هناء مرهون

هروب الكرز

الوقت يمر والكرز في حالة من النفور ، العلامات الرملية كلها تُشير إلى إحباط شديد ، ورائحة البرتقال تصيبني بالتقيؤ والخيانات ، غياب العسل عن الأحجار يُفّجر في الأفـواه لغةً من الجفاف مستحيلة ، لا يُشّرفُني أبداً أن أهجر تلك الزاوية القديمة ، فالوجه الذي كان يضحك هناك يسحب من الخيوط السوداء الممتدة من عينيّ ملامحهُ .
يقولون إنها المقبرة ... وزيارة الموتى تطيل العمر ، المقبرة شيءٌ جميل أحتفي به لوحدي ، أحب الموتى أكثر من الأحياء .
لأنهم لا يحتاجون للنفاق مثلما يفعل الأحياء من جنسي .
أشعر أن القبور تحبني ، فهي تتشبث بأطراف عباءتي كلما مررت وحاولت تجاوز أحد القبور متجاهلة الآخر.
يُضحكني الوضع أحياناً ، فالهاربون من الموت مشتاقون له أصلاً ، حتى قطة جارتنا التي يعرفها كل من يمتلك نقصاً في عقله !
جارتنا تُرّوج في المدينة ألغازها وبصيرتها وأحياناً توقعاتها فهي تُدجّج في عقول الآخرين أوهامها بكلِ قناعة ، وتُقّصر في الأعمار وتُطيل وكأنها مُطلعةً على اللوح المحفوظ ، غريبة!
لا أدري فعلاً لماذا أكتب رسائلي في المقبرة ؟
وأظنُ أن جدي سيسمعها مني ، جدي العزيز ، ذلك الرجل الذي كنتُ أشاغبهُ كثيراً في صغري، رجلٌ لا أذكر اسمه لأني كنت أناديه جدي فقط .
يقول خالي أنه سيصنع له شاهداً علي قبره ويحفر عليه اسمه ، أنتظر هذا الشاهد بوهجٍ مشتعل لا لشيء ... فقط لأتعرف علي اسم جدي الحقيقي ، ربما لأنه لم يُنشر اسمه في الجريدة ولم اقرأه في نشرة المتوفين ، وللآن لم أبحث في دليل الهاتف عنه ، وحتى لو بحثت لا أعتقد أني سأجده في مكانه اللائق ومنزلته الكريمة ، ربما يعرف وجهه كل انسان ، فقط لأنه انسان كريم كان يدفع حبات الكرز في فمي ويلّونه بالأحمر فيتقاطر ماؤه على قميصي ويلّوث أطراف أصابعي ، كان فمي يضيق به كثيراً لكني الآن وكما تقول أمي تغيرتُ وتوسع فمي من الثرثرة الزائدة ، فأنا أثرثر حتى في منامي وأكتب الرسائل والقصص في غفلتي وانتباهي ، ربما كان إرثي من جدي هو قطع الشكولاته المحشوة بالثرثرة .
لم يترك لي جدي شيئاً آخر غير ابتسامته المتطايرة في الريح ، تلتصق بوجهي وأنا عند قبره ألهو بسمرته البهيّة التي أصبحت مأهولة للشمس والناظرين .
هناك من يُشيّع ، وقفت أتقصى ، دخلوا وخرجوا بعد أن أدخلوه إلى القبر وبعد أن فتح القبر ذراعيه له ، أسرّوا له ببعض الأحاديث ومضوا ... لا أدري لكن هناك شيءٌ يدفعني للخروج فقد جاء ضيف ليخرجَ ضيفاً آخر و يُحكم إغلاق الباب من خلفه.

جوقة النمل

تعلمين ...
هذه الأرضُ التي مررتُ بها وسكبتُ عليها من قطع البسكويت المتناثرة ، زوايا من طفولتي العابثة ، تُعلِمُني أنكِ كنتِ ترغبين بشيءٍ مما آكل ، تشمين فيه رائحة القرابة والحنين ، يظنكِ الكثير نهمة للأجساد والجُثث . على العكس أنتِ ودودة.

ليس رثاء ، ولا تحسبيه امتناناً أيضاً، هو حديثٌ فقط أحببت البوح بهِ إليكِ فلم يمنعني منه أحد .

لم تَكُن الَّلحظة الأخيرة ، ولا الوَحيدة التي أراكِ فيها تنجزيني العهد ، أعلمُ مثلما تَعلمين أننا مختلفتانِ في الصلابة والإحتمال ، لكننا أيضاً نقسو على أنفسنا كثيراً من أجل الآخرين … الآخرين من الكائنات .
تعرفين ... أيضاً وترين ما أراهُ في كلِ ليلة ، لا تنظري لي هكذا كلانا يعرف، لكن البوح هو من لا يجيد الكلام في حضرة العين .

كانت تلك العُلب تحِيطُ بنا من كلِ جانب ، هي متناثرة … نعم ، لكنها مكتظة في قلبينا الصَّغيرين ، كانت محاولات الفراشاتِ المضيئة مستمرة لإضاءةِ جحيمِ الأسئلةِ في أعيننا ، لكننا أيضاً كنا نستطيع التمييز بين الصواب والخطأ ومساءلة الروائح عن سرِّ الهزائمِ المستمرة في ساحاتِ القتال .

تعلمين لا أريدُ أن ندخل في تلك الأشياء كثيراً ، فالداخلون في الشيء رُعَاة المبررات والأوجاع المزمنة ، وهل تحسبين أننا قادرتان على الفهمِ في موضعِ الدخول ؟ أخاف على تلك الزهرة العالقة في أطرافنا تلك الزهرة التي تخرجينها لألحسَ رحيقها وأمررُ عليها أوجاعي فُتشعِلُ في داخلي الأوطان والمرافئ ، أخافُ على وجهكِ من أن تلطخه شطحات الأحمر المخيفةِ ، أحبكِ هكذا مخبوءة في عيني ومكتنزة بالتساؤلات لكلينا … ولا نعلمُ أَنَّا نتجاوز الأمكنة في نقطةِ الإنعزال.

شيئاً فشيئاً أفهم القطع المتناثرة التي تُكّون الكُل المشترك ، الكُل الكبير الذي لا نفهمهُ بكل تعقيداته ، كنتِ تعرفين ذلك جيداً ، هل تذكرين ؟ النمل وقطع الحلوى والشتاء والصيف … لنُجيد الوخز في الأماكن الدقيقة ، سَحبنا أصابعنا عن ماكينة الخياطة السريعة ، فهي تُجيد الوخز في الأماكن المحددة مثل النحلْ ، مثل النحلِ تماماً ومثلنا ، أقصدُ مثلهم وربما مثلنا .

هذان الحذاءان عَجِزا كثيراً من السيرِ على رمال الشاطئ وذوبتهما تلك القلاع التي بنيناها معاً ثم ابادتها الأمواج ولم تكن تراعي فينا التعب والجهد ، كذلك يفعل الكبار الذين لا يُجيدون نطق أسماءنا ، ولا يجيدون قراءة أجسادنا وما تُخفي من نبوءات .

ألم أقل لكِ من قبل أنكِ تتفوقين عليّ في العمر والطول والإمتداد ، والقدرة على اختيار الحِكم والأمثال ، كذلك سبقتني أيضاً في إعطاء أول ثمرة للحياة وسبقتني أيضاً في رسمِ دلالاتٍ كبيرة لمعنى الخفاء.

وطنٌ في نزهة

تقافز في عيني عصافير الورد ، تلجُ فيّ المسافات العقيمة ، و تتداخل في عيني الصور المغمورة بالعادات القسرية . أنا اقف الآن عند العتبة الأولى هنا حيث تقف المسافة التي تستطيع ان تُعبِّر عن حجم الداخل الكبير ، الداخل الذي أراه خارجاً من داخلي فأبتسم له ولا أبتسم لأني جائعة.

كانت الوجوه مبللة ببصمات الطين الشفاف ، يستعدون لرحلةٍ نجهلها جميعاً ، مالفرق بيننا ؟

الحقائب تدخل في بصري تتكدّس، أعصرها دمعاً ، يخرج من رأسي الحبُ وتراتيل الماء ولون الأرض وصوت الألعاب الموسيقية ، أجراس غرفتي الزرقاء ، وزوايا القماش ، وطني الذي يخرج كل صباحٍ في نزهةٍ جديدة ، في وجهٍ جديد ، برائحة يجهلها كل الموسومين بصكوك المساواة .

يزورنا البرد هذا العام بشكلٍ آخر جديد ، لم نستعد له جيداً لم نشتري الملابس الدافئة ، ولا الزنجبيل الذي يُدفئنا من الأعماق ، لم تعد للغرفةِ رائحة الإلتصاق .

في المساء ، تمتد زوايا الغرفة بشكل ٍ كبيرٍ ومخيف ، تمرُ والدتي كالعادة لتتأكد من إغلاق النوافذ جيداً ، تدس في زوايا النافذة بعض القطع الكرتونية أو ما تيسر لها من قرطاسٍ أو من جريدةٍ لتمنع صوت الريح من إزعاج مناماتنا والدخول إلى رؤوسنا وإشعالها بالشيب والغبار .

كالعادة ، يبقى الباب موارباً لدخول طمأنينتنا علينا ، يتسرب صوت المذياع إلينا ، انهُ ملتصقٌ بأذن والدي ، لكنهُ يأتي إلينا في أيام الحرب . كم كانت السماء باردة ومثلّجةٌ بالنار تمطرُ نجوماً حمراء تتساقط في أيادينا الصغيرة ، تغصُ في حلوقنا ... نأكلها ، نحترق ونصحو على متن الحقيقة .

في هذه الأيام تَكثُر دقات القلوب ، هي علاماتٌ أخرى للوصول ، يقولون لنا إن الأمور بسيطة جداً لا بأس ، فعلاً مالفرق ؟ الكلُ هكذا هل نستطيع البوح بشيءٍ يرقصُ فينا كشيطانٍ تهزهُ لحظات الذكر ؟

يقتربون من التلفاز أكثر من اللازم ، يغطون نوافذنا وأبوابنا بغطاءات الحمية ، لكن وجوهنا لاتزال مشرعةً للعالم !
في الغرفة تقترب أختي من المرآة قبل أن تنام ، تتلمس في ذاتها نظرات الآخرين ، كنت أفتح نصف وجهي ونصف عيني وأحّدق فيها ، في الساعة التي لا تنتهي ، يدخل والدي يلقي نظرة أخيرة علينا ويخرج ، تأتي أمي تلقي نظرة أخيرة على النافذة ، يطوفون ... أنظر إليهم .

هذا المساء لم نسمع للمذياع صوت ، أخوتي يقتربون من الجدار ، تمتد أصابع أخي على الجدار تحتضنه ؟ ماذا يحدث ؟!

لم يلاحظ أحد غيابي عن الملاحظة ، لم يلاحظ أحد عيني اللتان اصبحتا نصف الدنيا ونصف معاناة العالم ، لم يقترب مني أبي ، ولا أخي ولا أمي لم تقترب ، أختي أصبحت مشتتة هنا وهناك والآخرون، أبصرهم جيداً ، الجو بارد جداً هذا المساء تمتد زوايا الغرفة تكبر الأصوات فيها ، يعتبروني كيس دهشةٍ فارغ ، النوافذ تفتح بشدة بطريقةٍ تجتمع فيها الكائنات الحية والغير حية لتحكم فتحها .

"والدتي اقتربي ، أغلقي النافذة البرد يشتد "