نشرت مجلة الآداب الأجنبية* رحلة "يونغ" إلى أميريكا "الهنود الحمر" ترجمة: نهاد خياطة - ساعد في الإعداد": غالية خوجة، ود.زيدان علي جاسم- عن الإنكليزية، عن كتاب لـ (كارل غوستاف يونغ) أملاه على "أنييلا يافيه" أوصى بنشره بعد وفاته بعنوان: (ذكريات وأحلام، وتأملات). ما يرويه يونغ تصويرٌ لـ كيفَ أنّ حضارة الرجل الأبيض سلبت الإنسانَ روحانيته، ومعانيه وقيمه، وجدانياته النبيلة. ففي إزاء ذلك يعبّر هذا الهندي الأحمر بطقوسه وأسراره ومعتقداته عن امتلاكه للحكمة المُفارِقةِ للصورة القلقة لدى (الآخر). إنهم مجانين، كما تنظرهم (الأنا)، يفكّرونَ برؤوسهم، إنّ وضع العقل صِحّيّ في القلبِ، في المقابل: مختلٌ وضع العقل الموضوعي المنظور لدى (الآخر! هذه إزاحة روحانية "أنا دينية" أصيلة ومترسخة في اعتقادها، لـ لمادية(آخر عقلي). إنها (أنا) ترى كارثية الصورة من إطارها، تعيبُها، وتسخرُ من محتواها، وهي مع ذلك(أنا) تفعل بمعتقدها، من أجل العالم كلّه. "نحن نفعل ذلك من أجل العالم كلّه. ولو توقفنا عن ممارسة طقوسنا لا تعود تطلع الشمس ثم يعمّ العالم ظلام أبديّ...". لكنني أنظر من جانبٍ حيادي، ليونغ هنا، ولا يعني ذلك تجاوز ساذج لِصِفةِ وإرث هذا العالم العظيم، إنما النظر لحضوره في المرحلة الأخيرة من حياته؛ إنّ ما قرأناه، لتونا، له صلة نفسية- لا عقلية، ولا باطنية كما يبدو كذلك- باهتمامه واستثماره لرصيد الذاكرة والأحلام والتأملات، فكلها صورٌ لعودٍ نوستالجي، نلامسه عادةً في تعقيبات الذين مرّوا على الحياة وحملوا منها تجارب، تدعوهم الآن في النقطة الأقرب، وهم في مواجهة الموت، لاستنهاض حنينهم، أو بشيء من الندم هم يبالغوا بشكل أو بآخر باللجوء للمعنى، لجوءاً فيه رثاءٌ للنفس التي لم تحقّق خلودها. هذا النمط من صورِ الحنينِ إنما يشي بعودة كارل يونغ إلى موعظةٍ روحانية، والسكنى فيها بعيداً عن العلمِ والعقل. بهذه المناسبة نتذكر موقف سورين كيركيغارد الذي راح ينتقد بقوة في المرحلة الأخيرة من حياته، الحضارة الأوربية: "إن أوروبا تسير ببط نحو الإفلاس"، وقد جعل وجود الإنسان في ثلاث مراحل (مواقف): المرحلة الجمالية، المرحلة الأخلاقية، المرحلة الدينية؛ ما تهمنا هنا هي المرحلة الدينية التي يقف فيها يونغ نظراً في ما قرأناه. إنها مرحلةٌ تعبّر عن خلاصة الموقف، بما هو يشير إلى حاجة المفلس للدين والإيمان في طريق حاجته للتخلي عن متع ومنجزات ودهشات العلم. هذا إنما ينمّ ليس عن إفلاس الحضارة الأوربية وحسب؛ إن هذا الإفلاس يتجاوز ذلك ليعبّر، فيما هو يشملُ، عن حقيقة إفلاس الإنسان، وضعفه كونه لا يستطيع الخلود.
في اللحظة التي يروي يونغ عن الهندي الأحمر يتخذه وسيطاً حقيقياً، لإظهار موقفه الذاتي، فهنا بالضبط، يشتغل في الوسيطِ لسانُ يونغ الناقل والباعث لموقفه بالأصالة عن نفسه، في الوقت ذاته، لحضارة الغرب، ولا يفوتنا أمام هذه الصورة أنّ نتذكر قصيدة "خطبة الهندي الأحمر" لمحمود درويش التي اتخذتْ من الهندي الأحمر رمزيةً للقضية الحقيقة العادلة المنتقدة للممارسة الجائرة داخل صورة الحضارة البشرية.
مجلة الآداب الأجنبية - مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 114 ربيع 2003
إقرأ أيضاً: