ترجمة
سامر أبوهواش

مقدمة خاصة
أشياء أخرى .(3)
تأتي من بلاد العم سام

قل لي

كيم أدونيزيو (*)
(أمريكا)

   

Tell Me

إشارة

كيم أدونيزيو عددان صدرا حتى الآن من هذه السلسلة، وهذا هو العدد الثالث. النتيجة حتى الآن مُرضية. هناك نوع من الاستقبال الباهت الذي لا يصعب تميّزه لدى البعض، تقابله حماسة لدى البعض الآخر. وفي أية حال لا الحماسة، وإن كانت مصدر فرح، ولا الاستقبال الباهت، وإن كان محزناً، يؤثّران في الصميم في هذا المشروع. قلتُ في مقدمة الكتاب الأول إن هذا المشروع (شخصي جدّاً) وعنيت ما قلت. اختبار مثول هذا الكتاب في الأحوال كافة ومهما تفاوتت ردات الفعل، أمام الآخرين، يعاود تأكيد ذلك لي. أُترجم لما في ذلك من متعة شخصية لي، ومن محفّز على القراءة، أجدني مضطراً إلى تأكيد ذلك إزاء الانطباع الخاطئ لدى البعض بعكس ذلك، وما يدفع هذا البعض إلى ردات فعل مختلفة ومتباينة.
لا يحتاج مشروعي الصغير هذا إلى (دعاية) ولا إلى إعلان، تماماً لأنه مشروع صغير، وبالتالي يُفترض ألا يقلق أحداً؛ النفاق أو المجاملة غير مطلوبين هنا، وبالقدر نفسه غير مطلوبة (رسائل) التجاهل المتعمّدة؛ هذا المشروع لا يهدّد أحداً، ولا يطالب برضى أحد، وإن كان مصدر سرور دائم الشعور بأن هناك (أصدقاء) يتحمّسون ويدعمون معنوياً، لأن القراءة والكتابة بحسبي هي فعل صداقة، قبل كلّ شيء، وبصرف النظر عن كلّ شيء، ولا سيما عن التلوّث الكبير الحاصل في المدينة.
تضمّن الكتابان/ العددان الفائتان مختارات من الشاعرين آرتشي أمونز وآي، وهما ينتميان إلى حقبتين مختلفتين من الشعر الأميركي؛ ينتمي الأول، بمعنى انطلاق التجربة، إلى الخمسينيات والستينيات، والثانية إلى السبعينيات والثمانينيات، أما الشاعرة التي يتضمّن هذا العدد مختارات لها، كيم أدونيزيو، فهي من الجيل الأخير للشعر في أميركا، أي جيل التسعينيات وما بعد.
هذا محض اختيار للتعرّف إلى التجارب الأحدث في الشعريات الأميركية، ولمنح هذا المشروع حيوية أكبر في عدم الاقتصار على التجارب الماضية (الحاضرة طبعاً)، وللارتباط بنفس راهن يبدو استمرارية وتصاعداً للتجارب السابقة.

س. أ. هــ

****

كيم أدونيزيو

امرأة وحيدة، مطلقة، تعيش مع ابنتها، تعيل نفسها من خلال إعطاء دروس خاصة في الكتابة، وتكتب الشعر. مواصفات تقليدية لامرأة من الطبقة الوسطى في أميركا، وهذه المواصفات تعبّر عنها أدونيزيو، القاصة والشاعرة، في قصائدها، لتنتمي إلى سلالة الشعراء الاعترافيين من أمثال روبرت لويل وسيلفيا بلاث وغيرهما، أي إلى الشعراء الذين يتمحور عالمهم الشعري على البوح الذي يتجاوز المشاعر العامة بالحزن والأسى والخسارة وما إلى ذلك، إلى تفاصيل الحياة اليومية والذكريات الخاصة. حين تتحدّث أدونيزيو عن (الإناء) مثلاً، في القصيدة التي تحمل هذا العنوان، فهي لا تقصد الترميز بل إناء محدد، أُهدي إليها ولزوجها قبل أن تتخرب علاقتهما ويضيّعان الحب، قبل أن يضيّعا الزواج. الزوج الضائع حاضر باستمرار، سواء حين تتذكر الشاعرة لحظات معينة معه كما في (لحظات مختلسة) و(قرب بحيرة هيرون)، أو حين تسرد مشاعرها الحالية بعد انتهاء الزواج كما في (عمليات جراحية) و(قل لي). لا تلعب أدونيزيو في هذا المحور الأساسي، وإن لم يكن الوحيد، من شعرها، لعبة المرأة الضحية، ولا تحوّل شعرها خطاباً ضد الزواج أو المؤسسة، فهي لا تبدو معنية لهذه الجهة بميراث أدبي نسوي إيديولوجي. تروي ببساطة فشلها الخاص، وأشواقها، وغرامها الذي لا يزال قائماً لزوجها السابق، ولا تجد حرجاً في الإعلان عن كل ذلك.
لكن الفشل الغرامي كما سيتبيّن لقارئ هذه المختارات من شعر أدونيزيو، وإذ هو شديد الإعلان والفجاجة أحياناً، فهو مفتاح لهواجس أخرى ترفع القصيدة من الثرثرة لشؤون وشجون شخصية عادية، إلى مستوى الشعر. ما تبرع الشاعرة في الوصول إليه في كلّ قصيدة هو ذلك الشعور المأسوي العميق بالفقدان. فقدان البراءة الطفولية، الحب، المكان، الانتماء، والصلة المستقرة والمطمئنة بالعالم. تتقاطع بالتالي قصائد أدونيزيو الأكثر شخصية كالتي ذكرناها مع قصائد أخرى مثل (الأرقام)، (ليلة الأحياء، ليلة الموتى)، (ما يخشاه الموتى)، (الغرفة)، (النداء الأخير) وغيرها الكثير من القصائد التي يجمع بينها الشعور بأن الحياة فرّت أو تفرّ منا باستمرار.
هنا يصبح الغوص على الذات مدخلاً للتقاطع مع ذوات الآخرين والتعبير عنها، وتصبح أدونيزيو (بطلة) إضافية على مسرح الخسائر الذي يتوالى الظهور عليه رجال ونساء مختلفون، من أصدقاء وأهل وغرباء من رواد الحانات وغيرهم. الإحساس بالوجع الذاتي يرفع عند أدونيزيو الإحساس بأوجاع الآخرين، فيمكنها من التماهي معهم كما في مجموعتها (جيمي وريتا) التي تسميها أدونيزيو رواية، إذ تسرد فيها، شعراً، حكاية فتاة وشاب من العالم السفلي، لا يمتان ظاهرياً إليها بصلة، لكنهما في العمق، وحيث هما من تلاش وانحدار، قرينين لها. ما تقوله قصائد أدونيزيو بالتالي هو أنه، ومهما اختلفت الظروف الحياتية بين إنسان وآخر، فإن البشر بصورة عامة يتقاسمون الوجع نفسه، الذي يجد التعبير الأوضح والأكثر مباشرة له في صورة الموت.
سمة أخرى لشعر أدونيزيو هي شدّة مدينيته. لا يتعلق الأمر بكون الشاعرة ابنة مدينة (ولدت في واشنطن وتعيش في سان فرانسيسكو)، إذ لا يكفي أن تعيش في مدينة لتكون شاعراً مدينياً، لكن في التغلغل في المفردات المدينية، وفي القلق النفسي الذي يعرفه أبناء المدن. صورة الشارع والحانة حاضرة دوماً (تحوّل الشاعرة الحانة من موضوع ذكوري بامتياز إلى مكان أنثوي) لكن العلاقات المدينية تتجاوز المكان غالباً، إلى المجال التعبيري سواء بين البشر أم بين كل إنسان وذاته.
هذا البعد المديني يُترجم على مستوى اللغة، من المفردة إلى تركيب العبارة، الذي تختلط فيه الثرثرة المجانية بالاختزال، بمعنى المنطق الاختزالي العقلاني، الذي لا يراعي الجماليات البلاغية كثيراً، ويقفز منها إلى التعبير البسيط، المباشر، والواقعي. حتى الموتى، إذ تستحضرهم أدونيزيو، تستحضرهم بلغتها هذه، كبشر واقعيين، لا كبوابة على الماوراء، موتى أدونيزيو (يستيقظون مذعورين، يشربون كوب حليب/ ويرون القمر، والثلج الهاطل حديثاً/ والأشجار العارية/ ربّما يحضّرون سندويشاً من الديك الرومي/ أو يشاهدون الإعلانات على التلفزيون) (ما يخشاه الموتى).
(أنا شاعرة اعترافية) تقول أدونيزيو في حوار صحافي (لكن كذلك كانت سافو) (الشاعرة اليونانية القديمة)، فالشعر بحسبها لا يقول سوى ذات الشاعر وهمومه ويومياته، ولكن تختلف المقاربات الجمالية والتعبيرية بين شاعر وآخر.

****

ما تريد النساء؟

أُريد فستاناً أحمر.
أريده رخيصاً ومهلهلاً،
أريده ضيقاً جدّاً، أريد أن ألبسه
حتى يمزّقه أحدهم عني.
أريده بلا ظهر ولا كمّين،
بحيث لا يضطر أي كان إلى أن يُخمّن
ما تحته.
أريد أن أع
بر الشارع
قرب (ثريفتي) ومتجر الخردوات
مع كلّ تلك المفاتيح تلمع في الواجهة،
قرب مقهى السيد والسيدة وونغ
اللذين يبيعان الدونتس البائتة،
قرب الأخوين غويرا
اللذين يخرجان الخنازير من الشاحنة إلى الدُلية (1)
حاملين الصغيرة منها على كتفيهما.

أريد أن أسير كما لو أني المرأة
الوحيدة على الأرض وأستطيع اختيار من أشاء.

أريد ذاك الفستان الأحمر بقوة.
أريده لأؤكّد لك أسوأ مخاوفك عنّي،
لأريك كم ضآلة مبالاتي بك
أو بأي شيء سوى ما أريد.
حين أجده سأسحبه من العلاقة
كما لو أني أختار جسداً
يحملني إلى الأرض
عبر صرخات الولادة
وصرخات الحبّ أيضاً،
وسأرتديه كالعظام،
كالجلد،
سيكون الفستان اللعين
الذي سيدفنونني فيه.

****

لحظات مُختلَسَة

ما حدثَ حدثَ مرّة.
لذا هو الآن أجمل
في الذاكرة ـــ البرتقالة التي شرّحها: القشرة
التي أبقاها كاملة، ثم السكين، الشفرة الباردة
التي رُفعَت إلى فمي، وفمه، الغشاء
الرفيع بيننا، البرتقالة الفاتنة،
لسان، برتقالة، عريي وعريه،
وكيف لزّني إلى البراد ــــ
الآن أريد الإحساس بيديه ثانية، القبلة
التي لم تدم، لكنها أرسلت وميضاً مزدوجاً
من الأعصاب إلى عضوينا. الحب
بلا رحمة، كيف ينتقل ويظل
مشعّاً باستمرار. قرب المَوْقد
أكلنا برتقالة.
وكان ثمة أزهار قرمزيّة
على الطاولة.

لحظة من ساعات.

****

الإناء

حيث السمكات الموشّاة
تهبطُ لولبيّاً،
حيث الأوراق المعقودة
ترتفع إلى الشفة
الضيقة والزهور
الزاهية تزهر:
ذكّرني ثانية
كيف فتحت
العلبة ورفعتك
إلى نظر زوجي الجديد،
كيف وضعناك
بين الهدايا الأخرى.
أتذكّر دائماً
رجلاً يرمي ثياباً
في حقيبة،
امرأة
تتأرجح واضعة
رأسها بين ركبتيها.
إنهما يفعلان ذلك
باستمرار، شكلان صغيران
خلف زجاج سميك
يحول دون أن أصل إليهما،
وأن أطلب إليهما الكفّ عن ذلك
وأن يدعاني وشأني
خفيفة ووحيدة من جديد.
لذا أخبرني أرجوك
كيف جرت الأمور: فتحتُ
العلبة الضائعة
ورفعتك. وضعناك
على المستوقَد كشاهد.
أخبرني مرة بعد
قصة الزواج
وكيف كان لنا أن نجعله رائعاً.

فتاة صالحة

أُنظري إلى نفسك،
جالسة هناك، فتاة صالحة.
سنتان مرّتا مُذ أقلعتِ عن التدخين وما زلت (تموتين) على سيكارة.
وأقلعت عن الخمر حتى في عطل الأسبوع،
من كان ليصدّق ذلك؟
ألا ترغبين الآن في الركض إلى زاوية الشارع
لاحتساء كأس فودكا خامسة مع عصير الكرانبري
وشرائح الحامض؟ ألن تبدو الباحة الخلفية
التي يقرفك منظرها، أجمل؟ الباحة الصغيرة التي يعتني
بها المالك ليل نهار ـــ السياج حديث الطلاء،
الأسلاك الشائكة الملمّعة، الباحة المرصوفة التي نُظّفت من الأماليد الصغيرة ـــ
ألا ترغبين في العبث فيها كلها، في أن تدوسي
ككلبة هائجة على أحواض زهوره؟
ألست كلبة بأية حال،
تدبّين دائماً بحثاً عن الحب وتستعطين أن يرعاك أحدهم كحيوان أليف؟
يجدر بك الدخول إلى المرآب ولعق صفيحة القمامة من الداخل،
والأغطية المشحمة، والعظام المنقّاة من اللحم،
يجدر بك أن تقودي خطمك إلى ثقل القهوة.
آه، القهوة! لم لا تتجرّعي بعضاً منها مع أربع سكائر
ثم تخرجين عارية إلى الشارع،
وتثبين على أول رجل وسيم تصادفينه؟
كلمة (خرّبني) تقولينها لرجل،
ألم تكن محبوسة في حلقك أربعين عاماً،
ألم يحن الوقت لأن تطلقيها في فساتين فاسقة
وجوارب مشبّكة ممزّقة،
لأن تتمايلي بكعبين عاليين وتكحّلي رموشك بفجور؟

آن الأوان حتماً.
لقد كنت مركونة منذ زمن بعيد.
أربعون، واحد وأربعون عاماً.
في نهاية ذلك كله
ليس هناك سوى بسكويتة واحدة رديئة وطعمها أردأ.
لذا انطلقي.
إسمعي: إنهم ينبحون من أجلك الآن:
من أول الشارع إلى آخره كلاب جيرانك
انفجرت في نباح مسعور ولن تسكت.

****

الصوت

يقول مارك إنّ العذاب الذي لا نراه
يصدرُ صوتاً ما ـــ ضجّة خفيفة
ورقيقة، لا يُضاهى بالصرخات
التي قدّ نفكّر بها ـــ أقرب إلى حفيف قبّعة
يرفعها رجل هادئ مُتجاهلٌ إذ يفسح الطريق
أمام امرأة جميلة يحفّ
فستانها بمعطفه. أم أنها كشقّ
في بناء قديم، يتّسع ببطء، الضغط
والانزلاق اللذين لا تلاحظهما
العائلة فوق، الإبنة الذاهبة
في موعد غرامي، وتنهيدة أمّها المستسلمة
حين تراها. أشبه برمي
حجر في بحيرة، قبل أن يسقط فيها.
خجول، بالكاد هناك. لا يتوقّف أبداً.

****

إيكو (2) ونرسيس

إيكو المسكين المضروب بالحبّ عالقٌ بتكرار
كل ما يقول. ربما
ظن أنه استحق ذلك،
أن تكون صاحبته حوريّة تكرّر

كلّ ما يقول؛ ربما
أحبّ كيف تعكسه كمرآة،
تقول له أنت جميل
حين يقول لها أنت جميلة،

صاحبةٌ تحبّه أكثر من مرآتها.
ليس أنه كان لديهم مرايا في تلك الأيّام؛
تلك كانت المشكلة. كانت جميلة بأية حال،
لكنه لم يكن مهتمّاً بالحوريّات.

لو كانت لديهم مرايا في تلك الأيام
لما غرق في تلك البحيرة العاكسة،
إذ وجد صورته أكثر روعة من الحوريّات.
لكنه ربما كان ضرب نفسه في المرآة

وقتلها في كلّ الأحوال، ببحيرة أم من دون بحيرة.
لم يكن من إرادة حرة في تلك الأيام، الإرادة للآلهة وحدها.
تستطيع ضرب رأسك بقدَرك، ورغم ذلك،
إذا كنت نرسيس، فستنتهي كزهرة بيضاء
ملتصقة بالأرض عديمة الإرادة، تقطفها أو تدوسها الآلهة،
وربما يقول أحدهم هذا ما كان ينبغي أن يكون،
أن يتحوّل الجمال إلى زهرة بيضاء،
إلى صدى مسكين، ليصير حبّ أحدهم الملتصق

بالأرض، الأرض، الأرض، الأرض.

****

الحظّ الحسن

أنت محظوظة.
هذا يحدثُ لهم وليس لك.
العائلة التي علقت في النار،
السكرتيرة التي ذُبحت في المرآب
حاملة قهوتها والــ (إيغ ماكوفين)،
أولئك الذين سيقوا مسمّمين إلى الطوارئ.
محظوظة لأنك لم تلمسي كسرولة الطون
واخترت الدجاج المشوي بدلاً منه.
صديقتك المصابة بسرطان الثدي الذي اكتُشف متأخّراً وانبثّ
في المفاصل والرئتين، والتي بقي أمامها بضعة أشهر.
محظوظة إذ لم ترثي شيئاً
من ذلك من عائلتك.
خطيب صديقة أخرى أصيب بنوبة قلبية في السابعة والأربعين.
تستلقين في سريرك ليلاً،
رأسك على صدر حبيبك، وتشعرين بالامتنان.
ابنتك المراهقة، لم تصبح، على عكس صديقاتها،
عنيدة أو مشاكسة،
لم تدمن الخمر أو السكائر.
ليست الآن في الحمّام
تضع إصبعها في حلقها لتتقيّأ.
أنت وعائلتك بحال جيدة.
أنت سعيدة.
كما لو أنك تبحرين وحيدة
في قاربك الذي لا يرشح ولا يعاكسه التيار.
ترين القوارب الأخرى حولك تنقلب وتنجرف وتغمرها المياه.
إذا نظرتِ إلى المياه تستطيعين رؤيتها تغرق وتبتعد ببطء.
قريباً إن لم يحصل شيء لك،
إذا استمرّ الحظّ الحسن،
إذا استمرّ حقاً،
فسينتهي بك الأمر وحيدة تماماً.

****

أُغنية عذراء

إلى آيا في الخامسة عشرة

نديّة الشعر من بعد الاستحمام، تكوّرين نفسك
على الكنبة رأساً على عقب. تقرئين.
وإحدى يديك غاطسة بكسل في وعاء
البسكويت الذي رسم على أغلفته سمكات ذهبية تبتسم.
أظنّ أنها أسماك تنمو وتسبح
في الهواء لتصل إليك.
فتاتي الصغيرة،
معجزتي الصغيرة، السمكات تتضاعف.
في الساعات السوداء حين أستلقي مؤرقة،
على حافة الغرق، ثقيلة الرأس،
وجهك هو الطُعم الساطع الذي أصبو إليه،
صنّارة الحبّ تخزني،
تجذبني،
نظيفة، إلى أعلى.

****

الغرفة

عند الباب كلّ ضيف مثقل بأسف.
امرأة بشال أبيض تصحب
عائلة من الموتى. كانت في المطبخ
حين ضربَ الزلزال، سمعت صراخ
أولادها في الغرفة المنهارة، رأت
أجسادهم وهي تُخرج، معفّرة، من تحت الأنقاض.
تضع أسماءهم الواحد بعد الآخر
على الميزان، تطويهم
كالغسيل وتدخل.
رجل متعب يتردد محرجاً ثم
يضع خصيتيه وقضيبه المقطوع على الصينيّة.
بعد ثانية يعاود سحبها بسرعة
ويعيدها إلى جيبه. العاشقان وراءه يشبكان ذراعيهما
ويدخلان كواحد، بعد أن زانا
حفنة من خلايا T ..(3) ، غبار يدوّم
خلفهما.
أنت التالية بقلبك المحطم حديثاً.
لكنك تقفين متردّدة.
تستطيعين أن تري كم أنت مثيرة للشفقة،
كيف سيستلقي قلبك هناك مقهوراً،
قطعة لحم على الميزان (4)،
الإبرة التي فوقه ترف عند الصفر.
فجأة
تشعرين بالخزي من كونك بشرية.
تقفين هنا
محدقة بغباوة إلى داخل الغرفة: قصص ونحيب،
بضعة عناقات، ومقاطع من أغنيات.
لا تستطيعين تخيل السعادة في ظروف كهذه،
أو لمَ أنت هنا مع حزنك
على لا شيء ـــ وجه، جسد نجحت في نسيانه
لساعات، سيتحولان بالتدرج، في لحظة،
تدركين ذلك، ندماً قاتماً ـــ
واثقة من أنك لا تنتمين إلى هذا المكان، تديرين ظهرك
للذهاب إلى البيت لتكوني وحيدة مع تلفزيونك
وربما مع شراب قاس يقي قلبك من الأنين.
لكن الرواق محتشد بأناس آخرين يدفعون بك إلى العتبة،
كل منهم لا يطيق صبراً للدخول،
لذا تفعلين الشيء الوحيد القادرة عليه:
تضعين حملك ليزنه الملاك
ويرجعه إليك،
ثم تدخلين غرفة الأحياء.

****

المطلقة تتخيّل المصالحة

أغمض عيني.
تقول دعينا نحاول.
تمنحني ساعات من النوم، تملأ الزجاجات الفارغة
بالليكور ثانية، تعاود بناء الغرفة المظلمة التي تروحُ
بطبع الصور من تلقائها: تطفو صورك
على بعضها في الأوعية، تحت الوميض المتوهّج للضوء،
إنها أفضل من الجنس
والجنس رائع إلى حد لا يصدّق.
لا أستطيع التوقّف عن (المجيء) (5)
أم لعلّه الذهاب.
أطر الصور التي حطّمها
تعاود التشكل، وتطير إلى الجدران.
الأسماك التي في عمق الحوض تصعد إلى السطح.
كنت أعلم أنك ستفعلها.
علمت أنك لا تستطيع البقاء بعيداً،
علمت أنك ستظهر ذات يوم.
لست غاضبة حتى من أنك تأخرت كثيراً. أنظر،
إنني أحرق كل الأوراق التي تقول
إننا انتهينا حقاً. الرماد في كل مكان.
لنقبّل بعضنا. أغمض عينيك.
لسنا هنا بأية حال.
كل شيء ممتاز، حبيبي، لم نكن مرّة
رائعين إلى هذا الحد.

****

Ha

يدخل رجلٌ إلى الحانة. تحسبينها نوعاً من دعابة؟
يهرع، في الحقيقة، إلى الحانة، هرباً من الصقيع.
من يبالي، تقولين. لا أحد كما تعرفين.
أنت أيضاً لديك مشكلاتك وتحتاجين إلى كأس.
تضعين عليك معطفك ووشاحك الطويل.
تمشين متعبة على الرصيف المكتظّ بالقاذورات إلى زاوية الشارع،
تنزلقين وتقعين بقسوة على الجليد.
قشرة موز في الواقع،
لكن من ينظُر؟
فقط راهب، حاخام، ومحامية بالكاد تميّزين ملامحها ـــ
أليست من ساعدك في الطلاق؟ لا يهمّ، الزواج
انتهى، تخلّصٌ طيّب.
تفضّلين الآن احتساء كأس مزدوجة.
نهضين ممسكة وركك،
وتعرجين نحو الواجهة الزجاج المضاءة بنيون مارتينيّ.
في أية حال يدخل رجل إلى الحانة مثلك تماماً.
إنه متعب من حياته، من وحدته.
لا أحد يأخذه على محمل الجدّ؛
في العمل هو موضع سخرية
ومسؤوله يناديه طوال اليوم (أخرق).
صحيح أنه ليس لامع الذكاء.
يرغبُ في الانتحار، لكنه لا يعرف كيف.
يطلب الكأس بعد الأخرى،
لاعناً الملاك الذي يقدحُ الرؤوس.
تجلسين بجواره إلى البار.
خلال نصف ساعة
تصبحان صديقين ـــ خاسران على مائدة الخراء
تتبادلان الأحاجي.
ما هو الشيء الكبير الأحمر الذي يأكل الصخور؟
علام نحصل إذا صلّبنا قضيباً
وحبّة بطاطا؟ لماذا هناك شيء بدلاً من لا شيء؟
إذا كان الله طيّباً فلماذا تنغرس
بذرة الشرّ في كل مكان؟ وما الذي يمنعنا
من قتل بعضنا من شدّة اليأس؟ لماذا اللذة
مقدّمة دائمة للألم؟ يأخذ الساقي كأسيكما، يقول لكما
إنه آن وقت الذهاب.
تسيران متعثّرين نحو الباب،
وها أنتما هناك،
في البرد والريح، وثمة ثلج خفيف بدأ يهطل.
خاسران عند الزاوية.
يلتفت أحدهما إلى الآخر ويقول، لمَ انتهى حبّنا؟
لا يقدر الثاني على الإجابة.
لمَ يعذّبونني؟ يقول الرجل.
تهبّ العاصفة الثلجية جدّياً ومع ذلك يظلان واقفين،
مصمّمين على البقاء، هناك، حتى يحصلان على أجوبة.

****

النداء الأخير

إنها الساعة حين الجميع سكارى
والحانة رائعة، الموسيقى
تحلق فوق الموائد الحمراء،
الدخان يتصاعد من السكائر المتروكة كما في كل كأس
ينزلق الثلج ويذوب في بعضه؛
إنها الساعة حين يكِز غريب غريباً آخر
ويقول محدقاً في الخطوط الضبابية في مساكب الشراب،
سمعت أنهم في فرنسا منعوا عبّ الشراب دفعة واحدة (6)
والرجل الثاني يومئ برأسه
ويُلقي به على سطح البار الأملس،
غير مبال إذا مات هناك،
راغباً في الواقع، في أن يموت هناك
بين الأصدقاء الطيبين الذين التقاهم الليلة،
خده بركة مبلّلة من البيرة المراقة.
إنها الساعة حين تنهضُ المرأة عند الزاوية
وتسير مترنّحة إلى وسط الحانة،
تاركة كنزتها متدلية على الكرسي.
أحدهم يدعو الجميع إلى جولة شراب أخيرة على حسابه،
سيارات الأجرة طُلبت،
والآلهة التي تحاول إنقاذنا من أنفسنا
تحملنا برفق من أعناقنا
وترمينا إلى الليل، إنها ساعة
الأعمى والميت، ساعة الحب الضائع
الذي جاء أخيراً مطالباً بك، مشرّعاً
الباب الدوار، منادياً المرّة بعد الأخرى على اسم ما،
لا بدّ من أنه اسمك.

****

دفاعاً عن الخير الإلهي

افترضْ أننا نستطيع رؤية الشرّ بوضوح تام
يجعلنا لا نتردّد في إخماده
كشذرات تخرج من النار.
أنظُر إلى أولئك الصبيان الذين يلعبون كرة السلة في المرآب،
مراوغين بعضهم لإسقاط الكرة
في الدائرة الحديد
ـــ ماذا لو كنت تعرف

سرّاً عن أحدهم؟
بصدره العاري يقف متبخّراً
عند نهاية خطّ متخيّل والكرة البرتقال ترتعش
على أطراف أصابعه، وعرقه يضيء جلده ـــ
ماذا لو أنه فعل شيئاً لا يمكن قوله، شيئاً لا أستطيع

التحدّث عنه لكن أعرف أنك تستطيع تخيّله،
وفعل هذا الشيء
لأكثر من تحبّ في العالم؟
ابنك ربما،
أو الشخص الذي تحفظ جسمه
إلى درجة أنك تستطيع أن تراه وأنت مغمض العينين
ـــ ماذا لو أنه كسر ذاك الجسد؛

هل تظن أنني إذا أعطيتك مسدّساً ستمشي
في اتجاه الصبي اللمّاع وتستعمله؟
ربما تفكّر أولاً أنه ربما لن يكون قادراً على مساعدة نفسه،
ربما كان يحاول
وهو واقف هناك مركّزاً على رميته
أن يوقف الضجيج

الذي تصدره آلةٌ ما في دماغه،
الضجيج نفسه الذي تسمعه في دماغك أحياناً،
والذي يشتدّ حتى لا تعود تميز ما هو حقيقي أو خيّر.
افترض أن الله بدأ يواجه مثل هذه المشكلة.
افترض أن الرجل الأول

كان فظّاً وغبيّا، كائنٌ كرتونيّ
يضرّط ويقهقه باستمرار؛
افترضْ أن المرأة كانت تنزعُ الشتول عن الأرض طوال اليوم
رافضة التكلّم
أو الامتنان على أي شيء.

ماذا لو أنهما قررا أن يعذّبا الحيوانات الأصغر والأضعف
وفي اللحظة التي كان الله سيصعقهما فيها حتى الموت
والبدء من جديد التفتا إلى بعضيهما
واكتشفا المضاجعة،
وهمست الأفعى أنظر إليهما
وامتلأ رأس الله بالموسيقى
بينما الشرارات المتوحّشة خرجت
من جسميهما لماعة
كالنجوم الجديدة في السموات.

****

ثِقَل

حاملة ابنتي إلى السرير
أتذكّر كم كانت خفيفة في السابق،
لا أكثر من بذرة بين ذراعي.
كان وقت لا أستطيع إنزالها من يدي،
كانت تبكي، كالمسعورة، إذا حاولت
فصلها عني، لذا كنت أحملها
ليلاً لساعات، ماشية صعوداً وهبوطاً إلى الصالون،
منعّسة إياها.
كانت تهدأ،
تنكمش فيّ، مصغية
إلى أدقّ الأصوات، التوتر في ذراعي،
كانت تأخذ حلمتي وتحدّق فيّ،
متعبة محاربة كلّ رعب
ينتظرها في مهدها المعتم بعيداً عن جسدي.
الآن باتت ثقيلة جداً بحيث إنني أترنّح تحتها،
تنزلق بسهولة مني، وتنحدر
إلى حلمها الخاص.
أقف فوق سريرها،
ثابتة هناك كنجمة ثانية أعتم،
مع أن النجوم غير ثابتة:
أحدهم
مرّة
حمل ثقل حياتي.

****

طفولة

جاء كأسانا تغطّيهما مظلّتان ورقيّتان.
ارتدت أمي ثوب التنس الأبيض.
ذهب أبي إلى الحانة
كعادته دائماً.

ارتدت أمي ثوب التنس الأبيض.
لطمني أخي بالحائط
كعادته دائماً.
آمنتُ بملاكي الحارس.

لطم أخي أمي بالحائط.
سرتُ في نومي.
آمنتُ بملاكي الحارس.
صحوتُ بعيداً من البيت.

سرتُ في نومي.
روت لي أمي الحكايات الخرافية وغنّت لي.
صحوت بعيداً من البيت.
كانت أمي عجوزاً، وأبي مات.

روت لي أمي الحكايات الخرافية وغنّت لي.
تعارك أخي وأبي وارتطما بالباب.
كانت أمي عجوزاً، وأبي مات
هو وملاكي الحارس.

تعارك أخي وأبي وارتطما بالباب.
ذهبت إلى الحانة
أنا وملاكي الحارس
وجاء كأسانا تغطّيهما مظلّتان ورقيّتان.

****

عمليّات جراحية

أثناء غلي الماء لصنع الشاي، سكرانة بالويسكي،
قرّرتْ أن تهاتف زوجها السابق الذي لم تهاتفه
منذ سنة وشهرين وثلاثة أيام، من دون حسبان كلّ
الاتصالات لسماع صوته على المجيب الآلي أو لإقفال السماعة
في حال أجاب.
سَمِعَت أنه انتقل،
وفكرت أنها ستسأله عن عنوانه الجديد فقط
في حال احتاجت إلى الذهاب إليه في منتصف الليل
لتحدق في النافذة المعتمة متساءلة ما إذا كان الآن مع امرأة أخرى
وما يقوله لها حين يمارسان الحب،
ولتتذكّر الأشياء التي كان يقولها لها خلال الجنس والتي ما
تزال لا تصدق أنه ما عاد يقولها. يقول الآن
إنه ما زال زوجها، قانونياً على الأقل، لأنه
لم يستطع إنهاء الملف. لم أرد إحضاره
يوم عيد ميلادك، قال لها. ثم كانت
العطل ثم عيد العشاق. لم أُنهها، قال. ما زلت أحبّك، لمَ تركتني؟ قالت.
كان وقت صعب، قال، عمليتان جراحيتان أخريان في معصمي
وما زلت أتألم، سيكون عليهم كيّها
وفي الأثناء أحتاج إلى الحصول على عمل؛ إنني مفلس، قال،
وكانت تبكي وكان يقول أفكّر فيك طوال الوقت، أريد
أن أراك وقالت تعرف ما سيحصل عندها،
سيدمّر واحدنا الآخر ثانية وفي المطبخ
كان الإبريق المنسيّ ينفث البخار في الهواء بصفير
مدوّ سَمِعته أخيراً، يا إلهي عليّ أن أقفل، قالت، أحسب
أنك لم تغيّر رقمك لكن هل لي أن أحصل
على عنوانك الجديد؟ لم أنتقل، قال.

****

ذكرى سنويّة شبحيّة

تخيّل أن الزواج استمرّ،
أن الزنابق تُزهر في الآنية السوداء
لسنوات، والمياه ما تزال عذْبة.

الرجل والمرأة ينظران إلى بعضيهما
بينما يتضاجعان، يزهران وينظران،
والملائكة تنظر أيضاً،
فاغرة شفاهها المجردة الرائعة
كما لو أنها ستقول شيئاً
ليس صعباً ولا حقيقياً.
الرجل والمرأة في غيبوبة.
يبهتان أكثر فأكثر من دون أن يهتمّا.
والملائكة تطوي أجنحتها الرقيقة
وتهبط إليهما كالحجارة.

****

النداء

رجلٌ يفتح مجلّة،
امرأة عارية،
أعينهما مُطفأة.
يطلب رقماً،
يدندن لحناً إعلانيّاً
تحت أنفاسه. صوت يقول له
إنه يستطيع فعل
ما يشاء بها.
يتخيّل لزّها
بالحائط، قولها له
أوه حبيبي تبدو رائعاً.
الوقت متأخر. المرأة
على الهاتف تتثاءب،
تجرجر نفسها إلى الردهة
لتطمئنّ على ابنتها.
تجدها مكورة على نفسها وإحدى ساقيها
خارج الكنبة.
تتنكّب المرأة المذياع،
تثني ملاءة وتهمسُ
بلى. افعليها. بلى.
تذهب إلى المطبخ
تفتح دايت بيبسي ثانية، متساءلة
كم سيحتاج من الوقت وأين
تستطيع إيجاد معطف رخيص.
وإذ تتذكر الفواتير
تطفئ الضوء.
ما زال يقول قريباً،
مديراً كرسيه النقال يميناً،
وشمالاً، ويميناً. أنبوب يتدلّى
من بنطاله. أحياناً
يحسب أنه يشعر بشيء،
يتوقّف عن الكلام مركّزاً على
حركة تجري في الأسفل.
مرحباً، تقول المرأة.
ما تزال مُشتعلاً؟
تفرك عينيها.
ظلّ أزرق ينساب على أصابعها.
صوت العربة التي تخبط بين
الطاولة والجدار يطغى
على الهسيس الطالع
من خطّ الهاتف المفتوح.
ما هذا، تسأله.
لا شيء، يجيب،
ويستمعان إلى الصوت معاً.

****

بيرة. حليب. الكلب. أبي العجوز (7)

كان من عادة أبي أن يُخرج الكلب
من المرآب
حيث يلعب (البوكر) مع أصحابه
وأن يضع قربه طاسة البيرة،
هذا النوع من الأشياء
التي كان يحسبها طريفة؛ كان
يُشربُني القليل أيضاً ويضحك حين
أتقيّأ أو أقع عن الكرسي.
علّمني القتال
بأن أضرب جانب رأسي
بكفّه المبسوطة، واصفاً إيّاي بالجبان.
لا تدعهم يتخرينون
عليك قال.
حين كان يمازح أمي على هذا النحو
لم تكن تردّ،
فقط تصرخ في وجهه.
رمته ذات مرة بكوب حليب على رأسه.
ارتطم الكوب بالحائط
وتشظّت كِسره على الأرض.

كنتُ في العاشرة حين مات.
أصغر من أن أستوعب الأمر.
ما فكّرت فيه كان الحليب
على أرضية المطبخ وقتذاك،
وكيف تركاه هناك
وذهبا إلى النوم.
جاء الكلب وابتلع كسر الزجاج.
قالت أمي إن الكلب
مرض فحسب. أما الحليب
فتبخر، قالت،
قاصدة أنه صار في الهواء.
فكرت كيف يمكن أن يكون شيء
هناك ثم يختفي. الحليب.
الكلب. أبي العجوز.
كان يحبُّ البيرة الباردة.
أحياناً كنت أنزوي ليلاً في المرآب
وأتفرج عليه يحتسي البيرة،
مطرقاً برأسه إلى الخلف،
وكنت أحاول احتساء بيرتي
تماماً بالطريقة نفسها،
لكن بصمت، لكي لا يلاحظ،
ويصرفني من هناك.

****

في سبيل الرغبة

أعطني الجبنة الأقوى، الأعفن؛
وأريد النبيذ الجيد، الكريستال الذي
يحوط رائحة العليق المخدوشة
أو الكرز، التفجّر الكثيف في الحلق،
وإبقاء الطعم هناك قبل ابتلاعه.
أعطني العشيق الذي ينتر باب بيته
بقوة ويلزّني إلى الجدار
في الرواق المعتم ويبقيني هناك حتى أتبلّل
وأرتعش، الذي قبلاته تصلني بالقوارب
وتبدأ شتاتها (8) اللذيذ
في مدن جسدي وبلداته الصغيرة.
ليذهب الملائكة إلى الجحيم، ومعهم شهداء
طفولتي المراد منهم وعظي
عن قوّة الإيمان والثبات،
ليذهب العالم الآخر إلى الجحيم ومعه ملائكته الشاحبة
التي تتنهد منتشية كفتيات العصر الفيكتوري.
أريد هذا العالم. أريد السير
في المحيط والشعور أنه يحاول أن يجذبني إليه
كما لو أني لا شيء سوى كسرة زجاج
وأريد أن أُقاومه.
أريد المضي مترنحة ومدوية
عبر الحانات والغرف الخلفيّة،
عبر الفنادق المضيئة والأعشاب الضارّة
وزهور عبّاد الشمس المهجورة والحدائق
التي تسرح فيها الكلاب
على الرغم من الإشارات، حيث تشتمّ الكلاب بعضها
وتتدحرج على العشب، أريد أن أستلقي
في مكان ما وأعاني الحب حتى
يكاد يقتلني، ثم أريد النهوض ثانية
وأرتدي الفستان الأسود الصغير
وأنتظرك، بلى أنت، لتأتي إلى هنا
وتركع على ركبتيك وتقول لي
كم أني فاتنة إلى درجة لا تصدّق.

****

في سبيل النوم

ابنتي ترتعبُ من العناكب؛ تخاف أن
تزحف إليها ليلاً في نومها، وأحياناً نائمة

تحلم أنها تزحف إليها حقّاً، وتستيقظ وتهرع إلى سريري،
باكية فيما أحاول تهدئتها. أُخبرها أن العناكب

مقدّسة لدى بعض القبائل الهنديّة، آخذها خارجاً
حيث حاكت عنكبوتة شبكة متلألئة تحت عارضة خشب

في الممرّ الضيّق بين منزلنا والمنزل التالي،
مشهد تجده رائعاً بالفعل ـــ لكنها تنكمش خوفاً حين

ترى العنكبوتة، متدلّية من هناك يهزّها الهواء قليلاً.
أحضر كتاباً لأريها بعض الرسوم:

العناكب السلطعونيّة، صانعة الدوائر، الذئبية التي تجرّ أكياس بيوضها
على العشب الطويل. أعلّمها عن المغزالة (9)

حيّاكة الخيوط. لكنها قريباً ستعلم بشأن الترنتولّة، والأرملة السوداء (10)
الذباب المنزلي الذي يختنق في الخيوط البيضاء

قريباً تفهم السمّ، العنكبوتة التي تلتهم زوجها،
وكيف أن الحبّ أقل من أوهى الخيوط الواهية.

تنهض وحيدة، تشعر بالقوائم الصغيرة تمشي على خدّها،
العنكبوتة الحقودة التي تسعى إليها؛ مرة أخرى

تهرع إلى سريري، وتختبئ فيّ،
وأحتضنها حتى تهدأ، وننتظر النوم معاً.

****

أفلام مُرعبة

أشكال الغيوم اليوم مُرعبة،
وأظلّ أتوقّع فيلماً شنيعاً
من الدرجة الثانية بالأبيض والأسود
تظهر فيه سايكلوبات (11) عند نهاية الأفق،

وتأتي فاشخة فوق المحيط
وتجرّني من مطبخي
إلى الكهف العميق الذي ومض
في دماغي الفتيّ ذات سبت

في سينما بارونيت حيث جلستُ بلا حول
بين أخوي الأكبرين، متقطّعة الأنفاس
من الكراميل الرعب ــــ ذاك الكهف،
مهاد العظام البشريّة

المتآكلة والمكومة عند الفوّهة،
أستطيع اشتمام نتانتها بوضوح
مثلما أشتم دهن لحم الخنزير عند الإفطار.
هذا ما تشعر به عند فقدانك إيّاه ـــ

ليس عقلك، أعني، بل كلّ
ما يجعلك تنهض صباحاً
وتغادر البيت حقّاً
في تلك الأيّام حين ترين الموت

بزيّه البني
يتجول في حيّك بشاحنته
المحمّلة بالألواح والرزم.
تفتحين دفتر مواعيدك

وتحدّقين في موعد خربشته قبل أسبوع
على عجل، محاولة إقناع نفسك
أن اليوم موجود مع اقتناعك
أنه غير موجود، مفكّرة في صوت الصديقة

على المجيب الآلي ـــ لستُ هنا ـــ
صبيحة جنازتها،
ملأت الاتصالات الشريط
والبريد ظلّ يصل،

ولنواجه الأمر، ليس من سلوان
أما الأمان فأتذكّر
أفلام مصاصي الدماء
التي كنت أرجع منها إلى البيت

وأظلّ مستيقظة طوال الليل، متصلّبة
في سريري، غير قادرة على النهوض
للتبوّل لأن الميّتين الأحياء
ينتظرونني تحت السرير؛

إذا ما تجرّأت على وضع
رجلي في الهواء العاري
فسيجرّونني من ركبتي ويسحبونني
إلى أسفل. وقال لي أبواي ليس

من شيء هناك، وإنني حين أكبر
سأعرف الأشياء أفضل، والآن
ماتا، وكبرت،
وبتّ أعرف الأشياء أفضل.

****

صلاة

أحياناً، ممدّدان على السرير بعد الحب (12)،
أنظر إليك وأرى مستقبل جسدك
ممدداً تحت الأرض؛
واضعة يدي على صدرك
أشعر كم خافتة وبعيدة نبضات قلبك.
أرخي خدي على حلمتك اليسرى
وأصغي إلى الدم يتدفق، رائية حياتك تترشّش،
مياه شفيفة تُسكب غزيرة من قِدر
على العشب الجاف.
وأريد أن أنغرز عميقاً في السرير
وأُضغط
مثلما تُضغط بذرة في ثقب
وتملّج بالتراب (13).

أريد أن أكون البذرة الميتة،
التي لا تنمو، ولا تعرف أنها ينبغي أن تنمو،
أريد أن أستلقي هنا بلا حراك،
بلا حياة
كحيوان مذبوح أهرق دمه على العتبة،
أريد أن يأخذني الموت
إذا كان ذلك سيوفّرك.
أريده أن يعبر.

****

فيضان

كيف تعبركِ الصور، مصراعا الجسم
يطفقان حتى وأنت لا تنظرين:
قشعريرة ناعمة من أغطية الساتان،
مفاتيح البيانو، سطح الفطيرة اللمّاع
تطفو كلّها، فجأة، وكذلك الشعر على ذراعك
الذي اقشعر إزاء تيار الذاكرة ذاك، وعلى لسانك
طعم الملح اللذيذ لعاشق
يتموّر فيك، ويُغمد في المكان الذي لا تستطيعين
الغوص عليه لكن الذي يعمق كل لحظة
تكونين حية فيها. يتسع البؤبؤ الأسود،
يمضي الرجل نزولاً وعميقاً، الطعام
والشمبانيا والضوء والموسيقى، لا قعر لهذا،
طمي الخسارات وضبابها الذي لن يهدأ أبداً،
والسمكة الضخمة المؤرقة، النهِمة للذّة،
والأغوار الصامتة حيث لا شيء
موجود بعد، هذه الثانية، التي بعدها، النّفس
الأخير الذي خرج ولن يرجع، أوه تمسّك بي
كما تفور المياه، لا تخف،
سننضمّ إلى الآخرين، سنتذكّر
ونخبرهم بكلّ شيء.

****

قل لي

سأتوقّف الآن عن التفكير في خساراتي
وسأستمع إلى خساراتك.
سئمت من جرّها معي حيثما أذهب
كالأطفال الذين يبقون ساهرين
بينما ينبغي أن يكونوا في أسرَّتهم

تحت الحِرام الوحيد الذي يدفّئهم.
سأرسلهم إلى البيت وأبقى

في هذه الحفلة طوال الليل مع الموسيقى الصاخبة
والراقصين الذين يتحرّكون ثقيلين تحت الضوء

والسكّيرين الذين يدلقون كؤوسهم على أكمامهم.
سأنضمّ إليهم. سأشرب حتى أفقد وعيي

ناسية أنّ لي أطفالاً، سأرقص
حتى الألم، حتى أجعل من نفسي هُزءاً.

قل لي إذاً. قل لي كيف تتأذّى
مع أنني لن أقدر على مساعدتك. أخبرني

عن أعمارهم، كيف يؤرّقونك الليل بطوله،
كيف تتمنّى أحياناً لو يموتون

لكنك مع ذلك تجد نفسك تتأمّلهم
بحنان وهم نائمين. ثم، أرجوك، راقصني،

عانقني ونحن نعبث معاً
ليسوا هناك في الخارج يلصقون وجوههم

الكئيبة الفارغة على النافذة، قل لي
إننا إذا تباوسنا فلن ينسلّ واحد آخر

من كلّ منّا، قل لي إنك لا تشعر
بالثقب الصغير الذي يحرق جنبك

أو تسمع الآخرين حولنا
يحاولون توسيع مساحة الرقص
وهم يصفّقون ويزعقون بفرح.

****

فيزيائيّات

في عتمة الحجيرة يكون عليك أن
تتحسّس الشّقب (14) كالضرير داسّاً الربع فيه.
ترتفع الستارة السوداء.

هناك الآن امرأة عارية
ترقص أمامك وأنت تنظر إلى ركبتيها،
ثم ترفع ناظريك إلى شعرها السلكيّ
الذي تفرّقه مكرهة بإصبعين
بينما يدها الأخرى
تداعبُ جسدها من الصدر إلى الورك
وللحظة أنت من يفعل ذلك،

تداعبها بالطريقة نفسها وحين ترفع
وجهك إلى وجهها لا تجدها تحدّق
في الفضاء كما توقّعتَ لكن

تصوّب نظرها إليك بتعبير
يقول أحبّك، وأنتمي كلّياً إليك
لكن عندها تختفي الصورة.

تضع ربعاً آخر، لكن الستارة ينبغي أن تُغلق
قبل أن تعاود الانفتاح تدريجيّاً كبؤبؤ يعدّل نفسه
عند غياب الضوء وحين يحدث ذلك

تكون المرأة قد اختفت. انتقلَت إلى النافذة
الخفيضة الأخرى حاملة وجه أحدهم الضبابي،
ثم تظهر امرأة أخرى

وتقف تحت الأضواء وفي المرايا
وتبدو في غاية السعادة إذ تجدك عالقاً هناك
كسمكة مسكينة في كيس بلاستيكي

أُطلقت أخيراً إلى حوض صغير
فيه قلعة سيراميكية وبعض الحجارة الملوّنة،
وتفتح فمك تماماً كسمكة تنتظر

رقاقات الطعام، غير مدرك
ما الذي يجعلها تمطر
عليك. تشعر بجوعك يحتدّ
فيما تدفع الراقصة نفسها مراراً وتكراراً
في الهواء الذي بينكما.

والآن، وبشكل لا يصدّق،
يخطر على بالك
ليس أنّك تضاجعها
لكن تفسيراً سمعته مرّة
حول المسافة الشاسعة التي

بين إلكترونين. افترض،
يقول العالِم، أن الذرّة بحجم
برتقالة؛ ثم تخيّل هذه البرتقالة
بحجم الأرض.
الإلكترونات التي بداخلها
ستكون بحجم حبات الكرز.
الكرز،
تروح تفكّر، وواضعاً ربعاً آخر
ترى كرزة على طوف جليدي في القطب الجنوبي،
ثقب دم صغير،
وأخرى في قرية في شمال أفريقيا
على لسان طفل مغبر،

بينما الراقصة تهزهز ثدييها أمامك،
كاشفة حلمتين تعرف أنك لن تعضّهما أبداً
في هذه الحياة؛ كل ما يسعك فعله

التمسّك بقوة بآخر ما تملك من أرباع غير مفيدة،
مكرّراً لنفسك أنّها صلبة،
صلبة حتماً، حتماً تستطيع أن تحسّ ذلك.

****

كائنات فضائية

الآن وأنتِ أخيراً سعيدة
تلاحظين كم أصدقاؤك حزينين.
إحداهنّ تخابرك، باكية، من كشك هاتف.
زوجها مصاب بالسرطان منذ أشهر قليلة فقط،
وقد يحتاج جسده إلى وقت أقلّ ليستسلم.
إنها متعبة طوال الوقت، وبالكاد تأكل.
ما الذي يمكنك قوله من شأنه مساعدتها؟
أنت نفسك متوتّرة.
تبلغين النشوة بقوة هائلة مع عشيقك الجديد
حتى إنّك تتساءلين إذا ما تحوّلت
شخصاً آخر. ربّما احتلّ
جسدك كائن فضائيّ
بهدف أن يختبر الحياة الطيّبة
هنا على الأرض: كأس من الرمّ الحاد وعصير الكريب فروت،
المضاجعة على أرض المطبخ،
الاستحمام معاً والخروج
للأكل، والأكل. حين تخابرك صديقاتك ـــ
التي تُكثر من الخمر، التي فقدت
أخاها، العشيق السابق الذي صمّت
أذنه اليمنى ثم راحت تطنّ ـــ
الكائن الفضائيّ لا يريد أن يسمع.
المزيد من الطعام، يئنّ. ضاجعيني ثانية،
يهمس، وبعد ذلك نذهب إلى السيرك.
يرنّ الهاتف. لا تجيبي.
تأخذين إصبعيّة (15) سميكة
تقضمينها بينما تمتلئ الغرفة
بالكائنات الفضائية ــــ تتجوّل، كائنات مخرّمة بالنجوم
تتذبذب في الهواء الجذل،
متشوّقة للهبوط والانضمام إليك،
باحثة عن مكان ترتاح فيه.

****

قمر مكتمل

في أرجاء المدينة كلّها
يستحوذ شيء على الناس فجأة.
نسوة يغطّين أولادهن يغمضنَ
عيونهن يفكّرن برجال كان عليهنّ
لحاقهم بعد ترجّلهن من الباصات.
فتيات يطلين وجناتهنّ بأحمر الشفاه،
أجسامهن تخبرُ الأكاذيب
لكلّ من يصغي.
سيارات مطفأة الأضواء تنسلّ
من بين الأشجار، إلى المحيط.
الرجال المنسلّون إلى مستوعبات القمامة
يوضّبون أكياس (برغر كينغ) لاستعمالها
في الشواء. يستلقون على المداخل.
في الأحلام تجسّ أمهاتهم جباههم
لتطمئنّ إلى أنهم غير مصابين بالحمّى.
لاجئون يجلسون
دارسين الصور القديمة التي يَدخلونها
كالمياه، ويغطسون تحتها.
خذهم أعمق أيها القمر.
الرغبة شراب بارد
يسخّن القلب.
في مكان ما تقف نسوة
على نوافذهن كشموع مضاءة،
وصبية بأحذيتهم العسكرية
يرقصون جذلاً في الشوارع،
ويغنّون مطلقين النار
على كلّ ما يتحرّك.

****

كرة الثلج

شتاء في النزل الصغير.
الرجل والمرأة ممدّدان
عاريان وباردان. عاصفة ثلجية

على التلفزيون،
لمعان جليد على النوافذ،
البوربون زجاجة من النار.

بعد الحبّ تلحس
عرقه البارد، محاولة خَتمَ
نفسها في داخله.

دخان سكائرهما
يعلو ويختفي بينما يغرقان
في النوم. إذا ما

هززتهما الآن سيقعان
من السرير الأبيض،
رماد يكسو ويلفح

جلديهما. يداي
المخدّرتان من حملهما
تبدآن وخزهما المؤلم.

لا أنسى أصلاً
نَفَسه على وجهي، حاراً
كنَفَس حيوان، ولسانه الملحاح.

الأفضل أن أدعهما
ممدّدين هناك. أن أدع قشعريرة
الثلوج العميقة تدفنهما.

****

الجسد والروح

أين هي الروح بحسبك؟
أتحسبها أشبه بحقيبة جلد صغيرة،

من النوع الذي يتّسع لشيء واحد ـــ
لوح شوكولا، حساء، وعاء صغير؟

أهي متكوّرة، هناك، وراء القلب؟
مطويّة بحذر ومحشورة بين الأضلع؟

أهي ملتفّة حول الخصيتين، أهي نديّة
كرَحم، هل مُزّقت؟

الجسد ليس البيت.
إذا كان الجسد بيتاً

فهل تستيقظ الروح متأخرّة في المطبخ، مؤرّقة،
تقف قبالة الثلاجة المفتوحة،

هل تعبت من التلفزيون،
ومن أفكارها الخاصة؟

ليس للجسد أفكار.
الجسد يمتص الحب كمحرمة ورقية

ويبقى وسخاً.
الجسد يطلق بعض المخدّر،

بعض العرق والدموع ـــ
أحياناً يصير الجسد

هادئاً جدّاً
بحيث إنه يسمع الروح،

تخرمشُ كشيء عالق
داخل الجدران

تحاول الخروج،
مسعورة.

****

الأرقام

كم ليلة تمدّدتُ هناك على هذه الحال، مضّطرمة بالخطط،
بالمخاوف، بآخر عبارة لفظها أحدهم، محاولة إنهاء
محادثة منتهية أصلاً؟ كم ليلة
هُدرَت في الأرق؟ كم ليلة في النوم ؟
لا أعرف عدد الجياع في الأرض،
كم من شعاع ومن ملح، كم مرّة
ينهار العالم، يتبدّد إلى لا شيء ثم يولدُ من جديد
في ساعة اعتيادية. لا أعرف كيف يحتمل
الله رؤية كلّ شيء في وقت واحد:
الأجسام المتهاوية، الأنصاب والحرائق،
العشاق الذين يجوسون أرض القلوب الكثيرة المقفلة.
أريد أن أُغمض عينيّ وأعثر على حقل هادئ في الضباب،
بضعة خراف تخطو نحو سياج.
أريد أن أعدّها، أريدها أن تنتهي. لا أريد أن أتساءل
عن عدد الجالسين في المطاعم التي على وشك الإقفال،
ومن منهم سيتسكّع على الأرصفة طوال الليل
بينما الفطائر تدور في العتمة المثلجة.
كم يوماً بقي لي من حياتي، كم يهمّ لو نجحت في قول
شيء واحد حقيقي عنها ــــ كم حاولت،
كم أخفقت وأُحبطت؟
الحقل نديّ،
كلّ عشبة تلمع بخواصها، حتى هنا،
لذا لا أستطيع منع نفسي
من السؤال ثانية، السماء البيضاء بآثار الأقدام، بالقرميد،
بالدمدمات على السّبحات، بالأيدي التي تمرّ على النار
قبل أن تغطّي الأعين.
متعبة، أريد أن أرتاح الآن.
أريد أن أُقبّل جسد حبيبي، الفم الواحد، الإسم البسيط الذي
بلا ظلّ. دعني أمضي. كم من صلاة
ثمّة الليلة، كم واحد منّا عليه أن يبقى مستيقظاً
يُصغي؟

****

ليلة الأحياء، ليلة الموتى

حين ينهض الموتى في الأفلام يكونون بشعين
وبطيئين.
يصعدون التلّة مترنّحين إلى المزرعة
كسكارى عائدين إلى البيت من الحانة.
ربما كل ما يريدونه الاستلقاء قليلاً في الداخل
بينما بعض الغرف تحوم من حولهم، ربما لهذا
يدقّون على النافذة فيما الأحياء
يطرقون الخشب ويعدّون أظرفة الرصاص.
لدى الأحياء مخطّطات:
أن يبلغوا السيارات المركونة في الباحة
وأن يقودوا بسرعات جنونية إلى البلدة التالية.
الموتى بأدمغتهم السائلة،
بأطرافهم المتدلّية وقلوبهم الممزّقة،
سئمون من ذلك كلّه. يفضّلون السير
عميان في الحقل متعثّرين حتى يصطدموا
بشجرة، أو يقعوا على باب
كما لو أنهم الباب نفسه وقد انفصل عن مفصلاته
وارتطم مسطّحاً بالأرض. وام، وام، وام
حتى تنسى اسمك، ووجهك
المقرف، وما دعاك إلى السير يقظاً
منذ البداية. لم أنت هنا،
وما كنت تأمل مستلقياً في تابوتك ككلارينت صمّاء؟
الآن تعرف أفضل. اقترب
وسَيُرونك كم تعرف. وام، وام، وام،
قُتلتَ ثانية. الحمد لله هذه المرّة
أنّهم يحرقون جسدك، الحمد لله أنه
لن يستطيع جرّك بعد الآن في أرجاء المكان،
سوى في الكوابيس ــــ عروض آخر الليل ــــ
حيث ترفع الرمش، وتزحف ثانية،
وتبدأ صعود التلّة باتجاه البيت.

****

ما يخشاه الموتى

في ليالي الشتاء يرى
الموتى صورهم تنزلق من
جيوب المحَافظ،
رسائلهم مضبوبة في صندوق
مع ثيابهم احتراماً للذكرى.
لا أحد يتذكّر نكتهم،
عاداتهم السيئة، رهابهم
من الأماكن المغلقة.
في تلك الكوابيس يشعر الموتى
بالممحاة الناعمة وهي
تمحو عظامهم. يستيقظون
مذعورين، يشربون كوب حليب
ويرون القمر، والثلج الهاطل حديثاً،
والأشجار العارية.
ربّما يحضّرون سندويشاً من الديك الرومي،
أو يشاهدون الإعلانات على التلفزيون.
كلّه حلم بأيّة حال.
بعد بضعة أشهر
سيقدّمون الساعات،
وحين ينامون سيعرفون أن الأحياء
يحزنون عليهم، وحيدين وغير
مبالين للجمال. في تلك الليالي
يشعر الموتى أنهم أفضل.
ينهضون صباحاً، منتعشين،
وحين تُلقى الورود
المقطوعة قرب أسمائهم
يبتسمون كالعرائس الخجلات.
شكراً لكم،
شكراً لكم، يقولون.
لم يكن عليكم ذلك،
يقولون، لكن بنعومة فائقة، حتى يبدو
كما لو أنها الريح تتكلّم،
كما لو لا شيء بشريّ.

****

هدايا أخيرة

إلى آل


تجمّعوا في الغرفة التي بجوار المطبخ
حيث حُشر سريره. كاتب كان نشر له
أحضر له لفاعاً أحمر ولفّه حول عنقه؛ بدا
كمن يغرق، رأس صغير يطفو
على أمواج من الريش. شخص آخر جلب وسادة طرّزت
عليها صورة ألفس (16) وعبارة (ملك الروك أند رول)
على رأسها. كان هناك بقع حمراء على ذراعيه، وكان رأسه
يترنّح قليلاً حين يصبّ الماء في الكأس التي على صينيّته.
أخرج شاعرٌ كتاباً من الرفوف المكتظّة، جلس
على طرف السرير وقرأ عليه قليلاً. أحدهم
داس بالخطأ على أنبوب الأوكسيجين؛ لم يلاحظ أحدٌ
حتى راح يسعل، ساد ذعر لبرهة
تلاه ضحك ومزاح. صارت الحفلة أكثر حيويّة؛
أعاد الحاضرون ملء كؤوسهم وراحوا يتحدّثون
في وقت واحد. ذهبت زوجته إلى المطبخ وأحضرت
وعاء فضيّاً ضخماً مليئاً بالفُشار ومرّرته على الجميع.
لبضع لحظات كما لو أنهم نسوه.
ثم أنهى أحدهم قصّة، صمت آخر ليفكّر
في الكلمة المناسبة، وانفتح صمت وساد
في الغرفة المُشعشعة.
نظر الضيوف إلى بعضهم؛ بعضهم
اغرورقت عيناه بالدموع.
التفتوا إلى السرير حيث يجلس المريض
مبتسماً لهم بلفاعه الأحمر،
وكان يعرف أن هذا ما ستكون عليه
الحال حين لا يعودُ هناك. ثم ما عاد هناك.

****

القصة

عادت المرأة إلى البيت لتجد زوجها وأطفالها متحلّقين حول المائدة
كعادتهم في أماس كثيرة، المصباح على النَضد يشعّ بنوره المعتاد
فوق الخشب الخشن، بضع زهور نسّقها الأطفال في الآنية الزرقاء،
رسم الإبنة الصغرى لحصان معلق قرب النافذة
ذات الستارة الخيش(17).
جلسوا حول المائدة ورؤوسهم المقطوعة موضوعة أمامهم
على الشرشف المنسوج، وذراعا كل منهم رُفعتا بحيث
توضع اليدين على الشعر، شعر زوجها الكثيف الذي
كانت تعكفه حول أصابعها، شعر ابنتيها الجميل،
وخصلة الشعر التي بالكاد مرئية
فوق الجمجمة الصغيرة،
يدا الطفل كانتا صغيرتين بحيث كان عليهما تثبيتهما بالمسمار،

وهنا بدأتُ أكره الرجل الذي أخبر الحكاية، الذي جعلني أرى
ليس ميتاتهم فحسب لكن الجنود الواقفين حولهم بعد ذلك، قوس
المطرقة وهي تهبط وتدق ما لا أستطيع الآن نسيانه؛
أفضل ما أستطيع التفكير فيه هو المسيح، لكي أحتمل المسامير،
بحيث أستطيع إحضارها لك، وربما لست أفضل من الجنود إذ أفعل ذلك.
أسألك الذهاب إلى بيتك لترى رأس الطفلة
منحنياً فوق فروضها بينما تقص صوراً من مجلة،
والشعر الأسمر أو الأشقر الذي تزيحه بنفاد صبر عن عينيها.
لا أعرف لمَ أحتاج إلى قول هذا وأي خير أو شر يؤدي إليه.

أريد حكاية العذاب القديمة المقبولة،
الصليب الذي صار أيقونة،
الدم المقدّس في الكأس.
أريد ألا أعرف ما أعرفه إذ أرجع إلى حياتي،
أصدقائي الذين يحبونني، بينما أزين الطاولة بالشموع وأحضّر أقداح النبيذ
ولاحقاً أدس يديّ في شعر حبيبي؛ يَدخلني، نسقط معاً
على السرير، يعض حلمتي بأقسى ما أستطيع احتماله ثم أقسى،
لكنها الرغبة ما أحس، لقد أُعطينا هذا أيضاً؛ أقول ذلك لنفسي مراراً
وتكراراً بينما نمارس الحب كحيوانين في الغابة البعيدة عن أي بلدة
غير مبالين بالعالم، نهمين إلى بعضنا، نصرخ
بينما العمال يعبّدون طريقاً صوبنا،
والآلات تزحف.

****

في الداخل

أواني العشاء سكائر باحة اسمنتية نجوم
جدران مجلة سكائر نوم
أحلام جدران شوك وشم
سكائر ظلّ تواليت باحة اسمنتية
حراس فيلم سكائر نوم
فرشاة أسنان صورة هرمونات جدران
أواني العشاء سكائر باحة اسمنتية نجوم

****

كمّيّ

تعرفين كم من الصعب أحياناً مجرّد السير
في شوارع البلدة، كيف يَدخُلك كلّ شيء
على نحو ما يصف العلماء ـــ فوتونات (18) تتدّفق
في الجسد، مرتطمة بالهواء، قرميد العمارات الذي
لا يخترق، وهمٌ ـــ أحياناً تشعرين كم أنت
شفّافة، كم يمكن اختراقك، والرجل الذي يترنّح بدوائر
على الرصيف، قاطعاً الهواء حوله
بصفيحة معدنية قائلاً Uhh! Uhhhh! Uhh! مراراً وتكراراً،
هو جزء منه، والذي في سلاسل ذهبية يتكئ على واجهة
متجر الحقائب كذلك، والذي يتجه نحوك
من بابه قاصداً أن يسألك شيئاً في ظاهره
بسيط، مثل ما الوقت الآن، شيء تعرفين
أنك ما عدت تستطيعين الإجابة عنه؛ هو جزء من ذلك، جسد
العالم الذي هو جسدك أيضاً ويلحّ عليك أن
ترينه. والمشكلة أنك تفعلين، لكنه
يحدث هنا، بين الحشود والروائح المستهلكة،
وتتذوقين كلّ شريحة ورق مشحّمة، والبصقة
المنتفخة التي تدوسين فوقها، لسانك سميك بالقذارة
كما لو أنك وقعت على يديك ورجليك لتلحسي
الشوارع المزيّتة، ولسانك حامض كما لو كنت تشربين
بول أولئك السكارى الذين يمرّرون القنينة مداورة في الحديقة الصغيرة
بمقاعدها الباطون ونافورتها المكسورة. والحال ليس بأفضل
حين تنزلين أدراج الميترو وترين فتاة تعزف نحيب قلبها ـــ قلبك ـــ
والذي يغطّي الأزيز المرعب لآلتها وتسرعين نحو
الباب الدوار، متحسّسة المال الذي انتقل
من كذا يد إلى يدك، متخلّصة من كل الفكة
ما عدا ربع دولار واحد أنت واثقة من أنها تراه
ممدّداً في جيبك بينما تصعدين السيارة والأبواب
تقفل خلفك من تلقائها. لكن الأمر لم ينتهِ بعد.
لأنه لاحقاً حين تصلين إلى البيت، وتنظرين
من النافذة إلى المحيط، إلى هدوء خط الأفق،
والتفاحة في يدك تتوهّج بذلك الضوء الذهبي الذي
يحدث بعد الظهيرة، غامراً إياك بشيء أنت واثقة
من أنه قريب من السلام، تفكّرين في الصبي الذي يوضّب
الخضار في (سايف واي)، في وجهه المسطّح
بطريقة مألوفة ـــ والملطّخ بكروموزوم خطأ ـــ
وتتذكّرين عينيه الزرقاوين المشطوبتين،
ويديه، المتقشّرتين، الطافحتين، اللتين رفعتا كلّ غرض
بلطف قبل وضعه بحذر
في كيسك، والأغنية المونوتونيّة التي تمتمها،
كيس ورقي أم بلاستيكي، كيس ورقي أم بلاستيكي، فمه مرتخٍ،
ونقاط من لعابه عند الزاوية، وتعرفين أنه جزء من ذلك أيضاً،
رافعة الثمرة إلى شفتيك تنظرين إلى الخارج
إلى الأزرق الكثيف البلا معنى وتعرفين أنك في داخله،
تدركين أنك تلتهمينه الآن.

****

علاقة

يا الهي كم هو مثير، فتح زجاجة بيرة في حين أقسمت أنك لن تشربي الليلة،
عبّ الجرعة الأولى، الزبد المتصاعد في عنق زجاجة
الباسيفيكو الطويلة التي تضعينها على النّضد والبيرة تراق من رأسها
فتنحنين عليها وتضعين فمك على الشفة الباردة
وتعبّين، لأنك، ربما لست، شرّيبة ــ ربما لست سكيرة
ليس بعد بأية حال، لكن ألا ترغبين

بكأس شراب ما معظم الليالي، ألا ترغبين
بطقس حمل الزجاجة رفعها عالياً والاجتراع والاحتفاظ

بحلاوتها أو مرورتها في حلقك، مدركة أنك ستمنحينها نفسك
كعشيق، سواء نفخ بالون قلبك المثقوب أم لا،

ألا تؤمنين أقله بالمحاولة مهما تكن المفارقات،
ألا تؤمنين أن ذلك يمكن أن يحصل،
ألست هذا النوع من النساء؟

****

قرب بحيرة هيرون

خلال الليل عبرت الخيول قريبة
من فإننا المركون. في الداخل أستيقظ باردة
في كيس النوم، سامعة خطوها الثقيل،
الحصى الصلب تحت قوائمها وهي تسير
إلى ضفة النهر. كنتَ نائماً،
وربما في نومك رأيتها تدخل حياتنا
بما يكفي لتسبب تلك الحركة البسيطة
ذلك التشنّج البسيط في أطرافك ثم تنهيدة
صامتة إلى درجة أن لا تكون شيئاً
سوى النفس التالي، أستطيع أن أصدّق أنك لم تحزر
كيف انبثقت تلك الحيوانات من العتمة
واتجهت صوبنا.
أو مدى خوفي قبل أن أرى
أنها مجرّد جياد، لا شيء يمكن أن يؤذينا.
الصباح التالي
راقبتك عند ضفة النهر
تغسل وجهك، صدرك العاري كسته المياه،
وعرفت كم كنا بحاجة إلى ذلك،
اليوم ما يزال طويلا ببحيرته الهادئة
التي يسعنا السباحة فيها، عاريين، قادرين على التلامس ثانية.
كنت رائعاً.
وحسبت أن الزواج لن ينتهي أبداً.

****

علاج

أخي في البيت. أُغلق بابي.
إنه في المطبخ. زجاجات، سكاكين. يكسر القفل،
يجرني من ذراعي على الأرض.
طائر صغير يخفق بجناحيه في الساعة؛
إنه يخرج الآن، يتبع
كل إهانة: ذلك اليوم البائس،
أبي يسكر، يا الهي، كل دراما
طفولتي السوداء تتكشّف
كوثيقة في متحف. وأنت تجلس
مصغياً، ومومئاً برأسه، كتلك الدمى
التي رأيتُ، رؤوسها معلّقة على زنبركات.
سخيف جداً، الضجيج الذي
يمليه الماضي على الموسيقى.
ما الجدوى من هذا كله؟
انتهى الوقت.
أنت في المنزل.
أنا أعبر الباب.

****

قدح

في كلّ حانة ثمة من يجلس وحيداً ومستنفداً بالكامل
مما يراه، مهما كان، في القدح الموضوع أمامه،
قدح يبدو عادياً، بشيء ناصع أو قاتم في
داخله، شيء شُرب جزئياً لكنه لم ينفد كليّاً.
كلّ شيء هناك: كل الخطط التي أفضت إلى لاشيء،
علاقات الحب الحمقاء، وتلك المرعبة، التي انفتحت فيها السعادة
الحقيقية كفجوة تحت رجليه وسقط فيها، ثم بقي
عاجزاً بينما التراب انهال بجرعات قليلة متتالية ليدفنه.
وأصدقاؤه هناك، يفرقعون بالقناني التي صوت
ارتطامها إذ تلتقي أشبه بعصا بلياردو
تنقف طابة، الطابة الخطأ، التي تتجه الآن، سوداء ولمّاعة،
إلى الجيب المنتظر. لكن الصوت يتوقّف بعد برهة، وعند البار الشارب الوحيد
يلوّح لآخر. القريبان الآن يطفوان على
إخفاقاتهما، على السرطان، على أحمال الذنب
وعلى ضحكة صغيرة، أيضاً، وعلى الجمال حتى ـــ عصريّة ما من الطفولة،
بحيرة، لعبة كرة، كتاب قصص، ثلج يهطل
ويسمك حتى يكسو الأرض حتى
يصير العالم أبيض وساكناً، حتى لا يعود هناك عالم بالمرّة
لا زحمة سير، لا مال ولا قتل ولا جنس،
فقط سلام مبارك يبدو نهائياً لكنه ليس كذلك. وأخيراً
القدح الذي يحتوي هذه الأشياء ويريقها باستمرار
بينما الشارب ينحني عليه وحين يجمع الساقي الأقداح الفارغة
يعيد إلى الشارب وجهه الحقيقي.
من يعرف كيف يبدو؛
من يهتمّ ما إذا كان فتيّاً ذات مرّة، أو حتى وسيماً،
من يبالي بسكير يسير مترنّحاً
إلى الحمّام، رجل أو امرأة ما، أو حتى ملاك
ضائع يتقيّأ كلّ شيء على الأرض ـــ السماء، الأثير،
الأعمال العلوية ـــ ويقول (اللعنة، أريد أن أكون بشريّاً؟
من يؤمن بالملائكة بأية حال؟
من لديه وقت لأي شيء سوى
مسرّاته وأحزانه الخاصة وبضعة أشخاص طيّبين
نجح في جمعها من حوله ضدّ اللاأمان،
ضد عصريات الجلوس وحيداً في حانة ما
تحمل إسماً مثل الــ (امبرز) أو الــ (نينث إينينغ) أو الــ (ويشينغ ول)؟
انسَ ذاك الخاسر. فقط أخبرني من يبتاع الأقداح، من يدفع ثمنها؛
لكنني عطشانة يا الله، وأريد أن أقول لكم شيئاً،
اقتربوا أريد أن أخبركم شيئاً،
اقتربوا أريد أن أهمسه لكم، أن أسكبه
حارّاً في أذني كلّ واحد منكم،
اسمع، أنه بسيط، أقوله الآن، وأنا ما أزال صاحية،
قبل أن أبدأ بالنحيب المرّ أمام قدحي،
بينما ما زلت هنا ـــ لا تذهب الآن، إبقَ، إبقَ،
أعطني كتفيك لأستند إليهما، أسندني، لا تدعني أقع،
إنني مغرمة بك حتى إني لا أستطيع الوقوف.

****

إراقة

تشيح بوجهك عني. أتذكّر ثانيةً
أول مرة التفتّ فيها إليّ،
مربّتا على كأسك.
جلسنا نسكر على طاولة

أول مرة التفتّ فيها إليّ
عرفت أن هذه اللحظة ستأتي:
شخصان يسكران على طاولة،
ينهيان علاقتهما.

ومع أني كنت أعرف
لم أستطع منع نفسي من تقبيلك،
ونحن ننهي الأمر، مع أننا
كان يمكن أن نبقى صديقين؛

لكنني لم أستطع منع نفسي من تقبيلك،
متذكّرة البداية، التعرّي المتردّد، الحب
الذي كنا قادرين الإبقاء عليه كصداقة، لو كنا حكيمين.
الآن، لغباوتنا، وصلنا إلى النهاية.

كانت البداية مترددة، الحبّ.
مربّتا على كأسك
أحدّق بك ببلاهة. وصلنا إلى النهاية.
تشيح بوجهك عني. أتذكّر ثانية.

****

يوم رأس السنة

المطر يهطل هذا الصباح
على آخر الثلج

وسيجرفه بعيداً. أستطيع شمّ
العشب ثانية، وأوراق الشجر

المقصوفة تقع على الوحل.
الغراميّات القليلة التي سمح لي

الاحتفاظ بها ما تزال نائمة
في الساحل الغربي. هنا في فرجينيا

أعبر الحقول ترافقني
بضع بقرات صغيرة.

ضخمة العظام وخجولة
كالفتيات اللواتي أتذكّرهنّ

من الثانويّة، اللواتي لا
يتكلّمن، اللواتي يبقين رؤوسهن

خفيضة وأذرعهن متصلّبة
على نهودهنّ الكاعبة. أولئك الفتيات

في الأربعين اليوم تقريباً. مثلي،
عليهن أحياناً الوقوف

وراء النافذة ليلاً، ناظرات
إلى باحة صامتة، إلى مقعد

يصدأ والجدران العالية
لمنازل الآخرين.

لا بدّ أنهن يجلسن بعد الظهيرة
ويبكين بقوة على من اعتاد

جعلهنّ الأسعد،
ويتساءلن كيف حملتهن

حيواتهن كل هذه
المسافة من دون

أن تفسّر مرّة شيئاً. لا أعرف
لم أسير الآن في الخارج

ومعطفي يسودّ
وحذائي ينغرز في الأرض

مُصدراً صوتاً لطيفاً
أحبّ سماعه. لا أبالي

أين تلك الفتيات الآن.
أي كان ما صنعنه في حيواتهنّ

يستطعن الاحتفاظ به. لا أريد اليوم
أن أحلّ شيئاً.

فقط أريد أن أمشي
مسافة أطول في البرد

مباركة بالمطر،
رافعة وجهي إليه.

****

سلمون

في هذا الجدول الضحل
تتخبّط وتتلوّى إلى الأمام بينما الميتة منها
تطفو في اتجاهه. أوه أعرف

ما ينبغي قوله: عنف يضطرم في أبدان الإناث
بينما تضع بيوضها، والذكر يطلق منيه الأبيض
ويدفع البيوض. ينبغي

أن أقف على الجسر حاملة كاميرتي،
أضبط العدسة على الزبد حيث
إحدى الإناث تتقوّس لبرهة في مجدها الأخير.

لكن عليّ أن أمضي بين
الصخور على الجليد الباقي
عند حافة المياه

حيث ترقد كومة منها برائحتها المقرفة
حيث غراب واحد يوازن نفسه ويغطس
منقاره في عين متجلدة.

ينبغي أن أدرس الثقوب الصغيرة
على جلدها، سوائلها غير المفيدة،
الذباب الأسود الذي يكسوها. لا أستطيع

جعلها تغنّي. أريد ذلك،
لكن كلّ ما تفعله فتح
أفواهها أوسع بقليل

حتى تنسكب المياه
حتى أشعر أنني أغرق.
باص الرحلة ينتظر

وأحدهم يلوّح وينادي.
إنه الوقت، والتيار يرفع
الأوساخ من القعر ليغطّي البيوض.

****

هم

ذاك الصيف كانت لديهم سيّارات، فرش ناعم يتجعّد
على المقاعد الخلفية.
ناعم أيضاً الزغب فوق شفاههم ومؤخّرات أعناقهم،
تنفّسهم المضطرب، وألسنتهم المطعّمة
بمعجون الأسنان.
سرقنا الليكور من كابينات أهلنا وسكبناه
فوق مكعّبات الثلج المجوّفة
عند أطرافها، كما لو أن إصبعاً انغرز فيها.
خرج الفتيان يقطرون ماء
من البرك الزرقاء الطويلة، المياه
تنزلق على ظهورهم وخصورهم بلمعان
بلّوري؛ جلسوا بيسر على مقاعد
عمّال الإنقاذ العالية، أعينهم مغطّاة بالظلال،
أو جاؤوا من خلفنا ليمسكوا بالسمنة التي نكرهها
حول خصورنا.
بالنسبة إلينا كانت فوضى
التزيّن على مكتب، الثياب التي جرّبناها
مراراً وتكراراً، وحين فركوا ذكورهم المنتصبة
المخفيّة بأجسامنا كنّا أميرات دوماً،
بسيقاننا المقفلة.
وقتها كنّا نعرف أنهم سوف يجيئون،
يتسلّقون البرج، ويذبحون أي شيء
ليصلوا إلينا.
كنا نعرف أننا نملك ما يريدون:
النهود، السيقان، الشعر القاتم الأملس
تحت سراويلنا. كلّ ما طلبوه كان أن نسمح لهم
بأخذها. كانوا يسحبونها منّا كعيدان الحلوى التي
تصبح أسمك وأسمك حتى تنكسر
وحصلوا عليها. وكنا سنكبر
مع هذا النقص، حتى تعلّمنا كيف
نسمّيه، كيف ننظر إلى عيونهم ولا نرى
شيئاً لم نعطهم إيّاه؛ وكان ما يزال في مقدورنا
استرداده، كان في مقدورنا الانحدار إلى أجسادهم
وسرقته من جديد.

****

مفهوم الله

بعد مرور سنوات لم يتغيّر شيء
في الكنيسة. لا الضوء الضبابي،
ولا أقدام التماثيل البيضاء
أو الصبيان بثيابهم البالية
يركعون أمام الشموع.
لا الدّور التحتاني، ولا صحون الدونتس الورقيّة
التي وُضعت قرب أوعية القهوة.
لا الحمّام بأبوابه المفتوحة
على صفّ من الحمّامات الطاهرة،
والمياه الزرقاء في الطاسات،
والصابونة الصغيرة في كل مغسلة.
إلى الأبد الفتاتان الصغيرتان المستندتان إلى الجدار
في الصمت العميق، تتشاركان أحمر الشفاه
وتتفرّجان على نفسيهما في المرآة،
إلى الأبد الكاهن يومئ في غرفة الاعتراف،
مغلقاً وفاتحاً ومغلقاً نافذته الصغيرة.
دائماً أبي يعبر صفوف
الأصوات الجهورية الملولة والسلة ذات اليد الطويلة،
وأمي التي تعقد منديله على شعرها.
دائماً، أيضاً، تابوته أمام المذبح، أخي
يؤبّنه مفأفئاً، والصفّ الطويل من السيارات
المغطّاة بالثلج. دائماً لحظته القصيرة
حين ترتعش الشموع، ثم تهدأ،
والفتاة التي تحمل السيكارة تقترب أكثر
من المرآة، مذهولة للحظة
كم تجعلها تبدو كبيرة، كم أشبه بامرأة
تجعلها تبدو.

****

الغناء

هناك طيرٌ يصرخ في الخارج، أو ربما يبكي، صوته، بأية حال،
يمضي ويمضي
بلا توقّف. لذا أبدأ بالتفكير أنه طيري، إلحاح
أنا، أنا، أنا الذي اليوم عالق بتشوّق بلا اسم
لكنه لا يلين
بحيث إنني لا أستطيع المضي أبعد، نغمة واحدة تقرع
كالبندول
في صمت بعد الظهيرة، تنظم أغنية
لا أستطيع تعلمها. أستطيع القول إنه طير وحدتي
السائل، كالعادة، عن الحب، بأكثر مما لدي؛ أستطيع بالسهولة نفسها
أن أسميه
حزناً، طُموحاً، عقدة نفس لا تُفك، الخوف من قلبي
نفسه. كل
ما أستطيع فعله الإصغاء إلى مثابرته، كما لو أنه يكفي
إطلاق صوت
في وجه السكون، حتى ولو كان يقول قليلاً، بحيث لا
أحد يجيب
بشيء سوى الأسى، والارتباك. أنا، أنا، أنا أليس
الصوت
الأجمل، الأنا الرائعة، المتكبّرة الرافضة الاختفاء؟ لا
أعرف
ما أريد، سوى أنني أريده بقوة، لا أستطيع التوقف عن طلبه.
حيث إنه
حين يصمت الطير أخيراً أحتاج إلى القول إنه لم يفعل، إنني
طوال بعد الظهيرة وحتى المساء أسمعه؛ إنه حتى الآن، في العتمة، يمضي
ويمضي.