يونيو 1967 لتقضى بالفعل على مشروع الثورة. ورحل عبد الناصر عام 1970، وخلفه أنور السادات الذى قام بفعل مضاد للثورة، لأنه فكك مؤسساتها، وألغى الاتحاد الاشتراكى، والاقتصاد الموجه، وفتح الباب واسعاً وعريضاً أمام الانفتاح الاقتصادى. والذى لم يكن سوى رأسمالية فوضوية سمحت لشرائح طبقية متعددة أن تتخلى عن قيم النظام الثورى وتثرى ووسائل غير مشروعة.
وأصبح الثراء هو القيمة العليا، بغض النظر عن وسيلة الحصول عليه مشروعة أو غير مشروعة.
وانقلب النظام الطبقى رأساً على عقب. صعدت الطبقات البورجوازية من جديد، وتم إفقار الطبقة الوسطى التى وصلت إلى حافة الطبقات الفقيرة.
واستكمل الانقلاب الرأسمالى حلقاته بعد أن نظم خطواته وتحول إلى رأسمالية صريحة، وإن ظلت ملوثة فى بعض جوانبها بالإثراء غير المشروع، من خلال تحالف جهاز الدولة مع الطبقات الثرية الصاعدة، وخصوصاً فى مجال بيع أراضى الدولة لها بأثمان بخسة.
فى ضوء هذا الصراع المحتدم بين قيم الاشتراكية الغاربة وقيم الرأسمالية الصاعدة، ضاع الشباب المصرى وافتقد إلى "بوصلة قيمية" تحدد له ما هو المشروع وما هو غير المشروع، وتحولت بعض شرائحه للتركيز على الحلال والحرام، من خلال رؤية دينية رجعية ومغلقة.
ضاع اليقين فى مجال القيم، وأصبح الشك فى قيمة أى ممارسة اتجاهاً سائداً لدى الشباب، مما أدنى إلى ظاهرة الاغتراب التى عمت المجتمع وأفقدت الشباب انتماءه.
ولذلك ليس غريباً إذا ما فحصنا عديداً من المدونات بشكل علمى وهذا ما فعلته فى الأسابيع الأخيرة لاكتشف هذا العالم الغامض، أن أجد مدونات عديدة زاخرة بالكتابات العبثية ولا تتضمن سوى النقمة على كل شئ فى المجتمع. وهى فى الواقع إعلان جهير عن اليأس من الحياة، بعدما زادت معدلات البطالة، وأصبح الشباب المصرى لأول مرة فى التاريخ الاجتماعى المصرى مهدداً فى وجوده ذاته! فهو بعد أن تخرج لا يجد عملاً ولن يستطيع أن يتزوج ولن يستطيع أن يجد شقة بسعر مناسب! ماذا بقى له إذن فى الحياة؟
أليس طبيعياً أن تتسم لغته بالحدة البالغة لو أتيح له أن يكون له موقع تدوين، وأليس طبيعياً أن يستخدم أحياناً ألفاظ السب والقذف، وأن يستعمل الكلام البذئ للتعبير عن سخطه؟
هو شاب ساخط ولكنه لم يعد نفسه كما ينبغى لكى يكون ناقداً اجتماعياً أصيلا! هو لا يقرأ ولا يريد أن يقرأ، ومعرفته بالتاريخ المصرى الحديث والمعاصر سماعية، وطاقته كلها يفجرها على شبكة الإنترنت، لكى يسخر من كل شئ، وأحياناً لكى يثرثر عن إحباطاته، بدون أى سياق منطقى.
اختلال القيم، والفوارق الطبقية الهائلة، وتقسيم المجتمع المصرى إلى منتجعات هنا وعشوائيات هناك، هى الأسباب الكامنة التى جعلت الشباب المصرى لا ينظر خلفه فى غضب – حسب اسم المسرحية الإنجليزية الشهيرة – ولكنه – وهذا هو الأخطر - ينظر إلى المستقبل ذاته بغضب، لإحساسه العميق أنه ليس له مكان فيه!
أزمة المشاركة السياسية
غير أن التحليل السوسيولوجى الذى قدمناه لا يغنى عن تحليل سياسى عميق لظاهرة المدونين ونشطاء الفيس بوك الذى يدعون – هكذا – إلى الثورة بخفة بالغة وسطحية عميقة إن صح التعبير! وكأن ثورات الشعوب أن يشعلها بضع عشرات من الشباب قابعين وراء أجهزة الكمبيوتر ويصوغون دعوات غامضة!
سبب رئيسى وراء كتابات المدونين الغاضبة والرافضة هو أن هناك فى المجتمع المصرى أزمة مشاركة سياسية بالغة العمق.
يرجع السبب إلى بدايات ثورة يوليو 1952 حين ألغت الثورة عام 1954 كافة الأحزاب السياسية. وكان ذلك بكل بساطة إبادة سياسية لأجيال كاملة من الشباب النشطين فى مجال الأحزاب السياسية المتعددة قبل الثورة. كان هناك حزب الأغلبية وهو الوفد، وأحزاب الأقلية هى الأحرار والدستوريين والسعديين. وكانت هناك الجماعات الشيوعية وإن كانت سرية، وكان هناك الحزب الاشتراكى لأحمد حسين، بالإضافة طبعاً إلى الإخوان المسلمين.
كل هذه الفئات قضى قرار إلغاء الأحزاب السياسية على مشاريعها السياسية المختلفة.
وأنشأت الثورة منظمة الشباب، ثم ما لبثت أن انقضت عليها حين تبين لها أن بعض أعضائها أصبحت لديهم اتجاهات نقدية وراديكالية لممارسات الثورة، كما أنشأت الاتحاد الاشتراكى كحزب أوحد انضم إليه أو ضم إليه كل الناس، وأصبحت أعداده تقدر بالملايين حسب التصريحات الرسمية. هذا الحزب الذى ألغاه الرئيس السادات سرعان ما غير لونه وأصبح حزب مصر، الذى تحول ليصبح من بعد الحزب الوطنى الديمقراطى.
وعلى ذلك يمكن القول أن السياسة السلطوية فى عهود الثورة أبعدت آلاف الشباب عن العمل السياسى.
غير أن الموقف اختلف نسبياً بعد إعلان تعددية الأحزاب السياسية فى عهد السادات، وأقبل آلاف الشباب على أحزاب التجمع والعمل والأحرار، غير أن تقلبات السياسة الساداتية أدت إلى التضييق الشديد على الحركات الجماهيرية للأحزاب، وأسوأ من ذلك على المواطنين الحزبيين أنفسهم. وأصبح الدرس البليغ الذى قدمته هذه الممارسة المستمرة حتى الآن، هو أن المواطن العاقل هو الذى يتجنب الانخراط فى الأحزاب السياسية تلافياً لمخاطر هذا السلوك، وربما أيضاً ألا يشارك فى اى انتخابات.
وهكذا تعمقت أزمة المشاركة السياسية فى المجتمع المصرى، وخصوصاً بعد أن ظهر أن الحزب الوطنى الديموقراطى وعضويته بالملايين يهيمن على سياساته عدد محدود من الأفراد، ولا توجد داخله ديموقراطية حقيقية، كما أن الأحزاب السياسية المعارضة ثبت فشلها لأن قادتها انصرفوا إلى الصراع المحتدم حول الزعامات والرئاسات، فانفض عنها الأعضاء، بالإضافة إلى أن غالبيتها قنعت بإعادة إنتاج خطابها القديم بدون تجديد يذكر، إلى جانب تخصصها فى نقد السياسات الحكومية بدون تقديم بدائل مدروسة.
هذه أحزاب فشلت فى اجتذاب الشباب، الذين لم يجدوا أمامهم سواء الفضاء المعلوماتى يزحمونه بمدوناتهم وكتاباتهم فى الفيس بوك.
وهكذا يمكن القول أن ظاهرة العشوائية فى السباحة فى محيط الإنترنت تكمن أسبابها العميقة فى الاختلال الشديد فى نسق القيم من ناحية، وفى أزمة المشاركة السياسية من جانب آخر.
وأيا ما كان الأمر فإن أحزاب المعارضة التى تراهن على هؤلاء باعتبارهم جنود الثورة القادمة، تثبت إفلاسها الفكرى وعجزها السياسى على السواء. لأن عدد هؤلاء القابعين وراء الكمبيوتر بضع مئات، لا يمكن أن تصل رسائلهم لملايين المصريين، وخصوصاً أن بعضها رسائل فوضوية لإضرابات غير منظمة، وبعضها الآخر تبشير بثورة لا وجود لها إلا فى أذهان أصحابها من الساخطين، الذين لم تصقلهم التجربة، ولم يسبق لهم التفاعل الحقيقى مع أهل مصر المحروسة!

(3)

من عشوائية التدوين إلى الفيس بوك!

منذ أن أبحرت فى محيط الإنترنت الزاخر بالتدفقات السياسية والاقتصادية والثقافية والمعرفية، اتجهت كعادتى إلى تأصيل معرفتى بمجتمع المعلومات. وأردت من خلال تطبيق المنهج الأركيولوجى الذى ابتدعه الفيلسوف الفرنسى "ميشيل فوكو" والذى يعنى الحفر فى التربة للوصول إلى الأعماق، أن أفك شفرة "العالم الافتراضى" Virtual لأكشف أسراره الدفينة، وفق منهج علمى متكامل.
وهكذا اكتشفت مبكراً أن هناك علماً اجتماعياً جديداً هو "سوسيولوجيا الإنترنت"، يدرس الشبكة العنكبوتية الشهيرة من وجهة النظر الاجتماعية، وذلك بالتركيز على خصائص الشبكة، ونوعية الذين يستخدمونها، والموضوعات التى يطرقونها. وتبين لى أن هناك مجتمعاً كاملاً هو "المجتمع الافتراضى" والذى يتشكل من "جماعات النقاش"، التى تتكون أحياناً بصورة مؤقتة لمناقشة موضوع ما ثم تنفض! ويشارك فى المناقشة أشخاص من مختلف بلاد العالم. على أساس أن من أخلاقيات الإنترنت البازغة أنه لا يكفى أن تكون مستهلكاً للمواد المنشورة على الشبكة أياً كان موضوعها، ولكن عليك أن تكون أيضاً منتجاً، وذلك بدعوتك إلى أن تعلق على ما تقرأه.
وكثيراً ما تقرأ هذه العبارة فى نهاية عديد من المقالات، وهى "إرسل هذه المقالة لصديق" ـو"علق على هذه المقالة". وبذلك يتضح بجلاء أن الإنترنت أصبحت من أدوات الاتصال التفاعلية، فهى محطة إرسال واستقبال فى نفس الوقت.
واكتشفت مبكراً أيضاً أنه تشكل علم أنثروبولوجى جديد هو، "أنثروبولوجيا الإنترنت" يحاول تطبيق المناهج الأنثروبولوجية على هذه الشبكة العجيبة. وأصبح هناك علماء اجتماعيون متخصصون فى دراسة الإنترنت.
ظهور المدونين
وسرعان ما ظهرت صيغة جديدة للتفاعل عبر شبكة الإنترنت وهى صيغة "التدوين" ويعنى ذلك أن أشخاصاً أصبح يطلق عليهم "المدونون" Bloggers ينشئون مواقع خاصة بهم على الشبكة، ويعبرون فيها عن آرائهم فى مواضيع شتى. بل إن بعضهم يستخدم موقعه لينشر إبداعه الأدبى فى شكل قصائد شعرية أو تأملات نثرية. واتسعت هذه الممارسة المستخدمة فى العالم كله، بحيث أصبح عدد المدونين يقدرون بمئات الآلاف.
وقد شاعت فى السنوات الأخيرة ممارسة التدوين فى عديد من البلاد العربية. وقد راهن بعض المتفائلين على أن التدوين يمكن أن يسبق الواقع السياسى العربى، بعبارة أخرى يمكن للمدونين أن يكونوا أداة فعالة لدفع وتعميق عملية التحول الديموقراطى. وذلك على أساس أن أجيال الشباب الجديدة قد سدت النظم السياسية العربية أمامهم مسالك حرية التعبير السياسى، فى ضوء احتكار دول عربية شتى لمنابر الإعلام، وتقييد حرية الرأى. ومن ناحية أخرى اعتبر بعض المراقبين أن التدوين الذى تمارسه نخبة من الشباب الذين ينتمون إلى اتجاهات إيديولوجية مختلفة وقد تكون متعارضة، ليست سوى "مودة" جديدة سرعان ما ستنطفئ ويزول أثرها.
غير أن التطورات فى هذا المجال فى السنوات الأخيرة أكدت أن ظاهرة التدوين والمدونون ستبقى، بل وستزداد تأثيراتها على مجرى السياسة العربية، بالرغم من أن سوق "القراء" لهذه المدونات ضئيل للغاية، بحكم "الفجوة الرقمية" التى تعنى أن ملايين العرب من الفقراء ومتوسطى الحال، ليس لديهم مجال للنفاذ إلى عالم الإنترنت" لأنهم- ببساطة- لايملكون كمبيوتر ولا يعرفون لغته ولا كيفية استخدامه.
والواقع أن ظاهرة التدوين تحتاج منا إلى دراسات متعمقة نرجو أن نفرغ لها فى القريب العاجل.
وقد اهتممت -كباحث فى علم الاجتماع- بالظاهرة، وقمت بالإطلاع المنهجى على عديد من المدونات المصرية. واكتشفت أن أغلب ما ينشر فيها تعليقات سياسية سطحية، لا تعكس أى ثقافة نظرية أو سياسية لأصحابها. وتبين لى أيضاً الخفة فى استخدام اللغة، وشيوع ألفاظ السب والقذف فى حق النظم السياسية، تنفيساً عن غيظ مكتوم، أو إحباط عميق، وذلك بصورة مقززه.
ومع ذلك فقد تبين لى أن بعض المدونات تتسم بفكر عميق، وقدرة فذة على التحليل السياسى، ورؤية نقدية للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى المجتمع، بما يعكس النضج الفكرى والثقافة العميقة لأصحابها. كما اكتشفت أن بعض المدونات التى يعنى أصحابها بنشر إبداعاتهم الأدبية فيها، أو مقاطع من سير حياتهم، فيها مادة خصبة تجمع بين المتعة والفائدة.
غير أنه يمكن القول أن المدونات المصرية فى مجملها تعكس كتابات عشوائية متناثرة، لا تعبر عن تيار سياسى واحد، ولا تنطلق من مسلمات متفق عليها.
وبالإضافة إلى ذلك يتوزع المدونون بين تيارات إيديولوجية شتى، ففيهم إخوان مسلمون وفيهم شيوعيون وماركسيون وليبراليون وقوميون. وأخطر من ذلك فيهم "عدميون" لا يؤمنون بأى شئ وإنما يعبرون عن احباطاتهم الشخصية أو السياسية بصورة زاخرة باليأس والقنوط.
وقد تبين لى أنه -بناء على مقابلات مقننة أجرتها بعض مراكز البحوث المصرية- أن التدوين أصبح صناعة مستقلة ممولة فى جانب منها من بعض المصادر الغربية والأمريكية. وذلك لأن بعض المدونين اكتشفوا أن التدوين السياسى والذى يحمل نقداً لاذعاً للنظام السياسى، يمكن أن يجلب لهم شهرة مدوية، وأن هذه الشهرة يمكن أن يكون لها ثمن فى السوق الاقتصادى. وبيان ذلك أن بعض المدونين بدأوا يبيعون "إنتاجهم" من التدوين فى شكل صور التقطت بالموبايل لقنوات عربية فضائية كالجزيرة، أوغيرها، بل ولبعض القنوات الأجنبية. وهكذا تحولت الظاهرة التى اعتبرت فى البداية أحد مصادر التجديد السياسى فى مجال التعبير عن الذات فى المجتمع العربى السلطوى، إلى "صناعة وتجارة" لدرجة أن بعض المدونين المنحرفين لجأوا إلى "فبركة" بعض الصور التى تكشف الأوضاع السلبية فى معاملة المهتمين- على سبيل المثال- لأن الطلب عليها مرتفع لدى الجهات التى يهمها تقديم صور مشوهة لبعض النظم السياسية العربية.
ولا يعنى ذلك على الإطلاق أن كل إنتاج المدونين يخضع لهذه الانحرافات التى برزت فى السنين الأخيرة، ولكن يمكن القول باطمئنان علمى أن غالبية المدونات تعكس فكراً سياسياً مسطحاً، تكشف عنه دعوات ساذجة للثورة على النظم السياسية، أو الدعوة للقيام باضرابات، أو احتجاجات جماهيرية، وذلك بطريقة تتسم بالعشوائية المطلقة.
فوضى الفيس بوك
غير أن "هوجة" التدوين أخلت الطريق مؤخراً لمودة جديدة هى "الفيس بوك" والفيس بوك طريقة ابتدعها أحد الأمريكيين كوسيلة اجتماعية للاتصال بين الأصدقاء وزملاء الدراسة، غير أنها سرعان ما تحولت لتصبح أحد المنابر السياسية الهامة التى تدور فيها حوارات سياسية ومناقشات لا حدود لها.
وانتقلت -بحكم آليات العولمة- "المودة" الجديدة إلى مصر، وأصبح هناك عشرات الآلاف من الشباب لهم مواقع فى الفيس بوك. وبدأ الاتجاه يتحول من كونها أداة اجتماعية للتواصل إلى أن تصبح منبراً سياسياً تطلق منه دعوات شتى.
ولعل شهرة الفيس بوك اندلعت فى مصر بعدما استخدمته "إسراء" هذه القناة النشطة فى مجال حزب الغد، للدعوة إلى إضراب 6 مايو، وسار وراءها عشرات بل آلاف من الشباب الذين تحمسوا للدعوة. وكان للقبض على "إسراء" والتحقيق معها أصداء متعددة، إذ اعتبرها الشباب المتعاملين مع الفيس بوك هى "الملكة المتوجة". بل إن جريدة "الدستور" استكتبتها بعد الإفراج عنها مقالتين لبست فيهما ثوب البطولة السياسية، مع أنها حين أفرج عنها كانت منهارة تماماً نتيجة ظروف القبض عليها. وقد يكون هذا مسألة طبيعية بالنسبة لشابة مصرية عادية ليس لديها خبرات سياسية عميقة، غير أن محاولات بعض تيارات المعارضة النفخ فيها لكى تظهر بصورة أكبر من حجمها الحقيقى كانت محاولات بائسة حقا! .
ويبدو أن مجموعات شباب الفيس بوك قد أغراهم صدى دعوتهم لإضراب 6 أبريل، فاندفعوا بطريقة فوضوية إلى الدعوة لإضراب يوم 4 مايو وشعاره "أقعد فى البيت" .
ومن العجب أن بعض الأحزاب السياسية والتى وإن كانت هامشية وبعضها مازال تحت التأسيس انضم إلى الدعوة، وأغرب من ذلك أن تندفع جماعة الإخوان المسلمين بغباء نادر إلى هذا الإضراب الغوغائى الذى فشل فشلا ذريعا. مع أن قادة الإخوان المسلمين بعد أن لقوا الهزيمة الكاملة أعلنوا من "بيوتهم" نجاح الإضراب!
وفى تقديرنا أن هذه الدعوات الغوغائية للثورة العمياء أو للاضرابات العشوائية ليست فى صالح التحول الديمقراطى فى مصر. بل إنها أحد معوقات هذا التحول، لأنها ستدفع بالنظام إلى تحجيم هذه الدعوات، حفاظا على الاستقرار الاجتماعى فى مصر.
وقد أثبت هؤلاء الشباب الذين يلعبون على مفاتيح الكمبيوتر وهم جالسون فى منازلهم، أنهم لا يعرفون شيئا عن طبيعة الشعب المصرى. فدعوة المصريين للبقاء فى البيت وعدم التوجه إلى العمل، فيها جهل عميق باقتصاديات الطبقات الفقيرة والمتوسطة والتى تقوم على العمل المنتظم، وبعض أفرادها يكسبون قوتهم يوما بيوم.

(4)

التحول الديموقراطى والركود السياسى!

هل الركود السياسى فى العالم العربى هو الذى دفع بآلاف من الشباب العرب إلى أن يلجأوا إلى المدونات والفيس بوك لكى يعبروا عن آرائهم السياسية، أو يخصونها بخلجات أنفسهم، أو يودعونها إبداعاتهم النثرية والشعرية؟
لعل هذا أحد التفسيرات الهامة لهروب الشباب إلى العالم الافتراضى، مادام العالم الواقعى بمشكلاته المتعددة وبالقيود والحدود التى يضعها أمام أجيال الشباب المتتابعة، أصبح بمثابة الحاجز الأصم الذى يمنع الشباب من إسماع صوتهم لمجتمعهم وللعالم معاً!
ويبقى السؤال ما هو سر الركود الذى ألقى بظلاله الكثيفة على مجمل الفضاء السياسى العربى؟ لعلنا نتذكر أن الدعوة للتحول الديموقراطى العربى ارتفعت منذ عقد من الزمان على الأقل. وكان أصحاب هذه الدعوة هم أحزاب المعارضة ومؤسسات المجتمع المدنى والمفكرون والمثقفون العرب بشكل عام.
وربما شجعهم على ذلك انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991، والذى كان عاصمة النظم السياسية الشمولية فى العالم - إن صح التعبير - غير أن هذا الانهيار سرعان ما تبعه انهيار مماثل فى دول أوروبا الشرقية التى سرعان ما تحررت من الهيمنة السوفيتية، وانطلقت عبر مسارب شتى تجاه الديموقراطية والليبرالية.
وبالإضافة إلى ذلك علا صوت العولمة بتجلياتها السياسية، والتى تتمثل فى الديموقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان.
وقد صاحب ذلك ضغوط من النظام الدولى ممثلاً فى الدول الغربية الكبرى وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبى على الدول العربية، لكى تحقق التحول الديموقراطى. ورافق هذه الضغوط نمو مؤسسات المجتمع المدنى العالمى والذى أصبح فى العقود الأخيرة فاعلاً أساسياً من فواعل النظام الدولى بالإضافة إلى الدول. ومعنى ذلك أنه منذ سنوات انضمت مطالب الداخل العربى مع ضغوط الخارج الأجنبى، لكى تدفع الدول العربية الشمولية والسلطوية فى طريق الديموقراطية.
وربما عبرت "مكتبة الإسكندرية" عن هذه الحركة المزدوجة التى ضغطت لتحقيق الديموقراطية العربية تعبيراً صحيحاً وذلك فى مؤتمر "قضايا الإصلاح العربى: الرؤية والتنفيذ" الذى انعقد فى الإسكندرية فى الفترة من 12 إلى 14 مارس 2004، بالاشتراك مع عدد من مؤسسات المجتمع المدنى العربية. وقد ضم المؤتمر عشرات المثقفين العرب من كافة الاتجاهات الفكرية والسياسية، بالإضافة إلى عدد ممن يمثلون فكر الأحزاب السياسية. وقد عكست آراء أعضاء المؤتمر إلى حد كبير مطالب الجماهير العربية، الذين قدموا رؤية متكاملة للمطالب الجماهيرية العربية.
وقد صدر عن المؤتمر وثيقة بالغة الأهمية عرفت "بوثيقة الإسكندرية"، وأصبح لها منذ أن صدرت أصداء عالمية عميقة، لأنها عبرت عن الرأى العام العربى فى لحظة تاريخية فاصلة، أصبح فيها المزاج العالمى – إن صح التعبير – يركز على ضرورة إنجاز التحول الديموقراطى، وخصوصاً فى الدول التى مازالت تخيم عليها سحابات الشمولية والسلطوية.
ويلفت النظر أن وثيقة الإسكندرية فى طرحها لقضية الإصلاح السياسى قدمت له تعريفا جامعاً مانعاً أنه "كافة الخطوات المباشرة وغير المباشرة التى يقع عبء القيام بها على عاتق كل من الحكومات والمجتمع المدنى ومؤسسات القطاع الخاص، وذلك للسير بالمجتمعات والدول العربية قدماً، وفى غير إبطاء ولا تردد، وبشكل ملموس فى طريق بناء نظم ديموقراطية".
وقررت الوثيقة أن الديموقراطية "تعنى ذلك النظام الذى تكون الحرية فيه هى القيمة العظمى والأساسية بما يحقق السيادة الفعلية للشعب الذى يحكم نفسه بنفسه من خلال التعددية السياسية التى تؤدى إلى تداول السلطة. وتقوم على احترام كافة الحقوق فى الفكر والتنظيم والتعبير عن الرأى للجميع، مع وجود مؤسسات سياسية فعالة على رأسها المؤسسات التشريعية المنتخبة والقضاء المستقل والحكومة الخاضعة للمساءلة الدستورية والشعبية، والأحزاب السياسية بمختلف تنوعاتها الأيديولوجية".
وقد سبق لنا أن عبرنا عن رأينا فى هذه الفقرة فى مقال سابق بقولنا "الواقع أن مطالبة الوثيقة بتطبيق الديموقراطية بهذه المعانى المحددة تعادل عملية إعادة اختراع السياسة من جديد فى العالم العربى"! والواقع أنه صدق توقعنا لأن إعادة اختراع السياسة من جديد فى العالم العربى فشلت فشلاً ذريعاً، ودخلنا فى مرحلة ركود سياسى.
ولعل السؤال الذى يفرض نفسه الآن: لماذا فشلت عملية إعادة اختراع السياسة وحل محلها الركود الثقيل؟
أعتقد أن السبب يكمن فى أن وثيقة الإسكندرية أصرت على أن تقدم المطالب الديموقراطية فى سقوفها العالية، بدون مراعاة عملية للواقع السياسى العربى. ولذلك بدت كما لو كانت مقترحات "يوتوبية" تسعى إلى تأسيس المدينة الفاضلة السياسية العربية، حتى لو كان لك ضد التيار الشمولى والسلطوى الجارف!
وفى تصورنا – وقد مضت سنوات الآن على وثيقة الإسكندرية – أنها فى حاجة إلى مراجعة جذرية. وهذه المراجعة لا تهدف إلى التنازل عن المطالب الديموقراطية الواردة فيها، وإنما تسعى إلى فهم نقدى لطبيعة النظم السياسية العربية السائدة، كمقدمة لوضع خطط مختلفة ومتعددة، تتفق مع خصائص كل نظام.
وهذا الفهم النقدى لابد أن يصدر عن تنميط واقعى Typology للنظم السياسية العربية.
النمط الأول هو النظم السياسية الشمولية. وفى هذه النظم تصادر الأصوات المستقلة تماماً، ولا يسمح لأى مؤسسة أيا كانت أن تأخذ المبادرة فى أى موضوع. كما أن المجتمع المدنى لا وجود له فى هذه النظم، وإن حاولت شخصيات مستقلة أن تؤسس جمعيات أهلية فإنها تقمع قمعاً شديداً.
والنمط الثانى هو النظم السياسية السلطوية. وفى هذه النظم تشتد قبضة النظام على مجمل الحركة السياسية، ولكنه أحيانا ما يترك مجموعة من النوافذ تطل منها بعض الأصوات لكى تعبر عن نفسها وإن كان تحت الرقابة الصارمة للنظام. وقد نجد فى هذه النظم بقايا من مؤسسات سابقة للمجتمع المدنى والذى عادة ما يتم تجميدها.
والنمط الثالث والأخير هو النظم السياسية شبه الليبرالية والتى تسمح بالتعددية الحزبية وتفتح الباب – وإن كان بطريقة مواربة – أمام حرية الصحافة، وتسمح بإقامة مؤسسات للمجتمع المدنى، وإن كان بضوابط معينة.
فى ضوء هذا التنميط نستطيع أن نفهم لماذا لم تحقق وثيقة الإسكندرية وعودها، ولماذا ساد جو من الركود السياسى الثقيل على الفضاء السياسى العربى؟
من الواضح أن النظم الشمولية العربية أيا كانت نوعيتها، وسواء سيطر عليها حاكم مفرد، أو حزب أوحد، أو عائلة مالكة واحدة، لا تستطيع أن تغير جلدها بسهولة وتنتقل من الشمولية إلى الديموقراطية.
إن هذه العملية البالغة الصعوبة والتى تحتاج إلى توافر شروط متعددة لم تتم فى أى بلد إلا من خلال انقلاب عسكرى أو ثورة شعبية، كما حدث فعلاً فى بلاد أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفيتى.
ومن ثم فمطالبة هذه النظم الشمولية بالتحول الديموقراطى فيه فى الواقع نظرة خيالية غير واقعية. إن بعض هذه النظم لم يستكمل بعد مقومات الدولة الحديثة. فليس فيها دستور، ولا سيادة للقانون، ولا تفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولا صحافة حرة بالمعنى الحقيقى للكلمة، ولا مؤسسات مستقلة للمجتمع المدنى، فكيف يتصور أن تختفى الشمولية – هكذا – وينقلب الميزان لصالح الديموقراطية؟
لو كنا عمليين حقاً لقدمنا لهذه النظم أجندة مطالب أساسية تتعلق بضرورة وضع دستور، والفصل بين السلطات، وتطبيق مبدأ سيادة القانون، وذلك كمرحلة أولى قبل الانتقال إلى التعددية الحزبية والانتخابات الدورية.
وقد تكون المهمة أسهل بالنسبة للنظم السلطوية لأنها فى الواقع نظم قلقة، وهى وسط بين الشمولية والليبرالية، وعلى ذلك يمكن الدفع بها فى طريق التحول الديموقراطى لو قدمنا لها أجندة تقوم على التدرج وليس على التحول الديموقراطى الفورى.
وتبقى النظم السياسية شبه الليبرالية والتى لا تحتاج إلا إلى دفعة قوية فى سبيل التحول الديموقراطى، باعتبار أن البنية الأساسية للديموقراطية لها ركائز أولية متوفرة فعلاً.
فى ضوء ذلك كله، نستطيع أن نفسر لماذا فرت أجيال الشباب العرب من الواقع العربى الضيق إلى الفضاء المعلوماتى الرحب، ينشرون مدوناتهم، ويعبرون فيها عن ذواتهم المحاصرة، أو يسجلون فيها آراءهم السياسية المقموعة.
حرية بلا ضفاف نعم، ولكن ينبغى أن نركز على أهمية بعد المسئولية الاجتماعية، لأنه لا حرية بغير مسئولية!

(5)

مدونون مغتربون!

تعجل عدد من المدونين المصريين الخروج من الظلال الكثيفة للفضاء المعلوماتى، وقرروا أن يقفوا بكتاباتهم تحت ضوء شمس الواقع الحى المعاش.
وهكذا نشرت دار الشروق لإحدى المدونات مدونتها بعنوان "عايزة أتجوز"، ثم فاجأتنا "دار العين للنشر" بالاشتراك مع دار "مزيد للنشر" بنشر مجموعة مختارة من المدونات، جمعها وعلق عليها تعليقاً مختصراً كل من "محمد كمال حسن، ومصطفى الحسينى".
عنوان الكتاب له دلالة وهو "عندما أسمع كلمة مدونة أتحسس مسدسى" وهذه العبارة الشهيرة هى "لجوبلز" وزير دعاية النظام النازى، والذى سبق أن قال "حين أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسى" وذلك لشكه العميق فى الثقافة والمثقفين.
غير أن استخدام كمال حسن ومصطفى الحسينى لهذه العبارة لم يكن موفقاً. لأنه يوحى بأن المدونات شئ بالغ الخطورة، وكأن السلطة السياسية سترتعد هلعاً حين تقرأها!
وقد قرأت الكتاب بعناية، وإن كان فى جلسة واحدة. وتأكد لى انطباعى الذى سبق أن سجلته فى مقالاتى الماضية عن التدوين والمدونون، وهو أن أغلب هذه المدونات وخصوصاً التى تتضمن نقداً سياسياً للأوضاع الراهنة، تتسم بالركاكة الأسلوبية وبالفقر المضمونى!
غير أن الكتاب الذى نتحدث عنه والذى يضم خمسة وعشرين مدونة تم اختيارها من مائة مدونة، لا تضم إلا مدونات نشر فيها أصحابها تأملاتهم فى الحياة ومشاعرهم الذاتية. وليس فيها ما يستحق التحليل سوى المدونة الأخيرة "حكاوى آخر الليل" لأحمد شقير لأنه استخدم فكرة الجيل ببراعة شديدة، واستعرض لنا ذكرياته عن الوطن فى مجالات السياسة والثقافة والآداب والفنون. وقد استطاع أن يرسم لوحة جميلة حقاً، مليئة بتفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية المصرية.
أما باقى المدونات فمن الصعب أن تستوقفك أى منها سواء كتبها شاب أو شابة، باسم حقيقى أو باسم مستعار. وكنت أتمنى لمن جمعوا هذه المدونات أن يحققوا نوعاً من أنواع التوازن بين المدونات الذاتية والمدونات السياسية، حتى تكتمل لدى القارئ صورة المدونات والمدونين على اختلاف اتجاهاتهم.
والسؤال الذى يطرح نفسه الآن هو كيف نحلل هذه المدونات بطريقة علمية؟
لقد علمتنا نظريات علم اجتماع المعرفة أن المنهج الأمثل فى دراسة النصوص هو ربط النص بالسياق الذى أنتج فيه. بعبارة أخرى لو كنا ندرس نظرية ليبرالية محددة ظهرت فى المجتمع المصرى، أو نظرية اشتراكية أو نظرية قومية، فلا يمكن فهمها بغير الدراسة الدقيقة للسياق التاريخى والاجتماعى والثقافى الذى نشأت فى رحابه.
وكذلك الحال بالنسبة للمدونات، فلا يمكن تحليلها إلا فى ضوء السياق السياسى والاقتصادى والثقافى الذى نشأت فى ظله.
وأهم ما يميز هذا السياق أن مصر تمر بمرحلة تحول ديموقراطى، أى الانتقال من السلطوية كنظام سياسى إلى الليبرالية، وهى المرحلة التى اصطلحنا على تسميتها بالإصلاح السياسى.
ولعل السؤال الذى يطرح نفسه الآن: ما هى ملامح مرحلة التحول الديموقراطى فى مصر؟
أبرز هذه الملامح التعديلات الدستورية التى أدخلت على الدستور المصرى، وسمحت لأول مرة فى التاريخ المصرى المعاصر بأن تكون الانتخابات على منصب رئيس الجمهورية تنافسية. وتمت فعلاً هذه الانتخابات التى أعيد على أساسها انتخاب الرئيس محمد حسنى مبارك رئيساً للجمهورية.
غير أن بعض التعديلات الدستورية وأبرزها نص المادة 76 أحدثت جدلاً شديداً فى المجتمع، بحكم وضعها لشروط تعجيزية أمام المستقلين، لو أراد أحد منهم أن يرشح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية.
والملمح الثانى البارز هو حرية الصحافة غير المسبوقة، والتى سمحت بإصدار جرائد مستقلة وحزبية تمارس حرية التفكير وحرية التعبير بغير أى قيود، مما جعلها تتعرض بالنقد ليس فقط للسياسات الحكومية، ولكن لطبيعة النظام السياسى ذاته وتوجهاته الأساسية.
والملمح الثالث البارز هو تطبيق أحكام قانون الطوارئ، مما خلق أوضاعاً سلبية فى مجال حقوق الإنسان، أصبحت محل انتقادات الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى.
والملمح الثالث هو التطبيق المنهجى للخصخصة، وما ترتب على ذلك من اتهامات بالفساد بحكم غياب الشفافية فى كثير من الصفقات، بالإضافة إلى تسريح آلاف العاملين تطبيقاً لأحكام المعاش المبكر.
وقد أدى ذلك إلى رفض شرائح واسعة من الرأى العام لهذا البرنامج.
والملمح الرابع هو تصاعد وتيرة الاضرابات والاحتجاجات التى قامت بها فئات متعددة، من العمال والموظفين والصحفيين وأعضاء الحركات الاحتجاجية الجديدة، ونشطاء المجتمع المدنى.
والملمح الخامس هو ارتفاع الأسعار بغير حدود، وارتفاع معدلات التضخم فى إطار من تدنى الأجور بشكل عام، مما خلق مناخاً سائداً لدى الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة من عدم الرضا، بل الحكم على السياسات الحكومية بأنها فاشلة.
إذا حاولنا أن نجمع مفردات السياق الراهن الذى تكتب فى ضوئه المدونات المختلفة فى بنية متكاملة، لخلصنا إلى أننا أمام سياق يتسم بالاستقطاب الحاد بين أنصار السياسات الحكومية وهم فى الواقع قلة تتمثل فى أعضاء مجلس الشعب الذين عادة ما يصوتون بالموافقة على مشروعات الحكومة، حتى لو كانت متعارضة مع اتجاهات الطبقات الشعبية، وبين قوى المعارضة السياسية وفئات المواطنين البسطاء، الذين يحسون بأن السياسات الحكومية تهدد وجودهم الإنسانى ذاته، لأن بعد العدالة الاجتماعية ليس داخلاً فى صميم خطة الإصلاح الاقتصادى، كما أن إحساس صناع القرار بمشكلات الفئات المحدودة الدخل ضئيل للغاية. ولا يترجم فى شكل سياسات متوازنة، لا تحابى الأغنياء على حساب الفقراء والطبقة المتوسطة.
وهكذا نخلص إلى أنه لكى نقوم بتفسير وتأويل المدونات بشكل عام نحن فى حاجة ماسة لرسم خريطة اجتماعية وخريطة ثقافية للمجتمع المصرى، حتى تظهر التضاريس الأساسية والملامح البارزة، والتى هى أساس فهم اتجاهات الرأى العام المصرى فى الوقت الراهن.
غير أننا لو ركزنا على تحليل المدونات الذاتية فلابد من توصيف سوسيولوجى دقيق فى لحالة الانتقال التى يمر بها المجتمع المصرى، وربما كان المعلم البارز لحالة الانتقال هو شيوع ظاهرة اختلال القيم، أى غياب معايير أخلاقية معترف بها للحكم على ضروب السلوك المختلفة.
بعبارة أخرى ضياع اليقين فى مجال القيم، وأصبح الشك فى قيمة أى ممارسة اتجاهاً سائداً لدى الشباب، مما أدى إلى ظاهرة الاغتراب التى عمت المجتمع وأفقدت الشباب انتماءه.
ولذلك ليس غريباً - إذا ما فحصنا عديدا من المدونات بشكل علمى، سواء على شبكة الإنترنت أو فى كتب المدونات التى نشرت فى كتب - أن نجد مدونات عديدة زاخرة بالكتابات العبثية ولا تتضمن سوى النقمة على كل شئ فى المجتمع. وهى فى الواقع إعلان جهير عن اليأس من الحياة، بعدما زادت معدلات البطالة، وأصبح الشباب المصرى لأول مرة فى التاريخ الاجتماعى المصرى مهدداً فى وجوده ذاته!
فليس هناك عمل، وليس هناك سكن، بعد أن ارتفعت أسعار المساكن إلى أرقام خيالية، وليس هناك زواج، وبالتالى ليست هناك رؤية إيجابية إزاء المستقبل.
ومعنى ذلك أن اختلال القيم، والفوارق الطبقية الهائلة، وتقسيم المجتمع المصرى إلى منتجعات هنا وعشوائيات هناك، هى الأسباب الكامنة وراء نظر الشباب بغضب إلى المستقبل لأنه لا مكان لهم فيه.
ومن هنا الأهمية الكبرى للقيام بدراسات علمية تتناول رؤى المستقبل لدى الشباب. والواقع أننا فى حاجة إلى أن نعرف كيف يدرك الشباب الماضى بكل أحداثه، وكيف يشخصون الحاضر وكيف ينظرون إلى المستقبل.
إدراك الشباب للماضى يثير فى الواقع موضوعاً على أكبر قدر من الأهمية وهو الذاكرة التاريخية.
وقد نكتشف أنه لقصور شديد فى التنشئة الاجتماعية وفى نظام التعليم، فالذاكرة التاريخية للشباب المصرى مشوشة.
ومن ناحية أخرى ينبغى فى دراسة تشخيص المدونين للحاضر أن نعرف هل يمتلكون حقاً أدوات التحليل العلمى المناسبة، أم أن دراستهم للحاضر ليست سوى مجموعة من الانطباعات المتعجلة، والتعميمات الجارفة.
وتبقى نظرتهم للمستقبل. والسؤال هل يفهم الشباب حقاً التغيرات الكبرى التى لحقت بنية المجتمع العالمى، والآثار السياسية والاقتصادية والثقافية الكبرى التى ترتبت عليها؟
كل هذه التساؤلات لا يمكن الإجابة عنها إلا من خلال البحث العلمى، وهو ما بدأنا فيه فى إطار "المرصد الاجتماعى" بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، حيث ندرس التدوين والمدونون، وكذلك الاحتجاجات الجماهيرية.
ولدى النظرة المتمعنة سنكتشف أن هناك علاقات وثيقة بين التدوين السياسى والاحتجاج الاجتماعى الجماهيرى.

(6)

مدونون سياسيون يبحثون عن اليقين!

الذين يراهنون – من أنصار التفاعلات السياسية عبر الإنترنت- على الدور التغييرى فى المجال السياسى للمدونات التى يحررها المدونون يبدو أنهم يقفزون حول الوضع الراهن للممارسة السياسية فى العالم العربى، وذلك لأن التدوين لا يزيد عن كونه نشاطاً تقوم به نخبة صغيرة من المثقفين والكتاب، يخاطبون به أقلية قليلة من الجماهير العربية. وذلك ما هو ثابت من قلة أعداد من يستخدمون شبكة الإنترنت، أو يمتلكون أجهزة كمبيوتر.
ومن ثم هناك إجماع لدى الباحثين الغربيين المهتمين بتتبع أحوال التدوين والمدونين فى العالم العربى، على أن التدوين لن يؤدى إلى تغيير سياسى عميق.
ولا يعنى ذلك على الإطلاق أن التدوين لن يكون له أى دور فى السياسة العربية، وذلك أنه نتيجة الاتصال الذى حدث بين المدونين والصحفيين وخصوصاً فى بلد مثل مصر، حيث تتعدد فيها المنابر الصحفية بين صحف قومية وحزبية ومستقلة، يمكن القول أن التدوين السياسى أصبح يلعب دوراً متزايداً فى تشكيل الرأى العام. ويبدو صدق هذه المقولة إذا درسنا بعناية الدور الإيجابى الذى لعبه المدونون فى كشف بعض حوادث التعذيب، أو نشر أخبار الاحتجاجات الجماهيرية المتنوعة.
وقد أدى هذا – فى نظر بعض الباحثين- إلى نشر ثقافة الاحتجاج وزيادة معدلات الممارسة للناشطين سياسياً. غير أنه مع ذلك فمازال التدوين السياسى يثير عديداً من الأسئلة، لعل أهمها هل هو- كما يتساءل مارك لينش أحد أبرز الباحثين الغربيين المهتمين بالموضوع- تمثل أداة ثورية جديدة للتعبئة السياسية العربية؟
وهل يستطيع أن يتحدى الحدود التى وضعتها الدولة العربية المعاصرة على حرية التعبير من خلال أجهزة الميديا التى تسيطر الحكومات على أغلبها؟ وهل يمكن لها أن تكون فعلاً صوت من لا صوت لهم؟
وهل يمكن للتدوين السياسى أن ينشئ مجالاً عاماً جديداً يضاف إلى المجال العام التقليدى، الذى تدور فيه المناقشات والحوارات حول الأداء الحكومى من قبل الأحزاب السياسية والمثقفين ومؤسسات المجتمع المدنى؟
من الصعوبة بمكان الإجابة على كل هذه الأسئلة نظراً لأننا فى بداية مرحلة تلعب فيها التفاعلات الاجتماعية والسياسية فى الإنترنت دورها فى تنشيط كل من الحياة الاجتماعية والسياسية.
ولكن يبدو أن قراءة الأرقام الخاصة بانتشار الإنترنت فى العالم العربى يمكن أن تكون مؤشراً على بطء عملية التأثير الفعلى على الممارسة السياسية العربية.
تقول البحوث المنشورة أن 4% فقط من سكان العالم العربى يستخدمون الإنترنت، وأغلب هؤلاء من سكان الحضر. ووفقاً لبعض التقديرات التى نشرت عام 2006 فإن عدد مستخدمى الإنترنت العرب لا يزيد عن 19 مليون شخص أى حوالى 10% فقط من مجمل السكان العرب، وأغلب مستخدمى الإنترنت العرب ينتمون إلى فئة الشباب من الناشطين سياسياً.
وحتى اللغة العربية ليست- وفقاً لمؤسسة Technocratic- من بين العشر اللغات السائدة فى مجال المدونات العالمية، لأنها لا تشكل سوى 1% من الفضاء المعلوماتى Blog sphere.
وبغض النظر عن هذه الأرقام التى تكشف عن ضآلة عدد المدونين وضآلة عدد قراؤهم، فيمكن القول أن تأثيرهم قد يتعمق مع الزمن من خلال رسائلهم التى تنشرها الصحافة الحزبية والمستقلة كما أشرنا من قبل.
غير أنه بعيداً عن المؤشرات الكمية، لابد لنا أن نلقى نظرة نقدية على مضمون المدونات السياسية المصرية باعتبارها – إلى حد ما- نموذجاً للمدونات السياسية العربية.
أول ملاحظة فى هذا الصدد أن المدونات الشخصية لها المرتبة الأولى فى سجل المدونات المصرية بشكل عام، وتليها المدونات السياسية.
وقد سبق لنا فى مقالنا الماضى أن تعرضنا للمدونات الشخصية بعنوان "مدونون مغتربون".
وقد انطلقنا فى تحليلها من فكرة محورية مفادها أنه لكى نفهم المدونات الشخصية لابد من دراسة السياق الذى نشأت فى ظله. وهذا السياق يتسم بأن المجتمع المصرى يمر بمرحلة انتقال اقتصادية واجتماعية وسياسية بالغة العمق. ومؤشرات هذا الانتقال متعددة، أبرزها التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية والهبوط من التوازن الطبقى إلى الانحدار الطبقى، حيث صعدت طبقة الأغنياء وشرائح الأثرياء الجدد على حساب تدهور أحوال الطبقة الوسطى وتدنى أوضاع الطبقات الفقيرة واتساع دوائر الفقر، وأخيراً هناك الانتقال البالغ البطء من السلطوية إلى الديموقراطية وذلك فى مسار متعثر. وقد أدت حالة الانتقال بسماتها هذه إلى شيوع ظاهرة اختلال القيم، أى غياب معايير أخلاقية معترف بها للحكم على ضروب السلوك المختلفة. وقد أدى ذلك إلى ظاهرة الاغتراب التى عمت المجتمع وأفقدت الشباب انتماءه.
غير أنه إذا كان عدد من المدونين فى مدوناتهم الشخصية آثروا أن يضيعوا فى كهوف الاغتراب، وما يحدثه من نقمة عامة على المجتمع بل على الحياة، فإن المدونون السياسيون أثروا المواجهة بدلاً من الهروب!
ونعنى بذلك أنهم استطاعوا حقاً أن يتحرروا من مشاعر الاغتراب وأن يبادروا للعب أدوار سياسية فعالة فى مجال النقد الاجتماعى العنيف لسلبيات الممارسة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة فى المجتمع المصرى.
ولكن علينا – قبل أن نسترسل فى التحليل – أن نتذكر أن المدونين السياسيين المصريين ينتمون إلى تيارات إيديولوجية متعددة بل متناقضة فى بعض الأحيان. فهناك مدونون ماركسيون، وهناك مدونون ليبراليون، وهناك مدونون إسلاميون ولا ننسى أيضاً أن هناك مدونون سياسيون "عدميون" hihilistics لا يؤمنون بنسق قيمى محدد!
ومن الطبيعى أن تختلف مضامين المدونات السياسية والرسائل التى تصدر عنها حسب إيديولوجية كل مدون.
فما أبعد المدون الماركسى الذى يصدر فى تحليله السياسى عن بعض مقولات المادية التاريخية، عن المدون الليبرالى الذى يركز على الديموقراطية وفق النموذج الغربى. وما أبعد هذين عن المدون السياسى الإسلامى الذى يرفع شعار أن الإسلام هو الحل!
ومع ذلك وقد اتيح له أن أجرى مسحاً لعينة غير ممثلة فى الواقع لعدد من المدونات المصرية، أن أصل إلى مجموعة من الملاحظات الهامة التى تتعلق باتجاهاتها العامة من ناحية، وبالأطر الإيديولوجية التى تصدر عنها من ناحية أخرى.
ولعلى لا أكون مبالغاً إذا قلت أن المدونات السياسية المصرية تعكس فقراً واضحاً فى الثقافة السياسية للمدونين.
والدليل على ذلك أنهم يخلطون خلطاً واضحاً بين المظاهرات والاضرابات والعصيان المدنى. ويتصور بعضهم – وهما – أن الإضراب هو عصيان مدنى. بل إن بعض هؤلاء المدونين دعوا إلى "عصيان مدنى" ضد النظام وهم لا يدركون أن العصيان المدنى هو آخر وسيلة يمكن أن تلجأ إليها أى معارضة سياسية. وأنه يحتاج – أكثر ما يحتاج إذا ما استخدمنا اللغة الماركسية التقليدية – إلى موقف ثورى يتضح فيه بكل جلاء ووفق مؤشرات كمية وكيفية، أن نظاماً سياسياً ما قد وصل إلى منتهاه، وأنه ليس هناك سوى اللجوء إلى العصيان المدنى لإسقاطه!
حدث ذلك فى مصر قبيل ثورة يوليو 1952. ومن يتتبع بصورة دقيقة أحوال مصر منذ عام 1945 تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى يوليو 1952، يدرك أن موقفاً ثورياً بدأ فى التبلور منذ عام 1950 حيث احتدمت المشكلة الاجتماعية التى تمثلت فى الفجوة الطبقية الهائلة بين من يملكون ومن لا يملكون، فى نفس الوقت الذى لم تحل فيه المشكلة الوطنية وأعنى إجلاء المحتل الإنجليزى.
هذا الموقف الثورى أدى فى النهاية إلى انقلاب يوليو 1952، الذى قام به الضباط الأحرار والذى تحول إلى ثورة بعد ذلك.
ومن هنا يمكن القول أن هؤلاء المدونون السياسيون المصريون يخلطون فى الواقع بين ثلاثة مفاهيم متمايزة هى الانشقاق Dissent والمعارضة Opposition والمقاومة Resistenes . الانشقاق يعنى فى المقام الأول أن فئة من المعارضين قررت الانفصال تماماً عن النظام السياسى الحاكم، وأنه ليس لديها أى استعداد للتفاوض معه أو التعامل مع آلياته.
وهؤلاء المعارضون الراديكاليون هم الذين كان يطلق عليهم فى الاتحاد السوفيتى السابق "المنشقون"، والذين كانوا يودعون آراءهم الثورية فى منشورات سرية كان يطلق عليها بالروسية Zamisdat. وتحت يدنا توثيق كامل لعينة كاملة من هذه المنشورات التى تكشف اليأس الكامل من إصلاح النظام السوفيتى.
غير أنه لدينا مفهوم آخر هو "المعارضة" وهى تلك التى تمارسها أحزاب المعارضة المصرية فى الوقت الراهن، ليس فى صحافتها فقط، ولكن فى مجلس الشعب ذاته، حيث تمارس نقدها الجذرى للسياسات الحكومية، وتنجح أحياناً فى تغيير مسار بعض التشريعات الحكومية المجحفة.
وتبقى أخيراً فئة "المقاومة" وهى تلك التى تقوم بها الجماعات الإسلامية المسلحة كالجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد، بمعنى محاولة قلب النظام السياسى باستخدام القوة المسلحة. وإن كانت هذه الجماعات قد تابت وأنابت أخيراً!
المدونون السياسيون المصريون يخلطون بين المعارضة والانشقاق، بدون المعرفة الدقيقة بالفروق وهى جسيمة، وتترتب عليها عادة آثار سياسية عميقة.

(7)

انهيار المجال العام وصعود الفضاء المعلوماتى

إذا كنا عنينا من قبل بمناقشة ظاهرة بروز المدونات والمدونين باعتبار التدوين أصبح رمزاً لنشوء فضاء اجتماعى جديد، فلا يمكن فى الواقع فهم هذه الظواهر المستحدثة إلا فى ضوء التركيز على النقلة الكيفية فى النموذج الحضارى من المجتمع الصناعى إلى مجتمع المعلومات العالمى.
والمجتمع الصناعى هو ربيب الثورة الصناعية، ولم يكن فى الإمكان صياغة وتخطيط مؤسساته وترسيخ قيمه، إلا فى ضوء المشروع الحضارى للرأسمالية الأوروبية التى صعدت على أنقاض المجتمع الإقطاعى الأوروبى القديم. وهذا المشروع الحضارى اصطلح على تسميته بالحداثة Modernity. والحداثة مشروع يقوم على عدة أسس هى الفردية والعقلانية والوضعية والاعتماد على العلم والتكنولوجيا، وتبنى نظرة خطية Linear فى التاريخ الإنسانى مبناها أنه يتطور من مرحلة إلى أخرى.
والحداثة كمشروع له تجليات مختلفة. أولها الحداثة الفكرية التى أعلت من شأن العقل، وكان شعارها أن "العقل هو محك الحكم على الأشياء". بعبارة أخرى أهدرت الحداثة الفكرية سلطان وسطوة النص الدينى الذى كانت تحتكر تفسيره وتأويله صفوة رجال الدين، الذين كانوا ينطلقون من رؤى للعالم تتسم بالانغلاق وبالرجعية، مما أدى إلى جمود المجتمعات الأوروبية وسيادة الاستبداد السياسى، لأن رجال الدين المحافظين والرجعيين، وضعوا أنفسهم فى خدمة الطغاة من الحكام الذين مارسوا قهر شعوبهم.
وهناك وجه آخر للحداثة وهو الحداثة السياسية التى توجهت لتأسيس مجتمعات ديموقراطية تقوم على أساس تداول السلطة والانتخابات الدورية النزيهة، وحرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم.
وفى قلب الحداثة السياسية ولدت فكرة المجال العام Public Sphere .
وهناك إجماع بين العلماء الاجتماعيين على أن المفكر الذى وضع أسس نظرية المجال العام هو الفيلسوف الألمانى الشهير "هابرماس" فى كتابه المعروف "التحول البنيوى للمجال العام" الذى صدر عام 1962 وكان فى الواقع أطروحته للحصول على درجة الأستاذية فى علم الاجتماع.
ومازال هذا الكتاب هو المرجع الأساسى فى الموضوع حتى الآن بالرغم من أن "هابرماس" طور من أفكاره من بعد وخصوصا فى نظريته الاتصالية.
ولعل السؤال الذى ينبغى طرحه الآن: ماهو تعريف المجال العام؟ المجال العام – كما تعرفه موسوعة وايكيبديا – هو "منطقة فى الحياة الاجتماعية حيث يتجمع الناس معا ويناقشون بحرية المشكلات المجتمعية بعد أن يحددوها، ومن خلال مناقشاتهم يؤثرون على الفعل السياسى. وهو فضاء خطابى (من مفهوم الخطاب) discursive يجتمع فيه الأفراد والجماعات ليناقشوا الأمور ذات الأهمية بالنسبة لهم، وللوصول – إذا كان ذلك ممكنا – إلى حكم عام.
ويرى بعض الباحثين أن المجال العام أشبه ما يكون بمسرح ينصب فى المجتمعات الحديثة، يتم فيه تفعيل المشاركة السياسية من خلال الكلام. وهو فى قول آخر "مجال من مجالات الحياة الاجتماعية يتشكل فيه الرأى العام".
ويمكن القول أن "المجال العام" يتوسط بين "المجال الخاص" و"مجال السلطة العامة". والمجال الخاص يتضمن المجتمع المدنى فى معناه الضيق، ونعنى عالم التبادل السلعى والعمل الاجتماعى. فى حين أن مجال السلطة العامة يتعلق بالدولة، أو مجال الشرطة، والطبقة الحاكمة.
والمجال العام يعبر كلا من المجال الخاص ومجال السلطة العامة من خلال آلية الراى العام الذى يجعل الدولة بصيرة بحاجات المجتمع. وهو بهذه الصورة يتميز عن الدولة، لأنه مجال لإنتاج الخطابات التى يمكن – من ناحية المبدأ – أن تكون ناقدة للدولة. وهو أيضاً يتميز عن الاقتصاد الرسمى، لأنه ليس مجالا لعلاقات السوق، ولكنه مجال للعلاقات الخطابية والعلاقات بين خطابات مختلفة إيديولوجيا، هو مسرح للجدل والنقاش وليس مجالا للبيع والشراء.
وهذه التفرقة بين أجهزة الدولة، والأسواق الاقتصادية، والتجمعات الديموقراطية أساسية فى النظرية الديموقراطية. لأن الجماهير تعتبر المجال العام باعتباره مؤسسة تنظيمية ضد سلطة الدولة. ومن هنا فإن دراسة المجال العام لابد لها أن تركز على "الديموقراطية التشاركية" وكيف يتحول الراى العام لكى يصبح فعلاً سياسياً. والدراسات المتعددة التى تعرضت للمجال العام تاريخيا والتى تناقشه فى الوقت الحاضر تحاول الإجابة على ثلاثة أسئلة رئيسية: ما هى الأسس النظرية للمجال العام، وكيف تناقش المعلومات فيه، وما هو تأثير المجال العام على المجتمع؟
ولا نستطيع – لضيق المجال – أن نفيض أكثر من ذلك فى الحديث عن المشكلات النظرية والتطبيقية للمجال العام. ولكن ما يهمنا فى الواقع هو التأكيد على فكرة جوهرية مفادها أن ممارسات المجال العام ستختلف بالضرورة وجودا وعدما بحسب طبيعة النظم السياسية المختلفة، كما أن تأثيراته فى مجال السياسة لابد لها أن تختلف بحسب هذه النظم. ومن المعروف أن علم السياسة فيه تصنيفات مختلفة للنظم السياسية، ولكننا نميل إلى التصنيف الذى وضعه عالم الاجتماع السياسى "لويس كوزر" فى كتابه "علم الاجتماع السياسى". وهو تصنيف ثلاثى يضم ثلاثة أنماط رئيسية، وهى النظم الشمولية والنظم السلطوية والنظم الليبرالية.
والنظام الشمولى بحكم طبيعته لا يسمح إطلاقاً بوجود "مجال عام" فعال تتم فيه مناقشة توجيهات النظام الأساسية وسياسات الحكومة. وذلك لأنه غالباً يقوم على أساس هيمنة حزب سياسى أوحد، ربما كان مثاله البارز الحزب الشيوعى فى الاتحاد السوفيتى السابق. فى هذا النظام الشمولى ليس هناك مجتمع مدنى مستقل عن السلطة على وجه الإطلاق، ولا يمكن أن يعلو صوت على صوت الحزب الشيوعى الذى ينفرد بالساحة السياسية، ويصدر توجيهات للتنفيذ وهى توجيهات غير قابلة للمناقشة. بعبارة مختصرة هذا النظام سواء هيمن عليه حزب سياسى واحد أيا كانت أيديولوجيته "ماركسية" كانت على الطريقة الأوروبية أو "بعثية" مثلاً على الطريقة العربية، يقوم أساساً على استخدام أجهزة الدولة الإيديولوجية – بتعبير الفيلسوف الفرنسى لويس التوسير – لكى تهيمن ليس فقط على حركة الجماهير السياسية ولكن على وعيها الاجتماعى أيضاً، هو نموذج لفرض التفكير الأحادى Pensé unique على المجتمع، مما يؤدى على المدى الطويل إلى العقم الفكرى، والانهيار الاجتماعى التدريجى، كما حدث فعلاً بالنسبة للاتحاد السوفيتى.
والنمط السياسى الثانى هو السلطوية. والنظام السلطوى – بحسب التعريف – يفرض قبضته الحاكمة على المجتمع، وإن كان يسمح بحرية نسبية لبعض المؤسسات، وبمجال عام محدود للغاية وتحت الرقابة، تدار فيه المناقشات التى تخص المجتمع فى حدود. وربما كان المجتمع المصرى فى العهد الناصرى نموذجاً لهذا النظام السلطوى الذى مازالت بصماته واضحة حتى الآن.
والنمط السياسى الأخير هو النظام السياسى الليبرالى، والذى يتمتع لكونه ديموقراطياً بمجال عام حى وفعال، تدور فيه المناقشات – نظريا – بحرية مطلقة وبغير قيود أو حدود. وربما كان المجتمع الأمريكى المعاصر نموذجاً بارزاً لهذه النظم السياسية الليبرالية.
وإذا كنا جزمنا بأن المجال العام – كما عرفناه فى صدر المقال – لا يمكن له أن يتواجد فى رحاب المجتمع الشمولى، ويمكن أن يمارس حياته فى دائرة بالغة الضيق فى ظل المجتمع السلطوى، فمن المفروض أن يمارس حياته كاملة فى ظل النظام الليبرالى.
غير أن القراءة النقدية لتحولات المجتمع الأمريكى المعاصر منذ الخمسينيات حتى الآن تكشف عن أن هناك فجوة كبرى بين النظرية والتطبيق!
ولكى نلخص حكمنا على هذا المجتمع فى عبارة موجزة يمكن القول أن الوضع هناك يتمثل فى الرحلة الطويلة التى قطعها هذا المجتمع من إرهاب "المكارثية" فى الخمسينيات إلى إرهاب "المحافظين الجدد" فى الوقت الراهن!
ونعنى بذلك أنه خلافاً لقواعد وأعراف النظام السياسى الليبرالى نشأت فى الخمسينيات ظاهرة "المكارثية" نسبة إلى عضو الكونجرس الأمريكى "مكارثى" الذى رأس لجنة هامة من لجان الكونجرس للبحث عن المثقفين الأمريكيين ذوى الاتجاهات اليسارية اشتراكية كانت أو شيوعية، تمهيداً لمحاكمتهم. ولم يفلت من قبضة مكارثى أى مثقف أمريكى ممن يمثلون نخبة العلماء والمفكرين والفنانين.
ومارست هذه اللجنة إرهابا فكريا لا سابقة له، وهى بذلك أعدمت فى الواقع فكرة المجال العام، والتى هى أساسا ساحة مفتوحة للنقاش وللاختلاف فى الآراء، وميدانا للنقد الفعال لتوجهات النظام السياسى وسياسات حكوماته.
وانقضت حقبة المكارثية، وبعدها اتسعت دوائر المجال العام وخصوصا حين قام الشباب الأمريكيين باحتجاجات واسعة النطاق ضد الحرب الأمريكية العدوانية ضد فيتنام، وازدحمت الجامعات الأمريكية بالندوات والاحتجاجات والمظاهرات الى أن انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من فيتنام، بعد هزيمتها العسكرية الساحقة على يد الشعب الفيتنامى العظيم.
غير أن أحداث سبتمبر 2001، ونعنى الهجمات الإرهابية ضد مراكز القوة والنفوذ فى أمريكا وما أدت إليه من إعلان الرئيس جورج بوش لحربه ضد الإرهاب وغزوه العسكرى لأفغانستان والعراق، أدت به إلى أن يصدر "قانون الوطنية" الذى ينص على عقاب كل من يوجه نقدا للحرب ضد الإرهاب، بل إن هذا القانون الذى يخرق حقوق الإنسان الأمريكى يعطى الحق للسلطات الأمنية فى استراق السمع على المكالمات التليفونية، بل والقبض على كل من يشتبه فى علاقته بالإرهاب.
ومعنى ذلك بكل بساطة إعدام "المجال العام" الأمريكى. وفى ذلك مصداق لتوصيف الفيلسوف الشهير "ماركيوز" للمجتمع الأمريكى بأنه يقوم على "التسامح القمعى" represive toleraace أو بعبارة عالم السياسة الأمريكى "بيتر جروس" أنه نظام يقوم على "الفاشية الودودة"!.
ومعنى ذلك فى الواقع انهيار فكرة المجال العام بتعريفه التقليدى وصعود فضاء المجتمع المعلوماتى الجديد!.

(8)

التدوين وديمقراطية الفضاء المعلوماتى

ركزنا من قبل على نظرية المجال العام التى بلورها فى العلم الاجتماعى المعاصر الفيلسوف الألمانى المعروف "هابرماس".
والمجال العام – بحسب التعريف – فضاء فى الحياة الاجتماعية حيث يتجمع الناس معاً، ويناقشون بحرية المشكلات المجتمعية بعد أن يحددوها، ومن خلال مناقشاتهم يؤثرون على الفعل السياسى – أو بعبارة أخرى – على السياسات والقرارات الحكومية.
والمجال العام يتوسط فى الواقع بين مجال السلطة العامة أو الحكومة والمجال الخاص الذى قد يركز على الأسرة وشئون الأفراد الخاصة. وهذا المجال العام – كما نشأ فى المجتمعات البورجوازية الأوروبية – كانت تمارس فيه المناقشات حول السياسات الحكومية، وفى رحابه تتبلور اتجاهات الرأى العام.
غير أن هذا المجال العام تم القضاء عليه فى الدول الشمولية التى لا تقبل التعددية الفكرية، وتمت محاصرته فى الدول السلطوية التى ضيقت الخناق على حرية الخلاف، وصادرته الدول الليبرالية كالولايات المتحدة الأمريكية، كما رأينا فى الحقبة الكارثية التى وجهت فيها تهمة الشيوعية لأبرز المفكرين والمبدعين الأمريكيين، وفى الحقبة التى نعيشها فى ظل الفكر الفاشى للمحافظين الجدد، الذين تعبر عنهم أبلغ تعبير إدارة الرئيس جورج بوش.
ومن هنا – تحت تأثير الثورة الاتصالية الكبرى وفى قلبها شبكة الإنترنت – بزغ فضاء اجتماعى جديد يمارس فيه الكتاب والمثقفون حريتهم فى معارضة النظم السياسية التى ينتمون إليها، وهو الذى أطلقنا عليه الفضاء المعلوماتى Cyber Space.
وبرزت المدونات باعتبارها إحدى صور الممارسات الفكرية المستحدثة، والتى خلقت فضاء اجتماعياً جديداً يتسم بالحرية المطلقة، ويخلو من القيود والحدود التى تضعها النظم السياسية والحكومات.
ومعنى ذلك أنه مع انهيار المجال العام التقليدى نشأ مجال عام جديد، يثير فى الواقع عديداً من التساؤلات.
والواقع أن هذا المجال العام الجديد يتميز بأنه بتأثير الثورة الاتصالية أصبح مجالاً للمعلومات والمناقشة والمعارضة والصراع السياسى. وهذه الوظائف المتعددة خلقتها الميديا المتعددة الجديدة وتكنولوجيات الكمبيوتر، ومن شأنها أن تعيد صياغة المجال العام بعد أن اتسعت آفاقه إلى غير ما حد.
ليس ذلك فقط بل إن الفضاء المعلوماتى Cyber Space أدى إلى إعادة النظر فى مفهوم المثقف الملتزم والمثقف العام كما يؤكد "دوجلاس كلنر" فى دراساته العميقة عن هذا التطور.
وهو يذكر بهذا الصدد أن الفيلسوف الأمريكى المعروف "جون ديوى" سبق له أن طرح فى بداية القرن العشرين فكرة مؤداها إنشاء جريدة مهمتها نشر أخبار "الأفكار الجديدة"، ويعنى بها آخر أخبار العلم والتكنولوجيا والعالم الفكرى، وإتاحتها للجمهور العام، لأن ذلك من شأنه – كما كان يقرر – نشر الديموقراطية. كما أن كلا من الكاتب المسرحى الألمانى الشهير "برتولد بريخت" والفيلسوف "والتر بنيامين" سبق لهما أن اكتشفا الطابع الثورى الكامن فى التكنولوجيات الجديدة، مثل الأفلام السينمائية والإذاعة، وشجعا المثقفين الراديكاليين لكى يجيدوا استخدام هذه التكنولوجيات، لكى تصبح أدوات لإضفاء الديموقراطية على المجتمع وتثويره إذا اتضحت الحاجة الماسة إلى ذلك.
ويبدو مصداق هذا التوجه فى أن عديداً من الكتاب الآن أصبحوا يفضلون مخاطبة الجماهير من خلال البرامج التليفزيونية، بحكم أن التليفزيون يشاهده كل الناس حتى الأميين منهم الذين لا يقرءون ولا يكتبون. بعبارة أخرى أصبحت الرسالة التليفزيونية أيا كان شكلها أوقع فى التأثير من الكلمة المكتوبة، تماماً مثلما أصبح النشر الإلكترونى يزاحم بشدة النشر التقليدى.
ونحن نعرف أن الإذاعة والتليفزيون فى عديد من البلاد كانت مغلقة أمام أصوات المعارضة، وذلك فى الدول التى تهيمن فيها السلطة على الميديا، وحتى فى الدول التى يهيمن فيها القطاع الخاص عليها.
غير أن المثقفين الثوريين استطاعوا تجاوز هذه الحدود بإنشاء محطاتهم الإذاعية والتليفزيونية الخاصة، التى سمحت لهم بممارسة المعارضة للنظم السياسية القائمة.
غير أن ظهور شبكة الإنترنت أحدث ثورة فى مجال الديموقراطية التشاركية لأنها خلقت فضاءات عامة Spaces جديدة سمحت للأصوات المتعددة أن تعبر عن نفسها.
ومعنى ذلك أن هذه الفضاءات العامة الجديدة أصبحت مجالات حيوية لنشر الأفكار النقدية والتقدمية، ومن ناحية أخرى يمكن أن تكون مجالاً للتحكم من قبل الدولة، وإن كان ذلك صعباً من الناحية الفنية وإن لم يكن مستحيلاً. ولابد لنا أن نلتفت إلى أن الإنترنت كفضاء معلوماتى يمكن أن يكون مجالاً لنشر الأفكار التقدمية أو على العكس لنشر الأفكار المحافظة بل والرجعية. وقد رأينا فى العالم العربى مدونات دينية محافظة تنشر الفكر الدينى الأصولى بالمعنى السئ للكلمة، والذى يقوم على أساس القياس الخاطئ والتأويل المنحرف للنصوص الدينية.
وإذا كانت شبكة الإنترنت بفضائها المعلوماتى الواسع الآفاق تقدم فرصاً جديدة للمثقفين التقدميين لكى يمارسوا النقد الاجتماعى المسئول، ويقدموا رؤاهم لمستقبل مجتمعاتهم، إلا أنهم لابد لهم – لكى يقوموا بشكل فعال بهذه الوظيفة – إتقان كيفية التعامل الفعال مع هذه التكنولوجيات الجديدة.
وفى ضوء ذلك علينا أن نؤكد أن شبكة الإنترنت ليست مقصورة على المثقفين التقدميين فقط، لأنها مفتوحة لأصوات اليمين والوسط واليسار.
ويمكن أن يستخدمها من يريدون تطوير مجتمعاتهم إلى الأفضل حتى تتعامل بكفاءة مع تحديات العولمة، وكذلك الرجعيون بل والإرهابيون الذين يستخدمونها لنشر فكرهم الإرهابى.
والدليل على ذلك أن هناك مواقع للجماعات الإرهابية على الشبكة تنشر برامجاً موضوعها "كيف تصنع قنبلة" أو كيف تستخدم السلاح! وليتأمل القارئ خطورة مثل هذه الرسائل القاتلة!
وإذا كانت الصراعات السياسية كانت تقليدياً تتم فى المجالس النيابية وفى المصانع والشوارع، إلا أنها فى المستقبل – وفى ضوء إنجازات الثورة الاتصالية – ستمارس على شبكة الإنترنت ذاتها، كما رأينا فى حالة المدونات السياسية المعارضة لاتجاهات النظم السياسية المختلفة، بما فيها المدونات العربية. فهذه المدونات تحرر فى سياقات عربية شمولية وسلطوية وشبه ليبرالية، تضع قيوداً متعددة على حرية التفكير وحرية التعبير. ومن هنا يلجأ المدونون إلى الفضاء المعلوماتى حيث لا قيود لكى يعبروا عن ذواتهم فى المدونات الشخصية، أو عن معارضتهم لحكوماتهم فى المدونات السياسية.
وعلى ذلك فعلى هؤلاء المهتمين بالسياسة كما ستمارس فى المستقبل وبالتعبيرات الثقافية الجديدة أن يتابعوا بدقة المدونات والمدونون والفيس بوك وغيرها من التكنولوجيات الحديثة.
والفكرة الجوهرية هنا أنه على شبكة الإنترنت يمكن أن نجد أفكاراً ورؤى الغرض منها خدمة الجماهير العريضة وليس خدمة المصالح الطبقية الضيقة للنخب السياسية الحاكمة، سواء كانوا من أهل السلطة أو من رجال الأعمال.
وسيؤدى هذا التطور إلى بزوغ نوع جديد من أنواع الديموقراطية هى ديموقراطية الفضاء المعلوماتى Cyber Space حيث سيتم تعليم الناس كيف يستخدمون شبكة الإنترنت، وكيف يحصلون على المعلومات، وكيف يكونون آراءهم المستقلة، بدلاً من أن يكونوا ضحايا هيمنة الميديا بكل أنواعها كالجرائد والإذاعة والتليفزيون التى تسيطر عليها الحكومات. وهذه الديموقراطية الجديدة ستقوم على أساس تعدد الأصوات الفكرية وعدم هيمنة التفكير الأحادى على عقول الناس.
والواقع أن ديموقراطية الفضاء المعلوماتى – باعتبارها شكلاً مستحدثاً من أشكال الديموقراطية – تطرح على المفكرين والباحثين عديداً من الأسئلة.
ومن أهمها من – فى المستقبل – سيسطر على الميديا، وعن قدرة الجمهور على النفاذ إلى شبكة الإنترنت (لدينا هنا مشكلة الفجوة الرقمية Digition gap).
بمعنى من يملك ومن لا يملك جهاز كمبيوتر يتيح له الإطلاع الدائم على الشبكة، وبالإضافة إلى ذلك هناك أسئلة خاصة بمسئولية الميديا وطرق محاسبتها، وكيفية تمويلها وتنظيمها. ومن ناحية أخرى هناك موضوعات بالغة الأهمية من بينها ما هو نوع الثقافة التى من شأنها أن تنمى الحرية الفردية والديموقراطية وتمنح السعادة للناس، وتساعدهم على تحسين نوعية حياتهم.
هذه كلها أسئلة وإن كانت تتعلق بالمستقبل إلا أنه لابد أن نثيرها منذ الآن.
وفى تقديرنا أن أهم موضوع يستحق مناقشة عميقة هو نوع الثقافة الذى ينبغى تنميتها فى عصر العولمة، التى تميل القوى الدولية المتحكمة فيها إلى تقنين ثقافة رأسمالية – إن صح التعبير – لا تركز على الحاجات الإنسانية الأساسية، ولا تحترم بالقدر الكافى الخصوصيات الثقافية.
وإذا كانت هناك اتجاهات لصياغة ثقافة كونية فعلينا أن نراقب هذه العملية برؤية نقدية، حتى لا تصاغ على حساب القيم الثقافية لحضارتنا العربية الإسلامية.

مراجع أساسية:

  1. السيد يسين، الوعى التاريخى والثورة الكونية: حوار الحضارات فى عالم متغير، القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، الطبعة الثانية، 1996.
  2. خريطة المجتمع العالمى من المجتمع الصناعى لمجتمع المعلومات العالمى، القاهرة، نهضة مصر، 2008.

يتبع