ياسر الزياتضع جثتي في جيبك يا صديقي، ادخرني إلى أن يصبح البكاء سريرك، وضعي أحلامي في حقيبتك يا زوجتي، تجملي بها عندما يصبح وجودي قبرك، وانزعيني من أظافرك يا صديقتي، ارميني في عربة الإسعاف لكي تنتظم ضربات قلبك. ويا بلادي، لم يحدث أي شيء، لم يحدث أي شيء، فاستمري في مضغ الدخان والمهرجانات والسجون، أنا سعيد هنا، سعيد في مقبرتي الإلهية، مقبرتي هذه التي أسميها ياسر الزيات.

***

نعم.. أنا ياسر الزيات:
سليل التجار المفلسين، سليل الشعراء المفلسين، سليل البلاد المفلسة هذه، وسليل الأناشيد الجماعية، والأحلام الجماعية، والمقابر الجماعية، فكيف أتبين ملامحك وسط كل هذا الحطام؟

***

نعم.. أنا ياسر الزيات:
تركت لكم كل شيء على حاله: المحبة الحارقة والموت الفجائي، القصائد الخربة والحياة المؤجلة، العزلة الوراثية والقسوة الأبدية. تركت لكم كل شيء على حاله، فرتبوه إن استطعتم، أو اتركوه على حاله، وتخلصوا مني لتحرروني. حرروني، أنا الهائم في جحيم ذاته، حرروني.

***

نعم.. أنا ياسر الزيات:
وحدي، وحيد، خائف. ربما أنا لا أحد، أو لاشيء. فما الذي يعنيه هذا الوجه؟ ما الذي تعنيه العينان المزدحمتان؟ ما الذي يعنيه القلب الغائم الطري؟ ما الذي تعنيه هذه الكتابة العرضية المعلقة في الأصابع؟ ولماذا أبكي هكذا كعاشق خائب، كإرهابي، كمنفي في ذاته، كنصف برتقالة، كشتات بلا نهاية؟

من أنا حقا؟

***

ربما أنا ياسر الزيات:
وحده، أو بعضه، أو بقاياه، أو أثره، أو نبضه الأخير المتلاشي في اسم بلا معنى، يفتش عن جسد بلا معنى، ليكون شيئا، مجرد شيء مكتمل، له نهاية واحدة تجعله وحيدا أو خائفا، أو ميتا حقيقيا تحضنه رمال حقيقية، يبعثرها هواء حقيقي، كلما مرت حبيبته عليه.

القاهرة
2و3 يناير2004

***

نصف ياسر الزيات

يا زوجتي، يا حبيبتي، كوني عادلة قليلا: خذي نصف جسدي ونصف روحي، وهكذا يصبح لديك ياسر الزيات كامل. واتركي لي نصف جسد ونصف روح أهديهما لبقية العالم.
أنا عادل تماما. وأريد نصف جسد ونصف روح أكتبهما أو أمزقهما أوأبعثرهما في رمال الزمن، لعل حفارا أركيولوجيا يعثر على فتاتي ذات يوم، فأكتشف أنني كنت موجودا حقا في ذلك العالم.
أنا تحت غطائي الآن، أفكر في كل شيء في وقت واحد: في الزعماء الخالدين، في المقابر الجماعية، في حبيباتي المؤجلات، في بائعة الجرائد الصغيرة، في الجوعى الذين يندهشون عندما أصفهم بأنهم جوعى، في الأوطان الخائنة تلك، أفكر في كل شيئ، ولكن- لا شيئ يفكر الآن في، ليجمع نصف جسد ونصف روح، ولعلني أكتمل في مكان آخر، تحت غطاء آخر، وأفكر في الزعماء الخالدين، والضحايا الخالدين، والحروب الخالدة، والمشردين والجوعى الخالدين، وفي أنصافي التي لن تكتمل أبدا.

القاهرة 3يناير2004

***

إله غارق فى أبنائه

ياسر الزيات
(مصر)

إلى حبيبتي بالطبع

1

حبيبتي لها بركانان فى صدرها
وبركان غائر لاصطياد الروح
وقد كانت نائمة فى ليلة الفيضان
مزهوة بالماء
وبوركين حالمين فى إناء زهور
لكنها عندما حلمتُ بأنني أوقظها استيقظتْ،
فرأت السنوات القديمة تتسلق الأشجار،
والأطفال يحاولون إنقاذ البط
أما النساء فكن يبحثن عن أسرارهن


"كم هو جميل أن تغرق القرية فى المساء"
:هكذا ابتسمت حبيبتي،
هكذا عادت إلى النوم.

2

دمك الشهري، الذي كان يطهرني،
ذبلت نقاطه على روحي.
مزيدا من هذا الدم يا حبيبتي.
إن طبقي جائع
وغاباتي مريضة بالغياب،
وكذلك أحلامي لا تتوقف عن الضجيج
ولو أن لى نقطة واحدة من رحمك العتيق
سأرقص كآخر مخمور فى الحياة،
مكللا بأسماك آخر الليل.
آه يا حبيبتي:افتحي لى سماءك لأطير
هذه الليلة بالذات أريد أن أصل سريعا
وأن أفتح شفتيك لآخر العمر،
لأتذوق الكلام طازجا،
كإله غارق فى نهر

3

هل يعنى الدم الذي فقدته بالأمس
أن أبناء حبنا لن يبكوا قريبا،
وأنك ستواصلين احتضان الدمى؟
إذن بإمكانك أن تغلفًي أمومتك،
وتوزعيها على أطفال الحروب القادمة،
مع دمعة صغيرة مبتسمة.
أما هؤلاء الأطفال القساة،
الملتصقون ببطنك كالقراد،
فاغفري لهم نجاتهم من الحياة.

4

فى كل مرة, أضع أذني على بطنك،
بطنك النحيلة كموسيقى الجاز،
وأنتظر أن يمر أبنائي الذاهبون إلى الحرب،
وهم يرقصون"الأراجيز"ويغنون للحب،
لأنزع الخناجر من أحلامهم.
أبنائي المتوحشون الغادرون،
المخلصون لفنائهم،
ربما يمرون فى أرحام أخرى،
ويكتبون انطباعاتهم عن الآباء الخائبين.

5

بقرب سريرك،
تختبئ أعضائي من أي صباح.
دعينا هكذا:
غارقين فى أبنائنا النيئين.

***

أطلس

ياسر الزيات
(مصر)

أنظر الى خارطة البروج السماوية
وأسأل : أين بيتنا؟
أنظر الى الخارطة وأسأل :
من الذي يفجر هذه الذرة؟
:هذه الذرة التي أسكنها
كيف تعبر فيها الصواريخ والقاذفات؟
كيف تنشطر الأرواح وتتشظى الحياة؟
كيف تمشي الحروب من شجرة الى شجرة
ويقفز القتلى من بيت الى بيت؟

في هذه الذرة
:هذه الذرة التي أسكنها
لماذا أحمل جواز سفر؟
لماذا أضيع في الشوارع والوديان
لماذا تسقط فوق رأسي
الأحلام القديمة والطيور الخائفة؟
لماذا أكتب شعرا لا يفهمه جاري:
جاري الذي لا يشبهني
جاري الذي يقذفني بألعابه النارية
لأنني لا أشبهه؟

أنظر الى خارطة البروج السماوية
انظر الى الخارطة فأرى بيتي :
بيتي الصغير المتداعي.
وأنظر الى المرآة:
أنظر الى المرآة المهشمة
فأرى روحي
ثقبا أسود في عمق الكون .

القاهرة
5 - يناير - 2002