تمام تلاوي
(سوريا)

أصدقائي هؤلاء

تمام تلاويأصدقائي الذين ترَيْنَهم ههنا
هم الذين حملتُ من أجلِهم الحقائب
وخفّفتُ عنهم وطأةَ الانتظار في الرَّدَهات
كنتُ آخرَ من عانقوه قبل أن يصعدوا سلالمَ الطائرات
وأوّل من هاتفوه عندما هبطوا هنالك

أصدقائي الذين ارتدوا فرحَ الرحيل إلى البلاد الجديدة
وتركوني عارياً من شركاءِ السهرِ والضَّحِكات العالية

أصدقائي هؤلاء
هم أنفسُهم الذين لم تصلْني رسائلُهم
وعادوا لزيارة المدينة مرتين بدون علمي

أصدقائي هؤلاء
هم الذين التقطتُ معهم هذه الصورة في المقهى البحري
حيث امتلأتْ صدورُنا بالقهوةِ والنساءِ وملوحةِ الأمواج..

هؤلاء هم أصدقائي
كما ترينهم يا حلوتي
مبتسمين
ومحتشدين بوسامتهم وقاماتهم الفارعة..
فرجاءً رجاءً يا امرأتي
لا تعيدي الصورةَ إلى الألبوم
بل انهضي بسرعةٍ وعلّقيها على هذا الحائط
إنه يوشك على الانهيار..

* * *

‏01‏/12‏/2007‏

أنام على الكنَبة كالضيفِ في الصيف

المطر الأول من كلّ خريفٍ
يذكرني بها
لم أكن أعلم قبل ثماني سنين
أن فتاة بهشاشتها ستهدّم أبراج حياتي
بالأمس على الهاتف قلت لها:
قررت بأن أهدِرَ في حبّكِ أيامي..
نعم
بالأمسِ اتصلتُ بها
ليس لدى المسافر ما يخسرهُ
كنت أقابلها محتشداً بكلّ خياناتِ العالم داخل روحي
أحيانا أنساها
وأحيانا أتألم
أحيانا أشعر أني حطّابٌ يقتلع الشجرَ التائهَ بين البحرِ وحمصَ..
تحدّثتُ كثيراً عن رحلة المحارب
وعن راياته المكسورةِ مثل اشتياقٍ مكسور
وطويلاً ما بحثتُ عن كتفٍ ثابتٍ لأبكي عليه
متشبثا بمناديلها المصطبغةِ بالكحلِ الأسودِ ودموعي الزرقاء
ليس لدى المسافرِ ما يخسرهُ
من الآن سأهدر في حبّها أيامي
وسيهدر البحر أمواجه بانتظاري
من الآن سأحمل عنها أعباءَ نهديها
وحقائبَ الذكرى
وقرطيها الذين نسيَتْهما على المنضدة
ما من كلمةٍ تليقُ بحديقةِ تشرينَ العاريةِ كعذراءَ عاريةٍ
سأرتاد المقاهي كالشعراءِ العاطلين عن الحبّ
سيغدو سريري مكبّا للكتب والجرائد
وسأنام على الكنَبةِ الكبيرةِ مثل الضيفِ في الصيف.
هذه الليلةَ أحزنُ مثل (توفيق)
محتضنا قميصها المبتلّ بالمطر الأول لخريف 1999
وأغضب مثل (الياسَ) وأهشّم بقبضتي مقبسَ الكهرباء
لكن النِسيان نَيسان المحب
لا بد لي أن أغلق سماعة الهاتف الآن
ولا بد لي
أن أتمنى لو كنتُ شاعراً
لأكتب شيئا رقيقاً عن علاقتها
بالمطر الأول من كل خريفْ..

‏7‏ تشرين الثاني 2007

عن الغجريّ, عن حبل سرّتهِ, وشتاءِ الأبواب المقفلة

لمْ يتركِ الغجريُّ شيئاً
لم يقلْ أحدٌ له: من أنتَ؟ ما اسمكَ؟ أين تمضي؟
وهو لم يعبَأ كذلك
قدّم العرضَ الأخيرَ ولمَّ خيمتَه وغادرَ
لم يفسِّر أي شيءٍ من أغانيهِ لنا
لكنّ صوتَه كان يلمعُ في مساءاتِ المدينةِ كالدموعِ
أتى وغادرنا كعادته
ولم نلحظْ بأنه كانَ يشبهنا
ولم نعلم بأنّ له بيوتاً ههنا
وبأن قابلةَ المدينة عندما استلمَتْه قصّتْ حبْلَ سرّتهِ من الجهتينِ
فانفلتَتْ سنينٌ من طفولته
وجرّتهُ مياه النهر أكثر من سنينٍ
ربما من أجل هذا أنكرتْه حين عاد الأمّهاتُ
وبدّلتْ أقفالَها أبوابُ حِمصَ
وربما من أجل هذا ينصبُ الغجري خيمته بقرب النهر.
كان حنينه ينسلّ من غيتاره نحو البيوت كخيط دمعٍ لامعٍ
وكلامه بالرغم من كلّ الغموض يشفّ عن عتبٍ
ويروي سيرةَ الرحلات من أرض الحجاز إلى الشمال..

يقول أحياناً بأنّ الجوَّ في حِمصٍ شديدُ البرد
يحكي عن نساءٍ كان يُلبِسُهُنّ معطفَه فلا يرجعنَ
يجلس بيننا صبحاً بمقهى الروضةِ المهدورِ مثل الوقتِ بين الساعتين
كأنما الغجري يحسب نفسه منا
يلمّح ربما الغجري عن قصدٍ لكي نعطيه مدفأةً وبيتاً
يدّعي أيضاً بأنّ عيونَه كعيونِ ديكِ الجنّ
نفسُ الدمعِ, كان يقول, يدعونا لننظرَ في الخرائط والتصاوير الغريبة,
وهو مستندٌ على شجر العوائل أو على علم الوراثة,
مسهباً في شرحه عن طعم موج البحر
كان يعُبُّ كأساً من مياه النهر
يرقص مرة أخرى
ويرفع في الهواء قميصه المبتلّ
يعرض صورةً لجراحه قبل التئام الحبّ
يرفع صوته
ويعود يعرض صورة لندوبه بعد التئام الذكريات
يريدنا الغجري وهو الآن لم يبلغ ثلاثين اعترافاً
أن نصدّق أنه قد جاوزَ السبعينَ منفى
أن نصدّق أن خيمتَه تشيخُ كأنها أمٌّ تشيخ
وأنه ما عاد يجرؤ بعدما ازدادت قتَامةُ ساعدَيْه
على امتداح فتاتِنا البيضاء
-وجهكِ قُبلةٌ وأنا خجولٌ-
كل عام ينصب الغجري خيمته بقرب النهر
يشرب قهوةَ الشعراء مع عبد النبيِّ وآخرين هنا
عمرٍ وسامرَ, مع علاءَ وهايلٍ ويزور طالبَ..
ثم يبدأ عرضه فوق المصاطبِ
لا يفسر أي شيء من أغانيه لنا.

نهبَ الشتاءُ حياتَهُ كخِزانةٍ
لم يبقَ فيها غيرُ صورةِ أمِّهِ
ورسالةٍ أوصاه والدُه بها أن يرتدي في البرد وحدتَهُ
لأن الوحدة امرأة تفي بوعودِها مهما قسَتْ
ولأنها مهما قستْ لا تُقفل الأبواب
لكنّ الشتاءَ اشتدّ
والغجريّ خاف وشاهد امرأةً تخاف وتقفل الأبواب..
صاح بها
فلم تأبَهْ
وغنى تحت شرفتها
فلم تأبهْ
وهدّم سور منزلها ولم تأبهْ
فمزّق قلبَه كرسالةٍ سرّية
وارتاح من عبءِ الأماني..

هكذا الغجري ضيّع بيته طفلاً
فلما شاهدته أمُّه في الصيف عند الباب لم تعرفْهُ
لولا أنّ رائحةَ الحليب تديرُ رأسَ الطفل نحو الثدي
لولا شامةٌ شقراءُ تشبه ثَقْبَ أُذْنٍ ضيّعتْ قِرطَ الكلام بصمتِه
وضعتْ له بعض الطعام
وراح يأكل.. ساهماً في شاشةِ الذكرى وفي أطيافه
فيما تعاتبه وترتِقُ قلبَه بخيوطِ أدمعِها الحريرِ

..على حرير الدمع نام كذلك الغجري
نامتْ أمُّه, وأخوه نام هناك.
لكن الحكاية لم تنمْ,
فمضى قبيل الفجر ثانية إلى جهة الشتاء..

تزوّج الغجري فينيقيةً
-كانت رأته على رصيف البحر يمدح موجةً-
غارتْ عليه من المياه
فشيّدتْ من رملها لغنائه بيتاً.
فجاء الموج
واشتدّت رياحُ البحر..

لكنّ الحكايةَ لم تكنْ ما يكتب العشّاق فوق الرمل
والأنثى التي يتحدّث الغجريّ عنها لم تكن ما تدّعيه خرافةُ الفينيق
والحرب التي فتكَتْ ببابلَ لم تكن تعنيه أصلاً
فهو يبحث عن بلادٍ إنْ أتاها شمّ رائحةَ القِماطِ ببابها
وأدارَ مِفتاح الحنينِ بقُفْلِها
هو ليس يعرف أنّ قابلةَ المدينة عندما استلمتْهُ قصّتْ حبلَ سرّته من الجهتين.

لا يبقى من الغجري إلا صوته بين البيوت
وخيمةٌ في قلبه شاخَتْ كأمٍّ
لا نقول له: من أنت؟ ما اسمك؟ أين تمضي؟
وهو لا يُبدي اهتماماً.
قدّم العرض الأخيرْ
لمْ يأخذِ الغجري شيئا
لمَّ خيمتَه على عجلٍ
وغادرَ في الشتاءْ..

* * *

25/11/2007