أحمد العمراوي
(المغرب)

أحمد العمراويفي الموقِعة : سلاح اللاعبين
بين شطرنج الشعراء وشطرنج العارفين من جهة، وبينهما وبين شطرنج اللاعبين من جهة أخرى تداخل وتشاكل يذيب السائل في كأسه والجبة في جسدها إلى درجة الاحتراق . الشطرنج آلة عقلية تمارس فعلها اعتمادا على العين واليد معا . حركة ذهنية سريعة متعددة الأبعاد . لعبة الشطرنج لا معنى لها في الأصل بدون اليد . سلاسل فكرية إبداعية يصعب وضع حد نهائي لها. رقعة حربية في الظاهر، لكن حربها تتعدى المؤقت والاستثنائي إلى اليومي. حرب يومية في الليل كما في النهار ، في العادي كما في الاستثناء ، في اليقظة كما في الحلم .
يخوض لاعب الشطرنج حربه متسلحا بجيوش متفاوتة العدد والعدة والقيمة . حرب ضرورية لا اختيار له في رفضها أو قبولها. منازل الشطرنج متفاوتة الدرجات من العدم إلى السلب ، ومن الولادة إلى شهوات تهيج على العقل والجسم، قد تصيب الذات بالجهالة ، قد تصيبها باضطرابات لغوية تقود للتمرد، ولكن الرقعة ومكان اللعب واحد هو الشعر ، هو القصيدة ، هو خروج البوح من الظلمة أي النص من مكان لا أحد يدري كيف ولا متى يخرج .
أين سيكفن الشاعر لعبه هذا ؟ لاعب الشطرنج سيحتاج إلى مساحة للعب مقننة ظاهريا (باللغة ) ، ولكنها حرة في الخيال والتخيل، وخروج اللعب ( اللغوي ) على الورق أو على أية آلة أخرى - ولتكن جهة الشعر عبر الانترنت - سيقي اللعب من الضياع بإيصاله لأكبر عدد من المتفرجين
المتفرج / المتلقي ، هو لاعب مُوازٍ للاعب الشطرنج ، هو حَكَمٌ مشارك ومتورط في اللعبة، يمكنه الرد ( انطلاقا من موقع جهة الشعر )، يمكنه تغيير اللعب بالانتقال من مكان لآخر من بيته. لاعب مرئي وغير مرئي ، متواصل وغير متواصل ، بإمكانه تغيير أدوات اللعب وإدخال تحسينات على اللعب ، بإمكانه الاحتفاظ بنسخ للعبة ( نص أعجبه ) . لاعب بكل المواصفات . ورقعة الشطرنج عبر الانترنت ( جهة الشعر ) هي ما يتيح لهذا الحكم / اللاعب / المتلقي / المتورط حرية التغيير والمراقبة عن بعد ، والتواصل بين مجموعة غير محددة من اللاعبين عبر التفاعل النصي ، سيتيح قدرة أكبر وأسرع للوصول بسير اللاعب من الدرجة 1 إلى الدرجة 100 ( منازل شطرنج ابن عربي ) ، بأسرع وقت. ففي شطرنج العارفين - وهو الوجه الآخر لشطرنج الشعراء - فإن السير هو سير إجباري ، من العدم إلى الشيطان ، مرورا بمقامات على السائر تمثلها والتمرس بها .
للشاعر نفس الخطى. بعض الشعر يرفع صاحبه، وبعضه يصيب باكتئاب أو غرور، أو شبه جنون مرضي لا شعري، والمتلقي هو آخَر، هو جهة تحضن المولود الخارج من عدم شعري هو فراغ لا خواء ، فراغ ملفوف برضى فشهوة . هو سالك طريقٍ محفوف بحب ونار وروح وكون وماء ، أي بشعر باختصار.
يجمع لاعب الشطرنج/الشاعر كلامه في كتاب إلكتروني يتيح له التواصل مع أكبر عدد من الناس ، تواصل سيسمح لهم بأخذ هذا المجمع/ الكتاب بقوة أو لين حسب طبيعة المأخوذ وما يرافقه من صورة وحركة ولون ومؤثرات أخرى، تدخل العين والأذن وكل الحواس فتُقلق أو تُريح. لكنه أخذ ضروري لا مناص منه .
في الأخذ : خذ الكتاب بقوة
الكتاب آلة ورقية مثلثة الأبعاد ظاهريا ( الطول والحجم والسمك ) وغير متناهية الأبعاد رمزيا، هو أداة لسلطة مادية تخرج المقبور وتفضح السر. إنها وسيلة من وسائل البوح أي فضح السر أو فضه على الأقل . آلة ورقية، تُلمس ، تُرى، تدخل أشكالها إلى العين ثم الذهن ، قد تثير سخرية فينا ( دون كيشوت مثلا ) أو قد تثير استفزازا بطريقة ما ( ألف ليلة وليلة ) أو قد تقلقنا ( الخبز الحافي ) أو … مؤثر ومتأثر ، متلقي الكتاب هو كائن ورقي أيضا، متصفح قد يقلق حين يجد كُتبِيا يحيط الكتاب بقطعة بلاستيكية شفافة لا ترى سوى وجه الكتاب الأول والأخير . تغليف مخافة اللمس . لمس الكتاب بالواسطة عملية مقرفة، تشبه قفازات كهنة "اسم الوردة لأمبرتو إيكو "، إلا أنها قفازات كانت تقي من الموت بسبب الكتاب القاتل، بينما تغليف الكتاب بشكل مغلق عملية ستؤدي إلى كتم السر المفضوح على الورق . أدِّ الثمن أولا ، هذا ما يقوله المغلِّف ( بائع الكتاب الورقي ) إذا أردت أن تعرف السر الموجود بالداخل .
كيف يمكن أخذ الكتاب بقوة ؟ الكتاب هو القوة ، قوة قاهرة أثناء الكتابة، وأثناء القراءة . لذة قوة القراءة تأتي من لذة قوة الكتابة . وآخذ الكتاب بقوة في هذه الحالة لن يكون سوى كاتبه الذي هو القارئ الأول . أخذ الكتاب بقوة أتى في الأصل، من بين أصول أخرى من الجدية التي سيتمتع بها الآخذ ( سيتفق أغلب المفسرين على تفسير الآية الكريمة : "يا يحيى خذ الكتاب بقوة "(مريم،11)، بكون القوة تعني الجد والجدية، الطبري والقرطبي وابن كثير والجلالين وهي أكثر التفاسير اعتمادا وشيوعا ذهبت في هذا الاتجاه، بينما سيشرحها ابن عربي بالقلب الذي يأخذ كتاب العلم المسمى بالعقل الفرقاني ) . أخذ الكتاب في الأصل أتى من الجدية والعقل إذن ، فكيف تحول إلى لعب شطرنجي فاتن ؟
الكتاب المأخوذ بقوة هو كتاب مستعصٍ على الترك ، على النسيان ، على التجاهل ( وهي أشكال أخرى للجد ) ، تمر أمامه فيأسرك ببابه ومدخله ، فتجد نفسك ضعيفا أمامه وهو القوي ، يوجهك ويسيرك ولا مفر لك من الانصياع لأوامره . كائن ورقي يغلب كائنا لحميا وعظميا، إنها مفارقة . مفارقة الأولية. من يخاف الكتاب الأول ؟ وهل هناك كتاب يخيف الآن ؟
مجموع كتب سيؤدي إلى مكتبة ، والمكتبة هي مجموع رفوف جامعة لكتب مختلفة الأحجام والأشكال والكائنات الورقية . كم يحتاج إنسان العصر الآن في ( شتنبر 2004 ) لترتيب أوراقه ليسكن مكتبته ولو مؤقتا ؟ لو عاد بورخيس الآن هل سيكون باستطاعته أن يسكن مكتبة ؟
في المكتبة نبصر ما لا يبصر ، في المكتبة الورقية نبصر بخيالاتنا ، بالهروب من واقع إلى آخر افتراضي . هذا كلام معروف مبرره هو هذا الكتاب الجديد المزاحم رغم ضعف حجمه وضآلته ، كتاب إلكتروني أو آلي أو مغناطيسي صغير ومتشعب. كتاب من هذا النوع - والذي هو في الحقيقة مجموعة كتب بل مجلدات إن لم تكن مكتبات كاملة (على قرص صلب مثلا) - قد لا يحتاج إلى قوة لأخذه، فليس له سلطة رمزية، قد يكون وسيلة إمتاع واستمتاع، ولكنه ليس وسيلة جذب وإثارة انتباه. لمس الكتاب/القرص المضغوط لن يؤثر على آخذه نفس تأثير الكتاب الورقي. ليس هناك أوراق ظاهرة، ولا فقرات منظمة ولا فصول يمكن تصفحها،جَرِّبني أَوَّلاً يقول لك القرص،وقد يكون مجربا في نقله من الورق إلى القرص، إذ أغلب الكتب المضغوطة ،والعربية بالتحديد، هي كتب ورقية تحولت أقراصا. لا يحتاج القرص/الكتاب المضغوط في الزمان والمكان إلى قوة للأخذ، خذني أو اتركني - يقول لك - وعليك أن تجرب أولا، أو أن تسأل مجربا قبل الأخذ باللين لا بالقوة.
الكتاب الورقي كتاب للتأبط وقاية من الجهل، من النسيان، من التجاهل. وللكتاب الرقمي نفس الخصائص إلا التأبط. ملامسة لا تصل إلى فوران الدم إلابطي إذن. ثم إن تأبط الكتاب الورقي محدود يرتبط فيه حجم الكتاب بحجم الإبط. عدد الأوراق تحدد للمتأبِّط والمتأبَّط قيمتهما ؟ وفي الكتاب الرقمي أنت لا تعرف ما تتأبطه إذا استطعت فعلا التأبط.
أخذ الكتاب الرقمي والورقي بقوة سيتخلف إذن شكلا وفعلا، وبينهما ستنهار سلطة الرمز: رمزية الحرف. رمزية الورق، كما انهارت منذ مدة سلطة الحبر والصمغ والدواة. فهل ستنهار سلطة الورقة وتدخل متاحف تاريخية ؟
في الرقعة : أنشئ موقعا ينفضح السر
إنشاء موقع على شبكة الإنترنت من طرف كاتب أو مبدع عربي مسألة تحتاج إلى مساءلة، مساءلة باشرها الكاتب المبدع محمد أسليم ( موقع محمد أسليم ) وتحتاج إلى تأمل جدير بالاهتمام، نعززها بأسئلة تنطلق من واقع مثقفينا ومبدعينا المغاربة بوجه الخصوص من مثل : كم كاتبا مغربيا يمتلك موقعا على شبكة الويب ؟ بل كم كاتبا أو شاعرا مغربيا يمتلك بريدا إلكترونيا ؟ وهل قام الذين أنشؤوا مواقع شخصية لهم بأنفسهم أم قام بها تقنيون بدلا عنهم ؟ ما هي كفايات المثقف في مجال الوسائط المتعددة ؟ أسئلة بسيطة ولكنها تقود إلى الإشكالية، إلى طرح الافتراضات التي طرحها محمد أسليم على الاختبار، وملخصها في رأينا هو : الخوف من ضياع الكتاب المتأبط، هذه السلطة الرمزية الورقية المتوارثة منذ القدم، والخوف من دخول المغامرة، والخوف من مجابهة الآلة، ووجود نوع من الحصر السيكولوجي لدى الفئة الواسعة من المثقفين العرب أمام الآلة في وقت تطورت فيه تكنولوجيا المعلوميات، وبرامج الاستخدام، بما جعلها بسيطة الاستخدام تتجه إلى حدس المستخدم، أكثر مما تخاطب عملياته الذهنية، وطاقاته الفكرية" محمد أسليم. الأخبار المغربية ع.18/ 5 فبراير 2004).
أنشئ الكتاب في الأصل للأخذ، وُجد كذلك للتواصل بين الآخذ والمأخوذ. مأخوذ آخر غير الكاتب الأصلي. نفس الأمر تم بالنسبة للكتاب الرقمي عبر شبكة الإنترنت. الموقع أداة تواصل يضم كتبا أو كتابات للتواصل بين الكاتب والقارئ الذي سيتحول في هاته الحالة بالضرورة إلى كاتب آخر ولو علق بنصف جملة على المكتوب. أهمية الموقع تتجلى في هذا التواصل الغائب على باحثينا، قد يكون زمن المهرجانات الكبيرة والمنتديات المنظمة قد ولى ولو نسبيا، من الصعوبة جمع كم هائل من الشعراء مثلا في مهرجان واجد الآن، بينما من السهولة تواجدهم في أوقات مختلفة على شبكة الويب كل حسب وقته وقدرته، أو في وقت واحد في غرفة الدردشة الكونية في جهة الشعر، فلم يخاف المثقف من هاته الآلة العجيبة ؟
كل كتابة هي فضح لسر مكنون لا يقال كله وإلا سقطت فيمه الكتاب الورقي على الأقل، فهل تؤدي المواقع الشخصية للكتاب والأدباء العرب هاته الوظيفة الأساسية، أي فضح السر ؟
قد يكون خوف الشاعر العربي، ومنه المغربي طبعا، من دخول مغامرة الويب بالإضافة إلى الأسباب التي ذكرها أسليم، هو الخوف من فضح السر الذي إذا قيل كله سقط الشاعر. قد نفهم هاته الكاتالوجات التي يضعها مبدعو المواقع الشخصية في صفحاتهم عبر الويب، وقد يكون الخوف من ضياع الكتاب المأخوذ من طرف أي كان سببا آخر لهذا الغياب . أكتب كتابا، وأضعه بين يدي موزع أمين، قد يكون الكاتب نفسه في الكثير من الأحيان، وهذا الموزع سيضعه في أماكن منظمة ومحددة في الوقت والقيمة للتسويق . خذ الكتاب بقوة، واعطه لمن سيقرؤه، لمن سيؤدي ثمنه، لا تعطه لأي كان. على شبكة الويب قد يصادف الكتاب ملايين الملايين من المارة ،إذا استطاعوا الوصول إليه، ومن تم سيزيد افتضاح الكاتب الذي يود أن يفضح في بني جنسه فقط، بما أن الضرورة تقتضي هذا الفضح.
متصفح الكتاب الرقمي عبر الموقع الشخصي سيكون مزعجا، ومن تم لن أقدم له سوى أغلفة كتبي، أو مقدماتها، عليه أن يتصفحه ورقيا، فتلك قيمته الرمزية التي لا يمكنني أن أتنازل عنها. التنازل هو سحق لقيمتي وحظوتي ككاتب يمتاز بحمل القرطاس والقلم، ولا قدرة له الآن على الخوض في البيداء ليلا على خيله حاملا سيفه ورمحه.
في السير: الشطرنج والتفاعل النصي
في الشطرنج يتفاعل اللاعب مع لعبه بشكل افتراضي، قبل أن ينقل افتراضه إلى الرقعة، إلى واقع اللعب. اللعب هو الجدية في الشطرنج، وأخذ الكتاب الورقي بقوة يعني من ضمن ما يعنيه أخذه بجدية (هكذا شرحها الشراح). التفاعل الجدي القوي هو ما يثبت للرقعة أهميتها، أليس هذا ما يقع على موقع متميز للشعر في جهة الشعر للشاعر قاسم حداد ؟
الترابط النصي يحدث في الفكر والمخ وبعمليات معقدة قد تؤدي إلى الإرهاق، والترابط النصي على شبكة الإنترنت هو ترابط قاري من الفأرة ( Mouse) يقود من جهة إلى جهة أي من شعر إلى شعر. ترابط هو أساس الجهة والشبكة، كما أن الترابط الذهني لِلَعِبِ لاعب الشطرنج هو أساس اللعبة.
سواد وبياض، ملء وإفراغ هو ميزة رقعة الشطرنج وهي نفس الخصائص الأساسية التي بنيت عليها الآلة في الأصل، الآلة الحاملة للإنترنت أي الكمبيوتر أي 0/1. لا حد للشطرنج، وكذا لا حد للإنترنت، والترابط الذهني سيتحول على الشبكة ترابطا ماديا وسياسيا أساسه اليد والفأرة.
في شطرنج العارفين للشيخ محي الدين بن عربي عليك السبر إجباريا عبر 100 مربع تتداخل وتترابط فيما بينها بسلاسل وأسهم كل يؤدي إلى آخر، سير من اليسار إلى اليمين ومن الولادة إلى امتلاك الشهوة ومصارعتها من أجل ولادة أخرى وهكذا. قد يضيع السائر في شطرنج الشيخ وهو يبحث عن ترابط بين "العشق المجازي" و "العشق الحقيقي" بين "تراحم العريان" و"الخلق الحس" ولكنه بحث وسير ذؤوب يقوده الطلب القديم لأخذ الكتاب بقوة.
الترابط النصي أساسه النظام لا النص في الكتابة الإلكترونية، والسرعة هي السيد في كل الحالات. الترابط النصي في الكتابة الورقية هو ترابط يدفع للتفكير، للمزيد من الجهد. والسير الذهني في الحالتين مسألة تقي من التذكر وتدفع للنسيان.
جهاز الكومبيوتر يقدر على حساب مائة مليون وضعية في كل ثانية ورغم ذلك فقد تغلب عليه إنسان هو الروسي كاسباروف، كان هذا قبل سنة 2000 والمفارقة هو أن الجهاز (الحاسوب) الآلة لا تتعب في وقت يتعب فيه الإنسان.
قال المأمون يصف الشطرنج" إنه بحر يمكن أن تسبح فيه النملة ويغرق فيه الفيل" ( الشطرنج هدية العرب للعالم لعبد الحفيظ العمري ، منشورات الزمن، الدار البيضاء 2002 ص 120
شومسكي كان يرى أن عددا محدودا من الحروف يعطي عددا لا محدودا من الكلمات وهو ما ينطبق على الشطرنج حيث قطع محدودة على الرقعة تعطي عددا لا محدودا من الاحتمالات.
برمجة الوضعيات بالنسبة للشطرنج الآلي تختصر الاحتمالات، والاحتمالات هي الترابط الذهني بالنسبة للشطرنجيين. التفاعلات النصية عبر شبكة الإنترنت بين كافة الشعراء لها نفس القيمة ونفس المفعول، شجرة احتمالات وتفاعلات مترابطة على جهة الشعر، الرقعة الضرورية لهذا التواصل.
قد ينسى السائر الشطرنجي في سيره ، سواء سار على الكتاب أو على جهة الشعر (الإنترنت)، كل شيء إلا سيره. وقد لا تكون هناك أهمية كبرى للكتاب بما أن الأساس هو السائر والسير لا الوسيلة. يسر السائر باحثا عن تخليد سره (شعر ولعبه). يقود نفسه نيابة عن الآخرين لجهة قد تكون الهاوية، ولكن الواقي هو الرقعة، رقعة الشطرنج في اللعب، وجهة الشعر بالنسبة للشاعر.
من تأبط الكتاب إلى تأبط المرآة : الإبط والمرآة
" إنني أضع المرآة تحت ذراعي بدلا عن الكتاب فأنا طفل يقرأ الأبجدية من مدرسة فوضوية " (شاعر مغولي مغمور ).
لست أدري لم أتخيل دائما أن الكتاب الورقي قد صنع أساسا للتأبط لا للقراءة، كل كتاب لا يتأبطه صاحبه هو كتاب مآله النبذ والتجاهل. التأبط هو التحام بين جسدي المتأبِّط والمتأبَّط، غير ذلك لا قيمة للكتاب المتروك أمامك. إذا لم تتأبط كتابك ضاع منك. الكتاب مجمع عليك أخذه بكل قواك وحين تضعه تحت الإبط فأنت تقيه ليقيك وتتلاحمان، فهل يجوز تأبط كتاب الكتروني أو نص من كتاب ولتكن قصيدة على جهة الشعر مثلا ؟ التأبط هو تأبط للمرآة في هاته الحالة، والمجاز والتخيل هو المنقذ هنا.
الكتاب المرآة واجهة تواجهك بحقيقتك مقلوبة، فأنت لا يمكن أن ترى صورتك على حقيقتها مهما بلغت المرآة المادية من دقة. تصور مقلوب ترى فيه ذاتك مقلوبة.تأبط المرآة في هاته الحالة هو تأبط للذات للجسد. لذة ما بعدها لذة، مرآة تريك نفسك، جسدك، وحين تكون الأداة هي الانترنت فإنها تعري نفسك وتفضح سرك للآخرين. مشاركة وتورط وتوريط في اللعبة الشطرنجية بواسطة المرآة.
التفاعل النصي هو تلاطم مرايا متفاوتة الحجم والشكل واللون. بحر يقود لبحر في تزاحم معلومات انطلاقا من حالات نفسية ثابتة ومتحولة حسب الظروف المتوثرة.
مرآتك هي مرآتي انظرني أنظر إليك، هذا ما يقوله داخلك .
كلنا يتوقف أمام المرآة، يحملق لهذا الكائن الآخر الخارج منا، كيف تسنى له أن يكون هكذا ؟ كائن هو أنا وليس أنا. المرآة شكل من أشكال الروح. المرآة عكس لحقيقة جسدية عيانية حاضرة/غائبة لا يمكن أبدا أن تراها إلا بالواسطة، أليس هذا هو ما تفعله جهة الشعر وهي ترينا أنفسنا نحن الشعراء مصورين على حقيقتنا، بأنانياتنا الصغيرة، بانكساراتنا، بتأملنا في الحلم في وقت مجنون، بحلمنا بجنون آخر غير هذا المدرع بالقنابل العنقودية وتلاطمات الأخبار التي تحمل الغم لا البسمة، واليأس لا زرع الورد.
مرآة جهة الشعر هي مرايا متفاعلة متلاطمة من الشاعر إلى إيقاظ الفتنة، إلى محاولة البحث عن بلسم للمسافات الجريحة، إلى الاستطالة في مواقع أخرى.
مرآة الشاعر جزء من نفس الحياة الداخلية للأشياء الصغيرة والدقيقة عليها يمتد الكلام وتنكسر البلاغة تاركة الأشياء كما هي متحركة بصور متفاعلة مع نفسها ومع بعضها. في الواجهة تأتي جهة الشعر التي نتمنى أن تمتد إلى كل جهات الروح.
في التشابه:الشبيبة وضده
بين الشطرنج "وجهة الشعر" تشابه وتضاد. تشابه في الرقعة، فعالم الشطرنج رغم ماديته الظاهرة يخفي احتمالات وافتراضات تعيش في ذهن اللاعبين ويجعل الأسرع في التخيل والافتراض هو الأكثر حظا على " الانتصار" على شريكه، وكذا بالنسبة للشاشة الافتراضية على جهة الشعر بفضل الهيبيرتيكس ( Hypertext ) الذي سينقلك من جهة إلى جهة ومن افتراض إلى آخر ثم يعود بك إلى نقطة الانطلاق ذهابا وإيابا وبشكل افتراضي أيضا رغم مادينه اللمسية والمرتبطة بالعين أيضا.
تشابه على مستوى السير بواسطة حركات اللاعبين، وبواسطة الترابط عبر التفاعلات النصية على مستوى الإنترنت في جهة الشعر.
تشابه على مستوى الامتداد، فالشطرنج لا نهائي الاحتمالات رغم محدودية الرقعة ، وكذا الشعر عبر جهة الشعر الذي يشبه البحر الذي يقودك من شاطئ لآخر ثم يعود بك إلى لجته من جديد.
تشابه على مستوى الخيال والتخيل رغم العقلانية الظاهرة للرقعة وصلابة الشاشة والآلة الحاملة للعالم الافتراضي. حلم نصي "وهمي" متخيل في عالم ما هو إلا وهم وخيال متخيل كما يقول الصوفية.
وجهة الشعر تشبه الشطرنج في الوظيفة التي هي اللعب النبيل الراقي رغم الحرب الافتراضية بين الشاعر وشعره، بينه وبين ذاته، وبينه وبين شعراء من جيله أو مع سابقيه ولاحقيه. لعب من أجل اللعب أي انتصار الشطرنج أعني الشعر. شبيه وضده، أي أصل ومرآة.
في التوصل : مهرجان لامرئي
يتواصل لاعب الشطرنج مع غيره بالأيدي وبالمواجهة. وجه قبالة وجه. ونظر للأسفل قليلا فحركة هنا تتلوها حركة مقابلة. تَوَاجُهٌ مِرْآوِي أي نظر للقدرات والطاقات التخييلية الافتراضية من خلال قدرة الآخر على التحكم في طاقاتنا.
وفي جهة الشعر عبر الإنترنت يتم التواصل بعدة صيغ مع الذات/الشعر، ومع الذات/ الذات، ومع الذات/الآخر. بعض الشعراء ينشرون عناوين بريدهم الإلكتروني وأسماء مواقعهم وروابط لهم إذا وجدت ضمن كتابة ورقية، وهو تواصل قد يحقق لذة لهم، فقد يستعصي عليك اللقاء بقاسم حداد أو محمد أسليم أو جاكلين سلام أو غيرهم ولكنه يسهل التواصل عبر هذه الآلة الذكية، هذا الشطرنج المؤدي إلى الغوص في لعب لغوي متخيل يجعل الشعر قادرا على لعب أدواره التي لعبها عبر تاريخ العرب، لعب رقمي جديد يجعلنا نحن الشعراء داخل العصر لا خارجه.

محطة عرض ونقد
7 سبتمبر 2005


إقرأ أيضاً:-

أقرأ أيضاً: