الترجمة من الإنجليزية: مروان حمدان

بورخيسقد لا يبدو الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس مرشّحاً محتملاً ليكون الرجل الذي اكتشف شبكة المعلومات العالمية الإنترنت، فهو رجل من الطراز القديم قضى معظم وقته من ثلاثينيات القرن العشرين إلى خمسينياته في، الادارة المكتبية، وكان يقدّر الكتب المطبوعة ويقيّمها بوصفها مصنوعات يدوية فنية، وليس فقط لما فيها من كلمات. لقد كان غالباً يضع أحداث قصصه في ماضٍ قبل-تكنولوجي، وكان يؤسَر بسهولة بسلطة النصوص القديمة.

رغم ذلك فإن عدداً متزايداً من الكتّاب المعاصرين -سواء كانوا أساتذة أدب أو نقّاداً ثقافيين مثل أمبرتو إيكو- خلصوا إلى القول إنّ بورخيس، بشكل استثنائي، وغريب أيضاً، قد تنبّأَ بالشبكة العالمية (الإنترنت). واحد من الكتب الصادرة مؤخراً، وهو كتاب بورخيس 0,2: من النص إلى العوالم الافتراضية ، وهو من تأليف بيرلا ساسون-هنري، يستكشفُ الارتباطات بين الشبكة غير المركزية للموقع يوتيوب والمدونات وموسوعة الويكيبيديا -أي ما يسمّى الانترنت 0,2- وبين قصص بورخيس، التي تجعل القارىء مشاركاً فاعلاً . إن ساسون-هنري، الأستاذة المشاركة في قسم دراسات اللغة بالأكاديمية البحرية الأميركية، تصف بورخيس بأنه شخص من العالم القديم يحمل رؤية مستقبلية .

عمل آخر، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات حول الموضوع نفسه، عن مطبعة جامعة باكنل، يحمل عنواناً استفزازياً هو Cy-Borges (تشبيهاً لبورخيس بالسايبورغ Cyborg والذي يعني إنساناً أو مخلوقاً بأجهزة كهربائية أو ميكانيكية للوظائف). ويُتوقّع أن يصدر الكتاب هذه السنة.

ومن بين الأعداد الكبيرة من قصص بورخيس ثمة مجموعة رئيسة -تتضمن قصة فيونز الذي لا يُنسى ، مكتبة بابل ، تلون، أوكبار، أوربيس تيرتيوس - ظهرت للمرة الأولى في الولايات المتّحدة الأميركية تحمل عنوان المتاهات في أوائل ستينيات القرن العشرين. وهذه القصص، بمكتباتها اللانهائية ورجالها الذين لا يمكن نسيانهم، وموسوعاتها المترابطة وعوالمها الافتراضية التي يتم استحضارها من الصفحة المطبوعة والبوابات التي تراقب الكوكب بأكمله... هذه القصص (إلى جانب بضع قصص أخرى مثل قصة ألِف ) أصبحت نبراساً يسير على هديه أولئك الذين يقيمون في منطقة تقاطُع التقنية الحديثة والأدب الجديد.

وقد قامت دار نشر اتجاهات جديدة ، التي نشرت المتاهات ، بإعادة إصدار المجموعة في أيار 2007، للمرة الأولى منذ أكثر من أربعين سنة. وفي إشارة إلى تغيّر الزمن، تتضمّن الطبعة الجديدة من المجموعة مقدمةً كتبها وليام جيبسون، المؤلف المهووس بالكمبيوتر. (أما الطبعة الأصلية، وللمفارقة، فقد حملت مقدمة كتبها أندريه موروا من الأكاديمية الفرنسية).
بحلول العام 1955 كان بورخيس قد فقد بصره، ومع ذلك تم تعيينه مديراً للمكتبة الوطنية الأرجنتينية. وفي تقييمه لمأزقه (مأزق العصر الرقمي) المتمثل في عدم إمكانية وصوله إلى الكثير من المعلومات، ووجود طرق قليلة لمعالجتها، كتب بورخيس في قصيدة الهدايا : لا أحد يجب أن يقرأ رثاء الذات، أو ينتقد هذا البيان الذي وفره الله، الذي بمثل هذه المفارقة الرائعة منحني كُتُباً وعمىً بلمسة واحدة .

ما يلي مقتطفات من قصص بورخيس القصيرة التنبؤية -ترجمها أندرو هيرلي في بورخيس: المجموعات القصصية (صدرت عن دار نشر بنجوين العالمية)- إلى جانب أمثلة تمثّل تطبيقاً حديثاً لتلك النبوءات على شبكة الإنترنت.

الموسوعة اللانهائية

* (في ذلك الوقت): من الذي اخترع تْلون، مفرداً كان أو جمعاً؟ إنّ الجمع، كما أفترض، أمر حتمي، إذ إن فرضية المخترع المفرد -بعض أعمال ليبنيز المطلقة في الغموض ومحو الذات- قد تم نبذها بالإجماع. لقد كان هنالك حدس بأنّ (هذا العالَم الجديد) هو من صنع جمعية سرية من الفلكيين، وعلماء الأحياء، والمهندسين، والماورائيين، والشعراء، والكيميائيين، وعلماء الجبر، والفلاسفة الأخلاقيين، والرسامين، وعلماء المساحة... يقودهم ويوجههم رجلُ ظلٍ غامض وعبقري. هناك العديد من الرجال البارعين في تلك المجالات المتنوّعة، لكن القليل منهم قادر على التخيّل - والأقلّ ما يزال قادراً على تطويع الخيال إلى خطة صارمة ومنظّمة. إنّ الخطة واسعة جداً بحيث تبدو مساهمة كلّ كاتب متناهية في الصغر .
(تْلون، أوكبار، أوربيس تيرتيوس-1940).

* (في الوقت الحاضر) ويكيبيديا، مشروع الموسوعة على شبكة الإنترنت الذي بدأ في العام 2001، يحوي أكثر من تسع ملايين مقالة الآن، مكتوبة بأكثر من مائتين وخمسين لغة. هناك أكثر من خمسة وسبعين ألف مُساهم ناشط في الموسوعة، والعديد منهم يظل مجهولاً ولا يفصح عن هويته . وفي الوقت الذي تنمو فيه هذه الموسوعة وتصبحُ أكثر تأثيراً، فإن منطق تشغيلها يبقى لغزاً. القول المُفضّل الشائع بين المساهمين في ويكيبيديا هو: المشكلة مع ويكيبيديا هي أنّها فاعلة في المجال العملي فقط. أما نظرياً، لا يمكنها أبَداً أن تكون فاعلة .

الحياة مثل مدونة (بلوغ)

* (في ذلك الوقت): لقد أعاد تشكيل يوم كامل مرةً او اثنتين؛ لم يسبق له أن أخطأ مرّة أو تعثّر، لكن كلّ إعادة تشكيل استغرقت وحدها يوماً كاملاً. (أنا، نفسي، وحدي، لدي من الذكريات أكثر مما لدى كلّ البشرية منذ أن بدأ العالم)، قال لي ذلك... وثانيةً، قُبيل الفجر قال: ذاكرتي، يا سيدي، مثل كومة قمامة (فيونز - 1942).

* (في الوقت الحاضر): الطريق من المفكرة إلى المدونة (البلوغ) إلى المدونة الصغيرة (مايكروبلوغ) التي يتم تحديثها بشكل متكرر هبطت الآن إلى تدوين الحياة . ولأنهم لا يقنعون بمجرّد تسجيل أفكارهم أو حتى نشاطاتهم اليومية، فإن مدوّني الحياة يسجلون ويحفظون كلّ شيء يرونه أو يسمعونه أو يقولونه أو يقرأونه خلال اليوم. إنّ المُتبنّي الأول المعترف به عالمياً لهذا النوع من التدوين الإلكتروني هو جوردون بيل، مبرمج في الثالثة والسبعين من عمره، يضع مسجّلةً سمعيةً بالإضافة إلى آلة تصوير صغيرة جداً تلتقط صورة كلّ ستين ثانية. في العام 2006، وصف تحليل شخصي في فاست كومباني السّيد بيل بأنه منشغل بشأن ملء المساحة على قرصه الصلب بسرعة كبيرة . إنه يُضيف ما حجمه جيجابايت من المعلومات كل شهر، ويخمّن بأنَّ شخصاً في الثانية والسبعين من عمره سوف يحتاج ما حجمه من واحد إلى ثلاثة تيرابايتات، وهي كمية هائلة من التخزين .

لا شيء يضيع

* (في ذلك الوقت): لقد صعقتني فكرةُ أن كُلّ كلمة نطقتُ بها، كلّ تعبير على وجهي أو حركة من يدي سوف تتحمّلها ذاكرته المتصلّبة؛ لقد أصبحتُ مثل الأخرق بسبب الخوف من إصدار إشارات ليس لها معنى أو هدف (فيونز - 1942).

* (في الوقت الحاضر): في إحدى المرات كان ثمة وقت أمكن فيه للشاعر أن يؤكد بأن الثورة لن تُتلفز . ولكن اليوم، بالطبع، حتى اللقاء الشكلي للشخص السياسي الذي يلتقي فيه بالناس ليحييهم فقط سوف يتم تسجيله للأجيال القادمة. تعلّم السّيناتور جورج ألين من فرجينيا هذا في العام 2006، عندما أظهره شريط تسجيلي له وهو يلقّب مصوّر الفيديو الذي يعمل لصالح خصمه بأنه ماكاكا (نوع من القرود)، وهي صفة ملطخة بالتمييز العرقي، وقد انتشر الخبر مثل الفيروس عبر الولاية، وسرعان ما انتقل إلى بقية أنحاء العالم. وهذا كان سبباً في أن يفقد ألين فرصة إعادة انتخابه.

المكتبة العالمية

* (في ذلك الوقت): مِن بين تلك المسلّمات التي لا جدال فيها والمحسومة، استنتج المكتبي بأنّ المكتبة (كليّة)... أي كلّ ما يمكنه أن يكون معبّراً عنه، في كلّ لغة.... عندما تم الإعلان بأنّ المكتبة احتوت كلّ الكتب، كان ردّ الفعل الأول بهجةً غير محدودة. أحسّ كلّ الرجال أنفسهم أصحابَ كنز سريّ وبِكرٍ لم يُمَسّ من قبل. لم تكن هناك مشكلة شخصية، ولا مشكلة عالمية، من دون وجود حل بليغ لها (مكتبة بابل - 1941).
* (في الوقت الحاضر): في الإعلان بأن مشروعاً دولياً طموحاً لرقمنة مجموعات كتب الجامعات قد تجاوز المليون ونصف المليون علامة، أعلن أحد منظمي المشروع، وهو راج ريدي، أستاذ علم الحاسبات في جامعة كارنيجي ميلون، في تشرين الثّاني الماضي: هذا المشروع يجلبنا إلى مسافة أقرب من المكتبة العالمية المثالية: يجعل كلّ الأعمال المنشورة متوفرة وفي متناول أي شخص، في أي وقت، وفي أيّ لغة . بالنسبة للآخرين، شبكة الإنترنت نفسها هي المكتبة العالمية، حيث يمكن للقرّاء أن يبحثوا عن الوصفات، والمعالجات الطبية، أو عن توافه الأمور، أو حتى البحث عن أنفسهم عبر موقع غوغل.

المصدر: موقع نيويورك تايمز الأميركية)

marwan_hamdan70@yahoo.com

18 يناير 2008


إقرأ أيضاً:-