1- الزّمن المستعاد
يُنفق الشّاعر الجريح نصفَ عمره ناشداً السّلوان. يبحث عنه في كلام الأصحاب، وهُم في الغالب الأعمّ مهرَةٌ في تفتيق الجراح. أو يلتمسه من الصّمت يَهمي عليه كالنّدى العذب تارةً وعلى جراحه يسّاقط كالمِلح طوراً. عندما يتحقّق الشّاعر الجريح من حقيقة زمنه الضّائع تختبل في الرّأس دُنياه. يحسب الموتَ قابعاً في انتظاره، ويخجل من الأمّ المنسيّة، ويصيبه هوَسُ الأرقام: يعدّ خساراتِ ماضيه ويتهجّى، كلمةً كلمةً، كتابَ قلبهِ العريضَ غيرَ المقروء. ثمّ ينتصب، إذا كان شاعراً بحقٍّ، على قائمتَين من خياله الجموح ويعدّ العدّة لاسترجاع الزّمن. يكشف له عُمق رؤياه عن حكمةٍ نافذةٍ في كلّ لقاءٍ مُفوَّت. يَثملُ بالزّمن العائد ويبكي من فرحه لإمساكه هكذا بماضيه، إضمامةً من الورد، عجلةً دائرةً من النّور. وإذا ما تغيّب عن أصحابه، فلكي يلتقيَهم ثانيةً في الورشة الشّاسعة للتفكير والعمل التي صارَها نهارُه وليلُه.
إذا ما تغيّبَ عنكم الشّاعر الجريح، يا أصحابَه، فلتعذروه. في الزّمن المرفوّ من جديدٍ يُبصر وجوهكم وهيَ تتعاضدُ وكالبرق تسطعُ في مدائنَ تُسلِم بكامل السّرور مفتاحها لِغازيها الطّيّب.
2 باقات
فجأةً كَبِرَ. وما كان مهيّأً لذلك. فجأةً وجدَ لديه عُمراً يُعَدّ بعقودٍ من السّنوات، سنواتٍ تتقاطر كعرباتٍ غير محكمة الشدّ في قطارٍ يندفع في البريّة بمنأىً عن توجيهات سائقهِ نفسه. ودّ لو كانَ هو ذلك السّائقَ المُعفى من كلّ انتباه. حلمَ بصحراءَ مديدةٍ يجتازها كالسّائر في نومه، مفتوناً بصوَر الرّمل والشّساعة العارية والتماع سراباتٍ تداعبُ خياله الجريح وفتوّته المبلبَلة. فكّر بمَفارقَ يجلس عندها يَعد المارّة، بباقاتِ وردٍ يُهديها لعازفينَ عُميانٍ امتزجوا بآلاتِ العزف. فكّر بأن يكون هو العازف الأعمى يقوده أبناؤه إلى واحةٍ من الشّعور أمضى سائرَ العُمر عنها يُنقّب. فكّرَ بحيلةٍ تمكّنه من تحطيم الفواصل والأعداد، فتبدو له حياته كمثْلِ جملةٍ موسيقيّةٍ تعلو وتتواصل بلا بدءٍ ولا انتهاء.
3 لَسْع الذّكرى
< ما يزال للذكرى فيكَ لَسعُها القويّ>، تقول لي صديقةٌ تطوّعتْ لتُزيلَ عنّي، بنعمة الكلام وحدَه، أشواكاً متراكمةً على مصيري. إنّها تَنشد الرّجوع بي صعُداً إلى سالفِ قراراتي، عندما شئتُني، بكامل الحقّ، مُستكشفَ جميع العوالِم. وأنا أشاطرُها بالفعل الإيمانَ بأنّ شاعراً لا يكون ما لم يُحسنِ استخدامَ ذلك المشْرط الذي هوَ من نورٍ ومحبّةٍ، به يُشذّب وجدانه كما يشذّب البستانيّ ذوائبَ الشّجر أو كما يُلطّف الفنّان مشارفَ الخطوط.
ولأنّي استعذبتُ مرأى مرافئَ أدركتُها في غضارة الصّبح فأنا آنفُ من اجترار ماضيّ. ماضيَّ الذي حدثَ صدفةً أنْ وشّحتْه غلالة من التّعب، وسكنتْه غصّة كنتُ عن خطأٍ أحسبُها مقيمةً فيَّ ما أقامَ عسيب.
4 المنفيّون
يحْبل المنفى بِحساسينه
تهمس بغنائها سلاماً على الجروح
يحْبل المنفى بِيرابيعه
تملأ الصّحارى بفحيحها العجيب
يحْبل المنفى بِصغاره غير المكتملين
يركضون في بريّة دواخلهم
محروسين
بالصّوَر القادمة وطلائع الكلام.
5 الأنشوطة
في مشيمته غير المنفصلة
يختنقُ الشّيخُ الطّفل
وكأنشوطةٍ ينعقد على أعضائه
حبلُ سرّته الذي ما انقطعَ أبداً
سابحٌ هوَ في مياه ما قبل الولادة
تحاصره حرارة الوالدة
وعوالمُ رحميّة
كان يبنغي أن تتبدّد
يومَ انقذافه
خارجَ ذلكَ الدّهليز المظلم
البالغ الشّبَه بالجُرح.
ولادةٌ مؤجّلةٌ وموتٌ متربِّص
وحياةٌ لا تُعاش إلاّ لماماً
والجنين المعمِّر غير المولود
ينتظر غناءه طويلاً.
6 أجنّة
الكائن المُعمِّر الذي لم يولدْ قطّ
والذي في انتظار ولادته المرتقبة
يلوِّح في اتّجاه أجرامٍ غير مرئيّة
لن يعرف الهناء في ساعة ميلاده
ولن يرى النورَ إلاّ
في نفقِ هواجسَ ليسَ تُحَدّ
وإذا ما ارتطمَ صدفةً بالموت الآتي
فلن يكون ذلك موتاً
ولا احتضاراً
بل انتقالةً هادئة
إلى مطرحٍ آخرَ من عدَمه البدئيّ.
في انتظار هذه النقلة ولأنّه
مراراً تمرّغَ في الوحل الأصليّ
مؤجّلَ الولادة ومع ذلك
مُضاعَفةً أعمارُه
ففي لحظةٍ واحدة
سيُدرك من الحياة
شعلتها الباقية وسرّها الوضيء
وستكون تلك اللحظة
بالغة الكثافة
باهرةً وحادّة
وبلا نفع.
7 رفْقة
ينبغي أن ننظرَ بإمعان
إلى هذا الدّهليز الضيّق
الذي يُشبه ما يُدعى بالحياة.
اليرَقاتُ الطافية على حوافّه
هي أرواح أشقّائنا المعوّقين
يلوّحون نشداناً للخلاص
جائرينَ الليلَ كلّه
من ولادتهم غير المكتملة.
عَلينا أن نسهرَ
صحبةَ الرّفاق
رفاقنا الشائهين المتشظّين
أعضاؤهم الناقصة أبداً
وأرواحهم المدمّاة
تطالب بمَن يرفوها.
صراخهم غير المسموع
يزنّر الكون بموجاته الطّوال
التي إليها يرجع
تخبّطنا الأزليّ في مجْلدة الأحلام.
8 مزمار الأعصاب
هذه هي ميتافيزيقا اللاّ ولادة
هذه هي كيمياء النقص الأبديّ
هذه هي عَروض التكسّرات
الأصليّة
هذه هي بلاغة الانكفاء
تعرض اليومَ على السّابلة
خفاياها
هذه هيَ أنفُس الرّفاق المثقوبة
تطالب باستوائها على أرض الأحلام
وحده الشّاعر الذي مرّ من خرْم الإبرة
إبرة الجرح اللاّ شفاء منه
وحده المغنّي الهائم في آلامه
يحمل لها كبّة الخيوط
وبيده الرّاجفة يرْتقها
طويلاً يعزف لها على مزمار الأعصاب
ويرفع لها النّخْب.
9 أوديسّة أختي
ردَمتْ سلطة البعث في العراق صفوفاً من المَدافن تتوسّط مقبرة النّجَف. عبّدتْ في مكانها طرقاً توصل دبّاباتِ النّظام بأكثر سهولةً إلى مخابئ المنتفضين. كان بين المدافن قبرُ صهري المقتول في الحرب في ثمانيةٍ وثمانين وتسعمائةٍ وألف. قبل أن يكتمل هذا العدوان على سلالات الموتى، ذهبتْ شقيقتي البِكرُ صحبةَ نساءٍ أخرَياتٍ كانت قد رُدِمَتْ مَدافنُ أزواجهنّ. بمعاولَ مستأجرَةٍ، بل بالأظافر أحياناً، رحنَ يبحثنَ عن شواهد القبور المطمورة. كلّ مَن اهتدتْ إلى رُفات زوجها الحبيب نقلتْه إلى قبرٍ آخر.
أيّاماً والأخت تبحث عن الشّاهدة. صارتْ ساكنةَ القبور، لا تعود منها إلاّ عندما يوقف الظّلام إمكانَ البحث.
هذه الأوديسّة الظّافرة في أوقيانوسات التّراب بحثاً عن رفات البعل المقتول قامتْ بها شقيقتي، يَحميها اللّقب المُرائي الذي خلعه النظام على كلّ مَن كانت تُجلّلهن فاجعة كفجيعتها: <حرَم الشّهيد>.
بِحدسها الأنثويّ أدركتْ شقيقتي حكمةَ اليونان القديمة التي يُطنب في الكلام عليها هوميروس: ميتٌ بلا قبرٍ معلومٍ ولا شاهدةٍ هو أبداً غريبٌ، لا راحةَ لروحه تُرجى ولا انتهاءَ لِعَنائه بين الأموات.
وعندما أُعدِم من أبناء العمومة في أعقاب انتفاضة الجنوب خمسةٌ، شوهدتِ الشّقيقة وهي تتفرّس النّائحاتِ بنظراتٍ طويلةٍ صامتة. أدرك الجميع آنذاكَ أنّها قد تَبدّدَ كاملُ مخزونها من الدّمع.
فاجأها صَممٌ قد يكون جاءَ من أثر الصّدمة. أقتني لها في عمّان جهازاً لتقوية السّمع <من آخرِ صيحة>. ترميه بعيداً عنها وتقول: <ما تريدني أن أسمع؟>، زاعمةً أنّه يبعث في الأذنين وشوشة لا تحتملها هيَ. أُخمّن أنّ عالَماً كهذا الذي عرفتْه في سنوات الحرب ما عاد ليستحقّ منها لحظةَ إصغاء.
كذلك هي فصاحة أختي. في سيادتها الكبرى على الألم، لا يندر أن تضحك. لكنْ حتّى في الضّحك تبدو لي صورتها الصّادقة هي التالية: كائن متمركزٌ في نطاقِ تعبه لا يحيد عنه قيدَ شَعرة.
(باريس)
السفير
2006/04/07