غوتفريد بن

ترجمة وإعداد/ حسين الموزان


نهاية

I

لم يكن وعاء البصاق قادراً على احتواء سيول كهذه
خضراء دافئة،
فانكسر.
ثم تهدّل الفم إلى الأسفل،
لكنه امتص القيء ثانية، رشفة إثر رشفة،
فخيّب الظنون كلها، ووهب الدم اللاهث حجراً بدلاً من الخبز.

II

خثارة الدم الصغيرة فاحت نتانتها مثل خمّ الدجاج،
فترنحت ونمت، ثم همدت.
وحين تغفو الجدة تلعب الحفيدة لعبتها القديمة:
ما يحيط بعظم الترقوة ينخسف، بحيث يمكن أن تخفي فيه حبة فاصولياء،
والبلعوم يتسع لكرة حتى،
وبعدها يهيل المرء التراب.

III

بدا الأمر بالنسبة له يتعلق بوعاء بصاق،
فيه نواة خوخ.
فها هو الآن يزحف ويعضّ الأحجار،
قبل أن يلقى به في صندوق الفراش مرة أخرى،
حيث يتمرغ في تبنه.
وفي المساء جاء رئيس الخفارة،
فعنّف الحرس: أنتم يا كسالى؛ يا حيوانات لعينة!
لِمَ لم تبعدوا التابوت إلى الآن؟

IV

كان أطفالها يرفعون رأسها إلى الأعلى،
كلّما رجعوا من المدرسة،
فيدخل شيء من الهواء إلى روحها،
ثم ترقد.
وذات مرة انحنى أحدهم فجأة، بلا قصد،
فسقط الرأس من يديه،
والكتفان تدليا،
بزرقة قاتمة.

V

صلاة الجنازة:
تابوت يجدّ له وظيفة وسرير يفرغ.
وإذا ما تأمل المرء: فهي بضع ساعات ضائعة،
حلت أثناء الليل الساكن،
مرفرفة مع السحب ذات اليمين وذات الشمال.
كم كانوا شاحبين؛ والشفاه أيضاً، كأنها حزم
من جليد. فيا سورا من بلد الشتاء،
ويا ثلوج العزاء: متحررة من خدعة الألوان،
واد وربوة في راحة يد منبسطة.
والبعد والقرب متوحدان، متعادلان،
ونحن ندف ثلج نتناثر في الحقول،
مسافة قصيرة،
ثم تنطفئ آخر شرارة في الكون.
آه، إن ذلك أمر لا يصدق! أسعادة نائية!

VI

حول القبور:
يكد ويعد العيش ليلاً ثم يتقيّأ
فوق اللحم الفاسد على طريقة الفرّانين العتيدة.
لكنّ الخنزير حطم عظامه في الأخير،
فتعفن الشحم وأصبح عطنا.
بيد أننا نظل نحوم في الليالي،
والطوفانات تظل إيجية.??
فما الذي حلّ في عرائش لحمنا؟
فالشعر تشعّث، في البحر، والصدور تنزف من فرط الرقص،
ومن فرط الصيف. إنه شاطئ وإيثاكا.???
مصران أعور
كل شيء ماثل في بياض وجاهز للجراحة،
والسكاكين يتصاعد منها البخار والبطن مُعلَّم،
فثمة شيء ينشج تحت الشراشف البيضاء.
(يا صاحب الأمر؛ أصبح كل شيء جاهزاً!)
البضعة الأولى، كما لو أن المرء يقطع رغيفا.
(عليكم بالكلاّبات!) فثمة شيء أحمر ينزّ.
ثبتوها عميقاً. إنها العضلات: مبلولة، برّاقة، طازجة.
هل وضعت باقة زهور على الطاولة؟
أقيح هذا الذي يتدفق، أم أن المصران فُري؟
(يا دكتور حين تحجب الضوء فحتى الشيطان لا يبصر بطانة الكرش!
أرجوكم خدّروه! وإلا فلا أستطيع الجراحة. فهذا الرجل صار يتجول مع كرشه).
صمت ورطوبة مقبضة ومقص مرمي على الأرض يرن،
والممرضة ذات الحاسة الملائكية تناول الأقطان المعقمة.
(إنني لا أستطيع العثور على شيء في هذه القذارة!)
(الدم صار أسود. أزيحوا الكمامة عن وجهي!)
(لكن أنت يا رب السماء امسك الكلاّبات بقوة!)
كل شيء مشوه. أخيراً تمّ الأمر.
(إليّ بالسيخ الحامي يا ممرضة!) فهو يفح.
مرة أخرى حالفك الحظ يا ولدي.
كان مصرانك على وشك الانفجار!
هل ترى هذه البقعة الصغيرة الخضراء؛
ثلاث ساعات وستمتلئ بطنك بالقذارة).
خيطوا البطن والجلد.
(عليكم بالأشرطة اللاصقة!
أسعدتم صباحاً أيها السادة).
ثم فرغت صالة العمليات،
وصار الموت يخور ويصر بأسنانه،
متسللاً إلى ردهات السرطان.

غوتفريد بن (1886 1956):

شاعر ألماني من أهم شعراء الحداثة، ولد في بيت واعظ ديني، ودرس الفلسفة واللاهوت ومن ثم اتجه لدراسة الطب، فتخصص في الأمراض الجلدية والتناسلية. لقد نشأ وترعرع في زمن كان الكتاب الألمان يشيعون فيه القرن التاسع عشر كمن يشيع جنازة، فأطلق على تلك النهاية لقب الدورة الزمنية المحتضرة. وجاء القرن العشرون يحمل في طياته تباشير الدمار الشامل والاستعمار المباشر وإعادة تقسيم العالم من جديد، لدرجة أن اندلاع حرب كونية (تنظم فوضى العالم) بات مسألة وقت ليس إلا. وحين اندلعت شرارتها الأولى وجد الكثير من الكتاب الألمان أنفسهم ينخرطون فيها بشيء من التلقائية جبرا أو طواعية: راينر ماريا ريلكه، روبرت موزيل، جيورج تراكل، شتيفان سفايغ، غوتفريد بن، أرنست يونغر.

بيد أن ما يميز بن عن هؤلاء الكتاب الانطباعيين أو الرمزيين هو أنه تحرر شكليا وفي وقت مبكر من النزعة التعبيرية المتدفقة نحو الخارج، ومن الوصف المحاكي للطبيعة. فأخذ يبحث في ذاته عن وسائل تعبير جديدة، تفصح عن دخيلة الإنسان الحديث الذي يراه الشاعر بنفسه دون إيحاءات أو رموز مضمرة؛ وسائل تعبر عن وعيه بالمأساة وأزمة الوجود ليزيح الأستار الثقيلة التي يرزح تحتها المجتمع بتاريخه وأخلاقه وعقائده. إن قصائد بن المبكرة تعبر عن أحاسيس الإنسان المندحر، الوجودي العدمي، الخالي من الأوهام، وقد صاغها بلغة باردة برودة الفولاذ. لقد ذهب بن أبعد من الشعراء الآخرين في تعبيراته الفنية المتطرفة التي أراد بها تجاوز حالة العدم، اعتمادا على مبدأ نيتشه الفلسفي الذي درسه بن وآمن به والذي ينظر الى الحياة باعتبارها الفرصة الحقيقية الوحيدة للإبداع الخلاق والابتكار وتحويل اليأس الى طاقة جمالية تفجر الحواس الإنسانية وتملأها بكل ما هو حسي أرضي إنساني. لكن الانتصار على العدم لا يتحقق إلا عبر التجاوز الواعي للذات واختراق كينونة الإنسان عبر تحطيم الهياكل التقليدية للغة وقدسيتها وأنساقها المألوفة، ليس على مستوى الجملة أو العبارة الشعرية، بل على مستوى المفردة الواحدة أيضا. فكان بن يركّب أحيانا مفردات لاتينية على مفردات ألمانية قديمة ويخلطها بكلمات فرنسية وإغريقية ثم يصوغها بلهجة برلين الشعبية: مفردات بيولوجية وعرقية وتشخيصات سريرية ومصطلحات طبية، يهبها توليفا صوتيا جديدا صارما في جدته، ليس له أدنى علاقة بكل ما قيل من قبل، لكنه ينطوي على معان مرهفة وصادمة في برودتها. إنها الحداثة التي استهل بها بن كتابة أشعاره، عشرة أعوام قبل أن ينشر توماس اليوت (الأرض اليباب) التي تعتبر المحطة الأولى للحداثة الشعرية. فالمجموعة الأولى التي أصدرها بن عام 1912 بعنوان المشرحة جاءت محملة بموضوعات شديدة الجرأة، صادمة مثل ضربات الهراوات، حيث مازج فيها بين ثلاثة تيارات أدبية فلسفية على أقل تقدير: الطبيعانية التي بدأت تلفظ أنفاسها مطلع القرن العشرين بعد أن استنفد آرنو هولتس وغيرهارد هوبتمان وتوماس مان معظم طاقتها، والتعبيرية التي لم تكن أفصحت عن ملامحها بشكل صريح، والوجودية التي لم تتحول بعد الى منهج حياتي ثابت على يد مارتين هايدغر. وبهذا المعنى فإن بن أصبح من رواد الحداثة في القرن العشرين، إن لم يكن من أهم مؤسسيها، وذلك من خلال الدقة الجراحية بكل ما هو أسطوري ميتافيزيقي على الطريقة النتشوية وتلقائية الألم الإنساني المصاغة بمعرفة عضوية مدهشة، إضافة الى الرؤية الفلسفية المكتنفة بالشجاعة والغموض الجمالي. وعلى الرغم من أن بن شرّح جسد الإنسان طولا وعرضا كما فعل في (زهرة الأسطر) و(المصران الأعور)، و(الطبيب) وغيرها من القصائد المشهورة، إلا أنه لم يعثر في نهاية بحثه على أي أثر للروح، مما جعل يأسه يزداد حدة وقتامة، فأخذت قصائده المتأخرة تنحو منحى جنائزياً، بدلاً من نكهة السخرية (المرحة) التي حفلت بها مجموعته الأولى (مشرحة الجثث).


(*) نسبة إلى بحر إيجه.
(**) إيثاكا جزيرة إغريقية، وهي موطن أوديسوس بطل الأوديسة لهوميروس.

أقرأ أيضاً: