مسرحية ذات فصل واحد
الشخصيات
تمثال السياب: على قاعدته في البصرة
الجندي: في الثانية و العشرين من عمره، يبدو كأنه في الأربعين. قصر القامة، معه كلاشنكوف وبعض مخازن العتاد
الهارب: في نفس عمر الجندي تقريبا، طويل القامة، بدون سلاح
( شباط 1986 في البصرة، الدخان يملأ المشهد فلا يتميز الليل من النهار، بريق انفجارات مستمر و أصوات انفجارات أخرى تسمع بين فترة و أخرى، الجندي يختفي في موضع إلى يسار تمثال السياب، الذي يظهر في وسط المسرح تقريبا، الجندي يحتسي الخمر من قنينة طويلة.. )
تمثال السياب: ( يكلم نفسه ) ما أطول هذه الليلة
الجندي: ( يخاف يوجه بندقيته نحو تمثال السياب)
ارفع يديك.. من أنتالسياب: السياب: لا تخف.. أنا مجرد تمثال كما ترى
الجندي : ارفع يديك و إلا قتلتك .
تمثال السياب: ماذا تقتل مني، لقد مت قبل أكثر من عشرين عاما !
الجندي: الق سلاحك بسرعة
تمثال السياب: عن أي سلاح تتكلم ؟ أنا مجرد تمثال،
ها. إلي جيدا.. ها .. مجرد تمثال لا أكثر
الجندي: أنت إيراني إذن..
السياب: ( بشيء من العصبية ) أنا السياب، ألا تعرفني.. بدر شاكر السياب؟
الجندي : أجل أعرفك جيدا . أنت هارب من الجبهة. قل لي من أية وحدة أنت و إلا قتلتك.
السياب: ما أغباك. أقول لك أنني مجرد تمثال، و تقول أقتلك ؟ أنا تمثال بدر شاكر السياب. تمثال الشاعر الذي كتب أول قصيدة حرة في الأدب العربي.
الجندي: تخادعني ؟ ( يطلق انطلاقة من بندقيته نحو التمثال)
السياب: ( يضحك بصوت مرتفع) هل رأيت ؟ لم تفعل انطلاقتك شيئا. أنظر جيدا أين الدماء لو كنت مثلك من لحم و دم
الجندي: ( باستغراب) ألا تتألم ؟
السياب: (بجدية) كفى غباء. سأبصق في وجهك لو تكلمت معي مرة أخرى.
الجندي: (مازال خائفا) لا تغضب أرجوك. أفعل ما تريد ولكن
ها.دي: ولكن ماذا ؟ ها.. أقول لك أنني مجرد تمثال. ألا تعرف ماذا يعنيه التمثال ؟
الجندي: أجل.. أجل أعرف التمثال ولكن كيف تتكلم؟
السياب: ما أدراني . هذه هي المرة الأول التي أستطيع الكلام فيها منذ أن وضعوني هنا. لم أستطع فعل هذا من قبل.
الجندي : ( بشك) هل تعني حقيقة. انك مجرد تمثال ؟
السياب: عجيب. تقدم. لا تخف. تلمسني بيديك لتعرف الحقيقة.
الجندي : (يقارب بخوف من التمثال ويتلمس قدمه بيد مرتجفة)
السياب: هل رأيت؟ أنا مجرد كتلة من البرونز. تأكد مرة أخرى.
الجندي : (بارتباك) تعني .. تعني أنك ميت ؟
السياب : ومنذ عام 1964
الجندي: (ساهما) و أنا ولدت في هذا العام.
السياب: كيف لا تعرفني ؟
لابد أن تكون قد سمعت باسمي. أنا بدر شاكر السياب..
الجندي: ربما كنت أعرفك. لقد كنت أعرف الكثير. أما الآن فلا أعرف شيئا.
السياب: هل أنت مريض ؟
الجندي: (يجلس على الأرض) لست مريضا.
السياب: إذن لماذا تنسى ؟
الجندي:أنسى ماذا ؟
السياب: قلت أنك تعرف الكثير، أما الآن فلا تعرف شيئا.
الجندي: و ما الغرابة في ذلك؟
السياب: كل الغرابة فيه.. فأمثالك يعرفون ويضيفون باستمرار إلى معارفهم أشياء كثيرة.
الجندي: لا يمكنك الحكم، فأنت رجل ميت. الكل مثلي، وربما كنت أفضلهم.
السياب: مستحيل أن يكون اثنان على هذا الوضع.
الجندي: لا يمكنك الحكم، كلنا هكذا..
( تنفجر قنبلة مدفع بالقرب منهما فيستلقي الجندي على الأرض)
السياب: ما هذا ؟
الجندي: (يرفع رأسه ) قنبلة مدفع.
السياب: لماذا ؟
الجندي: (ينهض ويممدافعهم.بنطلونه) لماذا ؟ حالسياب:ون فيها مدافعهم.
السياب : (باستغراب) حرب ؟ أي حرب ؟!
ألم تسمع بها لحد الآن؟ لقد ابتدأت منذ .. السياب:دري متى..
السياب : مع الإنكليز ؟
الجندي: لا.. الفرس يريدون دخول هذه المدينة.
السياب: أية مدينة تقصد ؟
الجندي: (مفكرا) هذه المدينة.. ما اسمها ؟
مستحيل.البصرة ؟ مستحيل..
الجندي: يريدون دخولها وهذا كل ما في الأمر
السياب: مستحيل. ماذا فعلت لهم البصرة؟! ها .. قل لي.. ماذا فعلت لهم البصرة؟
الجندي : لا ادري.
السياب: هل دخلوها ؟!
يكفي.: انك كثير الثرثرة.. يكفي ..
السياب: (بإلحاح) قل لي أرجوك، هل دخلوها. هل دخلوا البصرة ؟
الجندي: (يتوجه إلى الموضع ويشرب من قنينة الخمر) وماذا يهمك ؟
السياب: كيف لا يهمني.. فهي مدينتي..وهناك أيضا زوجتي إقبال و ابنتي
الجندي : ( مقاطعا) كفى .. لست ضابط أمن لأعرف زوجنك وابنتك و أقاربك. كفى !
السياب: هل أنت من أهل البصرة ؟
الجندي: لا..
السياب: من أي مدينة إذن ؟
من.دي: من.. من .تف، لقد نسيت.
السياب: بغداد ؟
الجندي: (بفرح ) أجل، أجل، بغداد. كيف نسيتها ؟! بغداد
السياب: إذا كنت من بغداد، فلا بد أن تعرف حسين مردان..
الجندي: ( يضحك ضحكة طويلة) أعرفه.. كيف لا أعرف هذا الأبله؟
فهو ضابط في وحدتنا
السياب : (بانكسار) ضابط !
الجندي: أجل، هذا الحقير، لقد أجبرني على الزحف في النتانة.
السياب: (محاولا مقاطعته ) حسين مردان..
الجندي: (يستمر) تصور أنه يسرق كل ما تقع عليه عينه. أسأل لمن يسرق كل هذا ؟ لزوجته بالطبع، ومع ذلك فقد نامت مع مراسله.. تصور !
السياب : (بعصبية) ماذا تهذي ؟
الجندي: ألم تسأل عن حسين مردان ؟! ليس أحقر منه..
السياب ك ( يسيطر على نفسه) الذي اقصده حسين مردان آخر
الجندي: ليس غير هذا.. ضابط وحدتنا.
السياب: حسين مردان شاعر كبير، وهو أكبر من أن أسال عنه أمثالك..
الجندي: لا، ليس غير هذا.
السياب: (بعصبية) أسكت وآلا بصقت في وجهك.
الجندي: ( يوجه بندقيته نحو التمثال) كرر هذه مرة أخرى فسأعرف كيف أتصرف معك.
السياب: (يهدأ ) لا عليك، ولكن قل لي، لماذا لم يزرني أحد منذ فترة طويلة
الجندي: ( ينزل البندقية) ما أدراني، ربما قتلوا أو هربوا أو تطوعوا في الجيش الشعبي.
السياب: ولكن ليس كلهم..
الجندي: بل كلهم..
السياب: زوجتي إقبال مثلا و …
الجندي: (مقاطعا) كلهم، قلت لك كلهم.
السياب: (باشمئزاز) أنك تثير أعصابي.
الجندي: (يسمع وقع أقدام فيتهيأ. ظل جندي آخر يظهر راكضا) قف..
لا تتحرك.
الهارب: (يتوقف ) أنا.. لا تطلق أخي، لا تطلق..
الجندي: (يوجه بندقيته نحو الهارب) ارفع يديك.. لا تتحرك وآلا قتلتك.
الهارب: (يرفع يديه ) لا تطلق أرجوك.
الجندي: تقدم لأراك جيدا.
الهارب: ( يتقدم وهو يلهث) لا تقتلني أرجوك
الجندي: إلى أين تذهب
الهارب: (منفعلا) لقد أضعت الطريق.. انسحبت وحدتنا فأضعت الطريق
الجندي : أضعت الطريق كلكم تقولون هذا .. جبناء
الهارب: (يتوسل ) لا أكذب، أضعت الطريق صدقني
الجندي: هارب.. جبان
الهارب: لست هاربا ولا جبانا
الجندي: بل هارب وجبان
الهارب: لست هاربا، وستقدم لي خدمة كبيرة لو أوصلتني إلى وحدتي.
جبان.: (بعصبية) هل تجدني غبيا، أوصلك إلى الوحدة فتقتلني في الطريق.. جبان .سأقتلك. ..
الهارب: (بخوف ) لا تقتلني أرجوك. سأعطيك كل ما تطلب.
الجندي: (يضحك باستهزاء) أقتلك و آخذ ما في جيبك، هل في هذا صعوبة (يطلق )
الهارب: (يصرخ صرخة طويلة ويسقط في الأرض و يموت)
السياب: (يصرخ) ماذا فعلت.
الجندي: (يضع بندقيته على كتفه بهدوء) لقد قتلته، هل تعترض
السياب: جبان.. لماذا قتلت المسكين.. جبان
الجندي: لست جبانا، لابد أن تعرف هنا.. نفذت واجبي فقط.
السياب : هل واجبك القتل .. جبان
الجندي: أجل قتل الهاربين من الجبن
السياب: كان بإمكانك إعادته.. جبان
الجندي: لو فعلت هذا لنقلوني إلى الخطوط الأمامية وهنا سأقتل بدلا عنه.
السياب: لم أر قذرا مثلك في حياتي.
الجندي: (بجدية) لا تغلط أكثر من هذا
السياب: بصوت مرتفع) قذر.. جبان
الجندي: لقد تعاملت معك باحترام حتى الآن. وإذا لم تسكت فسأحطمك
قذر.ب: حطمني.. قذر .. جبان
الجندي: (يلتقط قنينة الخمر و يضرب التمثال بها فتتهشم) أغلق فمك
السياب: جبان.. جبان
الجندي: (يسحب بندقيته من كتفه ويطلق على وجه التمثال وصدره إلى أن ينهي انطلاقات البندقية)
قذر.ب: (يستمر في صراخه) جبان.. قذر .جبان. .قذر. ..
( ثلاث قذائف تنفجر مرة واحدة في المكان، فيختفي كل ما على المسرح بدخان كثيف)
صوت السياب: ( صرخة طويلة ) جبناء..
ستار
مجلة (الصوت)العدد الثالث 1988
مجلة (الصوت) فصلية - ثقافية - العدد الثالث 1988
صدرت في الدنمارك- تحرير: جمال جمعة - حميد العقابي - جمال مصطفى
شباط
1986