"نص أدبي مفتوح"

عبد الوهاب عزاوي
(سوريا)

..
عبد الوهاب عزاويفي الليل
الصمت غمرٌ
والريح تتنفس ببطء.
..
أُرخي عضلاتي المتشنجة
أفرد ذراعيّ كأخطبوطٍ مُلقًى على الشطِّ
أفتح صدري للسواد
وأُخرج الإسفنجة القديمة إياها
أعصرها وأنفض عنها شوائب النهار
إنها قلبي الغضُّ
أخيط حوافّه المنتّفة
وأعيد عليه الدرس
علّه ينتقي ماءه ويترك الفاسد من الذكريات
لا تنسَ..
أيها الكتلة الحمراء
النامية كفطرٍ وسط الحديقة
"أنا الحديقة المهجورة
من العابرين والزهور".
..
هيي..
انظر ما عَلِق بك اليوم
أشنياتُ النهر
نظراتُ غوايةٍ وألم
شقوقُ يدٍ
وأعقاب سجائرَ
هه..ألمْ تكبرْ أيها المراهق؟
منذ متى وأنت تهتم بالثياب الداخلية؟!
آه..
إنها الكدمةُ الزرقاء العالقة في "الستيان"!
لا تكنْ شَكوكاً
إنها من الحب طبعاً.
أو ..
قد تكون عانساً تقرص صدرها لا أكثر.
لا تبالغْ وأنت تأخذ دور المحقق
قد تٍكون لأمٍّ سقطت على بِلاط المطبخ.
أو لعلّها إسفنجةٌ أخرى أكثر صلابةً منك أيها الطريّ
إسفنجةٌ فُوجئت بحشد صاخبٍ من الذكريات
فانتفضتْ في صدر صاحبتها
فلنفترضْ أنها لامرأةٍ تسترجع خيبات الحب
ألم أقلْ لك إنّها من الحب..؟!
مالكَ ترتعش؟!
لا وقت للذكريات أيها المهترئ
لا تغضبْ من أيّة صفات قاسيةٍ فأنت قلبي في النهاية..يا قلبي.
سأعيدك إلى خيطك القديم هنا
تتدلى في فراغ الصدر
كمشنوقٍ بَهيٍّ لا يشيخ
بين ضلوعٍ تتجاور خوفاً.. وبحكم العادة أحياناً
ضلوعٍ بأرواحٍ كاملة
أمهاتٌ كاملات الأنوثة
وذكورٌ يعرفون الحُبّ
خلف درعٍ ناحلٍ يتّكئ عليها
ترفّق أيها الدرع بما تحتك
انظر إلى هذي الضلوع
لا تقف عند التفاصيل الصغيرة كالشكل واللون والصلابة
فكّر فيها بشكلٍ إنساني
انظر إلى هذا الضلع على سبيل المثال.. إنه أكثرها شراسة
إنه الزعيم
سيفي القديم في المعارك الخاسرة
يجرح الهواء فقط
ويقشر لحاء الذكريات
لكنه يملك هيبة ذي الفقار
ألا تلاحظ أنه مشطور في نهايته ؟!
ليس تشوّهاً خَلْقيّاً أيها الأُمّي
ألم أقل لك أن تفكر بشكل إنساني ؟!
انظر إلى هذا الضلع الصغير المقوس كلُعبة
لا يهرم الإنسان ولديه مثل هذا الضلع
إته ضلعي المدلّل
أجل .. أجل!
لدي ركبةٌ مدللة وإصبعٌ مدللة و..
من المهم أن يدلّل الإنسان نفسه
ولو على حساب بعضه
يا إلهي. بدأت أصاب بالفلسفة.
لا يهم..
لا تنظرْ إليَّ بقسوة
سبق لي أن دلّلتك فيما مضى
بل حدث أن حميتك بجسدي
أنا أهتم بك أكثر مما تفعل أيها الساذج
ألم أقل لك إن الأشياء تتلون بروح صاحبها بعد أن يمرّ الزمن؟
فمن المنطقي أن تكون إنسانياً
لأني لن أكون درعياً مهما فعلت!
تروَّ..
أيها الناحل
يا رقاقة الصفيح التي تصدّ الرياح وتُؤوي بعضها
من السيِّئ أن نتشاحن..
تعال لنقبل بعضنا ونفتح صفحة جديدة
أعلم أنك لست غاضباً لكني أرغب في تقبيلك
لا درع لي سواك
ولا صدر لك سوى هذي الضلوع الهشّة
ثم ..
ماذا ستفعل إن افترقنا
لن تصلح غطاءً لحاوية قمامة
في صحّتك يا رجل
أوف..
تخيّل أننا نملك عرقاً ونشربه
في صحتك أيتها الإسفنجة
أيتها الضلوع
في صحتك أيها القمر المضغوط كصابونة ركبة
أيتها الغيوم المتدلية كأنصاف أمهات
في صحتك أيها السقف الذي يحجب عني القمر والغيوم
في صحة التراب بين الرموش
في صحة المرضى
والنساء الوحيدات
في صحة الطرق الطويلة عندما تتقاطع دون كلام
في صحة الأصوات في مياه الليل
في صحة هذا الليل الطويل
اليوم خمر..
وغداً ستموء الحياة
حول قدميّ
وأنا ألفظ أنفاسي
في الجولة القادمة
.....

لو كنت أعلم من أيّ جثّةٍ يتدفق كلّ هذا الليل
لكنت أغلقت الفتحة وانتهى الأمر
ماذا..؟
لا أعلم بأي إصبع أو حذاء.
لا تنظر إلي هكذا
لا تغمغم..
أعلم أنك تغمغم..
لا بأس.. من حقّك أن تغمغم
لكنْ.. بصمت
أجل أنا أعرف من أين يأتي كل هذا الليل
أعلم أنه ليس من جثةٍ أو إله
أنت لا تجرؤ على متابعة الفكرة
لكنك تعلم أيها الغبي أني خسرت حروبي
وتعلم أني عارٍ إلا منك
ومن إسفنجةٍ وبعض ضلوع
ليس كلّها ..
أجل خسرت بعضها في معارك قديمة
ولم أتمكنْ من جمع أشلائها
لا لم أكن لأدفنها
هذا خطأ شائع
الضلوع لا تُدفن
من الجميل أن تبقى بارزة من الأرض
هذا يليق بها
انظر إلى الهياكل العظمية في الأفلام والبراري والمتاحف
أهمّ ما فيها الضلوع
لا الأيدي
الأدمغة تتآكل لكنّ الضلوع تبقى
أعلم أن عظم العصعص يبقى أيضاً
لكن الضلوع أهم
إنها عمل فني
ثم .. مهلاً
لماذا تستخف بالعصعص .. ها ؟!
إنه الدليل التشريحي على ذيل الإنسان
على حيوانيته
وأكبر رئيس في العالم لديه عصعص
وقد يكون أكبر من دماغه
لكنه ليس أصلب بالضرورة
نزعت السكرة أيها اللعين.. لماذا؟
حتى قلبي المهلهل يتضامن معي بعدم فتح هذه المواضيع
لماذا تُصرّ على تذكيري
لماذا تُصرّ على تذكير نفسك
أيها الدرع المثقوب لا برصاص المواجهة
أو طعنات السيوف
بل بالزمن
الصدأ ينهشك
قبل هذي الضلوع الوفية
حسناً
تعال لنلعب على المكشوف
تعال لنسمي الأشياء بمسمياتها
ما بك..؟
لمَ أنت خائف؟
أعلم أن هذه الغرفة أقرب إلى الزنزانة
تعال لنملأها صراخاً وحشياً
ألماً متمرداً يستحق أن نحمله
مالك صامت؟!
تعال لنتمرد على هذا المؤلف الذي يعتقد أن العبث خارج الزمان والمكان
لا يمكن أن تطالب بالتمرد وأنت عاجز عن الصراخ بالحد الأدنى
..
أخبرني صديق أنه كان يصرخ بحنون في حفلات التعذيب
كان يحوّل الصراخَ من ألمٍ يبهج الجلّاد إلى دفاعٍ
ماذا..؟
بالتأكيد تمنّى الموت مجازياً
صراحةً.. تمنّاه فعلياً
لكنْ..
أرأيت.. أرأيت؟!
بدأت تتحدث بجرأةٍ
انظر إلى المؤلف
بدأ يحسّ أنه قد أُقْحِم في الأمر
المهم.. لقد نسيت
آه.. ماذا؟!. عن الصراخ
ألم نتفق على أن نصرخ بوحشية
كرمى للأحلام القديمة؟!
سيخرج صراخنا
ليفقأ العيون
سيصفعها على الأقل
انظر إلى هذه الوجوه المسترخية المتآلفة مع الرعب
إلى هذه الأسماك الميتة
أعتقد أنهم ينظرون إليّ بشفقة
على أني مجنون مسكين
أجل أنا ذلك المجنون الشهير
الذي خسر حروب الفروسية
لا لم تخطئوا
أجل
أنا الدونكيشوت بلحمه وألمه وتقرنات أصابعه
خسرت فرسي ورمحي
واستبدلت سيفي بضلوعي
قضيت عقوداً في المعتقلات
خسرت كل معاركي
وأعيش كشحاذ بلا أملٍ فِعليٍّ
لكني لم أكن سمكة ميتة في أيّ يوم
لم أخسر تلك الإسفنجة المرتعشة
أحلامي واهنة لكنها راسخة وتستحق الحياة
اليأس ينبت على ساقيَّ كالفطر
والدمع لزج في عينيّ
لكني قادر على الحلم
أبدو مجنوناً
لكني لم أولد ذليلاً
ولم أتقن الذل
انظروا في وجوه بعضكم أيها الصامتون
انظروا في الصمت نفسه
في الخوف الذي يملؤه
أنتَ ..؟
هل تجرؤ على أن تعترض على رئيسك في العمل؟.
وأنت أيها الفتى هل لك أن تحتج على أستاذك؟.
وأنت هل تعرف إن كان من حقك أن تسير على الرصيف الأيمن..؟
ماذا.. أنت تعرف.. وبثقة أيضاً
ماذا لو جاءك رجل أمن وقال لك من الممنوع أن تسير على هذا الرصيف؟!
أو عليك أن تقطعه على قدم واحدة
أو زحفاً أو سباحة
مالك لا ترد!
قانون ..
من قال قانون؟
ما هو القانون ..؟
القانون الوحيد هو صمتكم الجبان
أنتم تعجزون عن الاحتجاج على أصغر موظف يعمل عكس القانون
أسماكٌ ميتة بدون رائحة
الرائحة آخر ما تحتجّ به الأسماك بعد الموت
عيونكم واسعة جامدة كمصابيح السيارات
أفواهكم يملؤها حصى الكلام (*)
اذهبوا ..
سيأتي زمن تبكون فيه مجنوناً مثلي
يجرؤ على الحلم
وفي يده إسفنجة
تمسح وجوهكم
من دمعٍ يغطيه المكياج الرخيص
ماذا..؟!
فليذهب المؤلف إلى الجحيم
من قال له إنه من الممكن أن يتحكّم بي
قرّرت أن أخرج من هذا النص
حربي لم تنته لأتحول إلى كومبارس
أنا من يحدد النهاية
سأسير وحدي
لا لشيءٍ غير أن سواي
جَبُنَ عن المسير.

5/ 2009

القدس العربي
10/8/2010