فاطمة ناعوت
(مصر)

عبقرية الاسم

فاطمة ناعوتبيتُ الشِّعر. زمنُ الشِّعر. عبارتان تحتفيان بالشعر وتحتضناه في قالبيْن. أحدُهما من حيطان وأسقفٍ وأعمدةٍ ورخامٍ وبُسُطٍ وستائرَ وأقبيةٍ ونوافذَ، والآخرُ من عقارب ثوانٍ ودقائقَ وساعاتٍ وعقودٍ وقرونٍ وعصورٍ وأجيالٍ وتواريخَ ورزمانات. وبعيدا عن نظرية آينشتين التي دمجت المكان بالزمان، فإن العبارة الأولى انتصرت لتحديد المكان وأغفلت الزمن، فيما العبارةُ الثانيةُ احتفت بالوقت ولم تعبأ بالمكان. الأولى استاتيكية كسول لا تحمل حركةً ولا خطوة، والثانية ديناميكية مهومة لا أرض لها ولا أبعاد ولا خطّة للرحلة تحط فيها القافلة رحالها وتضرب خيامها. فكيف يمكن، حال التصدي لبناء مملكة للشعر، أن نجمع ما لا يجتمع: المكان والزمان؟ أليس الشاعرُ وحده هو الذي جمع ما لا يجتمع في قصيدته؟ نحن إذن بحاجة إلى شاعر كبير لكي يبتكر لنا كلمةً كبيرة تصف بيتنا الواسع الذي سيجتمع تحت سقفه نخبة من الشعراء من كل أطراف، ليس البقعة العربية بل، العالم. وكان قاسم حداد، وكانت "جهة الشعر".

فتلك اللفظة "جهة" سوف تحل إشكالنا الضخم بحروفها الثلاثة الصغيرة. في اتجاه الشعر. يحمل التعبير في آن معنى الحركة/الزمن، ومعنى الصَّوْب/المكان. الشعرُ ذلك الكائن المعشوق الذي هو منتهى عشق كل شاعر ومرمى سعيه. أين يعيش؟ وكيف تكون هيئته؟ وكيف تكون وسيلة السفر إليه؟ كل هذه الأسئلة الجدلية في مضمونها، المشروعة في طرحها، العبثية في انتظار الإجابة عنها تكمن في العبارة المكونة من مضاف ومضاف إليه: جهة الشعر.

مازلتُ أذكر أول مرة سمعت فيها هذه العبارة منذ سنوات بعيدة. جهة الشعر. ارتسم في ذهني رأسًا سهما برأس وذيل مائل بزاوية 45ْ . متجه رأسُه إلى أعلى ومكتوب عليه كلمة: جهة الشعر. هذا السهم نسميه في علم الرياضيات "مُتَّجَه" وهو تعريب كلمة vector . كنا ندرسه في مرحلة الثانوية باعتباره الساحر الذي بوسعه أن يجوب العالم في لحظة. يثب برشاقة وسمو وتصميم فوق الخطوط المربعة للحقل "الكارتيزي" الديكارتيّ، نسبة إلى ديكارت، برأسه الدقيقة وتصميمه الحاسم على بلوغ هدفه. كل هذه الرؤى والذكريات مازالت تراود كلما نقرتُ الفأرة الإليكترونية لأدخل "جهة الشعر"، ليرنَّ في عمقي هاتفٌ: الله عليك يا قاسم أحسنت ابتداع الاسم! ذاك أن جسد السهم سيحمل الحركة/الزمن/الديناميكية، فيما رأسه يصبو ويشير نحو الهدف/المكان/الشعر. هي رحلة صوب الشعر، وبالتالي هي الرحلة التي لا منتهى لها ذاك أن لا أحد ثمة بوسعه أن يزعم معرفة مكمن هذا الكائن الأسطوري:الشعر، الضارب في عمق العلا. وإذن هي رحلة "الطريق"، وليس "الوصول" بالتعبير الصوفي.

عبقرية الطبقية والنخبوية

بعضُ الكتب تتخذ مكانها ومكانتها من مضمونها، والبعض الآخر تتخذ ذلك من اسم مؤلفِها قبل النظر في المضمون. والمنابر الثقافية تفعل الشيءَ نفسه. فنجد منبرًا يحمل قيمة مرموقة بسبب ما يقدمه من فكر جديد مميز، وبعضها بسبب اسم ومكانة الشخص القائم عليه. والبعض القليل النادر يحصد الحسنييْن معا. "جهة الشعر" تحقق هذه المعادلة بامتياز. فأنْ يتصدى اسمٌ كبير مثل اسم قاسم حدّاد لمنبر ثقافي الكترونيّ شامل، فهذا يحمل الكثير من الدلالة كما يحمل الكثير من القيمة. لا يبالغ المرءُ إذ يقول أن معظم الشعراء الراهنين مدينون لجهة الشعر. سواء بالتعريف بهم للآخر، أو بتعريف "الآخر" الشعري لهم. معرفةٌ مزدوجةٌ إذن. ولأن شاعرًا كبيرا يتبنى الأمر، فلا عجب مطلقًا أن تدخلَ الجهة وأنت موقن أنك لن تقرأ حرفا هباء ولن تجهد في اختيار الجيد لتقرأه، أو الرديء لتقفز فوقه خوفا على وقتك وصفاء روحك. إنها النخبوية. ومن قال إن الفن ديمقراطي وغير طبقي؟ لا ينبغي للفن إلا أن يكون نخبويًّا وطبقيًّا وإلا خرب العالم. هذا هو. من الصعب أن تجد في جهة الشعر موهبةً متواضعةً أو فقيرة. رغم حرص قاسم حداد على تقديم الأصوات الجديدة الواعدة. بعض المواقع، تحت دعوى التعددية والاحتفاء بالآخر، تنشر كل ما يرد إليها، فتجد أخطاء النحو إلى جوار أخطاء الإملاء إلى جوار ركاكة الصوغ إلى جوار بلادة الكتابة. تجد القصيدة العظيمة إلى جوار الخاطرة الساذجة فيكون عليك جهد مضاعف في "فلترة" المواد ولتدفع جراء ذلك الوقت الكثير. جهة الشعر ربما الوحيدة التي أدت عنك هذا الدور ودفعت عنك هذا الوقت فتدخل وأنت موقن أنك ستخرج بصيد ثمين مع كل نقرة على رأس فأرتك الرقمية. إنها عبقرية الطبقية. هل للطبقية عبقرية؟ نعم، حال التعامل مع الفن سحقا لكل مساواة ومرحبا بكل نخبوية إذا اتفقنا أن الفنَّ انتصارٌ للجمال ولا شيء آخر.

عبقرية المعني والكليّانية

ولأن مهندس هذه المملكة هو شاعرٌ مكين، فقد تفنن في تصميم شرفاتها وأروقتها وغرفها. ليس انطلاقا من فكرة التلقي وحسب، لكن الأهم هو الانطلاق من فكرة ورشة العمل وما يحتاجه الشاعرُ- كل شاعر- من اجل أن يدّرب عينيه على التقاط الشعر من أرجاء الوجود واقتناصه من مخابئه. نجد مثل ذلك في حيزّ سماه "سيرة الضوء"، حيث هي الشرفة التي يطل منها الشاعر على باحة الصورة. الصورة بمعناها الواسع من ضوء وظلال ومشهد وما وراء. باعتبار الشعر في فكرته الأساس هو محاولة لرسم العالم بريشة الكلمة والحرف والدلالة والروح أيضا. مُلمحًا في مقدمته لهذه الشرفة إلى أهمية الصورة الضوئية في إثراء مخيال الشاعر والمتلقي على السواء، مشيرا إلى فقر الاهتمام بهذا العنصر الساحر في ثقافتنا العربية فجاءت الشرفة تلك في محاولة رأب هذه الثغرة الثقافية الفنية. وعلى خلفية اللوحة العبقرية التي رسمها ليوناردو دافنشي للرجل "الفيتروفي" الواقف داخل مربع ودائرة مادًّا أطرافه ليحقق نسبة "فاي" الفذّة، سنطالع شرفة "الجهة الخامسة". حيث الجهة التي يطلق فيها قاسم حداد سراح الشعراء من دنيا الشعر ليطيروا صوب الأفق اللامحدود بأقلامهم متحررين من كل قوانين الفيزيقا والأرض. وفي "غبار الملائكة" سيكشف الشاعر كيف أن عينيه تختلفان عن عيون البشر في التقاطها ما لا يُلتقَط في الأمكنة. "كأن الطبيعة تسمع كلام الشاعر، وتعجب به، وتسعى لتأليف الكون على شاكلته". وأما "عربة النار" فسوف يلقي فيها كل شاعر بقطعة من جحيمه لكي يتشكل السؤال البرومثيوسي الأكبر. ثم يخون الشعراء ويُخانون. يترجمون شعرَ الآخرين ويترجمُ الآخرون أشعارَهم فتكتمل الخيانة الكبرى. هي "الخيانات الذهبية" ولا شك. الشعر لا يكمن فقط داخل القصيدة، يرى قاسم حداد إلى هذه الحقيقة فيحاول أن يتصيده من مخابئه المختلفة عبر "سرد يبعثُ الدفء".

هل انتهت رحلة الشعر والنار عبر هذه الأروقة والمحطات؟ كلا. فالتجوال في الجهة لا ينتهي في الحقيقة ليؤكد عبارة المتصوفة التي انطلقنا منها "الطريق لا الوصول". ثم يرتد السهم المتجه الذي انطلق بحثا عن الشعر ليضرب في عمق القلب فنقف عند "جهة القلب". يا جهة الشعر، كم نحبك!