عبدالله الصيخان
(السعودية)

عبدالله الصيخانكأنّ النساءْ خرجن من الماءْ
وفاطمةٌ وحدها خرجتْ من بَرَدْ

كأنّ ذوائبها الشهب
إن لم تعدْ إلى بيتنا، لن يعود أحدْ

أو
كأن مساءَ الثلاثاء مرَّ
ولم يتفرّسْ في راحتيه نهار الأحدْ

يقول له أن ما بيننا
يوم اثنين مسترسلٌ في بياض نَهَدْ
ذوى فيه نعناع ظلِّ وأغمض جفنيه حتى الأبد.

قيل إن الذين أتوا بعد يومين من دفنها
وجدوا في المكان
قمراً نابتاً خلف حنّائها
قمراً من حنان
ويداً نصف مسترخيه
سحب الله من خضبها خيطَ دمْ
فنما شجرٌ أخضرٌ
اسمُهُ فاطمهْ.

تمتمات المعزّين في آخر البيت أهدأ من كل شيءْ
ومن أي شيء تذكره ولدٌ شاف ضحكتَها - َنفْس ضحكِتْها -
في صباح مطير
ولدٌ ويتيم
قام من نومه باكراً وأعدَّ - وحيداً - فطورَ الأحد
ثم أخرج من كتبه صورة رطبة لامرأهْ
تَفَرَّسَ فيها قليلاً
بكى
ثم قرّر أنْ يتنازل عن درسه اليوم ؛ يبحث في وحشةِ
البيت عن ضحكة حية
هربت خلسة
من كتاب الصُور

ولدٌ ويتيم
أمّه فاطمه
وتحب المطر
ولدٌ آخرٌ اسمه خالدٌ

قال ليوم الثلاثاءِ وهو يلُمَ حكاياه قبل السفرْ
قال أسرارَهُ ومضى واعداً أمَّه :
لن أكون يتيماً هنا ورافقَها في السفر
نهارٌ..
بصيف خفيضْ
شجرٌ أبيضٌ يعصبُ الرأس متكئ فوق منحدرٍ ضيِّقٍ..
"شيلة ودعت وجْهَ سيّدةِ العائلة

حديد يفارق أشكاله
خيطُ دمٍ نزَّ من عَرَبهْ
حديدٌ هوى من علٍ ثم فارق أشكاله..
وتجمَّع خيطُ دمٍ سال من لعبة قاتله.

هل كان أحمد ينوي الذهاب بعيداً عن الحلم - تاركاً سره العاطفيّ معي
نحو حضن فلاه
وهل كان أحمد إلا ندىً يتساقط في وردنا
ويحبّ الحياه
ترى..
أي شيء قرأ
وأي فتاةٍ
نهضتْ من ملامحه ذاهلهْ

المعزّون لم يرحلوا فدخَلْتْ..
وحين جلستُ إلى المائدهْ
كانت هناك توزّع نبض يديها على كل صحن
وحين أكلتْ لم أجد طعمها في الإناء
فتركت المكانْ
فالتفّ حولي سربُ قطا جاءَ من شجر العائلهْ.

أي شيء لعاشقها تركت فاطمه
شرشفاً نسيته على نومه
أم شذىً حائلي
هي يا ناسُ أملحُنا
يدللّها الأهلُ، يعطون أسماءها للحمام
لم أكن ابنها وحدَها
ولكنني ابن كلّ النساء اللواتي يشبهنها
وهي أمّي القريبةُ من بينهنّ.
قيل إن الذين أتوا بعد يومين من دفنها في المكان
رأوا مشطها الخشبيّ...
مكسوراً، أساورها ضائعه
وأن الشهادة كانت هناك
على شرفة الركعة الرابعهْ
مرّت العرباتْ
نهضت فاطمهْ
من صلاة المكان
وطئت عربه من حديدٍ يلزّ
أساورَ فاطمةَ الضائعهْ

من كتاب "هواجس في طقس الوطن" 1988

****

هواجس في طقوس الوطن


قد جئت معتذراً ما في فمي خبرُ
رجلاي أتعبها الترحالُ والسفرُ

ملَّت يداي تباريح الأسى ووعت
عيناي قاتِلَها ما خانَها بَصَرُ

إن جئتُ يا وطني هل فيك متّسعُ
كي نستريح ويهمي فوقنا مطرُ

وهل لصدرك أن يحنو فيمنحني
وسادةً، حلماً في قيظهِ شَجَرُ

يا نازلاً في دمي انهض وخذْ بيدي
صحوي والتمَّ في عينيّ يا سهرُ

واجمع شتات فمي واغزل مواجعَهُ
قصيدةً في يدٍ أسرى بها وترُ

وافضح طفولتيَ الملقاة فوق يدٍ
تهتزُّ ما ناشها خوفٌ ولا كِبَرُ

وصُبّ لي عطشَ الصحراء في بدني
واسكبْ رمال الغضى جوعاً فأنحدرُ

* * *

قهوةٌ مُرَّةٌ وصهيلُ جيادٍ مسومةٍ، والمحاميس في ظاهر الخيمة العربية
راكةٌ في الرمال وفي البالِ، كيف المطاريشُ إن زهبوا للرواح مطي السفر ؟
وكيف هي الأرضُ قَبْلَ المطر ؟
وكيف الليالي، أمُوحشةٌ في الشعيب إذا ما تيمّم عودُ الغضى واحترى أن يمّر به الوسمُ صبحيةً والنشامى يعودون في الليلِ مثقلةٌ بالرفاق البعيدين أعينهم،
ثم كيف السرى إذ يطول بمَدْلجِها؛ أرضهُ أنسُهُ في التوحُّدِ، لا أحدٌ غير رمل الجزيرةِ، لا نجمةُ يستدلّ بها في السّرى غير قلب المحبِّ، وهذا الحصى شَرِهٌ ما طوته القوافلُ من زمنٍ ثم كيف النوى إذ يطول بنا.

قــم بنــــا
أيَها الوطن المتعالي بهامات أجدادنا
أيَها المستبدّ بنا لهفةً وهوىً
أيَها المتحفّز في دمنا
والمتوزّع في كل ذرّاتنا
أعطنا بصراً كي نراك، وأوردةً كي تمر بنا فيه نلقي مساءً جميلاً، قرنفلةً في عرى ثوبك الأبيض المتسربل ضوءاً لنمشي أيا أيّها الوطن المتعالي إذا ما ارتدانا الظلامُ إليك.
خذ يدينا إذاً
صُفْنا.. وأقم يا إمامَ الرمال صلاة التراويح فينا، مقدّسة أن تظلّ لنا شامخاً كالنخيل الذي
لا يموت..
واضحاً كالطفولة، كالشمس ثم اعْطنا جذوةً حيَةً في الفؤاد الخليّ لكي يصطفيك
وطني واقفٌ ويدي مُشْرَعَهْ
ابنك البدويُّ أتى يستزيد هواجس أيّامه المُسْرِعَهْ
مرسَلٌ من سنيّ الفراغات
كيما أفتّش عن لغة ضائعهْ
بكيتُ على باب مكة، فتشتُ أركانها الأربعهْ
في فمي معزفٌ كسرته الليالي وامّحت ترانيمُه الزوبعهْ

* * *

إنني واقف خلف ظهرك مفتتحاً وجعي باعتذار المحّبين حين يطول النوى
خاشعاً من محيّاك يا وطناً نتعالى به، غيمنا إذ يجف بنا الورد، سلوتنا في مساء التغرُّب، في الصبح وردتنا ورغيف الفقير،
وأنت البسيطُ البسيطُ فقل للعصافير إن الفضاء مديحُ اتساعٍ لعينيك كي لا تطيرَ،، فكن وطني ممعناً في الهدوء لكي تعتلي ذروتك.
وكُنْ في المساء حنيناً عليها لكي تَمْنَح السرَّ لك.

سماء لنا وسماواتٌ لك
وأنت فضاء البياض إذا ما استفاض على القلب شكْ.
وأنت الشهادةُ فيمن هلكْ
سماءُ لنـا..
وسماواتُ أولها أنت، آخرُها أنت، وأنت لنا الضوء إذ يستدير الحَلَك

وطــن..
تعبت رملةٌ في (النفود) فقلتُ لك القلبُ مُتّكأٌ والغمام فَلَك
فاستديري به ثم حُطِّي على جبهتي
أنا واقفٌ لمجيئك
أعرفُ
بعد الغمام تغنّي السماءُ لنا أغنيهْ
تصبّ لنا الماءَ في عطش الكأسِ
وقتئذٍ
مطر أشعلك
مطر أشعلك.


أقرأ أيضاً: