عمِّدني بنبيذ الأمواج

فروغ فرخ زاد
(ابران)

إعداد ترجمة: ناطق عزيز - أحمد عبد الحسين

قبل الشعر.. بعده

فروغ فرخ زادشعر فروغ فرخ زاد بسيط. بساطته أول ما ينكشف منه. لكنها البساطة الموحية الملغزة التي ينبئ حضورها عمّا تتستر عليه من عمق والتباس، كأنما التدوين الشعري يتخذ هنا في هذه القصائد وظيفة الدلالة على ما لم يدوّن بعد.. فما يراد أن يقال على الحقيقة يتأخر دائماً عن الكلام. ولن يتبدّى بعد ذلك سوى الصمت، صمت ما قبل الكلام، أو القول الدال عليه:‏
ما هو الصمت، ما هو يا حبيبي الأوحد‏
ما الصمت سوى كلام لم يُتكلّم به؟‏
أنا أتأخر عن الكلام.‏
وهو شعر بساطة لأنه شعر أشياء حميمية تنبعث من أقاصي الطفولة، من تلك الأيام (أيام الانجذاب والحيرة، أيام كل ظلّ له سرّ، وكل علبة مغلقة كانت تخفي كنزاً).‏
الطفولة وقد قيلت شعراً، استُعيدتْ -كما أراد لها بودلير- بصورة قسرية، لا لتوصيف ذلك العالم البريء المعصوم، تمجيده أو التغنّي به، وإنما لسبب أكثر عمقاً، لغرض جعل العالم طفلاً. ومع اقتران الطفولة بالعالم وجدت الشاعرة نفسها في سكنها الحقيقي، في بيتها الأليف مع شؤونها الأليفة:‏
عيني تنعكس على كل الأشياء‏
وتشربها كحليب طازج.‏
من السهولة بمكان، القول إن النص الناظر إلى العالم بعيني طفلٍ إنما يحمل في مطاويه رثاءً للحاضر وأشيائه، إن لم يكن ذلك واضحاً بدلالة المقارنة الصريحة التي تعقدها الشاعرة بين العالمين (عالم الطفولة وعالم البلوغ)، فبدلالة لغة الرفض والتهتك التي تزخر بها قصائدها، وهو رفض أقرب إلى هيجان طفل غاضب يحطم ما حوله، منه إلى رفض مؤسس على منطق (ثوري) متماسك:‏
عجولة أنا، وغير خائفة‏
أبتعد عن أنظار أمي‏
لأمسح خطوط الباطل عن مسوداتي العتيقة.‏
غير أن تلك الرؤية الطفلية سرعان ما تتجاوز حدّي الرثاء والتمجيد، لتتخذ لها مسارب أبعد من الرفض والقبول ولتنشئ في الوقت ذاته أداءً شعرياً يرى إلى العالم بوصفه طفلاً أبدياً:‏
طفل مع ابتسامته اللانهائية‏
مثل دائرة تتسع على الماء.‏
قد تبدو فروغ فرخ زاد، تبعاً لذلك، وفية لتقليد شعري درج عليه شعراء الفارسية منذ القديم، وهو استحضار النبرة العرفانية -التصوفية في القصيدة. ذلك أن الحس العرفاني لم ينقطع بغياب أسماء الكلاسيكيين الكبار الذين أوقفوا نصوصهم لقول التصوف شعراً. بل استمر ذلك التقليد -وإن بشكل موارب- في كل أنات الشعر الفارسي، إذ نجده لدى أحمد شاملو و نيما يوشج، كما نجده بشكل أوضح عند سهراب سبهري وشاعرتنا فروغ، وصولاً إلى الجيل الشعري الجديد كما لدى أحمد رضا أحمدي، على سبيل المثال.‏
غير أن التصديق على هذا القول لن يمنعنا من النظر إلى تعاطي الشاعرة مع العرفان نظرة مختلفة يمليها اختلاف هذا التعاطي ذاته. فبمقايسة نصوصها مع نصوص شاعر كبير آخر هو (سهراب سبهري)، نجد أن هذا الأخير ساع إلى استخلاص شفافية عرفانية محضة وبثّها في ثنايا القول الشعري والتنويع عليه، الأمر الذي جعل من هذه الشفافية ملازمة لشعره كما في قصيدته (المسافر) أو قصيدته (صوت قدم الماء) كمثال.‏
أما لدى فروغ فرخ زاد فإن هذه الرؤية التصوفية قد قُيّضَ لها أن تصل مختلطة بالمادة، غير صافية، فهي محتفلة بامتزاجها مع شوائب وكدورة عناصر العالم (الماء والتراب والهواء والنار) بل هي سمّتْ ذلك صراحة في كثير من قصائدها، كقصيدة (على التراب):-‏
أبداً لم أكن منفصلة عن الأرض‏
لم أتعرفْ إلى النجمة.‏
على التراب وقفتُ بقامتي‏
مثل ساق نبتة‏
تمتص الهواء والشمس والماء‏
لتحيا.‏
حبلى من الرغائب‏
حبلى من الألم‏
أقف على الأرض‏
لأمتدح النجوم.‏
لعل اصطلاح (تصوف مادي) هو الأنسب لتوصيف شعر فروغ، فمن خلال هذه النبرة المترعة بتسام صوفي لا يخفى، نلحظ الرغبة الجسدية كأجلى ما تكون، نرى انشغالاً لذائذياً أيروسياً في سائر نصوصها، كأنما طمحت بذلك إلى إنشاء مسافة توتر مبتناة في عمقها على تناوب هذين المبدأين: قول التهتك بلغة الكشف، أو إضمار المعرفة في جسد، جسد مترع بالدم كعنقود عنب:‏
*جسدي محموم من ملامسة يديك‏
ضفيرتي تنحلّ بأنفاسك‏
*شفتاك -الإحساس الدافئ بالوجود‏
ضعهما برفق على شفتيّ‏
*كلما اقتربت شفة من شفتي‏
انعقدت نطفة في إحدى النجوم.‏
أخيراً، لا يمكن اختزال شعر فروغ فرخ زاد تحت عنوان أوحد دون الوقوع في تناقض مماثل لتناقضات شعرها. فهو شعرُ تأمل بامتياز، في الوقت الذي يستقصي أشد ذكريات الطفولة استعصاء على الحضور، وهو شعر عشق بكل ما لكلمة عشق من مداليل، شعر ميول ورغائب، شعر الروح المنقبضة والجسد المتهتك، شعر إدمان اليأس بانتظار الأمل.‏
وهذه المختارات المترجمة، أردنا لها أن تقرّب إلى القارئ العربي بعضاً من المشهد الشعري الفارسي المعاصر في نموذج من أكثر نماذجه أصالة وإضاءة وتأثيراً، مدفوعين برؤيتنا للخصائص المشتركة التي أنبتت عليها مسيرتا الحداثة الشعرية لدى العرب والإيرانيين معاً، وتائقين إلى ردم الهوة السحيقة القائمة بيننا والثقافة الإيرانية، تلك الهوّة التي تمّ اصطناعها قسراً، وغذّتها أوهامنا بعضنا بعضاً وجهل الواحد منا بالآخر.‏
إن هذه المختارات محاولة في توجيه أنظارنا إلى الشرق القريب، بعد أن أدمنت عيوننا النظر إلى جهة واحدة... بعيدة.‏

‏ أحمد عبد الحسين -ناطق عزيز‏
دمشق شباط / ‏2000

*****

إذا كان الحب حبّاً.. فإن الزمن كلمة حمقاء.

مختارات من رسائل الشاعرة فروغ فرخ زاد
إلى صديقها القاص الإيراني إبراهيم كلستاني

أحسّ أني خسرت عمري كله، كان عليَّ أن أعرف أقل بكثير من خبرة السبعة والعشرين عاماً، لعلّ السبب يكمن في أن حياتي لم تكن مضيئة، فالحب، وزواجي المضحك في السادسة عشرة زلزلا أركان حياتي. على الدوام لم يكن لي مرشد، لم يربّني أحد فكرياً وروحياً. كل مالدي هو مني، وكل مالم أحصل عليه كان بمقدوري امتلاكه لولا انحرافي وعدم معرفتي لنفسي.عراقيل الحياة منعتني من الوصول.. أريد أن‏
أبدأ...‏
سيئاتي لم تكن لسوء في صميمي، لكن بسبب إحساسي اللا متناهي بعمل الخير...‏

****‏

أشعر تحت جلدي بانقباض وغثيان.. أريد تمزيق كل شيء.. أريد أن أتقوقع في ذاتي ما أمكنني. أريد الانطواء في أعماق الأرض، فهناك حبي، هناك عندما تخضر البذور وتتواشج الجذور يلتقي التفسخ والانبعاث، وجود ما قبل الولادة وما بعد الولادة، كأنما جسدي شكل مؤقت سرعان ما سيزول. أريد الوصول إلى‏
الأصل، أرغب في تعليق قلبي على الأغصان مثل‏
فاكهة طازجة...‏
سعيت دائماً لأكون بوابة موصدة لئلا يطلع أحد على حياتي الباطنية الموحشة، لئلا يعرف أحد حياتي... سعيت إلى أن أكون آدمية.. ولكن كان في داخلي على الدوام كائن حي..‏
قد ندحرج إحساسنا بأقدامنا.. لكننا لا نستطيع أن نرفضه أبداً.‏
لا أعرف الوصول.. لكني أعتقد أن هناك هدفاً ولابدّ، هدف ينساب من وجودي كله إليه، آه.. لو أموت وأبعث ثانية لأرى الدنيا شكلاً آخر.‏
العالم ليس ظلماً بكليته، والناس، الناس المتعبون ينسون أنفسهم دائماً فلا يسيج أحد منهم بيته.‏
الإدمان على عادات الحياة المضحكة، والإذعان للمحدودية والعوائق، كلها أعمال مخالفة للطبيعة.‏
إن حرماناتي، وإن تكنْ قد منحتني الحزن، فهي على العكس من ذلك أيضاً أعطتني هذه الميزة:‏
لقد أنجتني من فخاخ التهتك المخادع في العلاقات المحتملة. فالحرمانات تقرب العلاقة إلى مركز الاضطرابات والتحولات الأصلية.‏
لا أريد أن أشبع، أريد الوصول إلى فضيلة الشبع.‏

**** ‏

... سيئاتي...؟ أية سيئات لي سوى خجلي وعجز حسناتي عن الإفصاح، سوى أنين حسناتي الأسيرة في هذه الدنيا المليئة بالجدران على مد البصر، جداراً تلو جدار، التقشف بالشمس، وقحط الفرص، والخوف والاختناق والاحتقار...‏
أمس الأول، في الغرفة اللصيقة بغرفتي (في الفندق) انتحرت امرأة، قبيل الصبح انفجر صوت صراخ ظننته عواء كلب، خرجت لأستمع، الآخرون خرجوا أيضاً.... وأخيراً كسروا الباب.. كانت المرأة قد أصبحت رمادية، كانت قبيحة قصيرة، فقيرة، ترقد على سريرها فاقدة وعيها.‏
يبدو أنها قد ضُربت أولاً، وقام ضاربوها بسحبها من الطابق الرابع إلى الطابق الأول. كانت قبل انتحارها ميتة تقريباً، والآن ماتت تماماً. من حقيبتها المفتوحة وسط الغرفة ومن بين ثيابها تبرز أشياء مضحكة، وعجيبة: حمالات صدر لا عدد لها، ألبسة داخلية قذرة، جوارب ممزقة، أوراق ملونة ودمى ملفوفة بالأوراق الملونة، كتب قصصية للأطفال، أقراص مختلفة، صورة المسيح وعين اصطناعية.‏
لا أعرف، لقد جاء هذا الموت بلا شفقة. تمنيت أن أذهب وراءها إلى المستشفى. لكني أمام كل الناس الذين تعاملوا مع جسدها الرمادي بهذا القدر من الفظاظة، لم أتجرأ على إظهار رأفتي ومواساتي نحوها...‏

****‏

سعيدة أنا، لأن شعري صار أبيض، وجبيني تغضن، وانعقدت بين حاجبي تجعيدتان كبيرتان رسختا على بشرتي. سعادتي أني لم أعد حالمة. قريباً سأبلغ الثانية والثلاثين، صحيح أن الـ(32) عاماً هي حياتي التي تركتها خلفي وأتممتها. لكن ما يشفع لي أنني وجدت فيها نفسي.‏
فمي مضطرب، وقلبي منقبض. تعبت من كوني متفرجة. ما إن أعود إلى البيت وأتوحد مع نفسي أحس أني قضيت يومي كله بالتشرد والضياع بين أشياء ليست مني، أشياء زائلة...‏

****‏

في رسالة بعثتها الشاعرة‏

حين كانت في أحد المهرجانات السينمائية‏
.. حين أرجع إلى البيت.. مثل طفل يتيم..‏
دائماً أفكر بزهرات عباد الشمس.. كم بلغ طولها؟ اكتب لي. عندما تزهر اكتب لي بسرعة...، مستلقية أرى البحر من هنا. على البحر مراكب. ونهاية البحر مجهولة. إلى أين؟ لو استطعت أن أكون جزءاً من هذه اللا نهاية، عندها أقدر أن أكون حيثما أكون...‏
قلبي يريد لي أن أنتهي هكذا.. أو أستمر هكذا. دائماً تأتيني قوة من الأرض وتجذبني. التحليق صعوداً أو التقدم إلى الأمام كلاهما أمران لا يعنياني. فقلبي لا يريد سوى الهبوط مع كل الأشياء التي أعشقها، أهبط مع أشيائي الحبيبة وأذوب في هيئة كلية غير قابلة للتبدل. اعتقادي أن لا طريق سوى هذا يجعلنا نفلت من الفناء، من التحول والضياع، من العدم والعبثية.‏

****‏

(قبر الشاعرة)

وفي رسالة منها بعد تكريمها الكبير في مهرجان‏
ـ بيزارو ـ للتأليف السينمائي.‏
بين هؤلاء الناس المختلفين، كم أنا وحيدة، أحياناً تتمزق أنفاسي حزناً... إحساس خارج دائرة الوجود وجريانه يخنقني... ليتني ولدتُ في مكان آخر، مكان قريب من مركز الحركات والارتعاشات الحية.‏
واأسفاه... أكان علي أن أتلف عمري وقدرتي كلها، فقط وفقط، من أجل حبي للأرض واعتناقي لذكرياتي في الحظيرة المترعة بالموت والاحتقار والعبث. هذا ما فعلته حتى الآن. أقارن ذلك التدفق الحي الذكي... أية قدرة يتقدم بها إلى الأمام ليوقظ الاشتياق إلى الإبداع والخلق.‏
رأسي ممتلئ ظلاماً ويأساً. وأتمنى الموت. أموت ولا أضع قدمي في مؤسسة فارابي (مؤسسة سينمائية إيرانية لا زالت موجودة)، ولا أرى مجلة (......) ذات الرسالة الساقطة، والتي لا تساوي خمسة ريالات...‏

****‏

إذا لم يصل الإنسان إلى أناه الحرة المنعزلة الطليقة من الأنوات الآسرة فلن يصل إلى شيء إذا لم تضع وجودك كله بتمامه وكماله لاختيار هذه القدرة.. فلن توفّق في إبداع حياتك....، الفن أقوى أنواع الحب.... إنه يجعل الإنسان يصل إلى تمام حضوره... فعلينا أن نستسلم له.‏
يا للدنيا العجيبة. أنا ليس لي شأن بأحد أصلاً.عدم تدخلي في شؤون الناس، وانهمامي بنفسي، هو بالضبط ما يجعل الناس يراقبونني بفضول...لا أعرف كيف أتعامل معهم. أنا إنسانة خجولة. لدي معضلة كبيرة في فتح حوار مع الآخرين....‏
خصوصاً مع من لا أعرفهم.. ما علينا.. رأيت لوحة لليوناردو دافنشي في المعرض الدولي، لم أكن رأيتها من قبل في سفرتي السابقة إلى لندن، إنها رائعة، كل شيء ذاب في الأزرق الفاتح، إنها مثل الإنسان + أول الفجر، قلبي أراد أن أركع وأصلي، هذا هو الدين. في لحظات الحب فقط،أشعر بوجود الدين في أعماقي.‏

****

عمّدني بنبيذ الأمواج إلى: إ.ك*
وجودي كله آية مظلمة‏
تكررك دائماً في نفسها‏
ستأخذك إلى سَحَر الاندهاش‏
والعود الأبدي.‏
أنا تأوهتك في هذه الآية: آه...‏
أنا، بهذه الآية، ربطتُكَ بالشجر‏
والماء‏
والنار.‏
* إ.ك: اختصار لاسم (إبراهيم كلستاني) القاص الإيراني الشهير، كانت تربطه بالشاعرة صداقة حميمية.‏

****

تتشَمْسن *

انظرْ كيف أرى كآبة أعماقي‏
قطرةً قطرةً تذوب، ‏
كيف ظلي الأسود المتمرد‏
أصبح أسيراً في يد الشمس.‏
انظرْ‏
وجودي كلّه تهدّم‏
ابتلعَ شراراتي‏
خذني إلى القمة، ‏
وإلى الهاوية جرجرني.‏
انظرْ‏
سمائي كلّها مليئة بالشهب.‏
أنتَ جئت من البعيد البعيد‏
من أرض العطور والأنوار‏
أجلستني في زورق من عاج‏
من غيوم، بلّور.‏
خذني، أملي، سلواي‏
إلى مدينة قلبي‏
إلى مدينة الشعر واللوعة.‏
إلى طريق محفوفة بالنجوم اقتدتني‏
وأجلستني وراء نجمة.‏
انظرْ‏
أنا محترقة بالنجوم‏
صرت طافحة بالنجوم ومحمومة‏
زرعت النجوم في برك الليل‏
كسمكات حمر بسيطة القلب.‏
كم كانت أرضنا من قبلُ بعيدة‏
في حجرات السماء،‏
الآن، مرة أخرى، يصل صوتك‏
إلى مسامعي‏
صوت الجناح الثلجي للملائكة.‏
انظرْ إلى أين وصلت أنا‏
إلى المجرة‏
إلى قبة السماء‏
إلى الخلود.‏
الآن وقد بلغنا القمة‏
عمدني بنبيذ الأمواج‏
لفّني بحرير قبلاتك‏
نادِ عليَّ في آخر الليل‏
لا تهجرني ثانية‏
لئلا أنفصل عن هذه النجوم.‏
انظر‏
كيف شمع الليل‏
على طريقنا، قطرة قطرة‏
يذوب‏
إلى طياتك الدافئة‏
التي على مهود شعري‏
تنام‏
مترعة بالنبيذ‏
انظرْ‏
أنت تتنفس‏
وتتشمسن.‏

******

على التراب *


أبداً ما تمنيت أن أكون نجمة في سراب السماء‏
ولا شبيهة بأرواح المصطفين‏
أو جليسة للملائكة المظلمة.‏
أبداً، لم أكن منفصلة عن الأرض‏
لم أتعرف إلى النجمة.‏
على التراب وقفت‏
بقامتي مثل ساق نبتة‏
تمتص الهواء والشمس والماء‏
لتحيا.‏
حبلى من الرغبات‏
حبلى من الألم‏
أقف على الأرض لأمتدح النجوم‏
وأربّت على النسائم.‏
أنظرُ من كوّتي:‏
أنا لست سوى إيقاع أغنية‏
لست خالدة‏
ولا أبحث سوى عن إيقاع أغنية في‏
صراخ اللذة الأكثر عفة من‏
سكوت الحزن البسيط.‏
لم أفتش عن عشّ في جسد قطرة الندى‏
التي على زنبقة جسدي.‏
على جدار كوخي -الحياة‏
عابرو سبيل رسموا ذكرياتهم:‏
قلباً مطعوناً بسهم‏
شمعة ساقطة‏
نقاطاً صامتة مخطوفة اللون‏
على حروف مجنونة ببعضها.‏
كلما وصلت شفة إلى شفتيَّ‏
انعقدت نطفة في إحدى النجوم.‏
لماذا أرغب بنجمة‏
عندما تجلس في ليلي‏
على ضفة الذكريات؟‏
هذه أغنيتي‏
من القلب إلى القلب.‏
قبل هذا، لم تكن أكثر من ذلك.‏

*****

قصيدة سفر *

طوال الليل‏
ثمة أحد ما في قلبي يقول:‏
منفعلة بقوة من لقائه‏
سيذهب، أول الفجر‏
مع النجوم البيض،‏
ليذهبْ سالماً).‏
أنا مع عطرك الراحل عن الدنيا‏
غير عارفة ماذا ينسج لي الغد،‏
عيناك مثل غبار ذهبي‏
ينسكب على أهدابي الغضة‏
جسدي محموم من ملامسة يديك‏
ضفيرتي تنحل بأنفاسك.‏
أزهر من الحب وأقول:‏
كل من يمنح حبيب قلبه‏
لا يجلس قاصداً تعذيبه‏
فليذهبْ، عيني تتبعه‏
فليذهبْ محفوظاً بحبي).‏
آه لقد ذهبت أنت الآن‏
والغروب يمدّ ظلاً على صدر الطريق،‏
إله الحزن القاتم‏
خفيفاً، يضع قدمه على معبد ناظري‏
ويكتب على الجدران‏
آيات كلها سوداء، ‏

*****

ستأخذنا الريح *

في ليلي الصغير، يا للحسرة‏
للريح ميعاد مع ورقة الشجر، ‏
في ليلي الصغير، ‏
القلق يتهشم.‏
اسمعْ،‏
هل تسمع هبوب الظلام؟‏
أنا، يا للغرابة، انظر إلى هذه السعادة.‏
أنا مدمنة يأسي.‏
اسمع،‏
هل تسمع هبوب الظلام؟‏
الآن، في الليل، شيء ما يحدث‏
القمر أحمر ومرتبك‏
وعلى هذا السطح الذي كل لحظة فيه‏
هي خوف من التحطم، ‏
الغيوم، كأنها حشود المعزين، ‏
تنتظر لحظة هطول المطر.‏
لحظة‏
وبعدها لا شيء.‏
وراء تلك النافذة يرتجف الليل‏
والأرض تكف عن الدوران.‏
وراء تلك النافذة شيء ما غامض:‏
قلق لي ولك.‏
يا من كله أخضر‏
يداك اللتان مثل ذكرى ملتهبة‏
ضعهما بين يدي العاشقتين، ‏
وشفتاك‏
كأنهما إحساس دافئ بالوجود‏
ضعهما برفق على شفتي العاشقتين.‏
ستأخذنا الريح معها‏
ستأخذنا الريح. ‏

*******

في مياه الصيف الخضراء *

أكثر عزلة من ورقة الشجرة‏
مع حمل سعاداتي المهجورة‏
أبحر بهدوء‏
في مياه الصيف الخضراء‏
إلى أرض الموت‏
إلى شاطئ أحزان الخريف.‏
تركت نفسي في الظل‏
في ظل عشق لا يبالي، ‏
في ظل هروب السعادة‏
في ظل عدم التوازن.‏
الليالي، حيث يطوف النسيم السكران‏
في السماء الواطئة المشتاقة.‏
الليالي إذ يعصف ضباب دموي‏
في أزقة الشرايين الزرق.‏
الليالي حيث وحدتي‏
وحيدة مع رعشات روحينا.‏
في ضربات النبض‏
يغلي إحساس الوجود‏
الوجود المريض.‏
في انتظار الأدوية سر)‏
هذا ما حفروه في الصخور القاسية‏
على قمم الجبال، ‏
هؤلاء الذين في خط سقوطهم‏
لوثوا -بالرجاء المرّ- ليلةَ صمت الجبليين.‏
في اضطراب الأيدي الممتلئة‏
لا هدوء للأيدي الفارغة.‏
ظلام الأنقاض جميل".‏
هذا ما غنته امرأة في المياه‏
في مياه الصيف الخضراء‏
كأنها تسكن في الحطام.‏
نحن، بأنفاسنا، يلوث أحدنا الآخر‏
وها، ملوثين بتقوى الفرح‏
نخاف صوت الريح‏
وسطوة ظلال الشك.‏
في غابات قبلاتنا نفقد ألواننا.‏
نحن في كل ضيافات قصر النور‏
نرتجف من وحشة الضياع.‏
الآن أنت هنا‏
تنبسط كعطر الأكاسيا‏
في أزقة الصباح.‏
ثقيل على صدري‏
حار في يدي‏
سكران في ضفائري‏
محترق‏
مندهش‏
أنت الآن هنا.‏
شيء ما، واسع قاتم ومديد‏
شيء مضبب‏
مثل صوت يوم بعيد،‏
يدور‏
ويبسط نفسه على‏
أجفاني القلقة.‏
لعلهم يغترفونني من الينبوع‏
لعلهم يقطفونني من الغصن‏
لعلهم، كالباب، يغلقونني على اللحظات القادمة‏
لعلي‏
لا أرى مرة أخرى.‏
نحن نمونا على أرض يباب‏
نحن أمطرنا على أرض يباب‏
نحن رأينا اللاشيء‏
بحصانه الأصفر المجنح‏
على الطرقات‏
يشق طريقه كملك.‏
يا للحسرة، نحن سعداء وهادئون‏
يا للحسرة، نحن ملتاعون وآفلون‏
سعداء لأننا نحب‏
ملتاعون لأن الحب لعنة.‏

*******

بين الظلام *

بين الظلام‏
ناديتك أنت، ‏
كان السكون‏
والنسيم يلاعبان الستارة‏
في السماء الملول‏
نجمة تحترق‏
نجمة تذهب‏
نجمة تموت.‏
ناديتك أنت‏
ناديتك أنت‏
كان وجودي كله‏
مثل قدح حليب‏
بين يدي.‏
نظرة القمر الزرقاء‏
ارتطمت بالزجاج.‏
أغنية حزينة‏
تصاعدت من مدينة السلاسل‏
كالدخان، ‏
وكالدخان‏
تتزحلق على النوافذ.‏
طوال الليل‏
ثمة بين نهدي‏
أحد ما يلهث يائساً‏
نفَسَاً نفسَاً.‏
أحد ما ينهض‏
أحد ما يريدك‏
أحد ما يناديك، ‏
مرة أخرى سوف يسحب‏
يديه الباردتين.‏
طوال الليل، هناك‏
يتساقط الحزن‏
من الغصون السوداء.‏
أحد ما متأخر عن نفسه‏
أحد ما يناديك‏
والهواء يتساقط عليه‏
كالحطام.‏
شجرتي الصغيرة تتعشق الريح، ‏
الريح التي لا قرار لها.‏
أين بيت الريح؟‏
أين بيت الريح؟‏

*****

قمر... أيها القمر الكبير

طوال الظلام‏
المتخمون الممتلؤون هتفوا:‏
قمر..أيها القمر الكبير.‏
طوال الظلام‏
المتخمون الممتلئون‏
هتفوا:‏
قمر:‏
أيها القمر الكبير‏
طوال الظلام‏
الأغصان مع الأيدي الطويلة‏
تنبعث منها آه الشهوة‏
وهي تمضي إلى الأفق ونسيم التسليم‏
وفقاً لأوامر آلهة مجهولة ومرموزة، ‏
وآلاف الأنفاس السرية في حياة الأرض المختبئة‏
وفي هذه الدائرة النورانية السيارة التي تضيء الليل، ‏
طَرَقات على السقف الخشبي.‏
ليلى خلف الستارة‏
الضفادع في المستنقع‏
وفي تلك الحديقة السوداء غراب‏
كلهم معاً وبإيقاع واحد‏
صرخوا حتى الفجر:‏
قمر...‏
أيها القمر الكبير.‏
قمر.. ولكن‏
في كل الظلام الطويل‏
بعيداً عن هذه الهمهمة‏
ثمة صراخ في قمة أخرى:‏
القمر، قلب ليلته الوحيدة‏
كان يتفجر بحسرته الذهبية.‏

قلبي يحترق على الحديقة 1

لا أحد يفكر بالأزهار‏
لا أحد يفكر بالأسماك‏
لا أحد يريد تصديق أن الحديقة تحتضر‏
أن قلب الحديقة متورم تحت الشمس‏
وأن ذهن الحديقة ينزف، بهدوء، ذكرياتٍ خضراء‏
وحس الحديقة كأنه شيء مجرّد‏
يتفسخ في انزواء الحديقة‏
باحة بيتنا منعزلة‏
باحة بيتنا تتثاءب في انتظار هطول غيمة غريبة‏
حوض البيت فارغ‏
والنجوم الصغيرة عديمة التجربة‏
يتساقطن من شاهقات الأشجار على التراب‏
وبين النوافذ الباهتة لبيوت الأسماك‏
يأتي، في الليالي، صوت سعال‏
باحة بيتنا منعزلة.‏
الأب يقول: فات أواني‏
فات أواني‏
لقد حملت أوزاري‏
وأتممت عملي).‏
وفي غرفته، من الصبح حتى الغروب‏
هو إما يقرأ الشاهنامه 2
أو ناسخ التواريخ3
الأب يقول للأم:‏
اللعنة على كل سمكة وكل طير.‏
ما همني، إذا مِتُّ،‏
أكانت الحديقةُ أمْ لمْ تكنْ‏
يكفيني راتب التقاعد).‏
الأم كل حياتها سجادة مفروشة‏
على عتبة رعب جهنم.‏
الأم تقتفي آثار أقدام خطيئة‏
في أعماق كل شيء،‏
وتظن أن الحديثة ملوثة‏
بسبب كفر شجرة.‏
الأم مذنبة بالفطرة‏
الأم كل يوم تقرأ الدعاء‏
وتعزّم على كلَّ الأزهار‏
وتعزّم على كلَّ الأسماك‏
وتعزّم على نفسها‏
الأم في انتظار يوم الظهور).‏
وحلول المغفرة.‏
أخي يسمي الحديقة مقبرة‏
أخي يسخر من شغب الحشائش‏
ويعدُّ جثث السمكات المتعفنة‏
تحت جلد الماء المريض،‏
أخي مدمن فلسفة‏
أخي يرى شفاء الحديقة في انهدامها.‏
إنه يسكر‏
يضرب بقبضته الحائط والباب‏
يريد أن يقول: أنا متوجع، تعب، يائس.‏
يأسه مثل بطاقته الشخصية وتقويمه ومنديله‏
وقداحته وقلمه، ‏
يأخذه معه إلى الزقاق والسوق، ‏
يأسه من الضآلة بحيث يضيع كلَّ ليلة‏
في زحام الحانة.‏
وأختي التي كانت صديقة الزهور‏
وكلمات قلبها الساذجة‏
عندما تضربها أمي، ‏
تأخذ الزهور إلى محفلها العطوف الصامت‏
أحياناً تستضيف عائلة الأسماك‏
إلى الشمس والحلوى..‏
بيتها في الجانب الآخر من المدينة‏
هي داخل بيتها الاصطناعي‏
مع أسماكها الحمر الاصطناعية‏
وفي حماية حب زوجها الاصطناعي‏
وتحت أغصان أشجار تفاحها الاصطناعية‏
تغني أغاني اصطناعية‏
وتصنع أطفالاً طبيعيين.‏
كلما جاءت تزورنا‏
تتوسخ أذيال تنورتها من فقر الحديقة‏
تستحم بالكولونيا، ‏
هي كلما جاءتنا‏
تكون حبلى.‏
باحة بيتنا منعزلة.‏
باحة بيتنا منعزلة.‏
في كل يوم يأتي من وراء الباب صوت انفجار‏
جميع جيراننا يزرعون في تراب حديقتهم القذائفَ‏
والبنادقَ بدلَ الزهور، ‏
جيراننا يغطّون أحواضهم المبلّطة.‏
الأحواض، رغماً عنها،‏
صارتْ مخازن سرية للبارود.‏
وأطفال زقاقنا ملأوا حقائبهم المدرسية‏
قنابلَ صغيرة.‏
باحة بيتنا دائخة.‏
أخاف الزمن الذي أضاع قلبه‏
أخاف التصور العبثيِّ لكل هذه الأيدي‏
أخاف من تجسّم غرابة كل الوجوه، ‏
أنا وحيدة‏
مثل تلميذة تعشق درس الهندسة بجنون‏
وأعتقد أن من الممكن أخذ الحديقة إلى المستشفى‏
أعتقد‏
أعتقد‏
أعتقد‏
قلب الحديقة تورم تحت الشمس‏
قلب الحديقة ينزف، بهدوء، ذكرياتٍ خضراء.‏

 

*****

تلك الأيام 1

ذهبت تلك الأيام‏
تلك الأيام الجيدة، ‏
الأيام الممتلئة والنزيهة، ‏
تلك السماوات المغطاة بالـبلك 2 .‏
تلك الأغصان المثقلة بالكرز، ‏
تلك البيوت المتكئة معاً على غلاف‏
اللبلاب الأخضر، ‏
سطوح البالونات اللعوبة تلك، ‏
تلك الأزقة السكرى من عطر الأكاسيا.‏
ذهبت تلك الأيام‏
حيث من بين شقوق أجفاني‏
يتصاعد غنائي مثلما فقاعة تغلي‏
مترعة بالهواء، ‏
وحيث تنعكس عيني على كل الأشياء‏
وتشربها كحليب طازج، ‏
كأنما في بؤبؤيَّ أرنب قلق وسعيد‏
يسافر كل صباح مع الشمس العجوز‏
إلى حقول مجهولة، ‏
وفي الليالي‏
يغوص في غابات العتمة.‏
ذهبت تلك الأيام‏
الأيام الثلجية الآفلة‏
عندما من وراء الزجاج، في الغرفة الدافئة، ‏
دائماً‏
أتأمل في الخارج، ثلجي الطاهرَ‏
كيف يتساقط مثل زغب ناعم‏
بهدوء‏
على السلم الخشبي القديم‏
على حبال الغسيل المرتخية‏
على ضفائر الصنو برات العجائز‏
وأفكر بالغد...، ‏
آه‏
الغد: حجم أبيض صقيل‏
يبدأ مع حفيف عباءة جدتي؟،‏
مع بزوغ ظلّها الشبحي في إطار الباب‏
وهو يطلق نفسه في إحساس النور البارد،‏
وفكرة التحليق الحائر للطيور، ‏
في كؤوس الزجاج الملونة.‏
الغد...‏
دفء الكرسي يجلب لي النوم.‏
عجولة أنا وغير خائفة أبتعد عن‏
أنظار أمي لأمسح خطوط الباطل من‏
مسوداتي العتيقة.‏
عندما ينام الثلج.‏
أتجول قلقة في الحديقة، ‏
وتحت أصّ شجرة الآس اليابسة‏
أدفن عصافيري الميتة.‏
ذهبت تلك الأيام‏
أيام الانجذاب والحيرة‏
أيام النوم والصحو،‏
أيامَ كل ظل له سر، ‏
وكل علبة مغلقة تخفي كنزاً‏
وكل زاوية من الصندوق، في سكوت‏
الظهيرة، كأنها العالم، ‏
وكل من لا يخاف من الظلمة‏
كان في عيني هو البطل.‏
ذهبت تلك الأيام‏
أيام العيد‏
انتظار الشمس والوردة، ‏
ارتعاشات العطر في اجتماع صامت، ‏
وعفّة النرجس الصحراوي‏
الذي يزور المدينة آخر صباحات‏
الشتاء، ‏
أغاني البائع المتجول في الشارع‏
الطويل المبقع بالأخضر، ‏
السوق وهي تطوف في روائح هائمة‏
ـ الرائحة القوية للقهوة والسمك ـ، ‏
السوق تمتد تحت الأقدام‏
تمتزج بكل لحظات الطريق‏
وتدور في قعر أعماق عيون الدمى، ‏
السوق كانت أمّاً‏
تذهب مسرعة إلى أحجام ملوّنة وسيالة‏
ثم تأتي‏
مع علب الهدايا في الزنابيل الملأى.‏
السوق كانت مطراً‏
ينهمر‏
ينهمر‏
ينهمر‏
ذهبت تلك الأيام‏
أيام التأمل في أسرار الجسد‏
أيام التعارف الحذر‏
مع جمال الشرايين الزرق:‏
ـ يد من وراء الحائط تناديني بوردة، ‏
ـ واليد الأخرى‏
بقعُ حبرٍ على تلك اليد المرتبكة‏
المضطربة الخائفة.‏
والحب‏
يكرّر نفسه بتحية خجلى.‏
في الظهيرات الحارة الملوثة بالدخان‏
نادينا حبنا في غبار الزقاق‏
وعرفنا اللغة البسيطة لأزهار الـقاصد)، ‏
نحن أخذنا قلوبنا إلى بستان الرحمات المعصومة‏
وأقرضنا الأشجار، ‏
والمدفع، مع رسائل القبلات، كان يدور‏
في أيدينا، ‏
وكان الحب‏
ذلك الحس الشبحي في الظلمة الثامنة‏
حاصرنا فجأة‏
وجذبنا في زحام الأنفاس الملتهبة الحرى‏
والابتسامات المسروقة.‏
ذهبت تلك الأيام‏
تلك الأيام مثلما نباتات تفسخت في الشمس، ‏
من أشعة الشمس تفسخت‏
وضاعت تلك الأزقة التي‏
كانت سكرى من عطر الأكاسيا، ‏
ضاعت في شوارع اللا عودة المليئة بالصخب.‏
والبنت التي لونت خديها يوماً‏
بأوراق الشمعدان، ‏
الآن امرأة وحيدة‏
الآن امرأة وحيدة‏

*****

عبور 1

حتامَ عليَّ الذهاب‏
من ديار إلى ديار؟‏
لا أستطيع، لم يعد بمقدوري البحث.‏
كل الزمن حب وحبيب آخر.‏
تمنينا أن نكون هاتين السنونوتين‏
المسافرتين طوال عمريهما‏
من ربيع إلى ربيع.‏
آه، لقد تأخر الآن‏
تهدّم في ورأيتُ امتزاج قبلتك‏
على شفتيّ كما لو قطعة مظلمة نازحة‏
من غيمة ـ كنزٍ أزهقت روحها المعطرة‏
في عبورها‏
كم هو ملوث بخوف الزوال، حبي الحزين، ‏
حياتي كلها ترتعد لأني أراك‏
كأني أرى، من النافذة، إلى شجرتي‏
الوحيدة المورقة‏
في المهبِّ الأصفر المحموم.‏
كأني أنظر إلى صورة‏
تنكسر) في جريان الماء الشبحي.‏
ليلة ويوم.‏
ليلة ويوم.‏
ليلة ويوم.‏
دعني أنس.‏
ما أنت سوى لحظة‏
لحظة واحدة تفتح عيني على برهوت ‎) المعرفة‏
دعني أنس.‏

****

في شوارع الليل الباردة 1

أنا لست نادمة‏
أنا أفكر بهذا الاستسلام‏
هذا الاستسلام المعفّر بالألم‏
أني قَبَّلتُ صليب قدري‏
على مرتفع تلال مقتلي.‏
في شوارع الليل الباردة‏
الأزواج دائماً يهجرون بعضهم مترددين‏
في شوارع الليل الباردة‏
لا صوت سوى: الوداع...الوداع...‏
أنا لست نادمة‏
كأنما قلبي يجري في تلك الجهة من الزمن‏
الحياة ستكرر قلبي‏
وزهرة القاصد التي تجري على بحيرات الريح‏
هي التي ستكررني.‏
آه، هل ترى‏
كيف يتمزق جلدي؟‏
وكيف حليب نهدي الباردين‏
يتجمّد في عروقي المزرقة؟‏
والدم كيف يبدأ نموّه الغضروفي‏
في معصمي الصبور؟‏
أنك، أنا، أنت‏
والذي أحبه.‏
وكنتَ الذي يجد فجأة في داخله مرة أخرى‏
اتصالاً أبكم‏
مع آلاف الأشياء المحملة بغرابة مجهولة‏
وكل شهوة الأرض الحادة‏
التي تمتص كل المياه في داخلها‏
لتحبل كل السهول‏
اسمعْ‏
إلى صوتي بعيد المدى‏
في ضباب التهجّد الكثيف‏
للقائمين في السَحَرْ‏
وأبصرْني في صمت المرايا‏
كيف ألمس بما تبقى من يدي،‏
مرة أخرى، العمقَ المظلمَ لكل الأحلام‏
وأَوشمُ قلبي كالبقع الدامية‏
على سعادات الوجود البريئة.‏
أنا لست نادمة‏
مني أنا، يا حبيبي، تكلّمْ مع الأنا الأخرى‏
التي ستجدها أنت مرة أخرى بهاتين العينين العاشقتين‏
في شوارع الليل الباردة.‏
واذكرني في قبلتها الحزينة.‏
على الغضون التي تحت عينيك الرحيمتين.‏

*****

آيات أرضية 1


عندها.. بردت الشمس‏
وارتفعت البركة من الأرض‏
عندها، الأرض الخضراء يبست كالصحراء‏
جفّت الأسماك في البحر‏
والتراب لم يعد يتقبل الموتى من بعدُ، ‏
الليل في كل النوافذ الشاحبة‏
مثل خيال مرتبك‏
كان يتراكم ويطغى، ‏
والطرقات أطلقت نهاياتها في الظلمة.‏
لم يعد أحد يفكر بالحب‏
لم يعد أحد يفكر بالفتح،‏
لم يعد أحد أبداً‏
يفكر بأي شيء.‏
في كهوف العزلة ولد العبث‏
ومن الدم انبعثت روائح الأفيون والحشيش‏
النساء الحوامل وضعن أطفالاً بلا رؤوس‏
والمهود ـ لفرط حيائها ـ لاذت بالمقابر.‏
كم هي أيام مرة وسوداء‏
لقد قهر الخبزُ قوّة النبوة العجيبة‏
وها أن الأنبياء ـ جوعى ومساكين ـ‏
يفرون من أرض الميعاد.‏
حملان المسيح الضالة‏
لم تعد تسمع في عمق الوديان، صوتَ‏
الراعي هاتفاً:هَيْ... هَيْ..‏
كأنما الحركات، الألوان والصور‏
انعكست مقلوبة في عيون المرايا،‏
وفوق رؤوس المهرجين السفلة‏
وعلى سحنات العواهر الوقحة‏
ثمة هالة نورانية مقدسة‏
مثل مظلة تحترق.‏
مستنقعات الخمر، ببخارها المزّ السامّ‏
استدرجتْ حشد المثقفين الساكن إلى‏
أعماقها، ‏
والجرذان المؤذية أكلت صفحات الكتب‏
المذهّبة في المكتبات العتيقة.‏
ماتت الشمس‏
ماتت الشمس، وغداً سيكون لها في‏
ذهن الأطفال معنى أبكم وضائع، ‏
إنهم لغرابة هذا اللفظ القديم في‏
واجباتهم المدرسية سيرسمونها‏
بقعة سوداء غليظة‏
الناس‏
الجمع المتهالك من الناس‏
ميتو القلوب‏
المتكئون‏
المنذهلون‏
في ظل وطأة أجسادهم المشؤومة‏
يرتحلون من غربة إلى غربة، ‏
الشهوة المؤلمة للجريمة‏
تتورم على أيديهم.‏
أحياناً‏
شرارة، شرارة بسيطة تجعل هذا‏
الحشد الساكت الفاني‏
يتلاشى بلمح البصر.‏
إنهم يهجمون بعضهم على بعض‏
الرجال بعضهم يقطع بالسكين حلقوم الآخر،‏
وعلى أسرّة من دم‏
يغتصبون العذارى.‏
إنهم غرقى وحشيتهم‏
إحساسهم بالإثم شلّ أرواحهم‏
العمياء الغبية.‏
وَ دائماً.‏
في مراسم الإعدام‏
عندما يضعون حبلاً في عنق المحكوم.‏
وتقفز عيناه المتشنجتان من محجريهما‏
تراهم منزوين في أعماقهم‏
ومن التخيل الشهواني‏
تصعق أعصابهم الشائخة التعبى.‏
ودائماً‏
في أطراف الساحات العامة‏
ترى هؤلاء المجرمين الصغار‏
يقفون وكلهم دهشة‏
من الانسكاب الأبدي لماء النوافير‏
ربما لم يزل وراء العيون المسحوقة‏
في عُمقِ الانجماد‏
ثمة من هو نصف ميت‏
على وشك موت كاذب،‏
وهو في سعيه المحتضر‏
يريد أن يؤمن بنقاء صوت الماء.‏
ربما‏
لكنْ كم هو فراغ لا نهائي هذا.‏
لقد ماتت الشمس‏
وما من أحد عرف بأن تلك الحمامة‏
الحزينة التي فرّت من القلوب‏
اسمها: الإيمان.‏
آه‏
أيها الصوت الحبيس‏
ترى، هل أن عظمة يأسك‏
من لا اتجاه في هذا الليل الضجر‏
سوف تفتح ثقباً إلى النور؟‏
آه‏
أيها الصوت الحبيس‏
يا صوت الأصوات الأخير.‏

مخـتارات
من منشورات اتحاد الكتّاب العرب دمشق
2000

*********

(*) إشراقات الحب وعطر الرغبة

عناية جابر
(لبنان)

سلاماً أيها الليل المعصوم
بين النوافذ والرؤية
دائماً ثمة فاصلة
لمَ لم أنظر؟
مثل الزمن الذي عبر فيه رجل من جنب الأشجار
الرطبة..
لمَ لم أنظر؟
(ص77)

هكذا تكتب الشاعرة الإيرانية فروغ فرخ زاد. وهي كتبت كل ما لديها. ولو عاشت بعد لكتبت ما تضمنته سنواتها التي عاشتها، ولكانت كتبت فوق المعيش الذي عاشته، إضافاتها المشهدية والحسية والشعورية النابعة من رؤيتها فوق البنفسجية لأغوار روحها، وللعالم وموجوداته. نحن أحببنا قبلا فروغ فرخ زاد في قصائدها المترجمة والمنشورة نادرا في الصحف. كما أحببناها أكثر، حين تعرفّنا عليها أكثر في الكتاب الصادر حديثا عن (اتحاد الكتّاب العرب) في دمشق، تحت عنوان (عمّدني بنبيذ الأمواج) ترجمة وإعداد ناطق عزيز وأحمد عبد الحسين. وهي لفتة لطيفة ومعبّرة، تُحسبُ للمترجمين في اختيارهما الحساس على صعيد الذائقة الشعرية، كما على الصعيد المعرفي الذي مكننا من الإطلالة على بعض الشعر الفارسي ذي المستوى الفني المتميز والخصوصية الأنثوية.

ليست حركة آلية كالتي يؤديها شعراء عصبيون اعتادوا على تعيين الإيقاع بأرجلهم أو بحك رؤوسهم، أو بالكتابة المنتظمة التي تغفل الروح أحيانا من انتظامها، فروغ زاد تكتب الشعر في حركة واعية واختيارية، ناعمة وبهية في رسمها حول ذاتها وعالمها، دائرة سحرية من فوران الكلام في اتجاهات شتى، ومن اختلاط الشكل بالمضمون والروح بالجسد في تناغم مثال يُرخي ببهجة اكتشاف تلك الشاعرة الفاتنة.

الجمال الغريب

ولدت فروغ زاد سنة 1935 في طهران، وتزوجت في السابعة عشرة من عمرها، من رسام الكاريكاتير الإيراني برويز شابور وأنجبت منه ابنها الأوحد كاميار، لتنصرف إلى الشعر، والى علاقة عمرها الحميمة مع القاص الإيراني الشهير إبراهيم كلستاني بعد طلاقها من زوجها. أول دواوينها الشعرية كان بعنوان (أسير) ثم (حائط) ثم (عصيان) و(ولادة أخرى) كما صدر كتاب احتوى مختارات من شعرها. عملت فروغ إلى جانب ضخ الشعر، في إعداد وتصوير وتمثيل الأفلام منها (البحر) و(الخطوبة) و(الماء والحرارة) و(البيت الأسود) وسواها. كما عاشت حياتها القصيرة توفيت في عمر الثانية والثلاثين إثر حادث سير سفرا وشعرا وأفلاما، وكرّمها المخرج الإيطالي (برناردو برتولوجي) حين أنجز فيلما عنها مدته ربع ساعة.

السيدة زاد ذات الحياة العامة هذه، عانت بحسبها خجلا شديدا في التعاطي مع الآخرين، ولبثت حتى وفاتها تجهد إلى توضيح معاناتها الداخلية، بشفافية ورقة نمّتا عن شاعرية واحتراق.

الجمال الغريب لفتاة جريئة، أكملته الجرأة الفكرية في حركة عينيي الشاعرة الدائرية التي ترى إلى كل التفاصيل. كما في رحابة قلبها التي تعبّر عن وحدة شخصيتها التي لا تتجزأ. فروغ التي اعتبرت جريئة يوما، لم تقف عند حدود الاعتراف بالرغبة بالرجل والحاجة إليه، ولم ترتح إلى قول جسدها فقط وكتابة تحرقّه إلى يدي الرجل القويتين:

(أتحطم كالجدران/
بضفائري الثقيلة بين يديك
وأهدي إليك الورود الاستوائية )

بل ارتدت صور شعرها ألوانا أخرى دلّتْ إلى إحساس يأس مقيم، وقلق وخوف من التحطم قبل حلول لحظة النهاية:

(الآن، في الليل شيء ما يحدث
القمر أحمر ومرتبك
وعلى هذا السطح الذي كل لحظة فيه
هي خوف من التحطيم
الغيوم كأنها حشود المعزّين).

ليس الموت وحده ما جعل فروغ تشعر بالعبث واللاجدوى. ثمة مخاوف مجهولة كانت تسكنها، نابعة من الحياة نفسها ولا تني تنهشها من روحها فاقدة أية لحظة إيمان، مطلق إيمان سوى بالحب تستمدها منه، وبه تستقوي على المخاوف لنشهد في قصائدها ولادة جديدة لفروغ الطافحة بالنور والحيوية. وهي لا تفرّق في مشاعرها بين أشياء الطبيعة والحب والحبيب في وحدة متآلفة تسمح بقول الرغبات بالكامل وتسميتها بأسمائها ورؤيتها في الضوء الكاشف متعللة بالعشق الذي يبارك القول الصريح. وهي نادمة في آن لأنها لم تكن عاشقة منذ الأزل. وفي سفرها الواسع إلى مناطق الحب الرحبة، تصل فروغ إلى طفولتها ومهدها ورفاقها ولعبها وعالمها الصغير المليء بالحركة والتدفق. في السفر هذا، أو العودة إلى الطفولة، ثمة استغاثة الحياة الخائبة والصراخ، حين استعاراتها في الشعر وصوره الجميلة تنصب على أشياء الحياة البسيطة في أطوارها وأطفالها والمطر والنظرات الخجولة للورود، والإيقاع المهلك للناس المعذبين، والحب المتستر في تحيات عجلى. والشاعرة في أطوار قصائدها، لا تخشى ان تبدو غنائية إلى حد، من وحدة الحال بين الكلمة والغاية الإنشادية منها، ثم التأمل الذي يأتي كوقفات صمت بين السطور، هو المحضون دائما بحالة عشق الشاعرة الذي يُملي التأمل هذا أو الغنائية تلك، كما وينحاز في جرأة إلى ميول ورغائب يستدعيهما ذلك العشق:

(جسدي محموم من ملامسة يديك
ضفيرتي تنحل بأنفاسك
شفتاك الإحساس الدافئ بالوجود
ضعهما برفق على شفتي
كلما اقتربت شفة من شفتي
انعقدت نطفة في إحدى النجوم).

التقليد الفارسي

ثم من أطوار قصائدها، ذلك الوفاء للتقليد الشعري الفارسي في استحضار النبرة العرفانية التصوفية في القصيدة، كوريثة شرعية لها، وكمعادل قائم يسوغ لتهتك الجسد، ويتقدم عليه مع هذا الزهد الممزوج في آن بالمادة، وغير المنقى كليا كما لدى شعراء فارسيين أمثال سهراب سبهري في قصيدتها (على التراب):

(حبلى من الرغائب
حبلى من الألم
أقف على الأرض
لأمتدح النجوم).

في هذه المختارات قدمت فروغ إحدى تجلياتها الأنثوية في المشهد الشعري الفارسي المعاصر، كما أتاحت للمترجمين احمد عبد الحسين وناطق عزيز ترجمة رغبتهما الجميلة في تقريب القارئ العربي من بعض أكثر نماذج الشعر الفارسي الحداثي بساطة وإضاءة وتأثيرا، وفي ردم الهوة بينه وبين الثقافة الإيرانية.

لقد كانت فروغ مغرمة بمصيرها، بحيث بدت لها طريق الهلاك نفسها غاية في النبل والجمال. لم تكن عاشقة ذاتها يوما، بل عاشقة مصيرها، والأمران مختلفان أشد الاختلاف، إذ يشبه الأمر انعتاق حياتها وحصول هذه الحياة على منافعها الخاصة التي تتوخى الموت نتيجة حتمية ومشتهاة. وفي حين كانت الحياة تنوي رفع إصبع الشاعرة، إصبع فروغ الصغيرة كتهديد دائم للقبح، وكتابة عالية ضده، أصرّت فروغ على علاقتها الطيبة بذلك المصير، ولاقته وفيّة كما عاهدتنا في قصائد واضحة، وقصائد أقل وضوحا:

(ذهبتْ تلك الأيام
تلك الأيام مثلما نباتات تفسخت في الشمس
من أشعة الشمس تفسخت
وضاعت تلك الأزقة التي
كانت سكرى من عطر الأكاسيا
ضاعت في شوارع اللاعودة المليئة بالصخب
والبنت التي لوّنت خدّيها يوما
بأوراق الشمعدان
الآن امرأة وحيدة
الآن امرأة وحيدة).

ولعل فروغ في اعترافها، عبر رسالة بعثت بها إلى صديقها إبراهيم كلستاني تطوي حيرة في ارتباكها بين الحياة والموت.

(حين أرجع إلى البيت.. مثل طفل يتيم.. دائما أفكر بزهرات عبّاد الشمس.. كم بلغ طولها؟ اكتب لي. عندما تزهر أكتب لي بسرعة.. مستلقية أرى البحر من هنا. على البحر مراكب. ونهاية البحر مجهولة. إلى أين؟ لو استطعت ان أكون جزءا من هذه اللانهاية، عندها أقدر أن أكون حيثما أكون.. قلبي يريد لي ان أنتهي).

الكتاب: (عمدني بنبيذ الأمواج)
الكاتب: فروغ فرخ زاد
الناشر: (اتحاد الكتاب العرب)

عن صحيفة السفير البيروتية