محمد الثبيتي

ضمني،
ثم أوقفني في الرمال

ودعاني:
بميم وحاء وميم ودال
واستوى ساطعاً في يقيني

وقال:
أنت والنخلُ فرعانِ
أنت افترعت بنات النوى
ورفعت النواقيس
هن اعترفن بسر النوى
وعرفن النواميس
فاكهة الفقراءِ
وفاكهة الشعراءِ
تساقيتما بالخليطين:
جمراً بريئاً وسحراً حلالُ

أنت والنخل صنوانِ
هذا الذي تدعيه النياشينُ
ذاك الذي تشتهيه البساتينُ
هذا الذي
دَخَلت إلى أفلاكه العذراء
ذاك الذي
خلدت إلى أكفاله العذراء
هذا الذي في الخريف احتمالُ
وذاك الذي في الربيع اكتمال

أنت والنخل طفلان
واحد يتردد بين الفصول
وثان يردد بين الفصول:

أصادق الشوارع
والرمل والمزارع
أصادق النخيل

أصادق المدينة
والبحر والسفينة
والشاطىء الجميل

أصادق البلابل
والمنزل المقابل
والعزف والهديل

أصادق الحجارة
والساحة المنارة
والموسم الطويل

أنت والنخل طفلان
طفل قضى شاهداً في الرجال
وطفل مضى شاهراً للجمال

أنت والنخل سيان
قد صرتَ دَيدَنَهُنَّ
وهن يداك
وصرتَ سماكاً على سمكهن
وهن سمَاك
وهن شهدن أفول الثريَّا
وأنت رأيت بزوغ الهلال
تسري الدماء من العذوق
إلى العروق
وتنتشي لغة البروق:

أي بحر تجيد؟
أي حبر تريد؟

سيدي لم يعد سيدي
ويدي لم تعد بيدي

قال:
أنت بعيد كماء السماء

قلتُ:
إني قريب كقطر الندى

المدى والمدائنُ
قفر وفقرُ

والجنى والجنائنُ
صبر وصبرُ

وعروسُ السفائنِ
ليلٌ وبحرُ

ومدادُ الخزائنِ
شطرٌ وسطرُ

قالَ:
يا أيها النخلُ
يغتابك الشجر الهزيل
ويذمُّك الوتد الذليل
وتظلُّ تسمو في فضاء الله
ذا ثمرٍ خرافي
وذا صبر جميل

قال:
يا أيها النخلُ
هل ترثي زمانك
أم مكانك
أم فؤاداً بعد ماء الرقيتين عصاك
حين استبد بك الهوى
فشققت بين القريتين عصاك
وكتبت نافرة الحروف ببطن مكة
والأهلة حول وجهك مستهلةُ
والقصائد في يديك مصائدُ
والليل بحر للهواجس والنهارُ
قصيدة لا تنتمي إلا لباريها
وباري الناي
يا طاعنا في النأي
اسلم،
إذا عثرت خطاك
واسلم،
إذا عثرت عيون الكاتبين على خطاك
وما خطاك؟!
إني أحدقُ في المدينة كي أراكَ
فلا أراك
إلا شميماً من أراك.

***

التضاريــس

ترتيلة البدء

جئتُ عرافاً لهذا الرملِ

استقصي احتمالات السوادْ
جئت ابتاع اساطيرَ
ووقتاً ورمادْ
بين عينيَّ وبين السبت طقسٌ ومدينهْ..
خدر ينساب من ثدي السفينةْ
هذه أولى القراءاتِ
وهذا ورق التين يبوحْ
قل: هو الرعد يعرِّي جسد الموتِ
ويستثني تضاريس الخصوبهْ
قل: هي النار العجيبهْ
تستوي خلف المدار الحرِّ تِنيناً جميلاً ..
وبكارهْ
نخلة حبلى ،
مخاضاً للحجارهْ

**

من شفاهي تقطر الشمسُ
وصمتي لغة شاهقة تتلو أسارير البلادْ
هذه أولى القراءات وهذا
وجه ذي القرنين عادْ
مشرباً بالملح والقطران عادْ
خارجاً من بين اصلاب الشياطينِ
واحشاء الرمادْ .
حيثُ تمتدُّ جذور الماءِ
تنفضُّ إشتهاءات الترابْ
يا غراباً ينبش النارَ ..
يواري عورة الطينِ وأعراس الذبابْ
حيث تمتدُّ جذور الماءِ
تمتدُّ شرايين الطيورِ الحمرِ ،
تسري مهجة الطاعونِ ،
يشتدُّ المخاضْ
يادماً يدخل ابراج الفتوحاتِ
وصدراً ينبت الاقمارَ والخبز الخرافيَّ
وشامات البياضْ .

القرين

مقيمٌ على شغف الزوبعهْ
له جانحان .. ولي أربعه

يخامرني وجهه كل يومٍ
فالغي مكاني وامضي معه

أُفاتحه بدمي المستفيقِ
فيذرف من مقلتي ادمعهْ

وأغُمد في رئتيه السؤالَ
فيرفع عن شفتي إصبعهْ

- أما زلت تتلو فصول الرمالْ ؟
- أُقامر بالجرحِ ..
اقرع بوابة الإحتمالْ

- (( أأشعلت فاصلة الارتيابْ )) ؟
- دمي مشرع للتحول والانتصابْ

- أتدرك ما قالت البوصلهْ ؟
- زمني عاقرٌ
قريتي أرملهْ

وكفي معلقة فوق باب المدينةِ
منذ اعتنقت وقار الطفولةِ
وانتابني رمد المرحلهْ .

لدى سادن الوقت تشرق بي
جرعة الماء..
تجنح بي طرقات الوباء ..
تلاحقني تمتمات البسوسْ
أرى بين صدري وبين صراط الشهادة
شمساً مراهقةً
وسماءً مرابطةً
ويميناً غموسْ

المغني

إبتداءً من الشيبِ حتى هديل الأباريقِ
تسترسلُ اللغة الحجريةُ
بيضاء كالقارِ ..
نافرة كعروق الزجاجةِ

قال المغنِّي :
يعاقرني كل يوم غياب القوافلِ

قلتُ :
يؤرِّقُـك الزمن المتقابلُ

للجرح بوابتانِ :
من الخمر والزنجبيلْ

للقصيدة بحر طويلٌ
وليل طويلٌ
ودهر طويلْ .

قال المغني :
لصوتي رائحة الجوعِ

قلتُ :
لوجهك لونُ البراريَ

للجرح وجهان :
من ظمإٍ نادمته الحناجرُ
من وطن للطريق المهاجرِ

يحتدُّ صوت المغني ..
يكبِّـل في قامة الريح إمرأةً
وكتاباً ..
وقبراً قديمْ

- كيف أُغمد أوردتي في السديمْ ..
كيف أُخرج من شبق الطين
موتاً يتيمْ . ؟؟

- إبتكر للدماء صهيلاً
تدثر بخاتمة الكلمات
بالبخور الذي يتناسل في الطرقات .

إبتكر للرماح صبوحاً
دماؤك موغلةٌ في القناديل
وجهك منتجع للغات .

إبتكرْ للطفولة شكلاً ..
كتاباً تطارحه الخوفَ ،
تقرأ فيه محاق الكواكبِ ،
تكتب فيه حروف الندمْ .

إبتكر للطفولة عرساً تعلِّق فيه التمائمَ
واللعبَ الورقية .. والاغنيات .

الصعلوك

* يفيق من الخوف ظُهراً
ويمضي إلى السوقِ
يحمل أوراقه وخطاهْ

- من يقاسمني الجوع والشعر والصعلكهْ
من يقاسمني نشوة التهلكهْ ؟؟

- أنت اسطورة أثخنتها المجاعاتُ
قل لي :
متى تثخن الخيل والليل والمعركهْ .

* يفيق من الجوع ظهراً
ويبتاع شيئاً من الخبز والتمر والماء
والعنب الرازقيِّ الذي جاء مقتحماً موسمَهْ

- من يعلمني لعبة مُبهَمَهْ

- ترجل عن الجدب واحسب خطاياهُ واسفك دَمَهْ .

* يفيق من الشعر ظهراً ..
يتوسد إثفيَّةً وحذاءْ
يطوح اقدامه في الهواءْ

- من يطارحني قمراً ونساءْ

- ليس هذا المساءْ
ليس هذا المساءْ
ليس هذا المساءْ .

الصدى

يوشك الماء أن يتخثّر في رئة النهرِ :

- هذا التراب يمزق وجهي
وهذا النخيل يمدُّ إليَّ يدَهْ .

يوشك النهر أن يتقيأَّ أجوبة الماءِ

- من قال أن النهار له ضفتانِ
وأن الرمال لها أوردَهْ .

الفرس

يأبى دمي أن يستريحَ
تشدُّه امرأة وريحْ .

فرس تناصبني غوايات الرمالْ
كَسَرَتْ حدود القيظ .. واتجهت شمالْ .

ارقيتُ عفَّتها بفاتحة الكتابْ
قبلتها ..
فاهتز عرش الرمل وانتثرت قواريرُ السحابْ .
اسرجتها بالحلم والشهواتِ
والصبر الجميلْ
عانقتها ..
فامتدَّ صدري ساحلاً مراً
تنوء به تواريخ النخيلْ
ناجيتها :
صدئت لياليك القديمة فاحرقي خَبَثَ النحاسِ
وأشرعي زمن الصهيلْ .

مذ اهدرتك موانئ البحر القديمِ
وأرمدت عينيك منزلةُ الهلالْ
وقف السؤالْ
غمرتْ جنوبَ الشمس غاشيةُ الشمالْ .

مذ كنتِ خاتمة النساء المبهماتْ
يبست عيون الطير واشتعلت
حشاشات الرمادْ
إن قام ماء البحرْ .!
يأتي وجهك النامي على شفق البلادْ
يأتي طليقاً ،
موثقاً بالريح والريحان والصوت المدججِ بالجيادْ .
إن قام ماء البحرْ .!
صاغ الرمل بين مقاطع الجوزاءِ
مُهراً عَيطموساً فاتحاً
من قمة الأعراف ممتدٌ .....
إلى ذات العمادْ .

البابلي

* مسَّه الضرُّ هذا البعيد القريب
المسجَّى
باجنحة الطير
شاخت على ساعديه الطحالب
والنمل يأكل اجفانه ..
.. والذبابْ
مات ثم أنابْ .

وعاد إلى منبع الطين معتمراً رأسهُ الأزليّ..
تجرع كأس النبوءةِ ،
أوقد ليلاً من الضوءِ ،
غادر نعليه مرتحلاً في عيون المدينةِ ..
طاف بداخلها الف عامٍ
وأخرج أحشاءها للكلابْ .

هوى فوق قارعة الصمتِ
فانسحقت ركبتاهُ
تأوّه حيناً ..
وعاد إلى أولِ المنحنى باحثاً عن يديهْ
تنامى بداخله الموتُ
فاخضرّ ثوب الحياة عليهْ .

* مسَّهُ الضُّرُّ هذا البعيد القريب المسجَّى
باجنحة الطيرِ
شاخت على ساعديه الطحالبُ
والنمل يأكل اجفانه ..
والذبابْ
مات موت الترابْ .

تدلَّى من الشجر المرِّ .. ثم استوى
عند بوابة الريحِ
اجهش :
بوابةُ الريحِ
بوابة الريح
بوابة الريحِ .....
فانبثق الماءُ من تحته غدقاً ،
كان يسكنه عطش للثرى
كان يسكنه عطش للقُرى
كان بين القبور مُـكِبّاً على وجههِ
حين رفَّ على راسه شاهدان من الطير ..
دار الزمـانُ
ودار الزمانْ
فحطَّ على رأسه الطائرانْ .

* مسه الضر هذا البعيد القريب المسجّى
باجنحة الطيرِ
شاخت على ساعديه الطحالبُ
والنمل يأكل اجفانهُ ..
والذبابْ
مات موت الترابْ
وارتدى جبلاً
وحذاء من النارِ

كان الصباح بعيداً
وكان المساء قريباً
وبينهما صفحة من كتابْ .

تلاها ..
وأسقط إبهامه فوقها
ثم تسرْبَلَ زيتونةً .. فأضاءْ
حينها ،
فرّ وجه المساءْ
حينها ،
عَرَفتهُ النساءْ .

* مسه الضر هذا البعيد القريب المسجَّى
باجنحة الطيرِ
شاخت على ساعديه الطحالبُ
والنمل يأكل اجفانه ..
والذبابْ
مات موت الترابْ .

تماثل للعشق ثم شكا ورماً بين نهديهِ ..
فاقتاده وثن عبقريٌ إلى حيثُ
لا تُشرق الشمسُ
بعد ثلاثٍ أتى مورقاً
وتكوّر في ملتقى الشاطئين
وحين تساقط من حوله الليلُ
كان يعاني الصداعْ
الصداعُ ...
الصداعْ .

دارت الشمس حول المدينةِ فانشطر البابليُّ
وأصبح نصفين
نصف يعب نخاع السنينِ
وآخرُ يصنع آنية للشرابْ .

* مسه الضر هذا البعيد القريب المسجّى
بأجنحة الطيرِ
شاخت على ساعديهِ الطحالب
والنمل يأكل اجفانهُ ..
والذبابْ
مات ثم أنابْ .
مات ثم أنابْ
مات ثم أنابْ .

البشير

أنا خاتم الماثلين على النطعِ
هذا حسام الخطيئة يعبر خاصرتي
فأُسلسل نبعاً من النار يجري دماً
في عروق العذارى
أنا آخر الموت ..
أول طفل تسوَّر قامته
فرأى فلك التيهِ
والزمن المتحجر فيهْ ..
رأى بلداً من ضبابٍ
وصحراء طاعنة في السرابْ .
رأى زمناً احمراً
ورأى مدناً مزق الطلق أحشاءها
وتقيحَّ تحت اظافرها الماءُ
حتى اناخ لها النخل اعناقهُ
فأطال بها .. واستطالْ
وافرغ منها صديد الرمالْ .

الأجنّـة

وأجنةٍ يستنبئون الريح عن زمن اللقاحِ
ويزجرون الطيرَ ..

ماذا عن مواعيد البكاء المرِّ
واللعب الخرافيِّ المباح . ؟؟

ماذا عن الأعراسِ ،
ماذا عن دم الياقوتِ
والكتب المشاعهْ ؟

هل أورقت جثث العناكب تحت اجنحة النساء
هل أزهر الجرح القديم على مصابيح الشتاءْ .

سَـخَـتْ طيور النار
فانتهزوا الولاده
سـخـت طيور الماء
فانتهزوا الولاده .

وتماثلوا للإحتلام .. تماثلوا للهاجس الليليِّ
يا أرضَ ابلعي تعب العراةْ
هذا كتاب الرمل .. والشيطان مصلوبٌ
على باب البناتْ .

وعلى مسافات الردى بدوٌ وحاناتٌ
وأرصفة تموجْ

وخيول ليلٍ أمطرت شبقاً على البيداءِ
فاحمرّت نبوءات البروجْ .

وقوافل الدهناء صاديةٌ
إلى ماء السماءْ
حملت عيون الماء وابتهلتْ
إلى ماء السماء
ماتت من الظمإِ الطويل وباركتْ
ماء السماءْ .

قد كنت أتلو سورة الأحزاب في نجدٍ
واتلو سورة أخرى على نار بأطراف الحجازْ
قد كنت ابتاع الرقى للعاشقين بذي المجازْ .

قد كنت اتلو الأحرف الأنتى
وكان الصيف ميقاتاً لنار البدوِ ..
كان الصيف ميقاتاً لأعياد اليتامى
ياصباح الفتح والنوق التي أرختْ
عنان الشمسْ
يا نجمةً قامت على أبوابنا بالأمسْ .

هذا الدم الحوليُّ ميثاق من الصلواتِ
معقود على الراياتِ ،
شمس تستظل بها سحابهْ
قمر ترابيٌ تدثر بالشعائر وانتمى للجوعِ
واعتنق الكتابهْ
يفترُّ عن ريحانة وقبائل خضر وأسئلةٍ
مذابهْ .

هذا الدمُ الحوليُّ
منصوب على تيماءَ
من يلقي بوادي الجن شيئاً من نحاسْ
من ذا يغنِّي : لا مساسْ .
من ذا يريق الراية الحمراءَ
من يحصي الخُـطَا
من ذا يعرِّي قامة الصحراء
من سرب القطا .