عبدالله السفر
(السعودية)

عبدالله السفر

الواقع المُقاد بالسبب والنتيجة، المغلول بالحتمية، البنية المصمتة للمعقوليّة والمنطقِ المحكوم بالحواس؛ هذه الحدود التي تسيّج الواقع بقدر ما تؤكّد الحضور والوضوح بقدر ما تخفي في الشّقوق عالماً كثيفاً من الغياب يستعصي على النّظرة الجوّابة، يبقى منزويا في عتمته الخاصة التي لا تبدّدها شمسُ الحواس ويحتاج لاستخراجه إلى طريقةٍ تعانق الظّل وتدلف إلى السرّ، تحاول فتْحَهُ والوقوع على مكنونه.

تلك هي المتعة حين يظهر ما في الفجوات يصدم بفجائيّته وما فيه من غرابة تندُّ عن الإلف والاعتياد، وهذا هو الوجه الآخر والاستثناء الذي يبحث عنه الفن والرّهان الذي يحمل في طيّاته وَعْدَ الكشف الجميل. وليس مثل الخيال مسباراً ينفذ ويتّصل فيدمج مذيبا الحدود وناشراً وشيجة تغري بالتئام الضّفاف؛ ضفّة الواقع؛ ضفّة الماوراء؛ ضفّة الحياة؛ ضفّة الموت. ذلك الوعدُ الجماليّ هو ما يصافحنا في رواية أحمد البشري: فصل آخر في حياة الأشياء (نشر مشترك: النادي الأدبي بحائل، مؤسسة الانتشار العربي ـ 2008).

تنبني الرّواية على الخَرْق بما هو فعلٌ لا يقنع بالظّاهر ويسعى إلى مجاوزته مدفوعاً برغبة الامتلاك والإحاطة. وإن كان هذا الظاهر يوهِمُنا بالامتلاك قبالة الغزارة المشهديّة تطوّق القارئ وتعطيه انطباعاً مراوِغا بالحضور والسيطرة والفهم، إلا أنه على سبيل الوجود الوظيفي والتعيين الذي يريد أن يعرف وأن يدخل التجربة عبرَه؛ هي الحدود المعطاة تتوقّف عندها العين توقّفاً يسيراً ثم تمضي إلى غايتها الأبعد. ذلك أن الممنوح بالنظرة ـ حسب ستاروبنسكي ـ يريد أن يصبح كلمةً تجدّ في التقاط الهارب؛ يفرّ من الوظيفة والتعيين. وهنا يستقيم فهمُ الوصف الذي يعمر رواية البشري في فصولها الثلاثة والعشرين على تفاوُت وتقطّع يقرن ما بين الوصف الحسّي الانفعالي والحركي: المكان والأشياء والبشر؛ تنهض ذواتاً متجاورةً تمرّر أسرارها رغم كثافة التفاصيل في اندياحاتٍ تظهر وتختفي، تبرز وتتأخّر، غير أنّ لها اتّصالاً يتقوّم بالحدس وحدَه.

تغرينا شخصيّات الرّواية بالانتباه والتدقيق وتكاد تودي بنا في وسواسها المندغم بالخطّ الخارجي المؤثّث بزحام الرّصد، ومع هذا يمتدّ خيطٌ آخر ينحسر فيه الانتباه أو ينتقل إلى مستوى رديف وأعمق، فيتحوّل إلى السّبْر الدّاخلي؛ يجوس في المشاعر والآراء.. في الأحاسيس الجيّاشة بصدى الأفكار وما تعتمل به من حقائق أو ضلالات إزاء لغزٍ حائر يحوم على أطراف الوجود متنكّراً في رقمٍ أو مخطوطة أو مذكّراتٍ يحفّها غموضُ اللغز واستعصاء الظّفر بمدخلٍ إليه. إنه لغز الوجود بين حدَّي الحياة والموت وتنافذ الأشباح والأصوات بينهما إلى درجة الاختلاط الذي تغيب معه ضفّةٌ يُرتكَزُ إليها، إنْ لم يحسُن غيابها. فالهشاشة والانكسار مباطِنان للكائن، ومهما تحصّن فإنّ نهايةً مجانيّة عبثيّة بانتظاره؛ اضطرارا أو اختيارا.

ثلاجّةُ الموتى التي تحطّ في أدراجها جثثٌ فائضة، من مسيرة التّساقُط اليوميّة، وأمامها يقبع القيّم ـ توفيق النعمان ـ على مكتبه يحصي لدفتر الأرشيف الواردين؛ الخارجين إلى محطّتهم الأخيرة. الجثث مسجّاة في الأدراج لكنّ حكاياتها تصحو مثل "ندّاهةٍ" تجذب توفيق إلى المسار نفسه ليصبح هو أيضاً شريكا في الحكايات، مسبوقا بشاجهان/ صبور الذي كان يعمل معه ويقاسمه الحديث إلى ضيوف الثلاجة العابرين. جابر المُولَع بالإحصاء والأعداد والدّقةِ في تجريد الأرقام واستخلاصها من الأشياء حوله في بيانٍ يستوطن ذاكرته الحديديّة؛ يتخلخل ولعُهُ وتتزلزل ذاكرته حين يحضر أمامه ما لا يستجيب للحصر والإحصاء؛ مُلاءَةٌ بيضاء تُعجِز ذاكرتَهُ عن المطابقة والاستعادة. الفراغُ الذي يعنيه البياض يبتلع الذاكرة إلى درجة الزلزلة والهذيان. الوجود المنتظم ينزلق عن صفحة البياض المختومة بلغزها؛ الكيان المتعلّق بسلامة كرّاسة الإحصاء يتدهور. عثرةٌ بسيطة على سُلّم المنزل الداخلي ينجو منها طفل لكنّ عبثية المصير تحيلها إلى سقطة أخيرة نافذة.

موسى المنعزل في معمله مع مخطوطاته التي ورثها عن والده ومعها مهنة ترميمها، تطارده أشباح الماضي بأصواتها تحاول ردعه وإقناعه بتسليم "المخطوطة" التي أحضرها من قريته الجنوبيّة إلى معمله بالرياض يريد إحياء سطور دستور العدالة الثّاوي في الورق الأصفر. تحاصره الأشباح وتنشر الفزع "شيءٌ خفيّ ومخيف كان يجري، من دون أن أعرف كنهه". دائرة الحصار المحكمة بأصواتها الضّارية حيناً والخافتة حيناً، الظّاهرة مرة والمختفية مرة؛ يعالجها باختفائه أيضا عندما يشرب مستحضراً سميّا كان يستخدمه في ترميم مخطوطاته؛ منسرباً إلى لُغز مخطوطة الأسلاف.

وتكتمل حكاية الأدراج بصبور العامل الذي تُنهِي حياتَهُ سكّينُ سائق اختلف معه على أجر حمولة الدّهان لتجديد طلاء ثلاجة الموتى.. وبتوفيق قفل الحكايات الذي لم يعش الحياةَ إلا كبرزخ مع أرشيف الموتى لا يصله من الأحياء سوى نظرة تفتن أحلامه أو صوتٍ يرتّب على ذبذباته أوراق أيامه المنفرطة. توفيق المتقلقل بحثا عن إرضاء "الكائن المجهول" داخله "كان يشعر بانسلاخه من مجتمع الأحياء، وانخراطه بطء في عالم الأموات".. انخراطٌ قاده ـ مثل أصحابه ـ إلى ميتةٍ مجّانيّة في المرحاض، بجوار الثلاجة. يتهشّم رأسه سابحاً في دمه، وتحته صرصور مسحوق يشهد على هشاشة الحياة وتفاهتها، وعلى استمرار اللغز الذي لن تُفضّ خيوطُ بَكَرَتِهِ.

يقول سيوران في إحدى شذراته المضيئة "الموت! يا له من خزي. التحوّل في رمشة عين إلى شيء". وعلى شفير هذا التحوّل أخذ أحمد البشري يكتب الفصل الآخر في حياة الأشياء؛ الرّماد الذي يجلّلنا من الهامة إلى الأخمص؛ نتلفّعُهُ مطمئنينَ إلى خدعته، فيما عاصفةُ المطر تكذّب الخدعةَ وتجرفُنا كأعوادٍ نحو بحيرةِ العدم.