دمشق - رشا بدر

وجزر بشأن الكتاب الورقي والكتاب الإلكترونيسجلت الأمة العربية أولى بوادر التدوين في منتصف القرن الثاني الهجري، إذ تحولت دار الخلافة في بغداد إلى ورشة عمل حقيقية في مجال الترجمة وتقعيد اللغة وكتابة البحوث الفكرية والفلسفية والطبية، إضافة للشعر الذي يعتبره العرب ديوانهم الأول، وفي هذا الإطار أطلق المفكر الدكتور محمد عابد الجابري على ذلك العصر عصر التدوين .

من هنا كانت البداية التي قطع بها العرب أشواطاً بعيدة، إذ أصبح للمخطوطات حضور مميز واحتلت المكتبات العامرة بالكتب والمخطوطات حيزاً كبيراً من حياة الخاصة والعامة على حد سواء، وشغل الناس بالوراقين والمدونين وبات الكتاب شغلهم الشاغل، وفي ما كانت أوروبا تهجع بسكينة ودعة، كان العرب يرتقون سلم المجد .

على مدى قرونِ عدة ظل الكتاب حاضراً بقوة، وتطورت سبل الحصول عليه بالتوازي مع اختراع آلات الطباعة في مستهل القرن الثامن عشر، حيث بات الكتاب يزاحم المخطوطات، ومع ثورة التكنولوجيا التي شهدها العالم في نهاية القرن العشرين ظهر الكتاب الإلكتروني الذي راح ينافس الكتاب الورقي .

كيف ينظر الكتّاب والمفكرون إلى هذا التحول؟ وهل استطاع الكتاب الإلكتروني أن يزيح الكتاب الورقي ويحتل موقعه؟ وكيف تقبل من اعتاد رائحة الورق وملمسه التسمر أمام شاشة الحاسوب وهو يقرأ أحد الكتب الإلكترونية؟ ثم هل نحن حقاً من الشعوب التي تقرأ؟ وهل استطاع الكتاب الورقي احتلال مساحة كبيرة من حياتنا أم ظل هامشياً في حياتنا كما الكتاب الورقي؟ أسئلة طرحناها على عدد من الكتاب في هذا الاستطلاع:

يقول عزت القمحاوي وهو كاتب وصحافي مصري: أعتقد أن أخطر آفات الثقافة العربية هي الهروب من الأسئلة الآنية إلى الأسئلة المستقبلية، والهروب إلى المستقبل هو هروب آخر أيضاً، وقد قرأت وسمعت الكثير من هواجس الخوف على الكتاب الورقي من الانقراض، بينما الكثير مما يصدر عندنا من كتب لا يستحق صفة كتاب، إذا ما أخذنا بالتعريف الأكثر بساطة للكتاب وهو “المطبوع الذي يستحق أن نقرأه أكثر من مرة”، كم لدينا في ثقافتنا العربية من كتب تستحق الاحتفاظ بها من أجل الرجوع إليها في المستقبل؟

هذا هو السؤال الملح الآن، وحقاً لدينا انتعاش في الرواية، لكن لا يمكن لأمة أن تعيش على حكاية الحكايات، نعاني من نقص شديد في العلوم الإنسانية وتخلف في المناهج، ومازلنا نعلم الفلسفة اليونانية بطريقة مدرسية بينما قطع الآخرون مئة عام من المزج بين الفلسفة والنقد الأدبي مثلما قطعوا أشواطاً في دراسات الجسد وعلاقتها بالحياة السياسية والاجتماعية .

عندما تتحقق حيوية الفكر العربي سيعيش الكتاب في شكله الورقي والإلكتروني على السواء، وقد تعلمنا من تاريخ الثقافة أن الوسائل تتجاور وتتعايش وتستفيد الوسيلة من تقنيات غيرها . تعايش فن الرسم مع التصوير الفوتوغرافي بل وتعايش المسرح مع السينما، وكلاهما لم ينهزم بمولد التلفزيون ولم يغن الراديو عن أي من هذه الوسائل ولم تعوض نشرات الأخبار في الراديو والتلفزيون عن الصحف المطبوعة .

بالنسبة لي الكتابة تبقى كتابة وإذا أتيحت في شكلها الورقي فإنني سأكون سعيداً لما يتيحه الكتاب المطبوع من حرية في التعامل معه من دون الحاجة إلى مصدر كهرباء أو اتصال بالإنترنت، لكن بلا شك أسعد بالعثور على النص الإلكتروني عندما يتعذر الحصول عليه ورقياً، وإذا حمل لنا المستقبل التطورات التي بدأت بالفعل على الكتاب الإلكتروني وصار بمقدوره العمل على الطاقة الشمسية ويتاح تقليب الصفحات بسهولة فليس هناك ما يسوغ رفضه .

سيوفر ذلك على الأقل الغرفة المخصصة للمكتبة، وهي أكثر غرف البيت حاجة إلى التنظيف الدائم والتقليم المستمر حتى لا تنمو فيها الحشائش الضارة من النصوص الضعيفة .

وقال الروائي السوري ممدوح عزام: شخصياً أحب القراءة من الكتاب الورقي، وهي عادة ترافقني منذ أن بدأت القراءة، ومن الصعب علي أن أفك هذا الارتباط الجميل، كما أنني لا أرغب في ذلك البتة، إذ لم يقدم لي الكمبيوتر بديلاً مريحاً للقراءة، وهكذا لا أقرأ من الكمبيوتر إلا المواد الصحفية، ولكن ليس لي أي موقف رافض تجاه التكنولوجيا، وبالعكس من ذلك، فإنني أحب أن أطلع على المنتج التكنولوجي الجديد في مجال الكتابة، غير أن الوقت لا يسعفني، كما أن المتغيرات في هذا الباب، تتسارع بشكل هائل، وهنا يأتي الدور “التاريخي” للجيل الجديد من الشباب القادر على فهم واستيعاب المبتكرات المتسارعة، ومن ثم استخدامها في حياته العملية . لا أخشى كثيرا المجادلات الحالية حول النوعين، ليس بسبب خصوصية كل منهما، وهذا حقيقي، بل لأن المشكلة زائفة، على الرغم من أنها موجودة، وقد سبق لآخرين أن قالوا إن السينما أخذت مساحة كبيرة من أملاك الكتاب، ثم بدأت مباراة أخرى بين التلفزيون والكتاب، وادعى كثيرون أن الكتاب بدأ يضمحل بعد اختراع التلفزيون، ومع ذلك لم تسفر المعركة عن الكثير من الخسائر، من دون أن أنكر أن مكانة الكتاب قد تزعزعت . ولكن أين؟ الملاحظ أن البلاد التي تخترع التكنولوجيا لا تعاني من مشكلات التلقي، فالابتكارات هناك تحدث كل يوم، بل كل ساعة، ومن غير المعقول أن يشتبك النقاش كل ساعة حول الأولويات، والملاحظ أيضاً أن الكتاب في المجتمعات الغربية لا يزال يحتفظ بمكانة محترمة، وفي ظني أن النقاش العربي حول مثل هذه الموضوعات ترف ناجم عن البطالة، أو عن العطالة في الحقيقة، فالمشاركة العربية في التكنولوجيا معدومة، والأخطر من ذلك هو أن تلقي المبتكرات يأتي متأخرا عن زمن ابتكارها .

وقال الروائي نهاد سيريس: أتعامل مع النوعين معاً، أي الكتاب الورقي والإلكتروني بالدرجة نفسها من الاهتمام، وبسبب ضعف خدمة اللغة العربية في الكتاب الإلكتروني أنا أفضل الآن قراءة الكتاب الورقي، لأن الأجهزة الإلكترونية لا تخدم اللغة العربية بالشكل الصحيح، لدي كتاب إلكتروني لكنه لا يخدم اللغة العربية مثلما يخدم اللغات الغربية، وإذا كان المستقبل سيحمل بين طياته تطوير الخدمة بالنسبة للغة العربية، سيكون هذا مفيداً جداً لنا، فالشبكة العنكبوتية تحتوي على عشرات الألوف من الكتب الرقمية التي يجب الاستفادة منها .

الأفضل أن نطلب من كل شخص أن يقرأ، سواء الكتاب الإلكتروني أو الورقي ولا أن نضعه في حيرة حول أي الكتابين سيختار؟ وفي بلادنا القراءة تأخذ وقتاً أقل من الأمم الأخرى، فمثل هذا السؤال غير وارد . كما تغيب عن بالنا قضية أن مجتمعاتنا تختلف عن المجتمعات الأوروبية، فمن ضمن اهتماماتهم التخفيف من طباعة الكتاب الورقي، والاعتماد أكثر على الكتاب الإلكتروني، وهذا الاهتمام يأتي من قضية لا تخطر على بالنا، وهي أبعد عن السجال الذي يدور في مجتمعاتنا، فهي إحدى الطرق لحماية البيئة .

وهناك عنصر الوقت، لا حظوا اليوم هم محتاجون لأن يكونوا في كل لحظة على صلة بجريدتهم، فكل لحظة تتغير الأخبار، فأوجدوا شيئا اسمه الجهاز الإلكتروني، والذي تفرعت عنه أجهزة أكثر دقة كاللوح الإلكتروني، إذاً اهتمامهم ينبع من حرصهم على التواصل مع الأخبار، بينما نحن نعتمد على التلفاز، لقد قطعنا مسافة لا بأس بها نسبيا للاستفادة من الانترنت في مجتمعاتنا لكننا متأخرون عن الغرب . وكمثال على ما أقول: نحن ناس تقليديون في تفكيرنا أكثر من غيرنا ولا ننخرط في الجديد فورا مثلهم، الموقف من الجهاز الإلكتروني غير مفهوم، فالحديث عن ملمس الكتاب الورقي والعلاقة الحميمة معه، هو بدوره كان مرفوضاً في السابق عندما تم اختراع الطباعة، أحد أجدادي رفض اقتناء الكتاب الورقي وكان يفضل قراءة المخطوطات، بحجة أنه يشعر بعرق وتعب الناسخ، بينما الكتاب المطبوع مبتذل لأنه يفوح برائحة النفط والأحبار، فكان يفضل المخطوطات ويرفض شراء الكتب .

الخليج
السبت ,11/06/2011