‮ ‬مرفت عمارة
(مصر)

الواقع الافتراضي‮.. ‬وعلاقته بالأدبفي بداية التسعينيات من القرن الماضي دعا ديفيد فوستر‮ ‬والاس شباب الروائيين الأمريكيين للتصالح مع دور التليفزيون في الحياة المعاصرة،‮ ‬وكانت وجهة نظره أنهم حتي لو فعلوا ذلك بطريقة خاطئة،‮ ‬فقد نالوا شرف المحاولة،‮ ‬بالرغم أنه قبلها في الثمانينيات وبَّخ طلابه خلال ورشة عمل لتضمينهم أجهزة الإعلام الشائعة في أعمالهم،‮ ‬بدعوي أن تناول تلك الأشياء يؤرخ لأعمالهم فقط،‮ ‬وينحو بالأدب للخضوع إلي رعونة الحداثة،‮ ‬بدلا من المحافظة علي الوظيفة الأساسية للأدب في صلاحيته لكل زمان ومكان‮.‬

والآن وبعد عشرين عاما نجد ما قاله والاس يعود كي يلقي بظلاله،‮ ‬ليس فقط لأن الروائيين يواجهون وحش اتصالات هائلا متمثلا في الإنترنت،‮ ‬بل لأن مفهوم الإطار الأدبي من وجهة نظر الأدباء سواء كانوا كبارا أو صغارا في التلهف علي تصوير اللحظة التي يعيشونها يكاد يكون نادرا،‮ ‬فحين تقرأ الأعمال الفائزة بالجوائز الأمريكية خلال العامين السابقين،‮ ‬تُصدم بمدي حماس معظم المشاركين في تجنب ذلك التحدي،‮ ‬وأن الخلاص من وجهة نظرهم للهروب من تناول وحش الاتصالات المرعب في كتاباتهم كان متمثلا في كتابة الرواية التاريخية،‮ ‬فكل ما عليك لتجنب الخوض في الإنترنت هو العودة بالأحداث لعقد أو اثنين،‮ ‬أما إذا أردت الكتابة عن شخصيات بريئة من التليفزيون فعليك العودة إلي أربعينيات القرن الماضي،‮ ‬عندها يجب شحذ ذاكرتك لربط الأحداث بوقائع الحرب العالمية الثانية والهولوكوست وغيرها،‮ ‬من الأشياء المفهوم للجميع صلاحيتها لكل زمان بعدها‮.‬

والعودة بالزمن ليست الاختيار الوحيد للأدباء المعترضين علي تناول وسائل الاتصال التي كلنا مغموسون فيها،‮ ‬فهناك أيضا قصص حياة المهمشين المنقطعين عن الحياة العامة لأسباب ثقافية،‮ ‬مثل النازحين من بلادهم،‮ ‬والمرتحلين ممن يعيشون بالمناطق النائية،‮ ‬وهو ما نلاحظه في الأعمال الأدبية الأمريكية الأخيرة،‮ ‬بداية من آني برولكس،‮ ‬وكورماك مكارثي إلي الأدباء الجدد مثل ميل ميلوي،‮ ‬وسي إي مورجان،‮ ‬وهي أعمال تثير فضول الكثير من القراء ممن يعيشون بالمدن وتحقق للكتاب الدخول في قائمة أعلي المبيعات،‮ ‬التي أصبحت مقياسا شبه وحيد للحصول علي الجوائز،‮ ‬وعاملا أساسيا إما يرفع صاحبه إلي عنان السماء أو ينزل به إلي الحضيض بجرَّة قلم‮.‬

‮ ‬وهناك روائيون يعملون بطريقتين متناقضتين،‮ ‬إما بتصوير الحياة التي نعيشها الآن،‮ ‬وهو ما قد يكون أسلوبا نمطيا،‮ ‬إلا أنه يسير وفق مفهوم لا يزال قائما وهو أنه لا أحد أكثر ملاءمة لشرح معضلات الحياة المعاصرة من الأدباء،‮ ‬فبعد هجوم سبتمبر تلقي أدباء الخيال عشرات المكالمات من رؤساء تحرير الصحف للبحث عن أفكار وتأملات حول الحدث،‮ ‬فكل صناعة النشر المحتشدة بالصحفيين البارعين،‮ ‬من الواضح أنه كان ينقصها ذلك التعمق الفكري الموجود لدي الأدباء والذي يستدعي الأفكار من تلقاء نفسها‮.‬

علي أية حال،‮ ‬الإنترنت شيء مختلف،‮ ‬البعض يستخدمه بشكل سلبي،‮ ‬بينما لدي البعض الآخر هو واقع افتراضي يمكن للأديب تطويعه بحيث يحتل أماكن العوالم الأخري تماما،‮ ‬بسبب ما أصبح عليه من ارتباط شديد مع النشاط اليومي والتفاعل الإنساني،‮ ‬فبضغطة واحدة يمكنك تحميل الموسيقي،‮ ‬والتواصل مع من تختاره بدلا من المقابلات العشوائية في الشوارع والمقاهي والمطاعم،‮ ‬بالإضافة إلي التكنولوجيا المتقدمة للتليفونات الذكية التي ساعدت علي تحديد مكان وجود أي شخص في أي مكان بالعالم،‮ ‬مما أعفي أحداث الرواية من التوهان عمدًا أو بغير قصد،‮ ‬وحدا بالأدباء والروائيون وبالأخص المتخصصون في الكتابة الواقعية للابتعاد عن الكتابة حول ذلك،‮ ‬تاركين الميدان لمؤلفي قصص المغامرات،‮ ‬أمثال ويليام چيبسون وكوري دوكترو،‮ ‬اللذين لجآ لشخصيات النينجا والهاكرز،‮ ‬لاقتراح أفكار تلائم السيل المستمر للتكنولوجيا المتطورة،‮ ‬وكذلك كتّاب الرعب الذين يُعِدُّون حكايات مبدعة،‮ ‬بيد أنها لا تخلو من‮ ‬غرابة،‮ ‬تدور حول الكوابيس المحتملة الحدوث في الكون والكرة الأرضية والتي تترصد لنفسها،‮ ‬مثل رواية‮ "‬شيطان‮" ‬لدانييل سوارز،‮ ‬التي ماتت في بدايتها الشخصية الرئيسة،‮ ‬بيد أن أعمالها الشريرة لازمت أحداث الرواية،‮ ‬عن طريق شخصية بديلة صمَّمها صاحبها علي‮ "‬الإنترنت‮" ‬بعد علمه بإصابته بالسرطان،‮ ‬علاوة علي ابتكار نوع من الروايات الروتينية المعتادة والتي لا تخلو من إثارة يتم إرسالها عبر الإيميل،‮ ‬أو البلوج،‮ ‬بدأت بشكل تجريبي ثم أخذت تطور نفسها باستمرار،‮ ‬حتي حصل بعضها علي جوائز،‮ ‬وتحولت إلي روايات ورقية ومسلسلات تليفزيونية،‮ ‬مثل حلقات‮ "‬عايزة أتجوز‮"‬،‮ ‬التي أذيعت في شهر رمضان الماضي،‮ ‬وفي الخارج رأينا ذلك في أعمال والاس،‮ ‬في كتابه الأخير‮ "‬الملك الشاحب‮"‬،‮ ‬ورواية جوناثان ليثيم‮ "‬مدينة مزمنة‮" ‬التي تتناول مجتمعًا،‮ ‬أهلُه مهووسون بشيء لم يره أي منهم‮.‬

سهولة إباحة استخدام الإنترنت تكمن في تمجيد إيجابيات عدوانه علي الخصوصية،‮ ‬ففي رواية داري شتينجارت‮ "‬حكاية حب حقيقي‮ ‬غاية في الحزن‮"‬،‮ ‬يعلق الناس أجهزة موبايل في أعناقهم،‮ ‬تبين حالة كل منهم،‮ ‬فبينما يجلس الراوي سيء الحظ في أحد البارات،‮ ‬يبلغه الجهاز المعلق في رقبته أن الفتاة الجميلة الواقفة أمامه تقديرها له‮ :"‬ذكر حرارته‮ ‬120‮ ‬فهرنهيت،‮ ‬تبلغ‮ ‬قوة شخصيته‮ ‬450‮ ‬درجة من‮ ‬800‮". ‬رفقاء الحانة يمكنهم أيضا تخمين متوسط العمر المتوقع،‮ ‬ومستوي‮ ‬الكولسترول،‮ ‬والميول الجنسية والرياضية‮.. ‬وهي صورة مظلمة لحال المعتمدين علي الاتصالات الحديثة‮.‬

الإنترنت أيضا يثير فينا كبرياء أحلام اليقظة،‮ ‬والجشع وحب الاستحواذ،‮ ‬وهو ما يزيد فعاليته،‮ ‬بيد أنه سريع الزوال،‮ ‬وبينما يري البعض أن قوة التليفزيون‮ ‬غير مؤثرة،‮ ‬فكل ما عليه هو الكلام،‮ ‬ولا حيلة لنا أمامه سوي الاستسلام لسماعه أو إسكاته،‮ ‬فإن الإنترنت في أسوأ الأحوال يعبر عنا جزئيا،‮ ‬فنحن من نكتبه ونقرأه،‮ ‬نختلقه ونستهلكه،‮ ‬وبينما مشاهدة التليفزيون نشاط انعزالي،‮ ‬فإن‮ "‬الإنترنت‮" ‬نشاط عام جماعي يتنكر في صورة فردية،‮ ‬يدور حول المستقبل القريب،‮ ‬تناقضه يكمن في جذور الكثير من السلوك الذي يشكو منه الجميع في التفاعل عبر الإنترنت‮: ‬أنت تستطيع إهانة أي شخص بلا تردد كي تشهد الضرر الذي أحدثته فورا،‮ ‬وتُحدث الفوضي التي لن تزيلها،‮ ‬لكنك في نهاية الأمر‮ ‬قد تشعل ثورة وتحقق حلم شعب في التخلص من الطغيان‮.‬

اخبار الأدب
30/04/2011


أقرأ أيضاً: