سعد سرحان
(المغرب)

سعد سرحانالمساء وضوء العيون وجداول الملح التي تنسكب الآن في الحلق. وجه المرأة وهذا المساء. وجهها الممعن في البراءة حتى الفتك. وجه من عسل يغزو مساءً مطعوناً بالمواعيد وحدائق الجسد. حدائق الرماد . مساء العطش . عطش بعمق الروح أو بعمق الصحراء. عطش عميق مثل بئر عميقة، مثل أغنية ينزل العشاق أدراجها موّالاً موّالاً إلى بريق القلب. قلب معلق كمصباح في كهف الجسد حيث غنائم العمر سيوف وأشعار، نساء وسيوف... ولم يكن المساء مساءً. ذاكرة كانَ، امرأةً سحريةً، شاشةً للعمر مكتظةً بالصور السرية لشاعر مهزوم في كل الحروب. هي ذي القصائد والأحلام تشيِّعه إلى عتبات امرأة غامضة. امرأة غامضة كالطعنة واضحة كالدم. وكالدم تجيء دافئة وتحضنني. رائعين كنا إذ أقبِّلُ منها خُصلة طائشة وإذ جهة التفاح تضغطني فأحس دمائي بجعاً مجنوناً يحاصر بحيرة هادئة تنام خلف جفنيها. خلف جفنيها قبور بلون أحلامي. قبور وورود سوداء تنتظر شاعراً يابساً يتساقط حلماً حلماً. لكنه الآن أمير هذا العناق الفادح ، أمير البجع ودفء الدم وهذا المساء ... نوَّارةَ الملح ، يا آخر الطعنات .. هل أحكي الجرح كاملاً أم أفتض الحكاية مساءَها الأخير؟ هل أنضو بساط الذاكرة ، أشتت بذور الحلم على أرض الخيبة الكبرى حيث لا ماء ولا يمام؟ لليمام أحلامي ، له ما تبقى من ماء في جرة القلب. لكِ القلب في العناق كما في الطعنة، في الهمس كما في الأغاني التي لم نسمعها أبداً. ولي هذا المساء الشاهد شلالات الملح تنهمر من عليائه على بحيرة نفسي . لي ما أعددت من قبور ما بين القبلة الأولى وانتفاضة التفاح التي أسرتني . وفي الأسر تجيئين أصيلاً من عسل وضوءاً لا يسمى . تجيئين : نروي عطش الروح من خابية الجسد نورِها سيد البهاء. لك القلب طافحاً بالمواويل ولي قبورك الفسيحة التي بلا قمر. سماء بلا قمر. كأنك الليلة الأخيرة على الأرض. كأنك الجرس الدليل الذي ورطني في متاهة الصمت. أنت أميرة المتاهة وحراسك سيوف مكسورة. كسرت على عتباتك سيفي ثم رفعت إليك غموضي تحية وقدمت الهدايا. قرأت في رحابك قصائدي ودمائي نبضة نبضة حتى بايعتِني وريث الجرح الباهظ يدخله العشاق ضوءاً فيخرجون صحارى صحارى أو لا يخرجون . وحين انتخبتك قاتلتي ، أَبَحْتِ لكبريائك لحمي المحروقَ بالخيبات ثم أعدمت الشهود . كان المساء شاهداً . وأقدر أن أستحضر ساقيتين من الدمع تشهدان أنك كنت في حضني جزيرة من التفاح . كل تفاحة لعنة . كل تفاحة سلم نحو الله. كل تفاحة منفى . أنا المطرود من رحابك أرفل الآن في أرخبيل الحجر . أقتفي خطوَ من مروا بلا نساء ولا مجد . وبريقاً بريقاً أتهجى كتابهم المفتوح للرياح . وحين أتعب ، أغدو الجديرَ بطيفك وبالشجر الذي باركنا ذات مطر أخضر .كان الماء الجليل يَسِحُّ من الأوراق كالأناشيد من سفوح الذاكرة ، ونحن ننط كالطير المذعورة من شجرة إلى أخرى ، بينما في البعيد ، حيث المدينة تغزل مصيرينا على نَوْلٍ من عظام العشاق ، لا أحد ينتظر إيابنا . كل شيء مطفأ هناك، وعليَّ أن أضيء المدينة بقلب امرأة أرهقها حبي . كل شيء مغلق هناك، وعليَّ أن أقشر الأشياء سرًّا سرًّا. أنت السر . والسر هذا المساء المضرج بالدمع والحكايا . أنت أميرة الحكاية، أميرة مملكة تخومها جسدي وعواصمها أحلامي التي سقطت وسط المؤامرات والطبول . سقوطي وليمة لسنابك الخيل التي أسرجتِ غداةَ نزيفي. فطوبى لي بهذا النزيف. طوبى لي بالأفول الذي عرَّى شموسك من ضوئي. وطوبى لك يا جبل الكبرياء: لا السفوح أغرتك، لا الأيائل، ولا سَبَتْكَ عيون المها. أنت الشاهد. كلهم مروا: الأقزام وصغار المنتحرين، المومسات وتجار المصائر ... كلهم عند ظل أقدامك استراحوا. كم كنت كريمَ الماء وكريم الماء لمَّا تزل رغم الصحارى والحرائق، رغم اشتعال الجسد.

* * * *

المساء وضوء العيون واشتعال الدم. وجهها وبقية الكهوف التي تحتل القلب. الأعشاب السرية للأنثى. خناجر الشهوة. مملكة التفاح. قناديل الشعر التي تتقدم قطيعَ الفجائع إلى منحدر الروح حيث كل ترياق باطل. الأغاني الكبيرة وأحلام القبائل التي تزدحم في الصدر. أحلامك أيضاً. أحلامك التي أرهقتني. أحلامك والعرس الذبيح مثل نبيٍّ ضيعه الكتاب في منتصف الطريق. طريق الورد الذي أضحى طريق الرمل. إمارة الرمل التي أباحت للعطش دمائي ثم بايعتك سراباً..

السراب السراب يا جرح الماءْ
يا دماء الصحراء
تضرم في القوافل نار الغناءْ
يا ثأرَ الرحيل
خريطةَ الهول
يا بوابة السمَّاءْ
أنا كناش العطش وأنت حبري
والتي جاءت تقرأني ضيعتها الحروف
ضيعتك الحروف يا امرأهْ
ضيعتك الكتب المطفأهْ
والطريق إليَّ موَّال واحد
موًّال واحد، وتفاجئين جثتي في أي عراءْ
لها من قبورك ما اصطفيتِ
ولأيامي ما استطعتِ
من سورة البكاءْ
...
كفى ، لا تسفحي الدمع
هل قمران ويبكيان؟
كفى
لا تضرجي بحليب القلب هذا المساءْ...

وفي المساء تجيء . تغافل الحراس وتجيء. شالُها الأنثويُّ يجيء. بيننا شبه حديقة وبضع فراشات. بيننا جبل من حِكَمِ الشرق ندوبِ الشرق. بيننا مشنقتان ونافذة بلا هواء. نتجاذب أطراف الشِّعْرِ وأطراف الجسد. خلية خلية يشعلنا الهمس. نرمي لنفس النار نفس القربان. أنا قربانك وأنت قرباني. المساء شاهد. وشاهد هو الصمت. غرفتي، تلك البعيدة عن القمر، شاهدة أيضاً. كان القمر يتسمَّعُ صمتَنا. لم يكن قمراً. في الصمت تقولين مالا أفهم. في الصمت أقول أحبك. أكاد أقول : أحبك، لولا الجرح القديم الذي يلازمني عشقاً عشقاً. أكاد أقول. غير أنك. غير أني. أنت الجلاد الرؤوم وأنا الضحية المشتهاة. باقة الشوك التي في مزهرية العمر أنتِ. يذوي العمر فتينعين. وكلما أوغلت الصحراء في لحمي ترتوين من ظمأي. أنت الصحراء وأنا حوذي جياد الهذيان الذي بقيَّتُه في قلبي. فارجميني بما ملك السراب من مرايا كي أرى وجهي واضحاً مثلما التفاح. واضح من الوريد إلى الوريد. واضح من أول النزيف إلى آخر الأفول. وآفلة أنت مثل مساءٍ بلا بجع، مثل قوس قزح كذبته الغيوم . بسمة تكفي. بسمة ويعود الأزرق إلى عرشه. بسمة وتعبر سماءَ عينيك كل الأقمار. لكنها الغيوم الآن.. كأن شتاءً بعمر الأرض جاءَ.. كأن السماءَ غيمة كبيرة، والمطر ليس أخضر مثلما في الأحلام. بَواري يفضحني، وتفضحني نوافذ القلب. كل شيء يفضحني: كأني آخر الأسرار. والبعيدة الآن عن دمائي بعيدة وبلا سر. كأنها ناي الشعراء، تنفخ فيتحلقون حول مفاتنها. تقبِّلهم واحداً واحداً. سخية اللسان مثل أفعى ... وحين يسقطون مثل النيازك والإجاص.. ترقص في أعراسهم الأخيرة كأية فجيعة.

* * * *

مساء الفجيعة وضوء العيون. طيور البجع العطشى. جرة البكاء التي تهشمت في الصدر. أسراب اليمام التي تغادرني. جبال الأسى. تفاح الحلم الذي يغمر دمائي. التفاح المطفأ كقرية في الهزيع الأخير. الأزرق المخلوع، حطام عرشه تأوي إليه الحدآت. الحدآت ووجه المرأة. وجه المرأة الذي يشبه وجوه الحواة. سقوطي وسنابك الخيل. خيول الفتح. كأني بلاد عصية. كأني آخر العصاة. هكذا جئت في المساء الأخير. وجهك وجه آخر. غير أني لم أخطئه. أنا لا أخطئ وجه الجلاد، فالخُصلة التي أدمنتها شفتاي مازالت تحمل اسمي. إنها الكرباج الذي يسوقني الآن إلى دهاليز العزلة. وجهها وجه آخر. جاءت. كفرسان الحروب الصغيرة جاءت. غنائم رخيصة وزهو كبير. أنا الطاعن في الخسارات أقهقه ملء نفسي..

سيان أيها الطفل الحجري سيانْ
أعطيت لحدائقي أن تعرِّش بعيدا عن مائها
أعطيت لقصائدي أن تسافر بعيداً عن نايها
وأَبَحْتُ للمساء هذا الهذيانْ
نوَّارة الرماد
يا بيرق القلب مزقته الحرابْ
اشهدي:
كلما غادرت عمري نجمة
أضاءني الغيابْ
واشهد أيها المساءْ
أني أرجئ البكاءْ
ما بين امرأة وخرابْ

إنه الشاهد. هذا المساء هو الشاهد. من يقتله يورطني في صحراء أخرى. من يقتل هذا المساء تهاجمه النساء بورد كالسيوف ويكون آخر الشهداء ... هذا المساء هو الشاهد. وأنا شهيد الورد مازلت حيّاً. يغادرني اليمام والبجع إلى عطش آخر. وإذا أينعت فلأتساقط حلماً حلماً على أرض أخرى. آوي إلى قبور بلا قمر وأبايع التفاح ضوءاً. أنا شهيد الورد مازلت حيّاً. أشهد أن هذا المساء جُرح الحكاية وأن تفاحه حجر. كل تفاحك يا أرض الخيانات حجرٌ حجر.