وسيط إلكتروني يمهد لأدب مختلف

هالة صلاح الدين
(مصر)

وسيط إلكتروني يمهد لأدب مختلفلقد صاحب الاهتمام بتكنولوجيا المعلومات ووسائل الإعلام الحديثة اهتمام مماثل بطرح العمل الأدبي – ومن ثَم تراجمِه – باستخدام تقنيات أصبحت تجسد اليوم جانباً من المشهد الأدبي العربي ككل. وإن لا يشكل المحتوى العربي المتخصص في الترجمة إلا اليسير من مواقع عربية هي نفسها لا تُذكَر مقارنة بالمحتوى الغربي. وعلى العكس من المواقع الغربية المعنية بالترجمة, ينكمش دور مثيلاتِها العربية, مواقع من المفترض أنها ترمي إلى تعميق الفهم العربي لثقافة الآخر وترسيخ قدرة لغتِنا العربية على الاحتواء والتكيف. الواقع أن الثقافة الرقمية أسهمت في إعادة مراجعة بعض مسلماتِنا حول مفهوم الأدب مما يدفع إلى طرح أسئلة ملحة تتعلق بعلاقة الأدب بالوسيط التكنولوجي بوجهٍ عام والإنترنت بوجهٍ خاص. ثَمَّة ضرورة إلى إعادة تشكيل خطاب جديد يكشف المضمَر من هذا التقاطع ووشائجه الأدبية والتكنولوجية. والأسئلة التي قد تتبادر إلى أذهان البعض هي: ما هو موقف المحتوى الأدبي العربي مقارنة بمثيله الغربي؟ هل من الممكن أن تتغير هوية الأدب والتراجم إن انتقلت إلى القارئ – أو بالأحرى المتصفِح – عبر الوسيط الإلكتروني؟ وهل سيُغْنِي الوسيط الحديث التجربة الإبداعية أم يحد من مدلولاتِها الأدبية؟ وهل لازم هذه الحاجة إلى التنظير تحقق فعلي لممارسة رصينة على مستوى المنجَز؟ هل أفرز الإنترنت صيغاً نصية رقمية تمكنت من إعادة مراجعة بعض المفاهيم الأدبية على الرغم أننا العرب لا نزال نحاول القبض على المبادئ الأولية للأدب الرقمي؟ والآن هل يتعارض الأدب المطبوع مع الأدب المرئي كل هذا التعارض؟ ما معنى أن يطالع القارئ الأدب إلكترونياً؟ هل يمكن للأدب الجاد أن يُقرأ من خلال الإنترنت؟ لسنا في حاجة إلى التأكيد على أن الكتب الورقية تبعث إحساساً بالاكتمال في نفوس القراء. غير أن هذا الاكتمال لا يكمن في الحقيقة في تأثير الوسيط قدر ما يكمن في المادة المطروحة, فبَعد أن تَفعل العادة فعلَها في عملية القراءة, لن تختلف صفحة الكتاب عن رابط الموقع. والحق أن الجدل المطروح حالياً بين الوسيط الإلكتروني والورقي ما هو في الواقع إلا جدل بين قراءة الأدب إلكترونياً من جانب وقراءة الأدب الرفيع ورقياً من جانب آخر.

لقد أدى تفجر المعلومات في عصرِنا الحالي إلى ضرورة اللجوء إلى وسائل التقنية الحديثة في سبيل الإسراع في عملية نقلِها وتناقُلِها بين الشعوب المختلفة. ومثلما احتلت الصحافة الإلكترونية جزءاً لا يستهان به من وقت القارئ العربي, لا ينبغي أن تجد الأدب وتراجمَه غريبين عن هذا التطور التكنولوجي. فمع التقدم التقني الهائل واتساع رقعة وسائل الاتصال الإلكتروني، أخذ الأدب شكلاً جديداً في التعامل مع قرائِه حتى تَكَّون له اتحاد يطلق عليه اسم "اتحاد كتاب الانترنت العرب," http://www.arab-ewriters.com الأمر الذي نقل الأدب من واقع العلاقة الخاصة الضيقة بين القارئ والكِتاب إلى عالَم الآخر مترامي الأرجاء, عالَم لا تحده حدود ولا تَحُول بينَه وبين القارئ قيم أو مفاهيم. وعلى الرغم أن الكتاب الورقي لا يزال سيد الموقف، حتى في الدول المتطورة تكنولوجياً، والدليل على ذلك الفارق الكبير بين مبيعات الكتب الورقية والملفات الإلكترونية، فإن التسارع المُطَّرِد الذي اتسم به ذيوع الوسائط الإلكترونية في العقدين الأخيرين ينبئ بتسارع مضاعف في خلال الخمسين سنة المقبلة.
ووفقاً لموقع "إنترنت وورلد ستاتس" http://www.internetworldstats.com بلغ عدد مستخدمي الانترنت العرب في 30 يونيه 2009 نحو 49 مليون مستخدم يَمَثلون ثلاثة في المائة من متصفحي المواقع عالمياً. ولا يتعدى المحتوى العربي نسبة سبعة في المائة من عدد المواقع في العالَم. وبينما يستعين عدد من المطبوعات الأدبية العربية بمواقع إلكترونية توفر للقارئ الشحيح من المواد, تحرص جميع المجلات الأدبية الغربية على طرح أغلب موادِها على الإنترنت, كما هو الحال مع مجلات ذا نيو يوركر The New Yorker www.newyorker.com وذا أتلانتك مانثلي The Atlantic Monthly www.theatlantic.com وزويتروب: أول ستوري Zoetrope: All-Story www.all-story.com وبلاوشيرز Ploughshares www.pshares.org وهاربرز ماجازين Harper's Magazine www.harpers.org. ويُقَدَّر عدد المجلات الأدبية المعتمِدة على الوسيط الإلكتروني وحده في أمريكا الشمالية في مستهل عام 2009 بخمس آلاف مجلة تتزايد باستمرار, أشهرها مجلة ناريتِف ماجازين Narrative Magazine http://www.narrativemagazine.com التي تنشر أعمالاً جديدة لكُتاب معروفين وناشئين على موقعها الإلكتروني بدون مقابل. وهي مؤسسة غير ربحية مُفَرَدَة لتطوير الأعمال الأدبية في العصر الرقمي من خلال دعم المواهب المميَّزة وتشجيع القراءة حول العالَم وعبر الأجيال. وعلى صعيد تراجم القصة والقصيدة المنقولة إلى اللغة الإنجليزية, تنهض العديد من المجلات بنقل آداب الشرق والغرب إلى الإنجليزية وتتمتع بحضور إلكتروني طاغٍ, منها على سبيل المثال وليس الحصر أبسينث Absinthe http://www.absinthenew.com المتخصصة في ترجمة الأدب الأوروبي المعاصر وأمازونيان ليتيريري ريفيو Amazonian Literary Review http://www.smith.edu/calc/alr.html المعنية بترجمة آداب الدول المتاخمة لحوض نهر الأمازون وأناجرام Anagram http://www.jhu.edu/~anagram المعنية بالترجمة من اللغات الآسيوية وكالالو Callaloo http://callaloo.tamu.edu المعنية بتراجم آداب الشتات الأفريقي وبارسيلونا ريفيو The Barcelona Review http://www.barcelonareview.com الصادرة بالأسبانية والفرنسية وبالطبع بانيبال Banipal http://www.banipal.co.uk المتخصصة في ترجمة الأدب العربي إلى الإنجليزية, ومجلات كثيرة أخرى تتنوع مشاربها واهتماماتها, مثل أبسينت ماجازين Absent Magazine http://absentmag.org وأكشن يس Action Yes http://www.actionyes.org وآرتش ليتيريري جورنال Arch Literary Journal http://www.artsci.wustl.edu/~archword وآرتفول دادج Artful Dodge http://www3.wooster.edu/artfuldodge وآشفيل بويتري ريفيو The Asheville Poetry Review http://www.ashevillereview.com وليتمِس بريس Litmus Press http://www.litmuspress.org وباسالت Basalt http://www.eou.edu/artsci/basalt وبيج بريدج Big Bridge http://www.bigbridge.org/index3.htm وذا بيتَر أولياندِر بريس The Bitter Oleander Press http://www.bitteroleander.com وبلو يونيكورن Blue Unicorn http://www.blueunicorn.org وبومباي جِن Bombay Gin http://www.naropa.edu/bombaygin/index.cfm وبوسطن ريفيو Boston Review http://bostonreview.net وكارت بلونش Carte Blanche http://www.carte-blanche.org الصادرة عن فيدرالية كيبيك للكُتاب وسينتِر Center http://center.missouri.edu.

يَلوح لي أن طرح تراجم القصة القصيرة أكثر ملائمةً للوسيط التكنولوجي من الأنواع الأدبية الطويلة كالرواية. لكن لِم قد تتواءم القصة القصيرة كنَوْع أدبي مع الأداة الإلكترونية أكثر من غيرها؟ نشر فرانك أوكانِر Frank O'connor دراسة عن هذا الجنس الأدبي بعنوان الصَّوت المتوحد. أراد أوكانِر أن يعثر على وسيلة للتفرقة بين القصة من ناحية والرواية من ناحية أخرى. وقد أوحى عنوان دراستِه بطبيعة استنتاجه: لا تتميز تقنيات القصة عن غيرها لأنها, بوصفِها فناً انتقائياً وليس شاملاً, تستطيع أن تبني نفسها من خلال عدد لا نهائي من الوسائل. كذلك أشار إلى أن طول القصة لا يحسم المسألة؛ فالعديد من القصص العظيمة طويلة كل الطول. إن ما يجعل القصة القصيرة شكلاً أدبياً مميَّزاً هو, على حد قول أوكانِر, "وعيها الحاد بالاستيحاش الإنساني." إن إلحاحية هذا الاستيحاش وجدته المتواصلة تتناغم مع سرعة تجاوب الوسيط التكنولوجي المتجرِّد على العكس من فن الرواية المتسم بخضوعه لعوامل هي مجتمعية بالأساس. إن القصة الحديثة كجنس أدبي تتعاطى مع "الفئات المغمورة من السكان," أفراد مُنعوا بطريقة أو بأخرى من العيش ضمن ثوابت الحضارة – أقليات ودخلاء ومهمشين لا يوفر لهم المجتمع مكاناً أو وسائل يشعرون معها باحترامهم لذواتهم. وعلى النقيض يعتقد أوكانِر أن الأدب الروائي يفترض أن الإنسان "حيوان يعيش ضمن حدود المجتمع كما يتضح في روايات جين أوستين وأنثوني ترولِب." الحق أنه يمكننا الاعتراف بنزوع القصة القصيرة إلى عزل الفرد, عل السبب يكمن – للمفارقة – فيما رفضه أوكانِر من عوامل تقنية. فالقصة بصفتِها نََوْعاً أدبياً خاصاً ربما لا يمكن تعريفها من خلال بنيتِها أو طولِها إنما العامل الحاسم هو مقياسها. فبحكم أبعادِها الكلية الأصغر من الرواية, هي أدبٌ يفترض أن المجتمع ما هو إلا ظلمة تحوم حول دائرة قصصية من الضوء. وبمعنى آخر, إن مقياس القصة القصيرة يجعلها ميالة إلى عزلة النفس, تماماً كعزلة فرد ينفرد بجهاز آلي. وأي شخص محروم من ثوابت الحضارة بالقصة القصيرة قد يعزو المسألة إلى اهتمام القاص بالإيجاز, إيجاز يستغله الوسيط الإلكتروني ليُبرز معالمَه ويشدد على مكوناته الفنية. وقد تضمنت فرضية أوكانِر الفئات المغمورة على المستوى الرُوحي وليس المادي – الفنانين والحالمين والمثاليين واللا أبطال وغيرهم. لكن مَن ذا الذي لا ينتمي إلى جماعة مغمورة؟ إن الصَّوت المتوحد جَوْقَة عالمية, وما تبقى لدينا هو حقيقة تقول بأن القصة كشكل أدبي تتعاطى مع الحالة الإنسانية, حالة وجدت خير السبل للتعبير عن نفسِها من خلال شبكة عالمية تتساوى فيها الأعراق والأجناس والطبقات الاجتماعية كافة.

إن اختلاف الوسيط ليس مَدْعَاة إلى التشتت والإحجام بل باعثاً على التكيف والتناغم مع ضروريات العصر الحديث. وانتقالاً من أكوام متمايلة من المطبوعات التقليدية المحسوسة إلى مواقع عربية معقدة البنية تدعمها المؤسسات الحكومية والهيئات الأهلية بل والأفراد, سوف يضمن عدد المجلات الأدبية الإلكترونية وجود على الأقل بضعة إصدارات عالية القيمة وإن كانت محدودة التأثير. ثَمَّة محاولات أهلية تستدعي الانتباه لترجمة الآداب الأجنبية إلى اللغة العربية إلكترونياً غير أنها تتوارى خجلاً مقارنة بمواقع تترجم لغات الشرق والغرب إلى اللغة الإنجليزية مثلاً. فمن بين متاهة المواقع الأدبية العربية تَبْزُغ ثلاثة مواقع تُقَّدم تراجم حصرية بدون مقابل إلى القارئ العربي متخطية بذلك النشر الورقي وبيروقراطية دور النشر ومشاكل الرقابة والتوزيع. من بين هذه التجارب مدونَة "هكذا تحدث كوهين" (http://hkzathdthcohen.blogspot.com) التي تُفْرِد صفحاتَها لترجمة الأدب العبري. ينهض بترجمة محتواها وتحريرِه الروائي والصحفي المِصري نائل الطوخي. وتُعتبر هذه المدونَة هي الوحيدة من نَوْعِها في العالَم العربي سواء ورقياً أم الكترونياً. استهلت نشاطَها في مارس 2009 لتُقدم حتى 3 أكتوبر 2009 ثمانياً وعشرين سيرة لمبدعين ومبدعات يكتبون بالعبرية وسبعة فصول من روايات مختلفة وسبع قصص وأربعاً وثلاثين قصيدة. تُعَرِّف المدونَة القراء بأدباء إسرائيليين كِبار وشبان تُترجَم أعمالُهم للمرة الأولى إلى اللغة العربية. وقد تنازل جانب منهم للمدونَة عن حقوقهِم المادية في ترجمة أعمالهِم ونشرِها.

لا يزال الأدب الإسرائيلي المعاصِر – بل والقديم منه – مُغيَّباً تمام التغييب في المطبوعات العربية "شأنُه شأن آداب مهمشة تطغي سمعتُها السياسية على سمعتِها الفنية كالأدب الإيراني," وفقاً لكلمات نائل الطوخي, فهي آداب مشحونة سياسياً لا ترتاح المطبوعات لنشرِها وتَنظر إليها كالناظر إلى وثيقة سياسية لا نص أدبي. "هكذا تحدث كوهين" مدونَة لا يمكن وصفها بالشخصية, يرى محررُها أن نشر نصوصِها كان حاجة أقرب إلى الضرورة، أو بالأحرى مغامرة. لا تعبأ المدونَة بما تعبأ به الصحافة العربية عند تعاطيها مع الأدب الإسرائيلي. إذ ينصب اهتمامُها الأساسي على خيرة النماذج الأدبية فقط لا غير لتنأى المدونَة عن أية اعتبارات سياسية. لا تخلو بالقطع من سياسة أو شعر احتجاج أو قصص تُعَلِّم القراء الكثير عن الشرقيين والهولوكوست وبدايات الصهيونية. وعلى الرغم أن محرر المدونَة يشدد على أن عملية التدوين شخصية في طبيعتِها مما يتيح له تجاهل العداوة السياسية الكامنة بين العرب وإسرائيل, يتعاطى المترجم مع النتاج الأدبي الإسرائيلي بحيادية تامة, مثلما يتعاطى أي مترجم مع أي أدب، مانحاً القراء الحق في استخلاص الدروس السياسية والأدبية. البادي أن المحرر يَعمد إلى الالتزام بمعايير فنية محضة في اختيار النصوص دون الخضوع لأي حسابات سياسية. فالهدف حسبما يقول, "هو تناول هذا الأدب الموجود فعلياً على أرض الواقع, ما كان منه سياسياً وما لم يكن, وليس مناقشة شرعية وجودِه." وهكذا توحي المدونَة بأن الصراع يَفرض دوماً حتمية الاستزادة من المعرفة. ترسل المدونَة المواقف الأدبية وفق منهج جدلي دون أن تتخذ موقفاً ضد السياسة بالمطلق في الأدب لتُشعل فتيل إشكالية دون أن تطفئها بتعليق أو استدراك أو شرح. وعلى الرغم أن مواد المدونَة قد تبدو صادمة للوهلة الأولى لالتزامِها بنقل المستويات اللُغوية للنصوص بأمانة كاملة, تظل المرجع الأول والأخير لمن يود التعرف على الأدب الإسرائيلي.
وفي السياق ذاتِه لا ينبغي أن نُغْفِل الإشارة إلى مدونَة "إيران خان," وهي مجلة نصف شهرية ناشئة تخطو خطواتَها الأولى, ويحررها الشاعر والمترجم المِصري أيمن بدر (http://irankhan.blogspot.com). تهتم المجلة بترجمة الأدب الفارسي وتقديمه إلى القارئ العربي مع التعريف بالثقافة الفارسية. لا تتوانى المجلة في عرض نماذج من الفن التشكيلي الإيراني والموسيقى وبعض مقاطع من السينما الإيرانية. وقد ترجمت حتى أكتوبر 2009 سبع قصائد وثلاث سير ذاتية وثلاث مقالات.
المشروع الثالث هو مجلة البوتقة التي أسعد بالإشراف على تحريرِها (http://albawtaka.com). البوتقة هي فصلية عربية إلكترونية مستقلة لا تَبغي ربحاً تنصب غايتُها على عرض مشهد غير منقوص لإبداع آداب اللغة الإنجليزية المعاصرة دون إعلاء أسلوب من الأساليب فوق غيره. استهلت المجلة إصداراتَها في إبريل 2006 لتتواصل بصورة شهرية حتى إبريل 2007 ثم تحولت إلى فصلية بدءاً من يوليو 2007. نشرت حتى عددِها الرابع والعشرين الصادر في يناير 2010 خمساً وخمسين قصة قصيرة ورواية واحدة وستاً وأربعين سيرة. خط أغلب القصص كُتاب أمريكيون غير أن المجلة تحوي قصصاً بقلم بريطانيين مثل كازو إيشيجورو ودوريس ليسينج وآدم هاسليت. كما نشرت المجلة إحدى قصص الكاتبة النيجيرية أدا أوديتشوكوو وحصلت على الحق في نشر إحدى قصص الكاتب الكندي ستيفِن هايتِن في أعدادِها القادمة. يروقني الاعتقاد بأن المجلة – لكوْنِها أولى التجارب في هذا الصدد – قد مهدت الطريق لاتخاذ خطوات جادة لترجمة الآداب الأجنبية عبر وسائط بديلة قد تتراءى الآن في الحقيقة حتمية. لقد كان خيار النشر الإلكتروني خياراً واعياً منذ بداية تأسيس المجلة, وأخالُها قد أقدمت على خطوة رائدة حين اعتمدت اعتماداً كاملاً على الوسيط الإلكتروني دون غيرِه في توصيل رسالتِها. ومثلُها مثل المشروعين السابقين, تَصدر من جمهورية مِصر العربية وتلتزم بنشر تراجم حصرية على نحو منهجي ونظامي, إلا أنها على عكس المشروعين السابقين تحرص على الحصول على حقوق ترجمة جميع القصص ونشرها من مبدعيها أو وكلائِهم الأدبيين لتصير المجلة الإلكترونية الوحيدة التي تمتلك حقوق نشر نصوصِها العربية المترجَمة. ولا مِرَاء أن المجلة تدين بالفضل لمبدعين منحوها حقوق نشر أعمالِهم بدون مقابل في أغلب الأحيان أو لقاء مقابل رمزي.

تتكل مجلة البوتقة كلية على الوسيط التكنولوجي في توصيل رسالتِها غير أن هذا لا يعني انقطاعَها عن أرض الواقع. إذ تهتم اهتماماً خاصاً بأقلام تتناول قضايا إنسانية تَكشف النقاب عن المحجوب من بلايا البشرية، أقلام تُعبر عن مضطهدين لا صَّوت لهم وتبعث برسالة إلى القارئ عبر تجارب المبدعين الفنية. وبالإضافة إلى تقديم كُتاب ذائعي الصِيت، تسلط البوتقة الضَّوء على آخرين لم ينتهوا من قبل إلى آذان القارئ العربي وإن كانوا ينسجون مؤلفات لا ينقصها الإبداع. واتساقاً مع وسيلة إلكترونية لا تعترف بالحدود أو الفروق بين البشر, لا تتكل المجلة بأي شكل من الأشكال في اختياراتِها على ألوان المساهمين أو أجناسهِم أو أعراقِهم أو أديانِهم أو اتجاهاتِهم الأيدلوجية, ولا تتبني أية أجندة سياسية أياً كانت. وعلاوة على تقديم أدب راقٍ بلغة عربية فصيحة, تضع البوتقة معياراً جديداً لفن السيرة لتُبرز تفاصيل التواريخ المهنية للمساهمين فيها وتصير أشمل مرجِع يتناول مسيرة المبدعين الأدبية والفنية سواء بالعربية أم الإنجليزية.

ورغم أني انتقيتُ القصة تِلْو الأخرى بلا أي تفكير في تأثيرِها الكلي أو علاقة الواحدة بالأخريات, تبلورتْ قصص مجلة البوتقة لتعكس التركيبة السكانية المتطورة للمجتمع الأدبي الأمريكي. لقد نشرت البوتقة أعمالاً لأسماء لامعة في المشهد الأدبي الأمريكي, لا تعبيراً عن تلك القارة وحدِها, بل تعبيراً عن اليابان والهند والصين والبوسنة وهاييتي وأيرلندا وإنجلترا لتسلط القصص الضوء على أوطان خلفها المهاجرون بحثاً عن حياة أفضل؟ أسوأ؟ أحياناً ما يجهلون هم أنفسهم الهدف. بل إن الأمريكية مارلين كريسل كتبت واحدة من أجمل القصص عن معاناة امرأة وأم في الحرب الأهلية بسريلانكا. كذلك حاكت إديث بيرلمان قصتها "الألوج" في إسرائيل. واختار الأمريكي جيس رو هونج كونج مكاناً لإحدى قصصه. كذلك كانت المغرب مسرحاً لقصة "حادث بعيد" بقلم بول بولز المفزع. وبالطبع لم أُقَصِّر في إدماج كتابات إدوارد بي. جونز أو بيرسيفال إفيريت, الأمريكيين من أصل أفريقي أو أدب نسجه مبدعون انحدروا من سكان أمريكا الأصليين كشيرمان أليكسي ولويز إردريك. لقد جذبت القصة القصيرة المهاجرين في أمريكا ممن استخدموا هذا الجنس الأدبي لطرح مدى واسع من الجغرافيا والثقافة. وفي مجال الأسلوب وتقنية السرد غطت ما يمكن تسميتُه بما بعد فرويد أو القصة السيكولوجية، وقصص الفانتازيا والخيال، وقصص الواقعية السحرية، وقصص الأبعاد اللغوية التي تُعبر عن نفسِها بالحضور المادي الواضح للغة. لا تزال تلك الأصوات المهاجرة منهمكة في بناء مشروعِها القصصي, تحصد الجوائز وتستقطب اهتمام النقاد وتحجز الأماكن في المختارات القصصية والدراسات والموسوعات. سوف يتبين القارئ في مجلة البوتقة عالمية الضمير الأدبي. سوف يجد أيضاً دليلاً على ما منحه انصهار المهاجرين للأمة الأمريكية من طاقات نابضة بالنشاط والحياة. ولا شك أن هناك كُتاباً مشهورين يواصلون مسيرتَهم الإبداعية لطرح فن قصصي رفيع المستوى يناقش قضايا الإنسان والمجتمع وقيم الحرية والاغتراب والهجرة والتكنولوجيا والحرب والأزمات النفسية. وهكذا تحرص المجلة على إبراز عالَم مفتوح الجنبات من بين هذه القصص الألمعية, وليس صفحة واحدة فقط من صفحات الحياة الأمريكية, لتؤكد على إنسانية الأدب وتكْشف الوجه الحقيقي لثقافة ثرية ثراءً مكَّنها من استيعاب كل هذه الخلفيات العِرقية من خلال الأدب, وعليه أصبحت المجلة نافذة متكاملة لا بديل عنها تُطِل على فن القصة المعاصر. وأنا لا أعني هنا الإيحاء بتماثل نبرات كل القصص وأمزجتِها وحالاتِها. فمواقف الفكاهة والدهشة والسكينة والرعب والحزن والرواقية والحب تلوح من بين هذه الصفحات الإلكترونية. تطرح المجلة الحكايات الرمزية كما تكرر بعض القصص أصداء واقعية مباشِرة تتخلل الفقرات الأولى. ولكن قبل كل شيء سوف يستشعر القارئ الحياة المحسوسة يعطيها القاص الموهوب... الذي يرسل على الدوام صَّوتين في العالَم المتوحد, صَّوت الشخصية وصَّوت الكاتب.
لم يكن حث القراء على مطالعة القصة القصيرة إلكترونياً باليسير في البداية. فهو جنس أدبي يَعُدَّه الكثيرون في سبيلِه إلى التهميش بل إن مبيعاتِه العالمية لا تحقق ما تحققه الرواية, وعليه يتفنن القصاصون المتحدثون بالإنجليزية في ابتداع أساليب فنية جديدة. البحث جارٍ على قدم وساق لابتكار تكنيكات ومناهج مختلفة في طرح النص, وإن كان إلكترونياً. ثَمَّة هوس قائم بالأسلوب وكيفية تقديم الحبكة مما يجعل نقل تلك القصص إلى العربية مهمة عسيرة قد لا يستسيغها القاري العربي عبر الوسيط التقني, ولا سيما إن اقترنت بعنصر الفانتازيا أو الخيال العلمي أو أجواء لا يعهدها القارئ العربي كالأجواء اليهودية التي تشيع في مجلة البوتقة بوجه عام.
الحقيقة أن هناك مَن يعتبرون أن طباعة المحتوى الإلكتروني "أفق" أو تطوير, أَعْتَبِرُه أنا تراجعاً إلى الوراء. ثَمَّة دراسة حديثة استعانت بها جريدة ذا نيويورك تايمز تُنهي إلينا بأن الصحافة الورقية سوف تندثر في العالَم بحلول عام 2122. لن أندم كثيراً على انهيارِها, فبعد مرور قرون من اختراع المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر على يد الألماني جوتنبرج, آن الأوان للتغيير. إيماني عميق بالوسائل التكنولوجية البديلة, وأعتقد جادة أن طباعة تلك الكميات المهولة من الورق يومياً من قِبل البشر يهدد ثروة الأشجار في العالَم أجمع. أظن أن الاعتماد على أجهزة الكمبيوتر أفضل بيئياً وأربح اقتصادياً لطبيعتِها المعمرة. ورغم أن الجسد البشري ليس مهيأ للاعتماد على الحياة المكتبية كل هذا الاعتماد, ورغم معضلات التخلص من مخلفات أجهزة الكمبيوتر, أعتقد مخلصة بأنه زمن التكنولوجيا والوسائط الإلكترونية. فالزحف الإلكتروني في طرح الأدب وتراجِمه, سواء تسارع في بعض الدول أم تباطأ في دولٍ أخرى, آت آت. وعلينا جميعاً من هيئات وأفراد أن نتكيف معه ونتقبل طغيانَه على الساحة الأدبية وليس فقط الإخبارية ونعتنقه راضين. ورغم ذلك حازت التجارب المعنية بترجمة الأدب إلكترونياً اهتماماً من المطابع! سوف تصدر قصص البوتقة قريباً في صورة ورقية بالتعاون مع المركز القومي للترجمة في القاهرة ودار العين للنشر والتوزيع في محاولة لفتح نافذة جديدة أمام جمهور أدبي لا يتعامل مع الإنترنت من أجل الاطلاع على فن جميل لا ينفك يتطور يسمى القصة القصيرة.
وعلى الرغم أن المشاريع المشار إليها سابقاً مشاريع محدودة الموارد تنهض بها جهود فردية تتمثل حرفياً في ثلاثة أفراد, فهي تجارب رائدة لا تفتقر إلى الجدية الكاملة في ترجمة الأدب الأجنبي إلى العربية, بما يَدْحَض مقولة البعض, وأولهم الحكومات العربية, بأن كل ما يَصدر إلكترونياً رديء الفحوى لا قيمة له. إن انفراد هذه التجارب بمواد حصرية دليل على أن الأدب الإلكتروني بات وثيقة ذات هوية ينبغي أن يرنو إليها المشهد العربي باحترام ومصداقية. تجاهد المشروعات السابقة كيلا تطرح نصوصاً متماثلة في الحبكة والأسلوب بما أن كل مشروع تنهض به عين وحيدة تتسلط على النصوص, تجاهد كي تُقدم إلى القارئ العربي العالَم من منظور مختلف غير المنظور الشخصي للقائمين عليها. وتنظر هذه المشاريع إلى فعل الترجمة الإلكترونية نظرتها إلى وسيلة تحاور عالمية توسع من دائرة التلقح الأدبي والاكتساب المعرفي، وبالتالي بوصفِها حواراً مفتوحاً بين الحضارات وتفاعلاً ثقافياً ونافذة اطلاع مجانية عبر اللغة، في عصرٍ بات يمتاز بتحديات التداخل اللا متناهي بين الأمم. وهنا يجب التأكيد على أن الوسائط متعددة بَيْدَ أن الهدف واحد, بل والتأثير أعمق في حالة النشر الإلكتروني. آن الأوان للانطلاق صوب ثورة المعلومات حتى بصحبة تجربة رومانسية مثقلة بالشحنات العاطفية كالأدب.

المدهش أن محتوى التراجم المتاح إلكترونياً يعاني كل مشاكل التراجم الورقية. فهناك نُدرة واضحة في المترجمين الجيدين وعزوف عن تناول الأعمال المعاصرة, وإن وُجِدت تراجم حديثة شاردة في مجلة ما أو مدونَة ما, شابها عدم الدقة ونقص الاحترافية. لكن لِم قد تلجأ هيئات التحرير إلى إنشاء مواقع أدبية بديلة عن النشر الورقي. الأسباب هنا لن تصب في صالح الورق. إذ تُحَدِّثنا المقارنة بأن الإنترنت وسيط دائم متجدد الحياة؛ بمقدور محرري المجلات تغيير كلمة أو تبديل عبارة وقتما يرغبون. وتحرص مجلة البوتقة على تحديث سير المؤلفين عن طريق الاطلاع على أحدث الإصدارات النقدية الصادرة في أمريكا الشمالية, وعليه تضيف دورياً الكثير من الفقرات بعد شهور من نشر الروابط لخدمة المتصفح الجديد. كما أن الإنترنت رَحْب فسيح. لن تهيمن معه دائرة توزيع جغرافية على وصول النصوص إلى القراء أو تنفد النسخ من الأسواق أو حتى يَبْلَى الورق! إنها حياة دائمة للأدب.
كذلك يَعلم المشهد الأدبي العربي أن الرقابة واحدة من أهم مشاكل المطبوعات. ومن الملاحَظ هنا أن مفهوم الأدب الإلكتروني ووظيفتَه يختلفان في مجتمعاتِنا العربية عما هو عليه في الدول الغربية. فالرقابة في الغرب شبه معدومة, إن لم تكن معدومة بالمطلق، لذا ينحصر دور الأدب الإلكتروني في الغرب في تسهيل وصول النصوص الأدبية إلى القارئ وإشاعتِها. على حين تَعتبر المواقع الأدبية العربية الإنترنت وسيلة تعبير حرة استطاعت القفز فوق جدار أجهزة الرقابة الحازمة وهيأت الفرصة لتجاوز الثالوث المحرَم: السياسية والجنس والدين. ولا رَّيْب أن أحد مميزات الوسيط الإلكتروني هو تمتعه بنسبة عالية من الحرية تستغلها المواقع بكفاءة ما بعدِها كفاءة. ولِم يتحتم على المترجم أو المحرر أن يُحْجِم عن نشر عمل في صورته الورقية لتدخل يد الرقيب على حين يتاح بديل إلكتروني للنشر. مجلة البوتقة على سبيل المثال مجلة ليبرالية الاتجاه – وإن كانت لا تعلن ذلك صراحة – لا تستهدف لوناً أو عرقاً أو جنساً أو ديناً. تتناول بعض نصوصِها قضايا جدلية كالمثلية الجنسية على حين تشتمل مجلة البوتقة ومدونَة "هكذا تحدث كوهين" على كلمات بذيئة لن يرحمها مقص الرقيب. إذ تَعمد المجلة والمدونَة إلى نقل تفاصيل النصوص بغرابتِها وشذوذِها, بل وسُوقيتِها. وكم من المجلات العربية ودور النشر يَسَعُها نشر تراجم للأدب العبري بكل أريحية دون أن تنتظر اتهاماً بموالاة العدو.
ولا يَخفى عليكم أن قلة عدد المنخرطين في ترجمة الآداب الأجنبية عبر الوسيط الإلكتروني مرجِعُه الافتقار إلى ما يلزم من دعم تكنولوجي ومادي لمزاولة نشاطِهم. لا تجد معظم المواقع الأدبية العربية دعماً من المؤسسات الحكومية, وعليه تضطر إلى اللجوء إلى الإعلانات لتحقيق الأرباح. وهنا تتعثر في عقبتين: الأولى فرض الشركات المعلنة أو الرعاة لأجندة مُعينة على محتويات المواقع. الثانية العزوف النسبي للقارئ عن الاطلاع على المادة الأدبية عن طريق الإنترنت مما يؤدي إلى قلة الزوار. لذا تنهار المواقع الأدبية بسرعة قياسية أو على أقل تقدير تتصدرها مواد مبتذلة لا تخدم المشهد الأدبي العربي في شيء. وتنفرد المشروعات السابقة بأنها ممولَة بجهود ذاتية مما يجعلها نوافذ أدبية مستقلة بحق! لا راع أو ممول يفرض عليها شروطَه, ولا مؤسسة حكومية أو حتى أهلية تتدخل في انتقاء النصوص أو فرض أيدلوجية معينة. كذلك تخلو صفحاتُها من الإعلانات مما يجعلها مستقلة تمام الاستقلال.
كما أن الكثيرين يَعتبرون الإنترنت نفاية وسائل الإعلام, وعليه ينشرون بين صفحاتِه أدباً رديء المستوى يدفع القارئ إلى الانصراف عنه وفُقْدَان الثقة في المنشورات الإلكترونية. الحق أن تكرار مواد المواقع الأدبية لا يحفظ لها خصوصية أدبية متفردة ولا ينم عن رسالة محددة يسعى محررو المواقع إلى إيصالها للقارئ. لذا تحرص مدونَتا هكذا تحدث كوهين وإيران خان وموقع البوتقة على نشر أعمال لم تَظهر بعد باللغة العربية, بل والتعامل مع مؤلفين لا تَعرفهم العربية قط. ولا يمكن إنكار أن الشبكة العَنكبوتية العربية تزخر بكل ما هو غث ومهمَل من النصوص الأدبية والتراجم. ومع ذلك يمتلك الأدب الخلاق القدرة على نقل القارئ أدبياً إلى مساحات أوسع من الخيال بحيث تَحتمل التكنولوجيا كل ما يطرحه الأدب من عواطف جياشة. إن الوسيط رسالة في حد ذاتِه إلا أننا نَشغل الآن عالَماً تتداخل فيه الوسائط فيتعذر تعيين الحدود بينها. ولا يزال الأدب بمنأى عن هذه الإشكالات متجسداً كل التجسد في شتى الصور ورقية كانت أم تقنية ليَخلُق شرطَه الخاص في الوجود والديمومة. فهو ليس بعاجزٍ عن التكيف والتلون ببلاغته وأجوائه ليحتوي بل ويفرض سيطرتَه على الوسيط الناقل.

ما زالت المواقع العربية المختصة بالأدب تخطو خطواتَها الأولى مقارنة بطفرات حققتها التقنيات الغربية لتوصيل الأدب إلى القارئ أينما كان. وعلى حين تتعامل المؤسسات العربية مع النشر الإلكتروني باعتبارِه سُوقاً للتجربة أو آلية لطرح عينات أدبية غير كاملة, أي وسيلة من وسائل الدعاية, وليس قناة تسويقية قابلة للتطبيق والنمو, سبَقنا الإعلام الغربي بمراحل في الاعتماد على الوسائط التقنية في نشر الأدب والمحتوى المعرفي. الحق أن الشبكة الإلكترونية باتت الآن خطوة متأخرة قليلاً تجاهد تكنولوجياً للحاق بجهاز صغير يدعى كينِدل Kindle! ففي نوفمبر 2007 طور موقع بيع الكتب أمازون http://www.amazon.com برنامج "كيندِل بوكس" Kindle Books لقراءة الكتب باستخدام الأجهزة الرقمية "كيندِل, كيندِل تو, كيندِل دي إكس" Kindle, Kindle 2, Kindle DX. بمقدور هذا الجهاز أن يضم 1500 كتاب ويتصفح المجلات والمدونات وكل أنواع المحتويات الرقمية على الشبكة العَنكبوتية. ويستعين أمازون بخدمة تَحمل نفس الاسم "كيندِل" لطرح ما يربو على 351,402 مادة تتناول شتى المجالات. وباستخدام نفس الجهاز يمكن الاطلاع على كتب جوجل بوكس Google Books التي تحوي قُرَابة عشرة ملايين مرجع وموقع مينيبوكس http://manybooks.net ومشروع جوتنبرج http://www.gutenberg.org/wiki/Main_Page. وهو أول وأكبر مشروع غير هادف للربح لطرح الكتب إلكترونياً. أسسه الأمريكي مايكل هارت ويبلغ عدد كتبِه 20,000 كتاب. كما تصل الجرائد والمجلات الكبرى الصادرة في أمريكا وأوروبا – مثل نيو يورك تايمز, وول ستريت, واشنطون بوست, تايم, أتلانتيك مانثلي, فوربس, لو موند, ذي أيريش تايمز – أوتوماتكياً إلى هذا الجهاز المعجزة. إنه إذن مكتبة صغيرة في جهاز صغير يمكن حملُه إلى أي مكان في العالَم, مما يجعله ثورة جديدة في مناهج القراءة اللاسلكية.
كذلك استغنت أمازون كلية عن الوسيط الورقي حين استهلت سلسلة حديثة لنشر القصص القصيرة حصرياً عبر الوسيط الإلكتروني في صورة ملفات PDF وصفحات HTML وكذلك ملفات نصية يرسلها الموقع إلى بريد القراء الإلكتروني. وهكذا خصص واحد من أكبر مواقع بيع الكتب في العالَم أعمالاً أدبية كاملة وتراجم للبيع عبر الإنترنت فقط لا غير متجاهلاً أصوات طالبت بطباعة المواد, وهو بتلك الخطوة يعلن دعمه لبديل عصري للورق لا مفر منه. وقد بات من غير المستغرب على الإطلاق أن تَصدر ملفات إلكترونية تضم الأعمال الأدبية الغربية لقراءتِها على شاشة الكمبيوتر في نفس توقيت صدورِها ورقياً. بل إن ثقافة الأدب المسموع بدأت تَلوح في الأفق, إذ تظهر بصورة دورية نسخ إلكترونية مسموعة من الكتب الورقية في ملفات MP3 و WMA لنجد الأدب المسموع وقد احتل الشوارع والطوابير والمتنزهات بل والمتاجر والعيادات الطبية الغربية. ويعد موقع لايبريفوكس http://librivox.org واحداً من أبرز ناشري الكتب السمعية في العالَم. إذ ينتج من 60 إلى 70 كتاباً سمعياً في الشهر. ويسهم المتطوعون – نحو 1500 متطوع – في تسجيل هذه الكتب كخدمة عامة لجمهور القراء. وهناك محاولات عربية محدودة في هذا المجال, منها الكتب التراثية المسموعة في موقع الوراق http://alwaraq.net والمَجْمَع الثقافي http://www.cultural.org.ae.
لم يعد من الغريب أن يطالع القارئ قصة بأكملِها ويستغرق فيها, بل ويستمع بها على شاشة الكمبيوتر, لا على الرغم من الشاشة بل بمعاونة الشاشة. وقدرة قارئ الأدب على التركيز في النص ليست متوقفة على وسيلة التوصيل, وإنما على عادات القارئ الشخصية وأهدافِه من القراءة. الحق أن عوامل التشتيت الإلكترونية قابلة للتجاهل لو عزَم القارئ على تجاهلِها. وقد تم تصميم مجلة البوتقة بهدف تجنب العوامل الإلكترونية السلبية وتركيز الانتباه على حروف سوداء تمتد على خلفية بيضاء ليس إلا. ولتدريب القاري على التركيز ومتابعة النصوص, تنشر مجلة فايف تشابترز الإلكترونية الأمريكية http://www.fivechapters.com خمسة أجزاء من إحدى القصص القصيرة طيلة الأسبوع عدا العطلة الأسبوعية, وهي صورة أخرى لصيغة السلاسل الكلاسيكية التي انتهجها الناشر إتش. بيري هورتون H. Perry Horton في مجلته الورقية إليبسيس Ellipsis.
وتحفل الساحة الإلكترونية الغربية بتجارب قد نجدها نحن العرب غريبة بعض الغرابة. إذ يتجه عدد من الكُتاب الأمريكيين المُجَدِدِين إلى خلق عملية إبداع تحاورية مع جمهور القراء عبر مواقعهِم الشخصية ومدوناتِهم. إذ يطرحون هياكل مجردة لأعمالِهم المستقبلية ليتيحوا فرصة للقارئ للتعقيب, أو يَشرعون في نشر فصل ويتركون للقارئ مساحة للمساهمة في تعديلِه ورسم خطوطِه لينتهي المبدع بكم هائل من الاقتراحات قد يسهم في التشتت والبلبلة في بعض الأحيان, وقد يسهم في الإثراء والتنوع في أحيان أخرى. لقد طال الوسيط الإلكتروني إذن من التجربة الإبداعية برمتِها, وأصبح النص المنتَج نصاً هجيناً ينتمي إلى عدة أفراد, وليس المبدع وحدَه! ومن بين هذه التجارب المشابهة تجربة تبنتها دار بنجوين البريطانية Penguin وجامعة دي مانتفورت De Montfort University عام 2009 تحت اسم "رواية ويكي" Wikinovel. "رواية ويكي" هي أول رواية إلكترونية كانت مفتوحة للتنقيح والمحو والتحرير بأقلام هواة التأليف ممن تخلوا عن أناهِم على عتبة الموقع وتقاسموا شخصيات وحَبْكَات لا يَقدِر أحدهم ادعاء أبوتِه لها. انتهت التجربة بميلاد رواية متماسكة الأركان منشورة في رابط http://www.amillionpenguins.com. لقد قلبت هذه التجربة المُباغتة مَاهِيَّة التأليف رأساً على عَقِب وألغت حاجة المؤلفين المُلِحة إلى العزلة. لقد أرادت بنجوين أن تضع امتحاناً لإمكانية انضواء مجموعة أقلام مختلفة الاتجاهات والاهتمامات تحت صَّوت روائيّ متجانس.
ورغم أن الأدب الجيد يمكنه لفت الانتباه بدون برمجة أية حيل بصرية أو صَّوتية, يظل الإنترنت ساحة لاستغلال الإمكانيات التكنولوجية وتوظيفِها بصرياً وفنياً وكذا أدبياً. وهنا تستلزم القراءة نفسُها عملية إعادة تعريف, فتفسير مقاطع الفيديو والصور على سبيل المثال قد يصبح مهارة لا تقل في أهميتِها عن تحليل النص الأدبي المصاحب سواء كان نثراً أم شعراً. وانتقالاً من النص المتشعِب Hypertext إلى الإعلام المتشعِب Hypermedia أو الوسائط المتعددة Multimedia, تجاوزت بعض المواقع الإلكترونية الغربية نشر النصوص الأدبية المجردة؛ إذ أدمجت فيها أعمالاً صَّوتية وفنية مرئية كالصور الجرافيكية المتحركة, وأشهر تلك المجلات مجلة بورن ماجازين Born Magazine http://www.bornmagazine.com, وفيها يتفاعل القارئ مع النص الأدبي تفاعلاً أشبه باللعبة التجريبية من خلال الاستجابة إليها بفأرة الكمبيوتر. لا شك أن تقديم مثل هذه النوعية من المجلات يتطلب خبرة فنية وتكنولوجية فائقة تحول دون إضجار القارئ أو تشتيت ذهنِه. على أنه مشروع أصيل يبعث حياةً ورُوحاً في نص أدبي يستغل بكل طاقاته الحيز الإلكتروني. الحق أن تلك الوسائل ما زلت متعذرة على النص المترجَم في مجلة البوتقة؛ إذ يشترط أغلب المبدعين الأجانب عدم استخدام أية حيل بصرية أو صَّوتية لتصاحب نصوصَهم المترجَمة. كذلك تَعجز أدوات المدونَات على اللحاق بتلك الوسائل ومجاراتها.
وفي النهاية أدت هذه التقنية إلى ابتكار ما يسمي بالرواية التفاعلية Interactive Novel. وهي ليست نصاً أسود تنفض وقائعُه على خلفية بيضاء, فالقارئ يشارك في سرد الحكاية عن طريق الولوج إلى عالَم من الصور المتحركة. وتستدعي التقنية حضور قارئ تفاعلي مع النص المتشعِب لتثري التقنية تجربة القراءة وتُعَمِّق آثارَها بأبعاد معاصرة تشبع حواس القارئ جميعها. إذ تلازم النص الكتابي الرسوم التوضيحية والجداول والخرائط والصور الفوتوغرافية والأصوات والأشكال الجرافيكية المتحركة بل ونصوص كتابية أخرى باستخدام روابط تقود إلى ما يمكن اعتبارُه هوامش فنية للمتن. وتتبدى هذه التقنية في أزهى تطبيقاتِها مع أنواع أدبية مثل الخيال العلمي والقصص البوليسية وقصص الرعب. من أشهر تلك الأعمال رواية "كروما" Chroma للكاتب الأمريكي إريك لوير Erik Loyer http://marrowmonkey.com, وينهمك معها في حكيٍ جاد كل الجدية, لا في تصاميم لألعاب الكمبيوتر كما قد يتوهم البعض. سوف تنطوي أحداث الرواية بدون معاونة من القارئ, غير أن النقر على الشاشة سوف يبدل ما يبصره القارئ, وبالتالي ما يخالجه من مشاعر. لا يشاهد القارئ صوراً اعتباطية أو ينصت إلى أصوات لا مغزى لها, فبنية التفاعل هنا أداة يتعاطف القارئ من خلالِها مع ما تكابده الشخصيات من تجارب. وقد استهلت الكاتبة ديانا سلاتيري Diana Slattery في مايو 2001 مشروعاً إلكترونياً أكثر طموحاً يسمح لقراء روايتِها "لعبة المتاهة" بتشييد متاهات خاصة بهِم والتواصل مع بعضهِم البعض عبر لغة رمزية يطورونها معاً. كذلك يمكن لقراء دونا ليتشمان Donna Leishman http://www.6amhoover.com اختيار السبيل الذي سوف يسلكونه في قراءة النص. ولا مِرَاء أن هذا الشكل من السرد يظل تجريبياً لا شعبياً, وهناك الكثيرين من المتشكيين في هذا العالَم الجديد ممن يعتقدون أن الساحة لا تزال خالية من شكلٍ جديدٍ للسرد, من أبرزهِم بروكس لاندِن Brooks Landon, رئيس مجلس إدارة قسم اللغة الإنجليزية بجامعة أيوا. وعلى الصعيد العربي لا توجد حتى الآن رواية عربية مكتوبة خصيصاً للنشر الإلكتروني، ولم يحاول الكُتاب العرب استغلال تقنية الارتباطات المتشعِبة التفاعلية وكتابة عمل سردي رقمي على غرار ما فعله الكتاب الغربيين. لا تنفك هذه التقنية مستعصية على التجريب رغم تفشي المواقع الأدبية العربية على الشبكة العَنكبوتية. الحق أنهم عازفون عن الخوض في أية صيغة جديدة للكتابة الروائية وإن استغل البعض الإنترنت في نشر نصوص أدبية تتكل على النص الأدبي المجرد مثلما فعلت الكاتبة مروة رخا التي بدأت حَمْلة "إنهم لا يحترمون الكتاب" في أغسطس 2009 لتعلن مقاطعة دور النشر والنشر الورقي وتحولها لنشر كتبهِا إلكترونياً على مدونتها Egyptian Fe-Mail http://marwarakha.blogspot.com, وقد انضم إليها عددٌ من الكُتاب ممن وجدوا ضالتَهم لنشر أعمالهِم بعد أن عانوا شديد المعاناة مع دور النشر.
لم تعد الشبكة العَنكبوتية تكتفي بالترويج للمنتجات الأدبية والتسويق لها, بل طالت أيضا المكتبات، أعرق أفضية الأدب وأهمَها على الإطلاق. فعلى الرغم من ضعف الإقبال على الأدب الرقمي الذي لم يحقق بعد عالمياً الرواج المنتظر، فإن فكرة إطلاق المكتبات الرقمية آخذة الآن في الانتشار بسرعة البرق مثير شهية الغربيين النزاعين إلى التجريب. يُقَدِّم موقع جوجل خدمة "جوجل بوك سِرش" Google Book Search– والتي تُعْرف سابقاً بـ "جوجل برينت" Google Print. تُمكن الخدمة المتصفح من البحث في نصوص كاملة للكتب على ملفات PDF وePub. ومع أن جوجل يَحُدَّ من عدد الصفحات المعروضة ويمنع طباعتَها أو نسخَها, تعرض "جوجل بوكس" حتى اليوم ما يربو على عشرة ملايين مرجع, وقد وقَّعت الشركة اتفاقيات شراكة مع جميع المكتبات الأمريكية وبعض الجامعات العريقة كأكسفورد وهارفارد وستانفورد. كذلك سوف تدشن 1000 مؤسسة ثقافية أوروبية رسمياً مشروع "أوروبيانا" عام 2010, وهي أول مكتبة رقمية تشتمل على كنوز التراث الأوروبي. ويصل مخزون المكتبة من الكتب إلى ستة ملايين مرجع إضافةً إلى الكنوز السمعية – البصرية واللَّوْحات التشكيلية النادرة. على أن الاختلاف الجوهري بينه وبين "جوجل بوكس" يكمن في طبيعة المشروع الذي أراده الأوروبيون موجهاً بالأساس للمنفعة العامة بدون أي غرض ربحي على العكس من مشروع "جوجل بوكس" الذي بدأ مجانياً ثم تحول إلى مشروع تجاري ضخم يُدِّرَ على أصحابِه ملايين الدولارات بعد أن وقَّع مسئولو محرك البحث الأميركي عقداً مع جمعية الناشرين الأميركيين لبيع مؤلفاتِهم على الشبكة. ومن أشهر المكتبات العربية الإلكترونية موقع الوراق المجاني http://www.alwaraq.net. الوراق مكتبة عربية تضم حوالي 600 كتاب من روائع الثقافة العربية والإسلامية, وقد فاق مجموع صفحاتِها مليون صفحة. عل الصدمة قد انتابت الكثيرين حين أغلقت مكتبة المركز الثقافي البريطاني في القاهرة مكتبتَها لترفع الراية البيضاء أمام الوسيط التقني مسلمة المقاليد للاعتماد الكامل على الإنترنت. ها هي المكتبات الرقمية تُنْذِر بأُفُول نجم المكتبات التقليدية، تلك المؤسسات العريقة التي عهِدناها ملتقى للطلاب والباحثين ومحبي الأدب والترجمة. وهو ما يبشر ببزوغ مستقبل جديد تكون فيه المعرفة بالوسائل الرقمية في موقع الصدارة.
إن المصطلح هو فعلياً ما اصْطَلَحنا عليه، وما معيار انتشارِه سوى الاستخدام المستقر المُتَوَاتِر له, ولا يَسَعُنا تحقيق ذلك إلا من خلال نشر التقنيات الحديثة في المضمار الأدبي. الحاجة تسبق الوسيلة، والوظيفة تسبق الآلة بل تُوَلِّدها وتحدِّد ديمومتَها أو تقرِّر زوالَها، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى استغلال الوسائل التقنية كافة في سبيل تعميم الأدب الجميل توصلاً إلى تراكم نوعي للمعرفة كيلا نجد أنفسنَا متخلفين عن رِكاب التكنولوجيا. ولا شك أن إشاعة استخدام الوسائط الحديثة يساعد على بعث نهضة أدبية متجددة، ناهيك عن ترسيخِه للهوية العربية عبر تبنِّي لغتِنا كلغة للتفاعل والتواصل العالمي.

وأخيراً، المستقبل هو للوسيط الإلكتروني دون جدال. معه سيزداد انسياب المعلومات وتدفق المعارف عبر الحدود، بل وسيتعمق ذلك النَوْع الجديد من الحدود غير الجغرافية الفاصلة بين الأمم، أي الحدود بين المعرفة وعدم المعرفة. ولكن سوف تتعاظم الحاجة إلى الغربلة والتمحيص، واختيار الغثّ من السمين، والسليم من المُشَوَّه، والأصيل من المدسوس, والموضوعي من الموضوع. فاستغلال الوسائط الإلكترونية وسيلة أولاً وأخيراً, لا غاية. ونحن حتماً لا نريدها بوابة إضافية إلى ثقافة تلغي هويتَنا: ثقافة الاستتباع والهيمنة والقولبة الأحادية وقمع الحق في التنوع والاختلاف, بل نريدها، كسائر أدوات المعرفة والاتصال، مُعطى أدبي نتعامل معه بتفاعل وتكامل، ونطوِّعه لمصلحة الفكر، بدلاً من الاكتفاء بالتنديد بسلبياتِه واستنكار ثقافة العولمة. وكما هو الحال مع سائر النشاطات الفكرية، لا مناص من اعتبار إصدار التراجم إلكترونياً عملية ديناميكية متوالية دائمة التجدد، وبالتالي محكومة بمواصلة المسار على خط العمل الخلاق، والتقويم الموضوعي، والتطوير العملي, لتستحق أن تكون وسيلة مُعتمدَة بجدارة, لا مجرد فكرة واعدة. وبذلك تساهم المواقع الأدبية في توصيل الأدب الجميل إلى القارئ العربي.

20-أكتوبر-2009
هالة صلاح الدين حسين

محررة مجلة البوتقة
http://albawtaka.com